PDA

View Full Version : تقويم النظام السعودي من الناحية الشرعية


مستر
13-07-2001, 05:36 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
فإنه رغم كثرة الجدل حول تقويم النظام السعودي من الناحية الشرعية فإنه لم تنشر أي دراسة تقويمية منهجية منضبطة لتلك القضية، رغم أهمية الموضوع وشدة الحاجة إليه. ويجنح معظم المتصدين لنقاش هذه القضية إلى اختزالها في حديث أو حديثين، ويتعلقون بظواهر بعض النصوص الشرعية دون اعتبار دلالاتها ودون اعتبار غيرها من النصوص الشرعية ولا تصور مقاصد الشريعة في قضية الإمامة والحكم في الإسلام، ولا مقارنة بينها وبين الواقع الذي يعيشه النظام. وهذا الأسلوب في تناول قضية شرعية حساسة ومتشعبة خطأ كبير، وينبني عليه استنتاجات خاطئة مثله.
الإشكال الثاني أن كثيرا من هذا النقاش دار داخل مجال نفوذ الحكم السعودي مما يعني استحالة حيادية النقاش، وتبعا لذلك لن تكون هناك دقة في الاستنتاج، لأن المشكلة ليست مجرد إرهاب الحكم، بل بسبب وجود مؤسسة دينية تتبنى طريقة معينة في شرعية الحكم السعودي، ويصعب بل يكاد يستحيل معارضة هذه المؤسسة لأن التبعات والمضاعفات على معارضة تلك المؤسسة ستأتي منها قبل أن تأتي من الحكم السعودي نفسه.
الإشكال الآخر الذي يقع فيه باحثو الشرعية السياسية هو تركيزهم على شرعية فرد الحاكم دون اعتبار نظام الحكم نفسه، ومن ثم يُحرجون أنفسهم بخيارين، إما تزكية الحاكم أو تكفيره، وهذا من الاختزال المرفوض لقضية الشرعية وإرهاب فكري ضمني، بل هو بمثابة تحجيم للشريعة ومقاصدها العظيمة في قضايا الحكم والإمامة.
ويشبه هذا الإشكال ربط قضية الشرعية ربطا عضويا بقضية الخروج المسلح على الحاكم، واعتبار رفع السلاح إلزاما فوريا لمن يرى عدم الشرعية.
وقد أدى ربط قضية الشرعية بالتكفير ورفع السلاح، وما لهاتين القضيتين من تداعيات خطيرة إلى تخوف الكثير من طرق هذا الموضوع أو الاكتفاء بطرقه تحت إسقاط هذه التداعيات، وما يترتب على ذلك من غياب العدل والمنهجية في الاستدلال والاستنتاج.
لكل هذه الأسباب كان لابد من تقديم دراسة شاملة منهجية لهذه القضية تتجاوز التحجيم والاختزال في نص شرعي واحد أو الحكم على شخص الحاكم، إلى تصور تفصيلي لتقويم قضية الشرعية من خلال فهم أركان الإمامة الشرعية التي لا يقوم الحكم الإسلامي إلا بها، ومن ثم تطبيق ممارسات النظام السعودي على هذه الأركان وعندها فقط يمكن تحديد موقع النظام السعودي من الشريعة.
وكانت هذه الدراسة قد نشرت على حلقات في نشرة الحقوق الصادرة عن "لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية"، كما نشرت أجزاء منها في مجلة "الشرعية" الصادرة عن نفس الجهة، وكان الرأي أنه من المصلحة جمعها وتنقيحها ومراجعتها وإضافة ما يمكن إضافته إليها في نفس الموضوع، ومن ثم تقديمها في هذا الكتيب.
وقد كان الحرص في هذه الدراسة على تقديمها بشكل منهجي علمي، وعلى الاعتماد على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وتخريج الأحاديث وعزو أقوال العلماء إلى الكتب الواردة فيها. ولقد جاء ترتيب هذا البحث في عدة أبواب: أولها مقدمة عامة في تثبيت قواعد شرعية ضرورية لفهم بقية البحث، ويتبع ذلك عدة أبواب حول أركان الإمامة الشرعية، وموقع النظام السعودي منها، ثم بعد ذلك حكم المدافعين عن النظام، ثم تمام البحث بالرد على عدد من الشبهات في قضية الشرع.
نسأل الله أن يجعل هذا العمل سببا في إيضاح كثير مما التبس على المسلمين والدعاة في هذه القضية الحساسة، وأن يوفق الجميع ليساهم في إقامة الإمامة الشرعية على وجهها الصحيح، كما نسأله سبحانه أن يعيننا على إخلاص نياتنا وتصويب أعمالنا ويقر عيوننا بتمكين هذا الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد على آله وصحبه وسلم.

مستر
13-07-2001, 05:37 PM
إن الحكم الشرعي في أي مسألة أو نازلة أوقضية لا يمكن معرفته إلا بفهمين، الأول: معرفة الواقع والثاني: معرفة حكم الله تعالى فيه أو كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر)(1)، أو كما قال ابن تيمية عندما سئل عن حكم التتار فبيّن أن الحكم الشرعي مبني على أصلين: أحدهما المعرفة بحالهم، والثاني معرفة حكم الله في أمثالهم(2).
ولقد كان الظن أن إحجام طلبة العلم وأهله عن إصدار الحكم الشرعي في حق النظام السعودي والأنظمة عامة هو لعدم معرفتهم بالشق الأول (فهم الواقع)، وذلك بسبب تلبيس النظام عليهم بتزوير حقيقته وطمسها بمجموعة من المحسّنات الظاهرة، فكان كشف هذه الممارسات والسياسات التي يجهلها طلبة العلم هو الدور الأهم، وقد أجمع العلماء على وجوب كشف المنافقين والمبتدعين(3)، وقد سئل الإمام أحمد: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟، فقال: (إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل)(4).
ومع أن بلاد الحرمين قد كثر فيها طلبة العلم إلا أن انشغالهم بالعلم وطلبه أبعدهم عن معرفة الواقع وحقيقته، وهذا قد يقع من طلبة العلم وأهله كما نبّه جماعة من السلف على ذلك، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث تحدث عن ذلك في مواطن كثيرة من الفتاوى.
ولقد تبين أن كثيراً من أهل العلم وطلبته قد أحجموا عن تنزيل حكم الله تعالى على هذا الواقع، وأسباب هذا الإحجام متفاوتة، فهناك مجموعة منهم رضيت لنفسها مقام (التقليد)، حيث تنتظر من غيرها هذا التنزيل لتكون التالية لا السابقة في هذه الفضيلة، وهناك من يخاف الأثر المترتب على هذا التنزيل، ويزعم أن قول حكم الله تعالى في النظام سيؤدي إلى فتنة لا تدرى نتائجها، وكأن هذا الصنف ظن أن معرفة حكم الله تعالى شر لابدّ من ستره وتغييبه، وفي هؤلاء يقول محمد بن وضاح رحمه الله تعالى: (إنما هلكـــت بنــو إسرائيـــل على أيدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على أيدي قرائها وفقهائها)(5)، وحكم الله تعالى فيه النجاة والسعادة حقيقة.
وعلى ضوء هذا فإنه من الواجب الحديث بشكل تفصيلي عن حقيقة النظام، وحكم الله تعالى فيه، وأين هو في دين الله تعالى؟ وما هو موقف الأمة منه وكيف تتعامل معه؟ أي الحديث عن كلا الشقين: الواقع والشرع.
وقبل الشروع في هذه الأمور، لابدّ من تحديد بعض الثوابت والمقدمات النظرية حتى لا يلتبس الحال أو تفهم الأمور على غير محلها، وهذه المقدمات هي:
أولاً: أنه لايقبل حكم ولا اعتقاد إلا بدليل شرعي، والدليل الشرعي هو الكتاب والسنة وفهم قواعد الصحابة ومن تبعهم من خير القرون المشهود لها، وما عداه فليس بحجة في ذاته، بل هو محتاج بنفسه إلى دليل، وكل ما هو خارج الكتاب والسنة والإجماع فهو رأي، والرأي يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه ومن ثم فإن البحث في مسألة شرعية النظام كغيرها من المسائل يجب أن يكون مبنياً على الدليل الشرعي وفهم الواقع بدقة، وعلى الرغم من أن هذا الكلام يبدو أمراً لا جدال حوله، إلا أنه في الحقيقة في عداد المهجور رغم ترداد العلماء له بألسنتهم، وترى بعضهم يرفع شعار "كل ما هو خارج النص والإجماع فهو رأي والرأي ليس بملزم"، ثم تجدهم عند التطبيق يتعاملون مع آراء أهل الفتوى والقضاء وكأنها دين يجب التزامه، ويعتبرون الخروج على هذه الآراء معصية بل معصية كبيرة، بل تراهم يضربون بأدلة الشرع عرض الحائط ويستدلون بحجج واهية هي أشبه بكلام العوام كقولهم: "نحن أحسن من غيرنا"، أو كقولهم: "لا تعكروا علينا الأمن والأمان ورغد العيش".
وهذا يلجئهم إلى تصيد الأقوال الساقطة الشاذة التي لا تمت إلى الدليل الشرعي بصلة، لتبرير أفعال النظام وإسباغ الشرعية عليه بطريقة لا تُقبل من مبتدئ في طلب العلم فضلاً عن العلماء، كموقف أحدهم من الربا المستعر والمنتشر في البلاد طولاً وعرضا،َ وغريب أمر هؤلاء، أنهم يتمسكون بالنصوص الشرعية في قضايا الحيض والنفاس وزكاة الفطر، ويعرضون عن الحكم الشرعي في قضايا جليلة القدر في السياسة والحكم والقضاء، وهي قضايا تمسّ الأمة بأجمعها .
ثانياً: أن الحكم على النظام ليس حكماً على أفراده ورجاله، ولكنه حكم على النظام كله بوصفه نظام حكم، وذلك بغض النظر عن كل فرد فيه بعينه، وقد يعود الحكم العام على بعض أفراده ، ولكن هذا لا يلزم أن يعود على جميع أفراده حسب الأحوال والشروط المعتبرة، وهذا أمر معروف لدى طلبة العلم(6)، فالكلام لا يتوجه على أفراد وشخوص بأعيانهم، ولكن البحث ينصرف إلى حكم النظام وموقعه من الإسلام، فلا يعترض مُعترضٌ علىه بوجود بعض أهل الاستقامة فيه، ثمّ لا يقال بعد ذلك ما حكم فلان أو غيره من رجال النظام، لأن البحث هو عن شرعية الكيان كله، ومقدار قربه وبعده عن الشريعة.
ومعلوم أن الطوائف الحاكمة تعامل في دين الله تعالى معاملة عامة بحسب ما اجتمعت عليه بغض النظر عن أفرادها(7).
ثالثاً: حكم الله تعالى في نازلة من النوازل لا يؤخذ من دليل واحد وقد وجد غيره، فلا بدّ من إعمال الأدلة الواردة في المسألة جميعها.
والذين يأخذون ببعض النصوص دون غيرها هم أهل البدع، وأغلب أهل البدع أخذوا بعض النصوص وردوا الباقي، كما هو شأن القدرية والجبرية والخوارج مقلدين في ذلك ومتشبهين باليهود الذي قال الله فيهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، وأما أهل السنة فهم أهل الهدى، وسبيلهم إعمال النصوص جميعاً دون إهمال لواحد منها، وذلك بعد ثبوت صحتها.
فهذا الأمر يقال للذين يتجاهلون بعض الأحاديث النبوية الشريفة في سعيهم الشديد للدفاع عن النظام والحكام، فلماذا توضع الأيدي على حديث: “لتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً”(8)، ولماذا يعرض عن أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟، فهذه الأحاديث النبوية نصوص يوافق بعضها بعضاً ، ولابد من استحضارها جميعاً في مجال البحث عن موقف المسلم من الحاكم كائناً من كان هذا الحاكم.
رابعاً: دين الله تعالى، دين شامل، لا يخرج عن هيمنته شيء من شؤون الدنيا والآخرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمنا كيفية الأكل والشرب، بل ما هو أدق منهما، لا يعقل أن يترك للناس ما هو من عظائم الأمور كشؤون السياسة والحكم ليتلاعب بها الحكام تحت دعوى الضرورة السياسية، أو تحت دعوى المصلحة الموهومة، ولذلك فمن اعتقد أن للحاكم الحق في إصدار التشريعات والقوانين التي تخالف دين الله تعالى، ثم أوجب على الناس التزامها فهو بلاشك كافر زنديق كما قرر أهل العلم، قال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى: (إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم وجوب الطاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، كيف لا؟ وهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويسعون في الأرض فساداً بقولهم وفعلهم وتأييدهم، ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفّرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم)(9).
ولذلك يجب عرض كل شؤون الحكم والقضاء وأنظمة الاقتصاد والعلاقات الخارجية والشؤون الداخلية على الشرع، ولا يخرج عن الشرع شيء منها ومن ادعى أن شيئاً من ذلك بيد الحاكم ولا سلطان للشرع عليه فهو كافر خارج من الملّة.
خامساً: إن معرفة حكم الله تعالى في النظام والحكم هو أمر واجب، لما يترتب عليه من قضايا هي من صميم الإيمان والتوحيد، أما ما يترتب على ذلك من أحكام فهذا باب آخر، يتعلق بالقدرة والإعداد واستكمال الشروط وانتفاء الموانع، لكن يلزم وجوب بيان حقائق الإسلام جميعها، وأركان التوحيد كلها، حتى يعرف الحق من الباطل والإيمان من الكفر ولا تشتبه المفاهيم والرايات، فالبيان هو عهد الله إلينا، "لتبيننّه للناس ولا تكتمونه"(آل عمران 187)، ومحاولة كتم الحق فيما يتعلق بأهم مسائل الدين تحت أي دعوى مسألة مرفوضة، كمحاولة الإرهاب الفكري الذي يمارسه بعض الشيوخ والعلماء بقولهم: إن كشف حقائق الحكام يؤدي إلى الخروج والفتنة، فهذا أمر مرفوض، لأن الفتنة العظمى هي كتم الحق وتزويره وليس بيانه.
سادساً: إن معرفة حكم الله تعالى في الحكم والنظام مناطها ومرجعها إلى معرفة قيام الحكم بالواجبات التي فرضها الله عليه، فالإمامة إنما شرعت في الإسلام لتحقيق مقاصد شرعية ضرورية ومهمة.
هذه الواجبات والمقاصد سيتم استعراضها والوقوف على أداء النظام ليتم معرفة مدى قربه وبعده عن هذه الواجبات والمقاصد، فهل النظام حقاً قام بما أمره الله به؟ أم أنه تتبع هذه الأوامر فنقضها الواحدة تلو الأخرى، وأتى على ضدها رعاية وصيانة وحماية؟.
إن مقاصد الشريعة لا تتحقق كلها على الوجه المطلوب إلا بتطبيق الأحكام الشرعية، ورأس الأحكام الشرعية هو إقامة الحكم بما أنزل الله ونبذ ما سواه، ثم قيام النظام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل في الأحكام والقضاء، وإقامة شعائر الإسلام الظاهرة ورعايتها، والتعامل مع رعيته وغيرهم على أساس الحكم الشرعي، وحفظ المال العام، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع وغيرها مما هو مذكور في كتب السياسة الشرعية.
فإذا قصّر الحاكم في هذه الواجبـــات أو عمل على ضدها وجب على الأمة أن تقصره على الحق قصراً وذلك بكل أسلوب شرعي يؤدي إلى رفع الباطل وإحقاق الحق.
سابعاً : أن أمر مراقبة الحكام، وتطبيق الأمر الشرعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أمر موكول إلى الأمة جميعها، لأن أمره صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر بمراتبه الشرعية المعروفة هو أمر لجميع الأمة ولكل من رأى هذا المنكر، بقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم ... الحديث”(10)، وهذا من صيغ العموم لأنه نكرة في سياق الشرط، ولم يأت ما يخصصه، وأما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على الحكام الظلمة فهو بعدم الخروج عليهم وليس بترك مراقبتهم وأمرهم ونهيهم وهذا من باب إعمال جميع النصوص وعدم إهمال بعضها ولا تعارض بينهما.
وهذا في حق الحاكم المسلم الظالم، وأما من أتى بنواقض الإسلام أو بآحاد هذه النواقض فله شأن آخر سيتم بسطه في موضعه.
ومن الضرورة بمكان استحضار هذه المقدمات عند طرح قضية الشرعية، وذلك لأن كثيراً ممن يجادل في قضية شائكة مثل هذ القضية، ينسى المسلمات الشرعية ويناقش من منطلقات مائعة لا تعد مرجعاً شرعياً يعتد به، فمثلاً رغم أن كثيراً ممن يلج هذا الميدان يدعي الالتزام بطريقة أهل السنة والجماعة فإنك تجده يصبح أشد من المعتزلة في تعطيل النصوص والاعتماد على التقدير العقلي في الدفاع عن الحكام، وأشد من الشيعة في ادعاء عصمة الحكام، وأشد من الصوفية في التسليم للحكام، ولذلك كان لابد من تحديد هذه الثوابت الشرعية والعودة إليها عند الاختلاف وإلا ضاعت القضية وتبعثر الأمر.


هوامش المقدّمة

1) ابن القيم، إعلام الموقعين ، 1/87-88 .
2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/544 . وللشاطبي كلام جميل في هذا السياق ، راجع الموافقات، 4/165.
3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/233.
4) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/233.
5) محمد بن وضاح، البدع والنهي عنها، 59.
6) انظر ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/505.
7) انظر الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 55-56. والفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 28/349.
8) الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن .
9) محمد بن عبدالوهاب، الرسائل الشخصية ص 188 .
10) الحديث رواه الخمسة إلا البخاري، انظر مسلم بشرح النووي 2/22.

مستر
13-07-2001, 05:40 PM
قبل الحديث عن تقويم النظام السعودي من حيث تحكيم الشريعة أوالحكم بما أنزل الله، نستعرض بعض القواعد الهامة في هذه القضية:
أولاً: وجوب الحكم بما أنزل الله ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بل هو معلوم من الدين بالضرورة، قال تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً" (النساء، 105). قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (...ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله لا بين المسلمين ولا الكفار ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" (المائدة، 50) وقوله تعالى: "فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما" (النساء، 65)(1). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وتحكيم شرع الله وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جُردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع ...)(2).
ثانياً: ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله تحاكم إلى الطاغوت، وأن سن التشريعات المخالفة لحكم الله "أياً كان اسمها" هو من الكفر البواح، قال تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" (المائدة، 44)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (... فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر)(3)، وقال: (... والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه كان مرتدا ...ً)(4) وقال ابن القيم رحمه الله: (... من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء عن الرسول فقد حكم بالطاغوت وتحاكم إليه، وقد أمرنا سبحانه باجتناب الطاغوت قال سبحانه: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" (الزمر17،) فالاحتكام إلى شريعة الطاغوت هو نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بهجرها واجتنابها ...)(5)، وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: (... من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغب عنه وجعل لله شريكاً في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" (المائدة، 49) وقوله تعالى : "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" (النساء، 65))(6)، ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في تفسير هذه الآية: (... وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين كما قال تعالى: "ألم تر إلى الذين آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء60،)(7).
ثالثاً: الالتزام بحكم الله يقتضي هيمنة الشرع على كل نظام وقانون وهيئة ومحكمة ومؤسسة وحاكم وقاض ومدير ومسؤول ومحكوم، وإقرار أي قانون مخالف للشرع حتى لو كان فرعياً أو صغيراً هو من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه من الأوصاف والآثار الشرعية ما يترتب على الحكم بغير ما أنزل الله.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: (كل بدعة - وإن قلّت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون ملحقاً بما هو مشروع، فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير - قل أو كثر - كفر، فلا فرق بين ما قلّ أو كثر ...)(8)، قال الجصاص: (... إن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء ردّه من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم ...)(9)، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالته إلى أمير الرياض: (... واعتبار شيء من القوانين للحكم بها ولو في أقل القليــــل لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسولـــــه، ونسبـــة حكم الله ورسوله إلى النقص، وعـــدم القيـــــام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلــــى أربابها وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حل مشاكلهم، واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة والأمر كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية ...)(10) .
رابعاً: سنّ القوانين والأنظمة واللوائح الوضعية وإقامة المحاكم أو الهيئات التي تحكم بها هو لاشك من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه أحكام شرعية عظيمة، قال تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" (المائدة، 50)، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : (ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيره، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد هواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير)(11)، ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (... إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين ...)(12)، ويقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (تحكيم النظام المخالف لتشريع خالق السموات والأرض في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" (الشورى، 21)، "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا، قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون" (يونس، 59)(13)، ويقول الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله في تعليقاته على كتاب التوحيد، في شأن مُحَكِّم القوانين الوضعية: (... فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي اسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها ...)(14)، ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحكيم القوانين الوضعية: (فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه ...)(15).
خامساً : إن هناك فرقاً كبيراً بين من يقصّر حيناً، ويتجاوز حينا،ً ويظلم حيناً آخر لجهل أو لمحاباة أو لهوى، وبين من يسن الأنظمة، ويجعلها تشريعاً ملزماً للناس يفرضه عليهم، ويؤسس لها المحاكم والهيئات والمجالس ويعين لها القضاة والحكام، ومن الضروري التفريق بين الصنفين لأن الصنف الأول رغم أنه جريمة كبيرة فقد لا يكون كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، أما الثاني فهو بلا شك كفر أكبر، قال الشيخ محمد بن إبراهيم في الصنف الأول: (... أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر، وقوله أيضاً “ليس بالكفر الذي تذهبون”، فذلك مثل أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى، وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملّة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمّها الله كفراً...)(16)، وقال في وصف الصنف الثاني: (...وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً، وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك، فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة من أحكام ذلك القانون، وتلزم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة ...)(17).

مستر
13-07-2001, 05:42 PM
سادساً : مجرد زعم الحاكم أو النظام أنه يحكم بالإسلام ويطبق الشريعة لا يُغني شيئاً إذا كان يحتكم إلى غير شرع الله، قال تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء ، 60)، قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في تفسير هذه الآية: (فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: "يزعمون" من نفي إيمانهم، فإن يزعمون إنما يُقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: "وقد أمروا أن يكفروا به" (النساء، 60)، لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً، والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بيّنٌ في قوله تعالى: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى" (البقرة، 256)، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به)(18)، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في تفسيرها: (... فإن قوله عز وجل "يزعمون" تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد فكل من حكم بغير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه ...)(19)، وقال رحمه الله في موضع آخر بعبارة أكثر تصريحاً في نفس المعنى "لو قال من حكّم القانون أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل"(20).
ومن هذا المنطلق يمكن تقويم الحكم السعودي، هل جعل السيادة للشرع في الأنظمة والسياسات، واقتصرت مخالفاته على بعض التقصير والتجاوز وبعض المظالم أما لجهل أو لمحاباة أو لهوى، كما وقع لكثير من خلفاء المسلمين في التاريخ الإسلامي؟، أم أن الأصل في حكم آل سعود الحالي هو تعطيل سيادة الشرع وتحكيم القوانين والأنظمة غير الشرعية وحصر المحاكم الشرعية فيما يحال إليها من الحكام ثم تخويل الحكام وأمراء المناطق حق تعطيل الأحكام التي تصدرها تلك المحاكم أو إلغاءها؟.
الواقع:
والمتأمل بدقة للواقع التشريعي وأحوال القوانين والأنظمة في المملكة لا يسعه إلا أن يخرج باستنتاج أكيد أن واقع المملكة ينطبق تماماً وبلا جدال على الحالة الثانية. ولكن الدولة تتهرب من كلمة تشريعات وقوانين وتستخدم بدلاً من ذلك عبارات أنظمة ولوائح وتعليمات وأوامر ومراسيم، وهي في حقيقتها تشريعات كاملة بما تحويه كلمة تشريع من معنى، ففيها نصوص بالإيجاب، ونصوص بالمنع، ونصوص بالعقوبات، ونصوص بإباحة الحرام وتحريم الحلال، والذي يدعي أنها مجرد أنظمة إجرائية ليس لديه من علم الشريعة ولا القانون شروى نقير.
فمن هذه الأنظمة: نظام الأوراق التجارية ونظام الشركات، ونظام العمل والعمال، ونظام مراقبة البنوك، ونظام الجنسية العربية السعودية، ونظام المطبوعات والنشر، ونظام المؤسسات الصحفية، ونظام الأحكام العامة للتعرفة الجمركية، ونظام الجيش العربي السعودي، ونظام العلم الوطني، وغيرها من القوانين والتشريعات، والمتأمل لهذه الأنظمة يكتشف أن الإسلام في وادٍ وحكم آل سعود في واد آخر، فإن مقدمة كل نظام أو لائحة أو مرسوم تؤكد على أن مصادر تشريعها غربية أو مختلطة المصادر، وقد تكون الشريعة من بيبها ولكن ليست المصدر الوحيد!. بل وتصل الوقاحة في بعض الأحيان أن تعتبر الشريعة مصدراً احتياطياً للتشريع، كما في نظام هيئة تسوية المنازعات لدول مجلس الخليج العربي وكما في المادة (185) من نظام العمل والعمال هذا من جهة اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً للأحكام، فقد نصت هذه الأنظمة على كل أشكال التشريع المخالف للأسلام أما من جهة الحدود والعقوبات الشرعية فإن نظام الجيش العربي السعودي ونظام الأوراق التجارية ونظام مكافحة الرشوة، وغيرها كثير، فيها عدد كبير من العقوبات لا يمت للإسلام بصلة، أما من جهة المسائل المدنية والتجارية ونظام الأوراق التجارية ونظام الشركات وغيره فإنه يحوي أشكالاً من فض المنازعات وأنماط الصلح المخالفة للشريعة جملة وتفصيلاً، ونظام مراقبة البنوك يبيح بلا تحفظ جميع الأنشطة الربوية التي حرمت بالدليل القاطع من الكتاب والسنة، ويعتبرها محمية من قبل الدولة، بل لقد ورد فيه نصوصاً مخالفةً للشرع من جميع الوجوه، وأعطت الملك حق الربوبية الكامل بلا تحفظ، تقول المادة (27) من نظام المحاكمات العسكرية: “ولصاحب الولاية (الملك) وحده حق تنفيذ الأحكام أو توقيفها أو استبدال حكم بحكم فيها”. وسعياً لإمضاء هذه التشريعات والقوانين المسماة أنظمة ـ تهرباً وتلبيساً ـ فقد شكلت الدولة محاكم غير شرعية، أسمتها لجاناً وهيئات ودواوين ومجالس، ويشترط في أعضاء هذه المحاكم أن يكونوا متقنين لما ورد في تلك الأنظمة والقوانين لا أن يكونوا شرعيين، وقد تقصّى أحد الباحثين هذه المحاكم فوجدها أكثر من ثلاثين لجنة أو هيئة كلها تمارس دوراً قضائياً مناهضاً للشرع، منها على سبيل المثال هيئة فض المنازعات المصرفية، والمحاكم التجارية وديوان المحاكم العسكرية، وغيرها كثير.
أما المحاكم الشرعية فهي محصورة عملياً في شؤون محدودة، ومع ذلك فهي نفسها لا تسلم من هيمنة القوانين غير الشرعية، فالقضاة الشرعيون ملزمون تعميمات مجلس الوزراء والوزارات المختصة والإمارات والبلديات، حتى لو خالفت تلك التعليمات الشرع، وأحكام القضاة المخالفة لتلك التعليمات أو للأنظمة المذكورة أعلاه غير نافذة أبداً، بل إن القاضي نفسه لا يمكن أن ينظر في كثير من القضايا إلا "حسب النظام"، والنظام هو تصنيف القضايا بما يضمن حصار الشرع في حدود معينة، وإطلاق يد القانون الوضعي في مساحات كبيرة!.
فهذا هو الواقع إذاً! السيادة ليست للشرع، والهيمنة ليست للإسلام، والقوانين والتشريعات غير الإسلامية والمخالفة للشرع قد سرت في معظم أنظمة الدولة، والقضاة الشرعيون محاصرون في دوائر صغيرة لا يستطيعون تجاوزها؟ فكيف يمكن أن يدعي مدع أن هذه الدولة تطبق الشريعة أو تحكم بالإسلام؟ و كيف يشك طالب حق أن الاحتكام إلى تلك التشريعات احتكام إلى الطاغوت؟.
والثابت هنا أن هذه المعاندة للشرع ليست تجاوزاً عن هوى أو رغبة في الجبروت والظلم مع هيمنة الشرع بل هي إعراض عن شرع الله، وترسيخ لغير شرع الله وحصار لشرع الله، ولكن هل يمكن أن يكون ذلك جهلاً أو غفلة؟.
والإجابة على ذلك سهلة وقصيرة وهي أن الحجة في العلم قد قامت على الحكام بلا شك ولا جدل، فلقد وقف العلماء من أمثال الشيخ بن عتيق والشيخ بن سعدي والمفتي السابق الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهم الله جميعاً في وجه تلك التشريعات بشكل صريح، ودوّنت مراسلات الشيخ محمد بن إبراهيم في إنكار تلك القوانين والأنظمة والتحذير منها واحداً واحداً، وبدلاً من أن يرتدع آل سعود، ويعملوا بنصيحة الشيخ محمد بن إبراهيم فقد منعوا "بالقوانين نفسها" وبأمر ملكي طبع وتوزيع مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم حتى لا يفتضح هذا الكفر والنفاق، وحديثاً قدم العلماء لهم النصيحة مرة أخرى بشكل منهجي ومركز في "مذكرة النصيحة" بطريقة لا تدع مجالاً لهم أن يدعوا الجهل وسوء الفهم، ولكنهم أبوا النصح وأصروا على قوانينهم وأنظمتهم، فالحجة قامت عليهم قطعاً بلا جدل.
فهل يجادل أحد من أهل العدل والإنصاف بعد هذا الاستعراض في أن الحكم السعودي يحكم بغير ما أنزل الله، وأن تلك الشعيرة العظيمة معطّلة. وأن الإثم في تعطيلها يقع على الأمة كلها؟ لأن ذلك من فروض الكفاية، والأمة مسؤولة بعد ذلك أن تسعى بما أوتيت من قدرة واستطاعة أن تقيم هذه الشعيرة حتى تسلم من الإثم وتؤدي حق الله عليها.
وبناء على ما سبق فإن الذين يدافعون عن النظام بدعوى زعمه تطبيق الإسلام ويستميتون في ذلك في خطر عظيم، قال تعالى "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً" (النساء، 105،107)، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في تفسير قوله تعالى "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" (التوبة، 31) (... من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم فقد اتخذهم أرباباً ...)(12).




هوامش الحكم بغير ما أنزل الله

1) ابن تيمية الفتاوى، 35/407-408 .
2) محمد بن إبراهيم، الفتاوى، 12/251 .
3) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 3/12 .
4) ابن تيمية، الفتاوى، 3/267 .
5) ابن القيم، إعلام الموقعين، 1/49.
6) عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، فتح المجيد، ص392.
7) محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رسالة تحكيم القوانين (ص8).
8) الإمام الشاطبي، الاعتصام، 2/61.
9) الجصاص، أحكام القرآن، 2/214.
10) مجموع فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم ج12/،251 رسالة تحكيم القوانين الصفحات 15،14،13.
11) انظر تفسير ابن كثير، في تفسير سورة المائدة (ج2/17).
12) محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين (ص5).
13) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، 4/84.
14) انظر فتح المجيد ، شرح كتاب التوحيد، 3/396.
15) أحمد شاكر، عمدة التفسير، 4/157.
16) محمد بن ابراهيم، رسالة تحكيم القوانين، 8.
17) محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين، ص7.
18) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، 393 .
19) انظر محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين (ص 8-9).
20) مجموع الفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (189/6).
12) محمد بن عبدالوهاب، كتاب التوحيد، 146.

مستر
13-07-2001, 05:45 PM
الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين من لوازم الإيمان، ومعيار صحيح يتميز به المؤمن من المنافق، وقبل استعراض العلاقات الخارجية للنظام السعودي يحسن إيراد الحقائق الشرعية في هذا الموضوع الخطير.
أولاً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن علاقات المسلمين مع غيرهم ينبغي أن تبنى على أساس الإسلام، فالإسلام هو الأصل في العلاقة مع الآخرين، وقد بينت الآيات موقف المسلم من أهل الشرك والكفر، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (المائدة، 51). ويقول سبحانه: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" (آل عمران، 28)، ويقول سبحانه: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" (المجادلة، 22)، ويقول أيضاً : "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" (البقرة، 120)، وقال كذلك: "ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون" (المجادلة، 14)، وقال سبحانه: "بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة، فإن العزة لله جميعاً" (النساء، 139).
ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن إقامة العلاقات على خلاف الأساس الإسلامي يؤدي إلى الكفر والخروج من ملة الإسلام. قال ابن جرير رحمه الله: (من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم، ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء، أي قد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ..) ثم قال: (... ومن تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم، أي من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه)(1)، وقال ابن حزم رحمه الله: (... صح أن قوله: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" (المائدة، 51)، إنما هو على ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين)(2)، وقال ابن تيمية رحمه الله: (أخبر الله في هذه الآية أن متوليهم هو منهم، فقوله سبحانه: "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء؛ (المائدة، 81)، يدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً ...)(3)، وقال ابن القيم رحمه الله: (إن الله قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم، "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن، كان لهم حكمهم، وهذا عام ...)(4)، وقال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ: (... وأخبر سبحانه وتعالى أن من تولاهم فهو منهم ...)(5)، وقال الشيخ حمد بن عتيق: (... قد دلّ القرآن والسنة على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك والانقياد لهم ارتد بذلك عن دينه ...)(6)، قال الشيخ عبدالله بن عبداللطيف: (... إن كل من استسلم للكفار ودخل بطاعتهم وأظهر موالاتهم فقد حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام ووجب جهاده ولزمت معاداته ...)(7).
ثالثاً : أن من واجبات الدولة المسلمة بناءً على ذلك أن تسعى لنشر الإسلام وتدعم الدعوة في كل مكان وتنصر المسلمين وقضايا المسلمين وتدافع عنهم، فقد قال تعالى : "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلدان.." (النساء، 75)، وثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله”(8)، وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أُذِلّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة”(9)، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من امرئ ٍ يخذل امرءاً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يُحبّ فيه نُصرته”(10).
رابعاً : أجمع علماء المسلمين أن الدولة أو الجماعة أو الفرد الذي يظاهر أعداء الإسلام ضد المسلمين بالمال أو بالرجال أو بالسلاح أو بالتجسس والمعلومات فهو خارج من الملة، قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: (إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعاً واختياراً وأعانهم في بدنه وماله فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر)(11)، قال الشيخ سلمان بن سحمان: (وأعجب من هذا أن بعض من يتولى خدمة من حادّ الله ورسوله، ويحسّن أمرهم، ويرغب في ولائهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بلاد بعض أهل الإسلام تلقاه منافقوها وجهالها بما لا يليق إلا مع خواص الموحّدين، فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة وله غيرة وتوقير لرب الأرباب يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك ...)(12)، وقد عد الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب عليه رحمة الله مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين من نواقض الإسلام، قال في تعداد النواقض: (موالاة المشرك والركون إليه ونصرته وإعانته باليد واللسان أو المال كما قال تعالى "فلا تكونّن ظهيراً للكافرين" (القصص، 17)(13).
خامساً: أفتى علماء المسلمين أن الذي يمكّن أعداء الإسلام من المسلمين أفراداً أو جماعات أو يسلمهم لهم فهو مرتد، فقد ذكر البرزلي في كتاب "القضاء" في نوازله (أن أمير المؤمنين علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني استفتى علماء زمانه ـ وهم من هم في علمهم ـ في استنصار ابن عباد الأندلسي بالإفرنج ليعينوه على المسلمين فأجابه جُلّهم بردّته وكفره)(14).

مستر
13-07-2001, 05:47 PM
إن سجل آل سعود في حرب الإسلام والتواطؤ مع أعدائه سجل طويل لا يسعنا في هذا المقام الإحاطة به، وهذه بعض النماذج لإثبات تلك الحقيقة، وطلبة العلم يعلمون أن واقعة واحدة من مظاهرة أعداء الإسلام على المسلمين، أو التعامل مع أعداء الإسلام تعامل الولي المناصر القريب، يكفي لنزع الشرعية منه ووصفه بالكفر والنفاق،كما نصّ عليه أئمة الإسلام وخاصة علماء الدعوة من أمثال الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، وهذا ليس مجال نقاش عضوية المنظمات الدولية التي تحارب الإسلام ولا المعاهدات الدولية والإقليمية والعلاقات التي قامت على أساس إسقاط دور الدولة في نشر الدعوة ومسؤوليتها تجاه المسلمين في العالم رغم أن تلك بحد ذاتها تقضي على الشرعية، ليس لعدم القناعة بذلك ولكن لأن كثيراً من المسلمين بل حتى من طلبة العلم استمرأها وتعود عليها، فكانت هذه النتائج والأمثلة أبرز وأخطر من ذلك بكثير حتى لا يجادل فيها مجادل أو مكابر.
النموذج الأول: العلاقة مع الأمريكان: لا يشك عاقل أنها علاقة عمالة وعبودية، وقد يُقال أن الدولة المسلمة لا بأس أن تسدد وتقارب إذا كانت في مرحلة ضعف، لكن لا يمكن أن يقبل مسلم من دولته وضع الانبطاح والعبودية الذي يمارسه آل سعود تجاه الأمريكيين، ويكفي أن الأمريكان هم الذين يرسمون سياسة المملكة بكاملها: السياسة الخارجية والعلاقات، السياسة العسكرية، السياسة الاجتماعية، السياسة المالية والاقتصادية، فالخطط الخمسية التي نفذتها المملكة منذ منتصف السبعينات الميلادية وضعها أساتذة من جامعة هارفرد تحت إشراف المخابرات الأمريكية، والاستراتيجية العسكرية وضعتها وزارة الدفاع الأمريكية وتتضمن تلك الاستراتيجية تحديد من هو العدو للمملكة، وقد حُدّد العدو ببعض الجيران من البلاد الإسلامية وشعب الجزيرة نفسه!، والسياسة الاقتصادية وضعها الأمريكان، وقد رسمت تلك السياسة بحيث تحقق أكبر عملية استنزاف مالي في التاريخ، فضلاً عن التحكم المباشر بأسعار النفط وسياسة تسويقه، والتمكن من ارتهان كل احتياطي النفط في أرض الجزيرة، وتمادى الأمريكان في استعباد آل سعود إلى درجة أن وظفوا أموال المملكة لتأمين العمليات السرية التي تقوم بها المخابرات الأمريكية في نيكاراغوا وأنغولا ولبنان وبلاد أخرى، وحين وقعت حرب الخليج مكّن آل سعود نصف مليون من الأمريكان من جزيرة العرب ثم من تدمير العراق وحصار شعبه المسلم، وكانت السلطة الوحيدة للملك في تلك الحرب أن سمح له الأمريكان بمعرفة توقيت الضربة الأولى، ثم بعد الحرب بقي عشرات الألوف من الأمريكان اليهود والنصارى منهم ذكورهم وإناثهم، مع سلاحهم وطائراتهم يتصرفون تصرف الأسياد، ويدخلون جزيرة العرب ويخرجون بدون معرفة السلطات السعودية، والنصوص الشرعية والإجماع منعقد على تحريم ذلك تحريماً قطعياً، قال صلى الله عليه وسلم "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً" رواه مسلم، وكان آخر الأمثلة على تلك العبودية البيان الرسمي من وزارة الخارجية الموجه للشركات يطالبها فيه بالتوقف عن مقاطعة إسرائيل، ويشير البيان صراحة وبدون خجل إلى أن هذا التعميم تم بناءً على توجيهات أمريكا، وهذه النماذج المذكورة مما عرف واشتهر، أما ما خفي من العلاقات والمعاهدات والاتفاقيات فخطير خطير.
النموذج الثاني: علاقة المملكة مع الأنظمة الجاثمة على صدور المسلمين والتي تحارب الإسلام والدعاة، وخاصة دول شمال أفريقيا، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن آل سعود دعموا تلك الأنظمة بالمال وبالدعم الإعلامي والدعم المعنوي علناً وبكل افتخار وقد إستلم واحد من هذه الأنظمة من آل سعود أكثر من ألفي مليون دولار دفعة واحدة كمحاولة لإنقاذه، واستقبل آل سعود أحد وزراء الدفاع في تلك البلاد الذي لا يُعرف عنه إلا حرب الإسلام استقبال الفاتحين وقلّدوه وسام والدهم الملك عبدالعزيز حتى أصبح الحرم الشريف مزاراً مفتوحاً لكل عدو حاقد على الإسلام، وامتلأت وزارة الداخلية بخبراء القمع وحرب "الأصولية" من تلك البلاد، وكانت أكبر الجرائم التي اقترفت في هذا الميدان والتي نص علماء المسلمين بالإجماع أنها ردة عن الإسلام هي تسليم كثير ممن لاذ بالحرم من الدعاة هرباً من طغاة بلاده لحكام بلادهم لقتلهم والتنكيل بهم، وقد تقدّم كلام الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في أمثال هذا الفعل الذي لم يجرؤ حتى الجاهليون، ولا حتى الدول الكافرة في الزمان المعاصر على اقترافه.
النموذج الثالث: الدعم الصريح للدول والمؤسسات والجماعات الملحدة التي حاربت الإسلام علناً وتقديم ذلك الدعم لها في معركتها مع الإسلام، فقد استلم "الاتحاد السوفياتي" في أوج الحرب مع المجاهدين أربعة آلاف مليون دولار من آل سعود، ودعم آل سعود النظام الاشتراكي الملحد في اليمن الجنوبي بأكثر من ثلاثة آلاف مليون دولار فضلاً عن الدعم العسكري والبشري والسياسي والإعلامي والمعنوي، بل وحتى بالدواء والغذاء، كما قدم آل سعود الدعم المادي والمعنوي للصليبي المجرم جون قرنق وزودوه بالسلاح وبالدواء والغذاء، وكذلك دعموا حزب الكتائب النصراني الماروني وأخيراً دعموا أسياس أفررقي لاحتلال جزيرة حنيش اليمنية.
النموذج الرابع: ذلك الاندفاع الكبير تجاه مشروع الصلح مع اليهود المغتصبين، حيث يفتخر بندر بن سلطان أن المملكة هي التي دفعت تكاليف مؤتمر "مدريد" كاملة، وقبل ذلك تكفّلت المملكة خلال حرب الخليج بتقديم ثلاثة عشر مليار دولار لإسرائيل مقابل إسكاتها عن ضرب العراق، فضلاً عن الدعم الذي تحظى به مسيرة التطبيع مع العدو، دع عنك موافقة المملكة وتأييدها لكل القرارات الدولية التي أعطت الشرعية لاحتلال اليهود لفلسطين، وهذه كلها مما أُعلن وتداوله الإعلام، أما ما لم يُعلَن فطوام عظيمة تصل إلي حد التنسيق الأمني والعسكري والتواطؤ ضد الحركات والجماعات الإسلامية.
النموذج الخامس: اختراق كل الحركات والجماعات والمراكز والمؤسسات الإسلامية بهدف تشتيتها وإثارة الفتنة بينها وإفشال برامجها وتمييع قضيتها وتشويه الإسلام وجعله قاصراً على بعض المعاني المحدودة، وتحويل عدد كبير من المراكز والمؤسسات الإسلامية إلي مؤسسات عميلة تخدم الدعاية للنظام السعودي، ومن ثم الأهداف الأمريكية واليهودية.
ولقد تبين بالأدلة القاطعة من خلال تتبعنا لسياسة المملكة وخاصة بعد حكم الملك فهد أن ما من مصيبة ألمت بالإسلام والمسلمين والدعوة الإسلامية إلا وكان لآل سعود فيها دور فعّال والعياذ بالله، وعلى الذين يدافعون عن النظام أن يثبتوا أن السياسة الخارجية للمملكة لا تحارب الإسلام، فضلاً عن أن تكون في صالح الإسلام.
وبعد هذا الاستعراض فإنه قد ترسخ لكل طالب حق أن الحكام يوالون أعداء الإسلام ويعادون المسلمين ويكيدون لهم، وأن علاقاتهم مبنية على دعم وتأييد كل عمل يضر بالإسلام والمسلمين، ويكفينا من الشواهد الماضية تسليم الذين يلوذون بالحرم من المجاهدين والمضطهدين لحكومات بلادهم، فهل يُعتبر هذا النظام شرعياً بعد كل ذلك؟.

هوامش الولاء والبراء

1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ج313/6.
2) ابن حزم، المحلى، ج35/13.
3) ابن تيمية، الإيمان، 14.
4) ابن القيم، أحكام أهل الذمة،ج 67/1-69.
5) سليمان بن عبدالله آل الشيخ، أوثق عرى الإيمان، 26ـ27.
6) انظر الرسائل والمسائل النجدية،ج1 ص745، وكذلك مجموع رسائل حمد بن عتيق (100ـ101).
7) عبدالله عبداللطيف، الدرر السنية، 11/7.
8) رواه مسلم.
9) رواه أحمد بسند حسن.
10) قال الهيثمي إسناده حسن.
11) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 134/2-135.
12) المرجع السابق، 52/3.
13) انظر محمد بن عبدالوهاب، مجموع التوحيد، 29، والمرجع السابق.
14) انظر نصيحة أهل الإسلام، 179.

مستر
13-07-2001, 05:49 PM
من المسلمات الشرعية أن المسلمين أفراداً وجماعات ودولة يجب أن يسعوا لإعزاز الإسلام ورفع شعائره، ولكن قبل تقويم أداء النظام في هذا الجانب لابد من التأصيل الشرعي العام لهذه القضية.
أولاً : ثبت بالكتاب والسنة أن التمكين للإسلام، ورفع كلمة الله وإقامة شعائر الإسلام وإظهارها واجب شرعي على من تولى أمر المسلمين، قال تعالى "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج، 41)، نقل القرطبي عن الضحاك في تفسير هذه الآية قوله: (... هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الله الملك ...)(1)، وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: (...جميع الولايات مقصودها أن يكون الدين كله لله، فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لذلك وذلك هو الخير والبر والتقوى ...)(2)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها)(3)، وقال إمام الحرمين الجويني (الغرض ـ من الإمامة ـ استيفاء قواعد الإسلام طوعاً أو كرها،ً والمقصد الدين)(4)، وقال الماوردي رحمه الله: (... الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ...)(5)، وهكذا فإن الغرض الأول الذي شرعت من أجله الإمامة هو تحقيق الدين على مستوى المجتمع والدولة.
ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة أن رفع شعائر الإسلام والتمكين لدين الله لا يتحصل إلا بقيام الولاة بالأمر بالمعروف "كل معروف"، والنهي عن المنكر "كل منكر"، ولذا صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناه الشامل واجباً منوطاً بولي الأمر، إذا قصّر فيه قصّر عن شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، وإذا نقضه نقض مقصود الإمامة في الإسلام، قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" (آل عمران110،)، وقال: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج، 41)، وقال تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" (التوبة، 71)، والإمام وكيل أو نائب عن الأمة في تحقيق عهد المؤمنين مع الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بشكل واضح وصريح فقال: (... جميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...)(6)، وقد نقل ابن القيم عبارة الشيخ ابن تيمية تقريباً بقوله: (... وجميع الولايات الإسلامية مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...)(7)، وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: (... ومما يجب على ولي الأمر تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان والربا ...)(8)، قال شيخ الإسلام في حديثه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (... هذا واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية، يصير فرض عين على القادر الذي لم يتم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم ...)(9).
ثالثاً: ثبت بالكتاب والسنة كذلك أن تعطيل هذه الشعائر وإنعاش الباطل، وإضعاف الحق سبب في الهلاك والدمار والعذاب الدنيوي، فضلاً عن الإثم المترتب على ذلك، قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً" (الإسراء، 16)، قال القرطبي في تفسيرها (وقيل أمّرنا: جعلناهم أمراء لأن العرب تقول: أمير غير مأمور أي غير مؤمّر، فإذا أراد (الله) إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قال تعالى أمر مترفيها بالفسق والظلم فحق عليها القول بالتدمير ...)(10)، وقد تضافرت الأحاديث النبوية في هذا المعنى فمنها ما رواه الترمذي وأبي داود عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما وقع النقص في بني إسرائيل، كان الرجل منهم يرى أخاه يقع على الذنب، فينهاه عنه، فإذا كان الغد، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن، فقال: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانو يعتدون" (المائدة، 78) وقرأ حتى بلغ "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون”" (المائدة، 78-81)(11).
وعن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال، قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" (المائدة، 105)، وإنما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب”، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيّروا ولا يغيّرون، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب”)(12)، وعن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيّروا عليه ولا يغيّرون، إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا”(13)، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم”(14).
فهذه الأدلة وغيرها كثير دليل قاطع على أن تقصير الأمة ممثلة في نوابها وعلى رأسهم الحاكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب مباشر في حلول العـــذاب الدنيوي، فضلاً عن الإثم والسيئات، فكيف إذا كان الحال أكثر من مجرد تقصير، بل أمر بالمنكر ونهي عن المعروف، وإشاعة للفاحشة، ودفاع عن الباطل، وحرب للدعوة.
رابعاً: نص العلماء على أن الطائفة الممتنعة التي تصر على تعطيل الشرائع الثابتة، أو استحلال الحرام الثابت الذي لا عذر لأحد فيه تعامل معاملة مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، ليس لإنكارهم النبوة ولا القرآن ولا حتى لتركهم الصلاة، بل لمجرد تعطيل تلك الشعائر الثابتة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله ...)(15)، ويقول في موضع آخر: (... فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج، أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ...)(16)، وتأمل قوله "أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا"، وأين يقع الربا في ذلك، وتأمل قوله كذلك "وإن كانت مقرة بها"، فلا يكفي الإقرار بل لابد من التطبيق.
وبعد هذا الاستعراض لما يفرضه الإسلام على الدولة من إقامة الشعائر، والتمكين للدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطر تعطيل ذلك على المجتمع، فكيف كان إنجاز النظام السعودي في هذا الجانب؟ وكيف يمكن تقويمه من هذا المنطلق؟ وعلى الذين يحرصون على إصابة الحق في معتقدهم وعملهم، أن يتأملوا الأمر بحنكة وفطنة، ويتخلوا عن السذاجات والتبسيط وخداع النفس ويقبلوا بحقائق الأمور ولا تغرهم الدعاوى والافتراءات.
الواقع:
عند النظر إلى النظام السعودي الحالي بهذه الطريقة فإن المتأمل يخرج باستنتاج غريب مؤدّاه أن ذلك النظام لم يقصر في ذلك الواجب الشرعي الذي من أجله شرعت الإمامة في الإسلام، بل نقضه نقضاً وعمل على خلافه، ولقد تبين أن تعامل النظام مع قضية التمكين لدين الله في الأرض وإظهار الشعائر والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارة عن خطة كاملة واستراتيجية عريضة، مؤداها مسخ هذا المجتمع، وبتر الأمة عن إرثها الديني العظيم، وتحويل المسلمين إلى مجرد أفراد من المسلمين كلٌّ دينه بينه وبين ربه، ونزع الجانب الاجتماعي، وجانب الدولة عن الإسلام على الأقل من الناحية العملية، وإليك بعض النماذج لواقع الشعائر الإسلامية في النظام السعودي الحالي:
النموذج الأول: شعيرة الجهاد، والحد الأدنى منها الذي تعتبر بعده معطلةً تعطيلاً كاملاً هو حماية البيضة وتحصين الثغور، حتى يكون المسلمون في أمن على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، قال الماوردي في تعداده لمسؤوليات الإمام: (... الثالث: حماية البيضة، والذب عن الحريم لتتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال ...)(17)، وقال إمام الحرمين: (... وأما اعتناء الإمام بسد الثغور فهو من أهم الأمور وذلك بأن يحصن أساس الحصون والقلاع ـ إلى قوله ـ ويرتب على كل ثغر من الرجال ما يليق به...)(18)، ومن المعلوم من الدين بالضرورة وجوب الجهاد وتحقيق أدنى درجاته بما ذكر من حماية الببضة وتحصين الثغور ولاشك أن الإضعاف المتعمد للجيش، وانكشاف البلد أمام الأعداء، والاعتماد الكامل في حماية البلاد على أعداء الإسلام واستقدام قواتهم وتمكينها من ثغور المسلمين وقرب الحرمين، بل جعل الاعتماد على هؤلاء والاحتماء بهم أمراً عادياً والاعتراف به صراحة أمام الناس، وعقد المعاهدات من أجله هو تعطيل صريح ونقض كامل لأدنى مراتب تلك الشعيرة العظيمة، وعندما انكشفت تلك الجريمة النكراء في حرب الخليج الثانية، توقع البعض ممن أحسن الظن بأن الوضع سيصلح، لكن الذي حدث هو التأكيد على هذا الواقع، من خلال بقاء جيوش اليهود والنصارى "قوات الحماية" في بلاد المسلمين، والتوقيع على مزيد من المعاهدات في ذلك مما أوقع جزيرة العرب ومهد الإسلام في احتلال كامل، ولا نزيد تعليقاً على اعتبار هذا الوضع مما ينطبق عليه كلام ابن تيمية في وصف الطوائف الممتنعة، حيث اعتبر رحمه الله مجرد التوقف عن جباية الجزية من تعطيل الشعائر فكيف بما ذكر.

مستر
13-07-2001, 05:52 PM
النموذج الثاني: من الشعائر المعطلة بشكل صريح شعيرة تحريم الربا الذي ثبت تحريمه قطعياً في الكتاب والسنة وأصبح تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، بل نص القرآن على أنه حرب لله ورسوله قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (البقرة، 279)، وقد ثبت في الحديث أن تحريم الربا أعظم من تحريم ما يستعظمه الناس وهو الزنا، ومع كل ذلك التحريم ومع أنه حرب لله ورسوله، فقد أصر الحكام ليس على مجرد السماح للربا علناً ـ وهو بحد ذاته جريمة كبرى ـ بل لقد اعتبروه أساس التعامل الاقتصادي داخل البلاد وخارجها، ودعموا كل المؤسسات الربوية قانوناً ونظاماً، بل وحتى بالمال حيث أنقذت الدولة بقوتها المالية البنوك أكثر من مرة حين أوشكت على الإفلاس، ولم تكتف الدولة بذلك بل منعت رسمياً وبسلطتها إنشاء المصارف الإسلامية، ومنعت نشر فتاوى العلماء حول البنوك الربوية، ومنعت الأحاديث والإعلانات التي تؤيد المصارف الإسلامية، حتى الموجودة منها في بلاد الكفر، فهل يشك أحد بعد ذلك أن شعيرة تحريم الربا معطلة في بلاد الحرمين. نعود ونذكر بحديث شيخ الإسلام ابن تيمية عن الطوائف الممتنعة، واعتباره مجرد الإقرار بالوجوب أو التحريم لا يمنع من انطباق الوصف عليها بتعطيل الشعيرة وما يترتب شرعاً على ذلك(19).
النموذج الثالث: للشعائر المعطلة أو المنقوضة هو شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقصود الشرعي بذلك ليس ما يسمى في بلادنا بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو قيام الدولة من خلال سلطتها على جميع المستويات بنشر الدعوة والأمر بالمعروف وحمايتهما، ومنع المنكرات كما في كلام ابن تيمية رحمه الله فيما سبق(20)، ولربما تبين لطالب الحق أن الدولة لم تقصر في تلك الشعيرة فحسب، بل لقد سعت ضدها فأمرت بالمنكر، ونهت عن المعروف، وحاربت الدعوة، ولو تأمل المرء طريقة الدولة في التعامل مع الدعوة لاكتشف أن تعاملها عبارة عن برنامج متكامل شبيه ببرامج "تجفيف المنابع" المنفذة في بعض دول شمال أفريقيا، وفي هذا البرنامج سعت الدولة لسد كل المنافذ التي يمكن أن تصل بها كلمة الحق والمعروف إلى الناس، وتسهيل كل الطرق التي يصل بها الباطل والمنكر إلى الناس.
ففي المجال الأول ضيقت الدولة على الدعاة فجعلت الحديث إلى الناس سواء في المسجد أو في المنتديات العامة ممنوعاً إلا بإذن، واستخدم هذا النظام في منع عدد كبير من الدعاة المخلصين، وفي نفس الاتجاه فصلت الدولة عدداً كبيراً من الخطباء والعلماء والدعاة من المساجد، بل وحتى من الجامعات، رغم أن بعضهم لا يتجاوز حديثه الإيمانيات، ثم استكملت الدولة تلك الخطوة باعتقال عدد كبير من العلماء والدعاة ومئات من أتباعهم، وغيّبتهم خلف القضبان بل وعرّضت بعضهم للعذاب، وحرمت الأمة من مجرد رؤيتهم ومقابلتهم، هذا فيما يخص الدعاة والعاملين للإسلام من داخل البلاد، أما فيما يخص من هم خارج البلاد فقد كانت بلاد الحرمين إلى عهد قريب ملاذاً للذين يهربون من الطغاة والظالمين، وأما الآن فقد أصبح من دواعي منع الحصول على تأشيرة لدخول البلد وحتى الحج والعمرة هو الانخراط في نشاط إسلامي سياسي، وأدهى من ذلك جرماً تسليم من يلوذ بالحرم لحكوماتهم لقتلهم والتنكيل بهم، وأما في سياق الحرب على الدعوة، فقد فرضت الدولة حصاراً شديداً على الشريط الإسلامي بإقفال عدد كبير من محلات التسجيلات الإسلامية ومنعت عدداً كبيراً من الأشرطة، وفرضت عقوبات صارمة على من يخالف ذلك، وفي نفس الميدان منعت المجلات الإسلامية بالكامل تقريباً ، ومُنِع الإسلاميون من التحدث إلى الأمة من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، إلا من يلتزم في حدود العبادات الفردية، ومُنع الإسلاميون كذلك من الوصول إلى أي منصب سياسي أو عسكري أو أمني أو تعليمي حساس، وتدخلت الدولة حتى في تعيين عمداء الكليات ورؤساء الأقسام سعياً لمنع الإسلاميين من نشر الخير ورفع لواء الدعوة، ولنفس الغرض وهو حصار الدعوة فقد نفذت حديثاً سياسة إيقاف كل الأنشطة المالية حتى الخيرية، وأقفلت جميع المبرات والمؤسسات الخيرية، وسعت الدولة وبكل قوة لمنع أي شكل من أشكال التجمع لهدف التعاون على البر والتقوى، وتعاملت مع ذلك بكل قسوة وعنف، والمطلع على تفاصيل تنفيذ هذه الخطة يخرج بقناعة أن المقصود منها هو الإسلام ذاته، وليس مجرد الانزعاج من شيخ أو عالم دأب على انتقاد الحكام، وهذه قصة ما يسمى بـ"شارع الموت" التي تجسّد فيها مفهوم حرب الدولة للإسلام ذاته، وليس لمن ينتقد الحكام، فقبل بضع سنوات لاحظ عدد من الدعاة والغيورين على الإسلام تجمعات من الشباب المنحرف خارج مدينة الرياض تجتمع للعب بالسيارات، وتداول المخدرات واللواط وغيره، فسعى أولئك الدعاة لإقامة مخيم قريب منهم، ودعوهم بأساليب غاية في الرقة والترغيب، ولم تمض أيام حتى استقطبت تلك الفكرة آلاف من أولئك الشباب المنحرف، وبدأوا يتحولون إلى شباب صالح، ولكن لم تبدأ الفكرة بالانتعاش حتى داهمت قوات الأمن المخيم، وتم تكسيره وطرد المجتمعين بحجة عدم وجود إذن له، فلم ييأس الدعاة وسعوا إلى استصدار إذن شخصي من الشيخ بن باز، وأعادوا تأسيس المخيم، ولم يمض يومان حتى داهمتهم قوات الأمن وحطمت المخيم مرة أخرى، واعتقل الشخص الذي سعى لاستصدار إذن من الشيخ بن باز، ولم يُفرج عنه إلا بعد تعهد بعدم تكرار ما عمل، فبالله عليكم أليس هذا دليلاً على حرب الدعوة ذاتها والسعي في نشر الباطل بكل أشكاله؟؟.
وفي مقابل حصار الدعوة سعت الدولة حثيثاً لتخريب المجتمع بكل وسائل التخريب ففي الإعلام التخريب الفكري والتخريب الأخلاقي، وخروجاً من الحرج في نشر الرذيلة والانحراف الفكري والخلقي في وسائل الإعلام الرسمية، فقد صدّرت الدولة وسائل إعلامها إلى الخارج لتبث السموم من هناك، وفي مجال السماح لأعداء الإسلام والمنحرفين فكرياً وخلقياً والتمكين لهم، فقد استحوذ هؤلاء على معظم المناصب والأماكن الحساسة في البلد، بل لقد أصبح من ضرورات توظيف الإنسان في مركز حساس أن يثبت عدم التزامه الشرعي، حيث تحول الالتزام الشرعي إلى صفة قادحة فيمن يستلم تلك المسؤوليات، وفي الوقت الذي مُنِع فيه المصلحون عن مخاطبة الأمة، فقد فتح الباب على مصراعيه للمفسدين في وسائل الإعلام، ففي الوقت الذي تمنع فيه المجلات الإسلامية، سمح للمجلات الهابطة والساقطة بغزو البلد وتخريبه، وكذلك الحال بالنسبة للتسجيلات الإسلامية، ومحلات الفيديو، بل لقد دعمت الدولة من خلال المتنفذين من الأمراء وحاشيتهم كل أشكال الفساد من دعارة وخلاعة ومخدرات وخمر ولواط وتحلل وانحراف بل وحمت أصحابها من كل أشكال العقاب، والحكايات في هذا الميدان يشيب لها الولدان، وتصور أن آلاف الأمراء كل أمير يستطيع أن يستورد ويوزع ويبيع ويحمي من يريد، فكيف تريد للبلد أن ينجو من الهلاك دون الأخذ على يديه؟.
بالإضافة إلى ما سبق سعت الدولة إلى حل جذري لتلك القضايا، وذلك من خلال تغيير المناهج التعليمية، حتى ينعزل الطالب عن ارتباطه بالعقيدة والدين، ولا يفرق بعدها بين إسلام وكفر، أو بين سنة وبدعة، ويتحول إلى بهيمة تبحث عن إشباع غرائزها.
بقي أمر واحد وهو الحديث عما يسمى بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة هذه الهيئات أنها ورطة تورط النظام في إرثها، ولم يستطع التخلص منها خوفاً من ردة الفعل لدى العلماء، فسعى إلى أن يجعلها تؤدي دوراً معاكساً لما يراد منها، وهو تشويه الإسلام وتنفير الناس منه، وحوّلها بعد عدد من الإجراءات إلى مؤسسة عاجزة لا يساوي نفوذها نفوذ أصغر مركز من مراكز الشرطة، وحرمها من كل أشكال التطوير والتنظيم، وفرض عليها عدداً من الموظفين المدربين في المخابرات لتشويه صورة الإسلام، ولولا الجهود العظيمة من قبل بعض المخلصين من داخل هذا الجهاز لكان أثر هذا المشروع في تشويه صورة الإسلام من خلال هذا الجهاز أكبر بكثير من الحاصل حالياً.
فهذا واقع النظام إذاً: برنامج متكامل لحرب الإسلام في المسجد والسوق والمدرسة والتلفاز والمذياع والمجلة والجريدة وعلى مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة، برنامج لمسخ الأمة وعزلها عن دينها وحضارتها، فهل يستطيع أحد أن يثبت أن النظام يدافع عن الإسلام والدعوة ويحميها؟ إن ذلك مستحيل!، بل أن يثبت أن وضع النظام مع الدعوة هو مجرد تقصير وعجز!؟. وبعد فقد أقيمت الحجة على أن حرباً غير معلنة قائمة ضد الإسلام والدعوة والدعاة في بلاد الحرمين، فكيف تبقى شرعية بعدئذ لمن نقض شعائر عظيمة مثل شعيرة الجهاد وحماية الثغور وحارب الدعوة وحمى الربا والفساد؟!.









هوامش رفع شعائر الإسلام

1)القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 7/73.
2) محمد بن عبدالوهاب، المجموعة الكاملة، 9/42.
3) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 139.
4) الجويني، غياث الأمم، 138.
5) الماوردي، الأحكام السلطانية، 5.
6) ابن تيمية، الحسبة، 6.
7) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، 246.
8) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 2/11.
9) ابن تيمية، الحسبة، 6.
10) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/230.
11) رواه أبو داود والترمذي.
12) أورده أبو داود والترمذي.
13) رواه أبو داود.
14) رواه الترمذي ورواه مسلم في كتاب الإمارة ووجوب طاعة الأمير.
15) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 108.
16) ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.
17) الماوردي، الأحكام السلطانية، 16.
18) الجويني، غياث الأمم، 156.
19) انظر ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.
20) انظر ص 40 وما بعدها من هذا البحث .

مستر
13-07-2001, 05:55 PM
لقد بّين العلماء من خلال فهم النصوص الشرعية ومن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أن على الإمام واجبات شرعية محددة تجاه رعيته، فكان أبرز هذه الواجبات هو إقامة العدل، وحفظ المال العام وجمعه وصرفه بالطرق المشروعة، وتولية أهل القوة والأمانة في المناصب والولايات، بالإضافة إلى مسؤولية الحاكم في تسهيل سبل المعيشة، وهذه الواجبات فروض شرعية ملزمة، وليست منّة يمنّ بها الحاكم على شعبه، وتنفيذه لها وحرصه عليها هو تنفيذ لواجب، وليس تفضلاً على أحد، وحقيقة دوره في تلك المسألة أنه أعظمهم مسؤولية وأكثرهم حملاً، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، وذكر منها “الإمام الأعظم الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته”(1)، وعن معقل بن يسار قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد يسترعيه الله رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة”(2)، وقال صلى الله عليه وسلم “ما من عبد يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل الجنة معهم”(3)، وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه قوله مخاطباً عبيد الله بن زياد قال: أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إن شر الرعاء الحُطمة فإياك أن تكون منهم”(4)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به”(5)، وهكذا فالمسألة تكليف وواجب وليست منة وتفضلاً، وهذه الواجبات متعددة من أهمها:
الواجب الأول: إقامة العدل، قال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ... الآية" (النحل، 90)، وقال: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" .... الآية (النساء، 58)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... وذكر منهم إمام عادل”(6)، وقال “ليس من وال أمةِ قلت أو كثرت لا يعدل فيها إلا كبّه الله تبارك وتعالى على وجهه في النار”(7)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قوله كذلك “ما من أمير عشيرة إلا يؤتى يوم القيامة مغلولاً لا يقله إلا العدل أو يوبقه الجور”(8). وفي ذم الظلم قال تعالى: "وإذا ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريّتي قال لا ينال عهدي الظالمين" (البقرة، 124)، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: (لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه) وقال: (ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانقضه)(9)، وقال الجصاص في تفسير الآية: (فلا يجوز أن يكون الظالم نبياً، ولا خليفة لنبي، ولا قاضياً، ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين من مفت أو شاهد)(10)، وقال: (... فثبت بهذه الآية بطلان إمامة الفاسق، وأنه لا يكون خليفة، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته ...)(11)، وقال القرطبي: (... قال إبن خويز منداد: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راويا ...)(12)، وقال تعالى: "إن الظالمين لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة" (الشورى21،)، وفي الحديــث القدســي “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا”(13)، وقال صلى الله عليه وسلم: “اتقو الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة”(14)، وقال صلى الله عليه وسلم: “صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي، إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق”(15). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (... والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقاً في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد، والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر ...)(16)، وقال: (... وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة، والسياسة الصالحة)(17)، وقال ابن القيم: (...إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها وحكمة كلها، وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه ...)(18).
وزوال العدل وانتشار الظلم لا يدل على جور الحاكم ومخالفته الشريعة فحسب، بل يؤدي إلى خراب البلاد وحلول العذاب، قال تعالى: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" (هود، 102)، قال ابن تيمية: (... ولهذا يروى: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة ...)(91)، وقال كذلك: (... إن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، وإن لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة ...)(20).
الواجب الثاني: حفظ المال العام وجمعه وصرفه بطريقة شرعية، حيث حددت الشريعة طرق معينة لا يجوز تجاوزها لجمع المال العام، والزمت الإمام بحفظه وصونه وصرفه في الوجوه الشرعية، ووردت الأدلة بالوعيد الشديد على من يفرط في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: “إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة”(21)، قال ابن حجر: (... وفي هذا الحديث ردع الولاة أن يأخذوا من المال شيئاً بغير حقه، أو يمنعوه من أهله ...)(22)، وقال أبي يعلى في جباية المال: (... جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف ...)، وقال في صرف المال: (... تقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير ...)(23)، وقد روي عن عمر تشبيهه دور الإمام مع المال بدور ولي مال اليتيم (ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن استغنيت عففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف)(24)، والآيات والأحاديث في تحريم الغلول والوعيد الشديد منه كثيرة معلومة، ومن أكثر هذه الأحاديث تحديداً لدرجة الغلول ما رواه أبو داود عن المستورد بن شداد قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكناً فليكتسب مسكناً"، قال: قال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق”(25)، وقد فصل علماء المسلمين في الأموال تفصيلاً دقيقاً من خلال فهمهم للكتاب والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، قال الماوردي في تعداده لواجبات الإمام: (... تقدير ما يتولاه من الأموال بسبب الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها ...)(26)، قال ابن تيمية رحمه الله في تقسيم أنواع الجباية: (... نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع، كما ذكرناه، ونوع يحرم أخذه بالإجماع، كالجبايات التي من أهل القرية لبيت المال لأجل قتيل قتل بينهم، وإن كان له وارث، أو على حد ارتكب وتسقط عنه العقوبة بذلك، وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقاً، ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم وليس بذي فرض ولا عصبة ونحو ذلك ...)(27).

مستر
13-07-2001, 05:57 PM
الواجب الثالث: تعيين الأكفاء من أولي القوة والأمانة في مناصب الدولة الحساسة، قال تعالى: "إن خير من استأجرت القوي الأمين" (القصص، 26)، قال ابن تيمية رحمه الله في تفسيرها: (وهذه الشروط القوة والأمانة، وتعنيان العلم والخبرة في العمل الموكل إليه والقدرة عليه والخشية لله لا للناس ...)(28)، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله”، وفي رواية “من قلد رجلاً عملاً على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين”(29)، وقال عمر بن الخطاب: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين)، وقال عمر كذلك: (من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)(30)، وعند البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره لتضييع الأمانة: “إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة”(31)، قال الماوردي في تعداد واجبــات الإمام (والسابع اختيار خلفائـــه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفايــة فيها والأمانة عليها ...)(32)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، وهذا واجب عليه، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار ومن الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة ومن أمراء الأجناد، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، فيجب على من ولي شيئاً من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو سبق في الطلب فذلك سبب للمنع ...)(33). وإضافة إلى وجوب اختيار أهل الأمانة والقوة فقد أوجبت الشريعة محاسبة الولاة وعزلهم أو عقابهم عند صدور ما يستدعي ذلك، فقد ثبت في الصحيح حديث ابن اللتبية الذي حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات، وهكذا كانت سياسة الخلفاء بعده صلى الله عليه وسلم(34).
الواجب الرابع: تسهيل سبل المعيشة وتوفير الأمن وشق الطرق وغيرها، والحديث عن هذه الأمور يطول ويحسن إفراده في بحث آخر .
الواقع:
بعد هذا التأصيل يكون السؤال هل أنجز النظام تلك الواجبات الشرعية وعمل بمقتضاها؟.
ففي مجال إقامة العدل تكاد تلك الدولة تكون أسوأ بلاد العالم في الظلم وهضم الحقوق والتفرقة بين الناس، سواء الظلم الصادر من الدولة نفسها أو من المتنفذين فيها بأفرادهم، وآخر ما يمكن أن يفكر فيه المرء في مثل بلادنا أن يتحقق العدل والمساواة، فنظام البلد قائم أصلاً على تميز الآلاف من أبناء الأسرة الحاكمة عن عامة الشعب وتمتعهم بكل الحقوق، وإعفائهم من كل الواجبات، وحصانتهم ضد القضاء، وإطلاق يدهم في إهانة الناس وأكل أموالهم وهتك أعراضهم، بل وحتى قتلهم وإزهاق أرواحهم، وتتناقص قيمة الإنسان كلما ابتعدت القربى والعلاقة مع الأسرة إلى أن يصل الحال بالإنسان إلى مستوى الرق والعبودية، كما هو حال بعض العمال المستقدمين من بلاد المسلمين، أو حال بعض أبناء البادية المقيمين في أطراف البلد بلا هوية ولا تعريف، أما ممارسة الظلم وهتك الحقوق من قبل الدولة نفسها فحدث ولا حرج، فقول كلمة الحق ممنوع، والتجمع والتعاون من أجل البر والتقوى ممنوع، بل مجرد السعي لجمع الصدقة لوجوه الخير ممنوع، وبالمقابل فإن كل ما منعته الشريعة من أشكال الظلم كالإهانة والسجن والتغييب والتعذيب والتجسس ومداهمة البيوت كل ذلك يمارس بشكل منتظم حتى أصبح هو الأساس، ولم يعد للمرء خصوصية في بيته ولا في هاتفه ولا حق في أداء واجباته الشرعية، وسعياً لاستكمال واقع الظلم المطبق شلّ القضاء، وقبضت عليه الدولة بيد من حديد، وحولته إلى آلة لتأصيل الظلم وتبرير الجرائم، وأصبح القضاء من أمضى الأسلحة في وجه العدل، ومن أراد صورة متكاملة عن ذلك فليقرأ تقرير منظمة ليبرتي عن واقع الحقوق والقضاء في المملكة(35).
وأما في مجال الأموال السلطانية وجمعها وصرفها فلا يُعلم أحد أجرم في ذلك مثل جريمة فهد وإخوانه، وسوف يشهد التاريخ أن فهداً ضيع على أمة الإسلام أكبر ثروة مالية مرت في تاريخها، وأنه تخوّض في مال الله، وأنه أخذه من غير حقه بالمكوس والضرائب والاقتراض بالربا في الوقت الذي أغناه الله بكنوز الأرض، وصرفه بغير حقه على نفسه وعلى قرابته وعلى القريبين منه وعلى أعداء الإسلام والمسلمين، حتى تحول واقع الدولة من فائض بمئة وخمسين مليار دولار إلى ديون ومستحقات بمئة وخمسين مليار دولار، وقدّرت ممتلكات الأسرة في الخارج بما لا يقل عن خمسمائة مليار دولار، يملك فهد لوحده منها إحدى وأربعين ملياراً، وسلطـــان حوالي ثلاثين ملياراً، وابنه خالد حوالي خمساً وعشرين وعليك حساب الباقي، فهل هذا هو أداء الواجب الشرعي في حفظ المال؟ والمضحك أن فهداً وإخوته يمنون على المسلمين بزخرفة البيت الحرام وصناعة باب الكعبة من الذهب الخالص وقد نص العلماء أن ذلك من الجرائم في مال المسلمين، وقد عد الشوكاني ذلك من المعاصي الصريحة، وعد الشيخ صديق حسن خان “وضع الذهب في الكعبة من الكنز الذي يتضمنه قول الله: "يوم يحمى عليها في نار جهنم ... الآية" (التوبة، 35)(36).
وأما استخلاف القوي الأمين فلا يوجد بلد في العالم تحول إلى شركة مساهمة تملكها عائلة اقتسمت الإمارة فيما بينها إلا بلاد الحرمين، فكيف يستقيم النهي الشديد عن تولية الأقارب والمعارف والتشديد على تولية القوي الأمين مع تولية أبناء الأسرة وأخوالهم وأخوال أخوالهم على كل إمارة وسلطة، واختيار أفسق خلق الله وأشدهم تضييعاً للأمانة، وأكثرهم جريمة وخيانة ليوضع في المناصب الحساسة سواء كانت مالية أو عسكرية أو سياسية أو استخباراتية أو حتى بعض المناصب المنسوبة للدين؟، ثم بعد ذلك يكون هؤلاء جميعاً معصومين من كل أشكال المحاسبة، ولديهم كل الحصانة ضد أي مساءلة، وعندهم ضمان تام وتأكيد كامل أن منصبهم لن يتعرض لأي خطر، بل إن جزاءهم على كل جريمة يقترفونها هو تأكيد البقاء، وربما الترقية، ومزيد من التقدير، وأعظم الأمثلة على ذلك وزير الدفاع الذي ضيع البلاد في الجيش الكرتوني، وانكشفت خيانته في أزمة الخليج، فلم يزدد إلا تقديراً واحتراماً!، وضيع البلاد مرة أخرى في حرب اليمن، وحرق الأموال بل وحرق القيم والدين هناك، ثم كوفئ على ذلك بزيادة صلاحياته ومسؤولياته، ولايزال يمني نفسه بالملك بعد كل هذه الجرائم!، فأين المحاسبة والعقاب؟ بل أين المحاسبة لعشرات بل مئات من المتنفذين الذين تعسفوا في استغلال نفوذهم من أمراء ووزراء ومدراء ومسؤولين؟؟ لاشك أن هذه الواجبات ليست معطلة فحسب، بل منقوضة ومعكوسة، فالمناصب لا يعين فيــها إلا من يكون وبــالاً عليهـــا!، والمجـــرم الذي يستغل نفوذه يُكرّم ويُشكر على جريمته وُيشجع على مزيد مـن الجرائـــم .
والعاقل يتساءل بعد هذا الاستعراض ماذا قدم "ولاة الأمر" حتى يستحقوا الشرعية بل كيف تكون لهم شرعية أصلاً؟، فلا هم أدوا الواجبات الدينية ولا هم قاموا بالرعاية الدنيوية، ولا يمكن أن يُفهم كيف يستحق الولاية من نقض كل مقومات ومقاصد الإمامة الدينية ونقض مقاصدها الدنيوية، وحول ملكه للبلد إلى ملك يمين يتصرف بها كما يشاء ويشرع ويرفع ويخفض ويبيع ويشتري؟ والسؤال إلى متى يعيش بعض طلبة العلم هذا التناقض الشرعي، ويخادعون أنفسهم بتلك الشرعية وهم يعلمون كل ما سبق من نصوص شرعية وأدلة واقعة؟.


هوامش الواجبات تجاه الرعية

1) رواه البخاري ومسلم.
2) رواه البخاري.
3) رواه مسلم.
4) رواه مسلم.
5) أخرجه مسلم والبخاري في كتاب المظالم.
6) متفق عليه.
7) رواه أحمد والبخاري بنحوه.
8) رواه أحمد والبزار والدارمي وقال الهيثمي إسناده جيد.
9) تفسير ابن كثير، 1/167.
10) الجصاص، أحكام القرآن، 1/69-70.
11) المرجع السابق، 1/69-70.
12) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 2/109.
13) رواه مسلم.
14) رواه الشيخان.
15) رواه الطبراني، وقال الهيثمي رجاله ثقات.
16) ابن تيمية، منهاج السنة، 1/32.
17) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 3.
18) انظر ابن القيم، إعلام الموقعين، أول الجزء الثالث .
19) ابن تيمية، الحسبة، 4.
20) المرجع السابق، 94.
21) رواه البخاري.
22) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 7/27.
23) أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية، 28.
24) ابن الجوزي، مناقب عمر ، 350 .
25) أخرجه أبو داود، وأحمد في السند بلفظ غير لفظ أبي داود.
26) الماوردي، الأحكام السلطانية، 71
27) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 37-38.
28) المرجع السابق، 14.
29) رواه الحاكم وصححه.
30) ابن الجوزي، مناقب عمر، 58.
31)رواه البخاري، انظر البخاري مع فتح الباري ج11/279.
32) الماوردي، الأحكام السلطانية، 70.
33) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 9-10.
34) رواه مسلم في كتاب الإمارة، والبخاري في الإمان والنذور.
35) "حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية" تقرير خاص صادر عن منظمة ليبرتي لمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان في فيينا/النمسا 14-25 يونيو (حزيران) 1993م .
36) انظر صديق حسن خان ، الكيل الكرامة، 118.

مستر
13-07-2001, 05:59 PM
كان الكلام عن التأصيل الشرعي لما يجب أن تكون عليه الولاية الشرعية، وعن أداء النظام السعودي من خلال ذلك المنظار، وبين يدي القارئ الآن محاولة لتحديد موقع النظام حسب التقويم الإسلامي المدعم بالدليل الشرعي وأقوال العلماء الثقات، وما يترتب على ذلك من موقف من قبل الأمة تجاهه وتجاه من يدافعون عنه، ومن أجل ذلك تم تلخيص الفقرات الرئيسية في الصفحات الماضية .
أولاً: ثبت بالدليل الواقعي الموثّق والتطبيق العملي المنظور أن النظام السعودي قد سنّ تشريعات كثيرة فيها معنى التشريع الكامل المناهض للشريعة، من إلزام وتحريم وإباحة وعقوبة، ونصّب لها المحاكم والهيئات، وأنفذ أحكامها بقوة السلطة، ولقد تبين من خلال نقل النصوص الشرعية وأقوال العلماء أن هذا العمل كفر أكبر مخرج من الملة باتفاق العلماء ، وقد تم الرد على شبهتين في ذلك:
الأولى: شبهة من يدعي أن ذلك كفر أصغر، وتقدم نقل كلام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في الرد على ذلك، حين فرق بكل وضوح بين من يحكم بغير ما أنزل الله تقصيراً أو تهاوناً أو هوى أو شهوة في بعض المواقف فيكون اقترف كفراً أصغر ـ في أحد القولين ـ وبين من يسن التشريعات ويضاهي بها الشريعة ويقيم لها المحاكم، وسمّى رحمه الله ذلك كفراً أكبر صراحة حيث قال: (... إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين...)، وقال في موضع آخر في وصف ذلك: (... فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة ...)(1).
الثانية: دعوى بعض المدافعين عن النظام، بأن ذلك العمل لا يكون كفراً إلا إذا اعتقده من يعمل به، حيث ردّ القرآن على ذلك بقوله تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء، 60)، ونقلنا كلام الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في تفسير هذه الآية إذ قال: (... فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وإن زعم أنه مؤمن ...)(2)، ونقلنا كذلك كلام الشيخ محمد ابن إبراهيم في تفسيرها قال: “فإن قوله عز وجل "يزعمون" تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا ...ً”(3)، وقوله فيمن يدعي أنه يحكم القوانين لكن لا يستحلها، وتمت الإشارة إلى أن العذر بالجهل غير وارد لقيام الحجة على الحكام بما تم من الإنكار عليهم في هذا العمل مرّات متتابعة، مع التأكيد هنا على أن الحجة لم تقم على الحكام فحسب بل قامت على العلماء الذين يدافعون عنهم، حيث بينت لهم حقيقة تلك التشريعات والمحاكم والوضعية بما لا يترك لهم عذراً، ومع ذلك فلم يكتفوا بمجرد كتمان الحق والتخاذل عن الإنكار على الذين حكموا بغير ما أنزل الله، بل سعوا إلى تزكية الحكام والتأكيد على أنهم مطبقين للشريعة وأنهم يحكمون بما أنزل الله بكل حماس واندفاع!، وسعوا كذلك بأعلى أصواتهم إلى التشنيع على من ينكر على الحكام تلك الجريمة العظيمة، وهؤلاء يحسن تذكيرهم بما قاله الشيخ محمد بن عبدالوهاب فيمن دافعوا في زمانه عن الذين كانوا يحكمون بالأعراف وبسلوم البادية بحجة أن ظاهرهم الإسلام، قال رحمه الله: (... إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم وجوب الطاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، كيف لا وهم يحلّون ما حرّم الله، ويحرّمون ما أحلّ الله، ويسعون في الأرض فساداً بقولهم وفعلهم وتأييدهم، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفّرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً لا ينقلهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم ...)(4)، فإذا كان مجرد عدم التكفير جريمة كبرى عند الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فكيف بمن يصفهم بأحسن أوصاف الإسلام ويزكي دولتهم ونظامهم، ويحمل على من أنكر عليهم؟!.
الثالث: ثبت بالدليل الواقعي الموثق أن علاقات النظام الحاكم قائمة على موالاة أعداء الإسلام ومعاداة المسلمين، ومظاهرة أعدائهم عليهم وتبين من خلال النماذج المعروضة فيما سبق أن معاداة المسلمين وموالاة أعدائهم ومظاهرتهم عليهم هو الأصل، وليس الاستثناء، ووصل الأمر إلى ذروته حين سلّم النظام الدعاة الذين لجأوا للحرم إلى الطغاة من حكام بلادهم يبطشون بهم ويعذبونهم ويقتلونهم، وتبين من خلال النصوص الشرعية وأقوال العلماء أن هذه الأعمال خروج عن الإسلام، وللتأكيد فهذه بعض أقوال أهل العلم في شأن ذلك، كقول ابن حزم في تفسير الآية: ("ومن يتولهم منكم فإنه منهم" (المائدة51،) إنما هو على ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين)(5)، وصرح الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ بردّة من يقترف ذلك فقال: (إن كل من استسلم للكفار ودخل بطاعتهم، وأظهر موالاتهم فقد حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام ووجب جهاده ...)(6)، وكذا الشيخ حمد بن عتيق حيث قال: (... قد دل القرآن والسنة على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك والانقياد لهم ارتد بذلك عن الدين ...)(7)، وقد عد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ذلك من نواقض الإسلام حيث قال في النواقض: (... موالاة المشرك والركون إليه ونصرته وإعانته باليد واللسان ...)(8)، وقد ثبت من خلال استعراض النماذج الواقعية لعلاقات النظام أنها ولاء حقيقي كامل لأعداء الإسلام، ومظاهرة صريحة لهم على المسلمين، وتربص بالمسلمين وكيد لهم وسعي لإضعافهم، وللأسف فإن الذين يدافعون عن النظام من علماء السلطة وغيرهم يعلمون تلك التفاصيل حق المعرفة، ويعلمون جيداً أن تلك العلاقات ليست مجرد تسديد ومقاربة ودفع للشر، ومع ذلك فلم يكتفوا بترك الإنكار عليهم وبيان الحق في أعمالهم فحسب بل أصروا على تزكيتهم ونعتهم بالحرص على خدمة الإسلام والمسلمين والدفاع عن قضايا الإسلام، وهذا لاشك خيانة لواجب البيان، وتضليل للأمة، وتلبيس على المسلمين، وتلك الجريمة أكبر بكثير من مجرد السكوت عن إنكار ذلك المنكر الكبير، والقعود عن تغييره.
ثالثاً: ثبت بالدليل الواقعي الموثق أن النظام عطّل شعائر الإسلام الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل نقضها وعمل بضدها، ومن بين تلك الشعائر وجوب إقامة الحد الأدنى من الجهاد وهو حماية البيضة وسد الثغور، ولقد ثبت أن النظام تعمّد إضعاف الجيش والاعتماد الكامل في حماية البلد على أعداء الإسلام، وسلمهم ومكنهم من أرض الإسلام، وكذلك نقض النظام شعيرة تحريم الربا، ولم يكتف بإباحته وحمايته ودعمه بميزانية الدولة وجعله الأساس في تعامل الدولة الاقتصادي، بل منع بسلطة الدولة إنشاء المصارف الإسلامية، ومنع نشر فتاوى العلماء في البنوك الربوية، ونقض النظام كذلك شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحول إلى نظام يحارب الدعوة ويرمي العلماء والدعاة في السجون، ويضع كل العقبات في سبيل إيصال الحق إلى الأمة، ويوفر كل التسهيلات في إيصال الباطل والفساد والانحراف، وينفذ ما يسمى ببرنامج تجفيف المنابع لعزل الأمة عزلاً كاملاً عن دينها وقيمها، ولقد تبين من خلال أقوال العلماء أن الذين يصرون على تعطيل شعيرة من شعائر الإسلام الثابتة يعامل معاملة الطوائف الممتنعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (... وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين...)(9)، وقال كذلك: (... فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج، أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ...)(10)، فلا يكفي الإقرار بل لابد من التطبيق، والذين يدافعون عن النظام من علماء السلطة وغيرهم يعرفون كل تلك التفاصيل، وهم مطلعون على واقع الجيش والوجود الأمريكي في جزيرة العرب، ومطلعون على واقع الربا ومنع البنوك الإسلامية ومطلعون على ما يجري للدعوة وللدعاة وما ينفذ من برنامج لتجفيف المنابع والإفساد والتخريب، ويصرون بعد ذلك كله على تزكية النظام والتشنيع على من أنكر عليه ولا يكتفون بمجرد السكوت عن جرائمه ونقضه لتلك الشعائر.
رابعاً: ثبت بالدليل الواقعي الموثق أن النظام نقض واجباته تجاه الرعية وأهمها العدل وتعيين الثقات وحفظ المال العام، ولقد ثبت أن الظلم ضرب أطنابه سواء كان ظلم الدولة أو ظلم المتنفذين، وثبت أن التعيين لا يتم إلا على أساس القربى والعلاقة مع الأسرة والولاء لها وخدمتها، وليس على أساس القوة والأمانة، وثبت كذلك أن المال العام يجنى ويحفظ ويصرف بطرق غير شرعية، ولقد ضيع النظام على الأمة أكبر ثروة مالية في تاريخها، واقترف جريمة استراتيجية في تحميل كاهل الأمة الديون الضخمة ومسؤولية سدادها، رغم ما حبا الله هذه البلاد من كنوز عظيمة، ولقد تبين من خلال ما نقل من النصوص الشرعية ضخامة هذه الجرائم وكونها سبب سريع وقوي لحلول الهلاك والدمار وأشكال العذاب الدنيوي، والذين يدافعون عن النظام يعلمون يقيناً كل هذه التفاصيل ومع ذلك فلم يكتفوا بمجرد السكوت على من ظلم وولّى الفسقة والفجار وخاض في مال الله، بل برروا كل ذلك الواقع، ووصفوا الحكام بأوصاف العدل والأمانة والقيام بالمسؤولية، وشنعوا على من أنكر عليه فأي خيانة أكبر من ذلك، وأي غش للأمة وتضليل لها أعظم منه!؟.

مستر
13-07-2001, 06:02 PM
قطعاً للطريق على المغالطين والمجادلين فإن الاعتراض على الشرعية لم يرد على قضية تغلب الإمام وحيازته الملك على غير رضا من المسلمين، ولم يرد على قضية فسق الإمام وانحرافه ومجرد بطشه وظلمه، ولم يرد على تقصيره وتهاونه ببعض واجبات الإمامة الشرعية، بل جاء على التعطيل الكامل لأركان الحكم في الإسلام، والتي شرعت الإمامة من أجلها، وفي مقدمتها الحكم بما أنزل الله وهيمنة الإسلام والتمكين لدين الله وسيادة الشريعة.
لقد اختلف العلماء في شرعية من يتغلب تغلباً أو من ينحرف في شخصه أو من يظلم أو يقصر في بعض الواجبات مادام مقيماً للشريعة ملتزماً بالكتاب والسنة في أركان دولته، لكنهم لم يختلفوا في أن الإمامة التي تنقض تلك الواجبات وتعرض عن حكم الله وتوالي أعداء الله ليست إمامة شرعية وأن إمامة المتغلب إنما تصح إذا قام المتغلب بالواجبات الشرعية للإمام، ولم يأت بما يناقض الإمامة، أما إذا أخل المتغلب بالواجبات الشرعية وارتكب نواقض الشريعة فقد صارت باطلاً على باطل، ولم يصححها شيء.
والذين يصرون على اختزال قضية الشرعية في شخص الحاكم والحكم عليه بظاهر الإسلام هؤلاء هاربون من الحقيقة، ومعطلون لكل تلك النصوص الشرعية وكأن القرآن والسنة جاءا لأهداف كمالية اختيارية ولم تأت إلزاماً وفرضاً، وحتى لو قُبل كلامهم جدلاً وحُصرت القضية في شرعية الفرد الحاكم أو الفئة التي معه، فإن هذا الفرد أو تلك الفئة مسؤولة مباشرة عن تلك الجرائم التي صنفها العلماء بأعمال مخرجة من الملة، وقد تقدم حديث الشيخ محمد بن عبدالوهاب في حكمه عليهم وحكمه رحمه الله على من يدافع عنهم(11). والذين يصرون على الحكم بالشرعية ليس لهم إلا حل واحد وهو التنازل عن الاحتكام إلى الكتاب والسنة والاحتكام فقط إلى الأهواء والشهوة، ويكفي ما قاله في شأنهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، أما دفاعهم وجدالهم بالباطل فإنه بمثابة ارتكاب عدة جرائم عظيمة والمتأمل لحال بعض العلماء في بلاد الحرمين ممن انساق وراء النظام يلاحظ تلبسه بسلسلة من الجرائم هي:
الجريمة الأولى: كتمان العلم والسكوت عن بيان الحق في تلك المخالفات الشرعية المقطوع بها والمعلومة من الدين بالضرورة، وكاتم العلم مستحق للعنة الله بنص القرآن ولا تقبل توبته إلا بعد البيان والإصلاح، قال تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" (البقرة، 159-160).
الجريمة الثانية: القعود عن إصلاح الأوضاع والقيام بفرائض الكفاية في إقامة الواجبات الشرعية العامة. وقد ثبت بالكتاب والسنة أن القعود عن الإصلاح وترك تغيير المنكر إثمه عظيم، ويؤدي دائماً إلى حلول العذاب الدنيوي، وقصة أصحاب السبت مشهورة حيث لم ينفع الذين لم يمارسوا المنكر مجرد تركهم المنكر، بل أصاب العذاب الجميع والآيات والأحاديث في ذلك مشهورة معلومة.
الجريمة الثالثة: تزكية المجرمين والثناء عليهم وتزيين أعمالهم، والبحث عن التخريجات الفقهية لتبرير أعمالهم، وذلك في الحقيقة ليس إلا شهادة زور بما تعنيه هذه الكلمة، لما في ذلك الثناء وتلك التزكية من تضليل للأمة، وغش للمسلمين مع ما يترتب على ذلك من فتنة الناس وغوايتهم من ورائهم وتشويه الدين، فأمانة العالم على علمه وتنزيله حكم الله في مسائل الحياة أعظم بكثير من أمانة الشاهد على حادثة فردية محدودة، فهل يدرك كثير ممن يثنون على النظام ويدافعون عنه أنهم يقترفون تلك الجريمة العظيمة أولا يدركون؟.
الجريمة الرابعة: التشنيع على من ينكر المنكرات ويقول كلمة الحق فيها، والإصرار على هذا التشنيع ورفع الصوت فيه والبحث عن كل الأوصاف المذمومة لتبرير هذا التشنيع فهم "خوارج"، و"مثيرون للفتنة"، و"مهيجون للناس"، ومقاصدهم سيئة، إلى غير ذلك من الأوصاف المذمومة، ولقد دأب المدافعون عن النظام من علماء السلطة على ذلك السلوك إلى أن تحول إلى عمل رتيب وكأنه دين يدينون الله به، فكم من خطيب وواعظ فصل وسجن بتوجيه من هؤلاء؟، وكم من بيان صدر من الهيئات الرسمية في تقبيح أعمال المصلحين من خطاب المطالب إلى مذكرة النصيحة إلى لجنة الدفاع؟، ولقد قرأ الجميع ما كُتب من قبل نفس الجهة في الشيخين سلمان وسفر، وحث الدولة على “حماية المجتمع من أخطائهما”، فكيف يطلب من الحاكم المعطل لشرع الله أن يحمي المجتمع من أخطاء الشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي؟.
فإذا صدرت تلك الجرائم من قبل من حباه الله علماً بالكتاب والسنة ندرك أن هؤلاء على خطر أعظم من خطر الحكام أنفسهم، لأن الحكام إنما اتكأوا عليهم في تبرير ما يفعلون، وتزيينه للناس، واتكأوا عليهم كذلك في حرب الإصلاح والمصلحين، فهل تصور هؤلاء ذلك الخطر وتلك الجرائم؟. وإن كانوا لا يعلمون فالجميع يشهد عليهم أمام الله ثم أمام الأمة أن الحجة قد قامت عليهم سابقاً ولاحقاً وسوف يشهد عليهم علمهم وأيديهم أمام الله يوم القيامة بكل تلك الجرائم، "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم" (الشعراء، 88-89)، وإن كانوا يعلمون فليس لهم مثل إلا اليهود المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق فحادوا عنه، وجنسهم هذا يعد أخطر جنس على الإسلام.. والعياذ بالله.





هوامش حكم مبدّلي
الشرائع والمدافعين عنهم

1)انظر محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين، 5 .
2) انظر فتح المجيد، 393.
3) انظر محمد بن إبراهيم ، رسالة تحكيم القوانين 80 .
4) محمد بن عبدالوهاب، الرسائل الشخصية، 188.
5) ابن حزم، المحلى، ج13/35.
6) انظر الدرر السنية، 7/11.
7) محمد بن عبدالوهاب، مجموعة التوحيد، ،29 وانظر الرسائل والمسائل النجدية، ج2/124-135.
8) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 1/745.
9) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 108.
10) ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.
11) محمد بن عبدالوهاب، مجموعة التوحيد، 29 .

مستر
13-07-2001, 06:05 PM
لقد سبقت مناقشة الوضع الشرعي لنظام الحكم الحالي من خلال استقراء الأدلة الشرعية وأقوال العلماء وإنزال ذلك على واقع ذلك النظام وممارساته، وهذه المناقشة ليست من باب الترف الفكري والجدل البيزنطي، بل يترتب عليها إلزامات وأحكام شرعية عديدة على المسلم، فالمسلم يدين الله كما أراد الله، وهذا لا يكون إلا إذا توخى المسلم قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخصه منه من الإلزامات الشرعية، وهذه طريقة الإسلام، أما تقليد الأحبار والرهبان وإلقاء التبعة عليهم فهذه طريقة اليهود والنصارى وليست طريقة المسلمين، فنحن متعبدون بما أراد الله سبحانه، وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ونتبع من العلماء من كانوا موقعين حقيقة عن الله، ومن وافق مرادهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما من جادل عن الطواغيت ودافع عن الظملة أو تهرّب عن المسؤولية الشرعية بترديد العموميات غير المنضبطة شرعاً في الواقع المراد، أو تعلّق ببعض شواهد التاريخ التي أجمعت الأمة أنها ليست دليلاً شرعياً، فهؤلاء ضلوا وأضلوا ولن يصمد جدلهم أمام قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والمسلم مأمور على كل حال إذا عرض له أمر أن يجتهد لدينه ويحرص على إصابة الحق فيه عملاً بالكتاب والسنة على طريقة فهم السلف الصالح، فتحديد الإلزامات الشرعية المترتبة على فهم الواقع يجب أن يكون منضبطاً تماماً بالضوابط الشرعية.
ومادام الحديث عن الإلزامات الشرعية فإن العلماء أمام قضية النظام ينقسمون إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ترجح لديه عدم شرعية النظام لتعطيله الكامل لمقاصد الإمامة في الإسلام، بل لعمله بضدها، وعلى الخصوص لارتكابه أكبر سبب من أسباب عدم الشرعية، وهو سن التشريعات الكفرية وإلزام الناس بها.
الصنف الثاني: يوافق على كل ما قيل عن نقض مقاصد الإمامة في الإسلام بتفاصيلها المذكورة سابقاً، لكنه يتوقف عند ذلك ويتحرج من أن يستنتج بناءً على ذلك أن النظام غير شرعي بسبب فهمه لبعض الأحاديث وأقوال العلماء التي تشدد على وجوب الطاعة حتى للإمام الفاجر والظالم.
الصنف الثالث: لا يوافق أصلاً على ما قيل كله، ويدعي أن النظام قائم بما يستطيع من الواجبات الشرعية، وأنه حريص على خدمة الإسلام والمسلمين والدفاع عن الدين، وأن ما يبدو في أعين الناس من جرائم هي حقيقة من الاجتهاد الذي قد يخطيء فيه الإمام، وما عدا ذلك فهو من الفسق الفردي والظلم البشري الذي لا مناص منه، والذي لا يقدح أبداً في الشرعية أو في أركان الإمامة ومقاصدها.
ورداً على مزاعم الصنف الثالث، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الصنف من العلماء وطلبة العلم يمارس جريمة أعظم من جريمة الحاكم نفسه، لما يصنعونه لدى الأمة من تلبيس وتضليل وتعطيل لكل الإلزامات الشرعية المترتبة على تعطيل فروض الكفاية، وهم بتصرفهم هذا أقرب إلى التعاون على الإثم والعدوان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... ولا يحل للرجل أن يكون عوناً على ظلم، فإن التعاون نوعان، الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر الله به ورسوله، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضاً من الأعيان، أو على الكفاية متوهماً أنه متورع، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذ كل منهما كف وإمساك، والثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك فهذا الذي حرمه الله ورسوله ...)(1)، ومن المعلوم أن إصدار الفتاوى والبيانات لتبرير جرائم السلطان في حق الدعاة وسجنهم وإيقافهم وفصلهم واتهامهم بسوء النية، وتضليل الأمة في تزكية الحاكم، فضلاً عن السكوت عن جرائمه وتبديله للشرائع أخطر بكثير من الإعانة على دم معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب، وهو قطعاً من التعاون على الاثم والعدوان، والأولى أن ينطبق عليه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، والعالم من هؤلاء جريمته أعظم لأنه يعلم الواقع ويعلم الشرع، وإذا استمر في الخصومة واستمات في الجدال في الدفاع عن الباطل الذي ثبت ثبوتاً لاشك فيه فالأحرى أن يكون مقصوداً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن بن عمر: “ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع”(2)، وإصرار هؤلاء على التشبث بالدفاع عن الظلمة وتبرير جرائمهم هو إصرار على كبيرة، والإصرار على الكبيرة أمر عظيم خاصة إذا ثبتت الحجة على من يرتكبها، فهذا الصنف هو من أعوان الظلمة بل ربما كانوا من الظلمة أنفسهم إذا كانوا في منصب القضاء أو الإفتاء أو السلطة وأعانوا الظالم بفتواهم وقضائهم أو بسلطتهم ومركزهم، وقد سأل أحد السجانين الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن كان من أعوان الظلمة؟ فقال له الإمام أحمد: "بل أنت من الظلمة أنفسهم"، وقد ذكر أصحاب الحديث من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم وصدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يقصدهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد على الحوض”(3)، فهذا هو القول في الصنف الثالث وفقاً للأدلة الشرعية.
وأما الصنف الثاني: فلهم شبهة لما جاء في الأحاديث وأقوال العلماء من وجوب طاعة الأمير، ولكن انكشاف الواقع واستفاضة الأدلة كفيل بتغيير موقفهم.

مستر
13-07-2001, 06:09 PM
شبهات وردود

لا شك أن بحث مثل هذا الموضوع الخطير والحساس سيثير بعض التساؤلات، وتطرأ بعض الشبهات لدى فريق من الناس، نظراً لما ترسخ في أذهانهم من أوهام مبنية على مقدمات خاطئة، فكان لابد من مناقشة تلك الشبهات والوقوف على حقيقتها للوصول إلى الحق.




الشبهة الأولى

زعم بعض طلبة العلم أن حكم آل سعود لا يختلف عن الحكم في صدر الدولة الأموية، ومع ذلك فلم يقدح الصحابة والتابعون في حكم أو شرعية تلك الدولة رغم الظلم والفسق الذي كان فيها، والرد على هذه الشبهة الضعيفة من عدة وجوه:
الوجه الأول: لا ينكر عاقل منصف ما جرى على يد الخلفاء الأمويين من ظلم وإسراف في الدماء، لكنه لم يثبت أن أولئك الخلفاء سنّوا قوانين أو تشريعات أو أنظمة غير إسلامية، أوبدلوا الشريعة، ولم يثبت أن ولاء الدولة وبراءها كان لغيـــر الإســـلام، ولم تكن الشعائر الإسلامية وفي مقدمتها الجهاد معطّلة، ولقد تقدم الكلام في التفريق بين الإخلال بأركان الإمامة الشرعية وبين مجرد الفسق الشخصي والظلم والشدة في قمع الخصوم.
الوجه الثاني: ليس صحيحاً أن كبار الصحابة والتابعين أقروا بشرعية إمامة الفاسق والظالم، فلقد ثبت أن عدداً كبيراً من الصحابة والتابعين خرجوا على الدولة الأموية، فقد أنكر جمهور الصحابة شرعية إمامة يزيد وانعقاد البيعة له، وقد ثبت خروج سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي رضي الله عنه، وخروج عبدالله بن الزبير ومن خرج معهم من الصحابة والتابعين، بل الصحيح الذي عليه المحققون هوأن عبدالله بن الزبير كان الخليفة الشرعي للمسلمين، حيث اجتمع عليه جمهور الصحابة والتابعين وعامة الناس في الحجاز ومصر وإفريقيا والعراق وسائر جزيرة العرب، ولم يبق في يد الأمويين سوى بلاد الشام، بل أن مروان بن الحكم أوشك أن يُبايع عبدالله بن الزبير لولا أن رده عن ذلك بعض أهل الشام، وكان الخارج حقاً على الخليفة الشرعي والمغتصب للسلطة هو مروان ثم ابنه عبد الملك من بعده في أول الأمر، لكن الناس اجتمعوا على عبدالملك بعد مقتل عبدالله بن الزبير رضي الله عنه وبايع له الجمهور فأصبح بذلك ـ أي بالبيعة من الأكثرية ـ خليفة المسلمين، بعد أن كان خارجاً مارقاً، ورأت طائفة من محققي أهل الحديث أن خلافة عبدالله بن الزبير هي الخلافة الشرعية وصنّفتها ضمن الخلافة الراشدة. وثبت كذلك خروج من بقي من المهاجرين والأنصار وأبناءهم من التابعين في المدينة واشتهر ذلك في موقعة الحرة، وكذلك خروج بن الأشعث على الحجاج مع جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء من التابعين، وقد اشتهر رفض سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وطلعة بن حبيب وقتيبة بن مسلم للبيعة. وقد ورد عن عمر بن عبدالعزيز أنه أمر بضرب من سمى يزيد بن معاوية أمير المؤمنين عشرين سوطاً، مما يدل على عدم إقراره لإمامة يزيد، وقد قال ابن حجر في تلخيص تلك القضية: (وهذا ـ يعني الخروج بالسيف ـ مذهب للسلف القديم)(1)، فليس صحيحاً دعوى إقرار الصحابة والتابعين بإمامة الظلمة مع أن النقاش أصلاً ليس في الظلم بل في الكفر البواح وتبديل الشريعة وتعطيل الشعائر.
الوجه الثالث: لم يرد في كل ما سبق ذكر للخروج أو حمل السيف على كل حال والذي قيل هو أن الإمامة الشرعية معطلة ويجب إقامتها فقضية شرعية النظام شيء وقضية الخروج عليه شيء آخر، ولكل منهما أركان وشروط وضوابط، فإذا كان طالب العلم ممن يوافق على ذلك وجب عليه السعي لإقامتها بكل وسيلة مشروعة، ومن أقر بوجود تبديل للشرائع وتعطيل للشعائر وجب عليه السعي لتغيير ذلك المنكر العظيم بكل وسيلة مشروعة، والذين يعتبرون كل سعي للإصلاح وكل صدع بالحق وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر نوع من أنواع الخروج والبغي والعدوان هؤلاء مغالطون ومخالفون لصريح القرآن وصحيح السنة ومتقولون على الله بغير علم.
ومن المجمع عليه عند العلماء أن الحاكم إذا أمر بمعصية أي أمر بفعل حرام أو ترك واجب فإنه لا يطاع في ذلك الأمر المعين، وذلك بغض النظر عن كونه خليفة راشداً أو غير راشد، شرعياً أو غير شرعي، يحكم بالإسلام أو يحكم بالكفر، وكذلك لا جدال أن الحاكم الكافر والذي يحكم بغير ما أنزل الله في حكم المعدوم شرعاً فلا تجب طاعته في أي أمر من أوامره إطلاقاًَ، وتحرم طبعاً في كل أمر معين بمعصية، وقد جرى خلاف بين العلماء في شرعية ولاية الظالم والفاسق مما يترتب عليه وجوب طاعته من عدمها، كل ذلك قضية تختلف عن المنابذة بالسلاح، أي عن الخروج الذي لايكون في عرف الفقهاء إلا بالسلاح. ولكن لما عجز بعض علماء السلطان عن مقارعة الحجة بالحجة وإقامة الدليل والبرهان لجأ أولئك إلى الإرهاب الفكري وذلك بالتلويح بلفظة "الخروج" منعاً للمصلحين من القيام بفرائض النصيحة والاحتساب والقيامة لله بالقسط "يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون" (آل عمران، 71).


الشبهة الثانية
يحتج بعض المدافعين عن شرعية النظام بما يصفونه بأنه أدلّة شرعية في طاعة الإمام، ولكن ليس من منهج أهل السنة بتر الأدلّة أو الاحتجاج ببعضها دون بعض، بل منهجهم إعمال الأدلة جميعاً، والجمع ما بين كل ما صحّ في الكتاب والسنة ثبوتاً ودلالة، لدفع التعارض المُتوهّم بين الأدلة ولتجنّب إهمال أي لفظ في القرآن والسنة، فكل ما جاء في القرآن والسنة نحن ملزمون باتباعه والعمل به مع ملاحظة الاستثناءات المتفق عليها بين الأصوليين كالنسخ والتخصيص والتقييد، والذين يحتجون بنصف حديث أو بحديث مع وجود ما يخصّصه أو يقيّده، فهم من جنس الذين يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه والذين يكتمون ما أنزل الله، والذين يحرّفون الكلم عن مواضعه إذا تعمّدوا ذلك، وإذا لم يتعمّدوا فهم جهلة لا يعرفون كيف يعمل بالدليل الشرعي، ولا يجوز الأخذ بأقوالهم ولا بفتاويهم، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (... ومدار الغلط إنما هوعلى حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت ...) وأضاف قائلا:ً (... فشأن الراسخين في العلم تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صور صورة مثمرة ...) ثم قال: (... وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما ـ أي دليل كان ـ عفواً أو أخذاً أولياً ، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكان العضو الواحد (أي الدليل الواحد) لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً حقيقياً فمتبعه متبع المتشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ...)، ثم قال: (... من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق، أو خاصاً فيعمّ بالرأي من غير دليل سواه، فإن هذه المسالك رمي في عماية واتباع الهوى في الدليل ...)(2).
وعملاً بهذا المنهج يمكن استعراض الأدلـــــة الــــواردة في تلك المسألــة والقواعد الشرعية المرتبطة بها:
ففي القرآن يقول تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، ثم يقول سبحانه في العبارة التي تليها "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" (النساء، 59).
وأما الأحاديث فقد جاءت في ثلاث مجموعات، الأولى يفهم من ظاهرها الطاعة المطلقة للحاكم وتحمّل ظلمه وغشمه، والثانية يفهم منها نزع طاعة الحاكم إذا عصى الله، كما يفهم منها الحث على جهاد الأمراء العصاة باليد، والمجموعة الثالثة فيها الأمر بالطاعة بشرط معيّن حدّدته تلك الأحاديث.
فمن المجموعة الأولى ما روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”(3)، والحديث المروي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”(4).
ومن المجموعة الثانية الحديث المروي عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من نبيّ بعثه الله قبلي إلا كان له من أمّته حواريون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”(5)، قال ابن رجب الحنبلي: (... وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد)(6)، ومنها الحديث المروي عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، قلت يا رسول الله: إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله”(7)، وثبت في الحديث أن عبدالله بن عمرو لبس سلاحه وتهيأ لقتال عامل معاوية الذي أرسله معاوية لأخذ أرضه في الطائف، واحتج عبدالله بن عمرو رضي الله عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من قُتل من دون ماله مظلوماً فهو شهيد”(8)، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سيكون أمراء من بعدي يأمرون بما تعرفون ويعملون ما تنكرون فليس أولئك عليكم بأئمة”(9).

مستر
13-07-2001, 06:12 PM
المجموعة الثالثة من الأحاديث تجمع بين الأمرين فهي تحثّ على الطاعة وتستثني بحد معين، ومنها ما روي عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أنه قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان”، وفي رواية: “وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم”(10). والحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله”(11)، ومنها حديث أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها قالت: “حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع .. إلى أن قالت: ثم سمعته يقول: إن أُمّر عليكم عبد مجدع ـ حسبتها قالت أسود ـ يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا”(12)، وفي رواية الترمذي والنسائي سمعته يقول: “يا أيها الناس اتقوا الله وإن أُمّر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله”، والحديث المروي عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين يبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ... الحديث”(13).
فهذه المجموعة حثّت بشكل شديد على الطاعة، ولكن اشترطت لذلك شروطاً لابدّ من تحقيقها جميعاً حتى تكون الطاعة ديناً يُدان الله به، وإذا تأملت طريقة احتجاج المدافعين عن شرعية النظام رأيت فيها المخالفات الشرعية التالية:
أولاً: احتجاجهم بقوله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء، 59) دون ذكرللعبارة التي تليها، وهذا فيه تجاهل للأمر بالرد لله والرسول عند التنازع والاختلاف، وعن أبي حازم (من أئمة التابعين) أن سليمان بن عبدالملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله "وأولي الأمر منكم" قال أبو حازم: (أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول")(14) (النساء، 59).
ثانياً: الاحتجاج بالمجموعة الأولى من الأحاديث التي تحث على الطاعة المطلقة للحاكم، ومن المعلوم بالضرورة أن طاعة الحاكم لا يمكن أن تكون مطلقة لا من جهة الأمر المطلوب تنفيذه ولا من جهة المطاع، فقد جاءت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وأجمع المسلمون على أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما أجمعوا على أن لا طاعة للحاكم الكافر، فلا يجوز الاحتجاج بهذه الأحاديث مع إهمال المجموعة الثانية التي تقيّدها، والتي تدعو إلى نبذ طاعة من عصى الله بل تدعو إلى جهاده باليد كما قال ابن رجب رحمه الله(15).
ثالثاً: الاحتجاج بالمجموعة الثالثة من الأحاديث بشكل مبتور فتراهم يستدلون بحديث عبادة ويتوقفون عند قوله “وألا ننازع الأمر أهله”، ويتجاهلون قوله: “إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان”، ومن المقطوع به أن تبديل الشرائع وسن القوانين المضاهية لشرع الله ومظاهرة المشركين على المسلمين واستحلال الحرام وتحريم الحلال هو من الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وأما حديث أنس وحديث أم الحصين فقد ورد فيه الاستثناء الصريح بقوله صلى الله عليه وسلم: “ما أقاموا فيكم كتاب الله”، وإقامة كتاب الله تعني كل ما تقدم من الحكم بما أنزل الله ورفع شعائر الإسلام والتمكين لدين الله وهذا هو شرط القبول بالإمامة، وأما حديث عوف بن مالك فقد ورد فيه الاستثناء بقوله صلى الله عليه وسلم “ما أقاموا فيكم الصلاة”، وإذا أُعملت الأدلة مع بعضها البعض يتبين أن المقصود بقوله “ما أقاموا فيكم الصلاة” يعني ما أقاموا فيكم الدين لأن الصلاة عمود الدين، ولأن الأحاديث الأخرى تفسر ذلك الحديث، وهو الأليق بكلام سيد الفصحاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مثل قوله: “الحج عرفة”، مع علمنا بالاضطرار من دين الإسلام ببطلان حج من حضر عرفة ثم انصرف من غير أداء بقية الأركان كطواف الإفاضة مثلاً.
بناء على ذلك تسقط شرعية النظام الذي يظهر فيه الكفر البواح، وكذلك النظام الذي لا يمكّن من إقامة الصلاة، كما تسقط شرعية الحاكم الذي لا يصلي. هذا من جهة إعمال الأدلة جميعاً، أما من جهة استحضار قواعد ومقاصد الشريعة فلا يُعقل أبداً أن يدعو الإسلام لإقامة الإمامة الشرعيــة ويجعــل الحــكم بمــا أنــزل الله ورفع شعائــــر الإســـلام وتمكيــن دين الله في الأرض من أركان الإمامة في الإسلام ثم يعتبر بعد ذلك الـــذي أخـــل بتلك الأركان من أساسها أو عطّلها إماماً شرعياً.
والذين يجادلون في شرعية النظام ويصرون على ذلك رغم كل هذه الأدلة الشرعية والواقعية، فإن كانوا يعتبرون عملهم هذا اجتهاداً شرعياً فأقل ما يطالبون به أن يعتبروا من خالفهم قد اجتهد اجتهاداً شرعياً وليسعهم ما وسع إمام أهل السنة أحمد بن حنبل حيث وقف تجاه الشيخ أحمد بن نصر الخزاعي موقف الرجال فلم ينتقده ولم يشنّع عليه، رغم اختلافه معه في الخروج على الإمام بل أثنى عليه بقوله: (رحمه الله ما أسخاه لقد جاد بنفسه)(16)، هذا مع أن أحمد بن نصر خرج خروجاً مسلحاً ولم يتوقّف فقط عند القول بعدم الشرعية، ومع أن مخالفات الحاكم في ذلك الزمان لم تبلغ عشر معشار نظام الحكم في بلاد الحرمين.

الشبهة الثالثة
هي دعوى بعض المنسوبين للعلم أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يمكن أن يكون كفرا إلا إذا استحله فاعله، ولقد انتشرت هذه الدعوى في السنين الأخيرة، وابتلي بها عدد من المحسوبين على كبار العلماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله مع أنها مما يمكن أن يصنف بسهولة أنه قول طائفة من أهل الإرجاء الذين يشترطون الاستحلال لكل ذنب حتى لو كان عملا مكفرا بنفسه.
والرد على هذه الشبهة من عدة وجوه هي:
أولا: أن شرط الاستحلال بدعة لا دليل عليها من الكتاب والسنة، بل الأصل أن ما كان موصوفا من الأعمال بالكفر في الكتاب والسنة فهو كفر مع الاستحلال أو بدونه، وهذا باب عظيم في عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو مقتضى فهم الصحابة رضي الله عنهم، حتى لقد قالوا في شأن جدلهم مع أبي بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة: "لو أطاعنا أبو بكر لكفرنا"(17)، هذا لأن الصحابة قاتلوا المرتدين على مجرد منعهم للزكاة لا على جحود وجوبها، قال شيخ الإسلام بن تيميه: "والصحابة لم يقولوا: أأنت مقر لوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قد قال الصديق لعمر رضي الله عنه:"والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها"، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعا سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعا أهل الردة"(18). وقد شبه الشيخ محمد بن ابراهيم دعوى هؤلاء بمن يعبد الأوثان ويقول أنها باطل،
قال رحمه الله: "لو قال من حكّم القانون أنا أعتقد أنه باطل فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطلة"(19)، واشتراط الاستحلال بهذا المعنى خطير جدا لأن معناه أن إهانة المصحف والسجود للصنم وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سب الدين أو تعليق الصليب كل هذه الأعمال ليست كفرا ما لم يستحلها صاحبها حسب دعواهم والعياذ بالله.
ثانيا: أن عدم تحكيم الشرع والولاء للكفار وغير ذلك من الأعمال المرتكبة من قبل النظام السعودي هي أعمال موصوفة بالكفر سواء تحقق الكفر في آحاد أفراد النظام أم لم يتحقق، ثم إن العمل إذا وصف بالكفر فإنه جريمة عظمى في الشرع، وهي أخطر من الكبائر التي لم توصف بالكفر مثل الزنا والربا وشرب الخمر وقطع الطريق، ولهذا كان قتال ما نعي الزكاة مثلا أعظم من قتال الخوارج كما أشار إلى ذلك بن تيميه رحمه الله(20)، وذلك لأن منع الزكاة كفر بغض النظر عن استحلال ذلك، أما الخوارج فهم من أهل البدع، ولا يسمون كفارا، ومن ثم فإن اشتراط الاستحلال في تكفير المعين لا يغير من حقيقة أن العمل نفسه كفر وأنه مناقض للإسلام.
ثالثا: أن المسلم متعبد بما يجب عليه من واجبات شرعية وهي السعي لتحقيق أركان الإمامة الشرعية بغض النظر عن الحكم المترتب على أفراد النظام، فتحكيم شرع الله وتحقيق هيمنة الشريعة ورفع شعائر الإسلام وولاء المسلمين وعداء الكافرين واجب شرعي في عنق كل مسلم بقدر استطاعته، أما حكم أفراد النظام من حيث الإسلام والكفر فهو شأن آخر، ولذلك فحتى لو صحت هذه الشبهة جدلاً فلا حجة فيها ولا دفاع عن شرعية النظام، ولا عذر في التخلي عن وجوب السعي لإقامة النظام الشرعي، لكن مشكلة أولئك الذين يشترطون الاستحلال أنهم لا يكتفون بمنع إطلاق الكفر، بل يقفزون مباشرة إلى التزكية وإضفاء الشرعية على كل ما يصدر عن الحاكم ولا يبدون أي استعداد لاعتبار ممارسات النظام جرائم كبيرة، بل لا يقبلون مجرد السكوت عن تزكية النظام والسكوت عن تجريم المصلين.
لهذه الأسباب فإن هذه الشبهة ساقطة ولا مجال للاستدلال بها وننصح المستزيد في رد هذه الشبهة عموما بالرجوع إلى البحث القيم للشيخ سفر الحوالي في كتابه "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي"
فقد تناولها ـ وفقه الله وفك أسره ـ تناولا كافيا وشافيا.



هوامش شبهات وردود

1)ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، 2/288.
2) الشاطبي، الاعتصام، 1/244-246.
3) رواه مسلم
4) متفق عليه.
5) رواه مسلم .
6) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص304.
7) رواه ابن ماجه، وأخرجه أحمد والطبراني، والبيهقي بألفاظ متقاربة وصحح الحديث كلاً من أحمد شاكر والألباني.
8) رواه مسلم .
9) أخرجه الطبراني بإسناد جيد .
10)الحديث متفق عليه .
11) رواه البخاري .
12) رواه مسلم والترمذي والنسائي.
13) رواه مسلم .
14) انظر البحر المحيط، 39/278.
15) انظر ابن رجب ، جامع العلوم والحكم ، 304.
16) ابن كثير، البداية والنهاية، 10/304.
17) المصنف لابن أبي شيبة 265/12.
18) الدرر السنية 135/8.
19) فتاوى محمد بن إبراهيم 198/6.
20) منهاج السنة 501/4.

مستر
13-07-2001, 06:15 PM
تم بحمد الله هذا البحث المؤسس علي الأدلة الشرعية وعلى أقوال العلماء الثقات. ولقد جاء في البحث تقويم للنظام السعودي وذلك من خلال استعراض مفصل لأركان الإمامة الشرعية في الإسلام، ومن ثم مقارنة واقع النظام السعودي فيما يخص كل ركن منها، و استعرض البحث حقيقة الذين يدافعون عن النظام السعودي مع توصيف شرعي لجريمتهم، وقد تم في هذا البحث مناقشة الشبه التي يوردها هؤلاء وتفنيدها جميعاً. وبهذا تكون قضية الشرعية بسطت بطريقة تقوم بها الحجة على الذين يدافعون عن النظام السعودي، ولا مجال لهؤلاء إلا أن يعودوا عن قولهم أو أن يقارعوا الحجة بالحجة.
وما على الدعاة العاملين إلا أن يوحدوا صفوفهم ويصابروا في عملهم ويرابطوا على ثغورهم ويجب على الأمة أن تضطلع بمسؤولياتها الملقاة على عاتقها لتقوم الإمامة الشرعية والدولة الإسلامية على هدى الكتاب والسنة.
وقانا الله من مضلات الفتن وألهمنا الصواب في القول والعمل
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

يناير
13-07-2001, 07:33 PM
سيد .. مستر
تحية ..
اخي الكريم .. لم يسبق لي أن دخلت معك في حوار يوماً ما ولا أحب أن يأتي ذلك اليوم

ولكن يا أخي دعك من أسلوب القص واللصق .
وحاول أن تدرب نفسك على المحبة للناس
والرضا بما قسم الله لك والإبتعاد عن مواطن الزلل
والشبهات فدائماً ما نقرألك مقالات " تبدو رصينه " و " مدعمة بآيات من القران الكريم " ولكن نخلص من قراءتها بالحكم عليها
أنها مواضيع جوفاء عرجاء مليئة بالمغالطات والكذب والدجل لا الجدل .

أخيراً لم أدخل هنا معك في حوار ولن أفعل ... كي لا تتسرع بالرد علىّ بالإستهزاء كما كنت تفعل معي ومع غيري من الزملاء خاصة الآن وبعد أن أصبح القسم بلا مشرفين يتولون أمر حذف الكلام المهين للأعضاء .
فقط أود أن أقول لك أيها العضو ... حدثنا بما يمكن أن نفهمه فنحن عقلاء .

مستر
13-07-2001, 08:11 PM
الله يسامحك