البراء
25-08-2001, 04:59 PM
امرأة تُبكي الرجال !
بقلم
د.أحمد البراء بن عمر بهاء الدين الأميري
في سجل ذكرياتي مواقف عديدة كان للمرأة دور البطولة فيها ، وبعض هذه المواقف لا يزال حاضراً في ذهني حتى كأنه واقع اللحظة.
منها موقف عايشته شخصياً مع الأخت بنان بنت علي الطنطاوي -رحمها الله- بعد ما اعتقل زوجها ، موقف جعلني أفهم معنى المقولة الشهيرة: وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة !
في عام 1964م ، كنتُ طالباً في جامعة دمشق أَدْرُسُ في كُلّيتيْ الشريعة والآداب (قسم اللغة الإنجليزية) ، فذهبت لزيارة والدي الشاعر الكبير الراحل عمر بهاء الدين الأميري في بيروت التي كان يمضي فيها بعض الوقت ، كان بيت الأستاذ عصام العطار – المراقب العام للإخوان المسلمين آنذاك – قريباً من البيت الذي استأجره أبي ، وكانا يلتقيان دائماً .
كان جمال عبد الناصر حاكماً لمصر آنذاك، وكانت سلطتُه وشعبيّتهُ في لبنان كبيرتين ،وعِداؤه للإخوان المسلمين ، وسَجْنُه لهم ، وتعذيبُهم ، وقتلُهم ،وإعدام قياداتهم معروف. وكان للسفارة المصرية ،واستخباراتها صولةٌ وجولة في لبنان ، فتمَّ اعتقال والدي أمام عينيَّ ، واعتقالُ الأستاذ عصام العطار في نفس الوقت.
مكثتُ في بيروت أياماً، كان خلالها والدي والأستاذ العطار في السّجن،وكنتُ في صحبة زوجته السيدة بنان الطنطاوي وهي من مواليد عام 1941م وكان عمرها -آنذاك- ثلاثاً وعشرين سنة, كنتُ معها طوال الوقت؛ لأن لنا مصلحةً واحدة ؛ أذهب معها لمقابلة المحامين، وبعض الشخصيات من أجل الإفراج عن المعتقليْن .
في خلال هذه الأيام رأيتُ من قوة شخصيّة السيدة بنان، ولباقتها ، وحُسْن تصرُّفها ،وحكمةِ حديثها ، ما يدعو إلى الإعجاب .
استطعنا أخذَ موعدٍ لزيارة والدي وزوجِها في السّجن لبضع دقائق . لم يزل المشهد ماثلاً أمام عينيّ : كنتُ أقف على يسار الأخت بنان – أمام والدي ، وهي أمام زوجها، وكلاهما خلف شبك الحديد داخل السجن ، كان والدي يُطمئنُني ويعطيني بعض النصائح ، فسمعَ وسمعتُ الأخت بنان تقول لزوجها :" يا عصام ، أنا والأولاد بخير وسلامة ، فلا تقلقْ علينا ، كنْ قوياً كما عرفتُكَ دائماً ، ولا تُرِ هؤلاء الأنذالَ من نفسك إلا القوة والصلابة واستعلاءَ الحق على الباطل." فبكى أبي عندما سمع هذه الكلمات من شابةٍ في مقتبل العمر ، كان قلقُ زوجها عليها وعلى أسرته ، أكبر من قلقها عليه وهو في السّجن !
وبعد خروجنا من السجن وركوب السيارة أجهشت بنانُ بالبكاء،وعلمت أنها إنما كانت تتجلد وتتصبر؛ لتري زوجها من نفسها خيرا، ولتربط على قلبه في موقف هو أشد ما يكون حاجة إلى من يربط على قلبه لا من يمزقه.
ولم أر الأخت بنان الطنطاوي فيما بعد ، ولم أسمع عنها إلاّ نبأ اغتيالها ، واستشهادها –إن شاء الله- ، عام 1981م ، في ألمانيا ، عندما جاءت مجموعة من المجرمين القتلة ، تريد قتل زوجها ، الذي لم يكن في الدار ، فلما فتحتْ الباب انصبّتْ عليها نيرانُ الكلاب ، في قصةٍ مُجرمة ، سمعتُ بعض تفاصيلها ، وليستْ هي المقصودة من كتابة هذه السطور .
رحم الله بنان الطنطاوي ، واحتسبها في زمرة الشهداء ، وشفّعها في سبعين من أهلها ، ورحم أباها ، العالم الأديب الداعية الشيخ علي الطنطاوي ،وأمدَّ زوجَها الأستاذ عصام العطار ، بالصّحة والعافية والتوفيق إلى كلّ ما يرضيه . والحمد لله رب العالمين .
أخوكم في الله البراء
المصدر موقع الاسلام اليوم
بقلم
د.أحمد البراء بن عمر بهاء الدين الأميري
في سجل ذكرياتي مواقف عديدة كان للمرأة دور البطولة فيها ، وبعض هذه المواقف لا يزال حاضراً في ذهني حتى كأنه واقع اللحظة.
منها موقف عايشته شخصياً مع الأخت بنان بنت علي الطنطاوي -رحمها الله- بعد ما اعتقل زوجها ، موقف جعلني أفهم معنى المقولة الشهيرة: وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة !
في عام 1964م ، كنتُ طالباً في جامعة دمشق أَدْرُسُ في كُلّيتيْ الشريعة والآداب (قسم اللغة الإنجليزية) ، فذهبت لزيارة والدي الشاعر الكبير الراحل عمر بهاء الدين الأميري في بيروت التي كان يمضي فيها بعض الوقت ، كان بيت الأستاذ عصام العطار – المراقب العام للإخوان المسلمين آنذاك – قريباً من البيت الذي استأجره أبي ، وكانا يلتقيان دائماً .
كان جمال عبد الناصر حاكماً لمصر آنذاك، وكانت سلطتُه وشعبيّتهُ في لبنان كبيرتين ،وعِداؤه للإخوان المسلمين ، وسَجْنُه لهم ، وتعذيبُهم ، وقتلُهم ،وإعدام قياداتهم معروف. وكان للسفارة المصرية ،واستخباراتها صولةٌ وجولة في لبنان ، فتمَّ اعتقال والدي أمام عينيَّ ، واعتقالُ الأستاذ عصام العطار في نفس الوقت.
مكثتُ في بيروت أياماً، كان خلالها والدي والأستاذ العطار في السّجن،وكنتُ في صحبة زوجته السيدة بنان الطنطاوي وهي من مواليد عام 1941م وكان عمرها -آنذاك- ثلاثاً وعشرين سنة, كنتُ معها طوال الوقت؛ لأن لنا مصلحةً واحدة ؛ أذهب معها لمقابلة المحامين، وبعض الشخصيات من أجل الإفراج عن المعتقليْن .
في خلال هذه الأيام رأيتُ من قوة شخصيّة السيدة بنان، ولباقتها ، وحُسْن تصرُّفها ،وحكمةِ حديثها ، ما يدعو إلى الإعجاب .
استطعنا أخذَ موعدٍ لزيارة والدي وزوجِها في السّجن لبضع دقائق . لم يزل المشهد ماثلاً أمام عينيّ : كنتُ أقف على يسار الأخت بنان – أمام والدي ، وهي أمام زوجها، وكلاهما خلف شبك الحديد داخل السجن ، كان والدي يُطمئنُني ويعطيني بعض النصائح ، فسمعَ وسمعتُ الأخت بنان تقول لزوجها :" يا عصام ، أنا والأولاد بخير وسلامة ، فلا تقلقْ علينا ، كنْ قوياً كما عرفتُكَ دائماً ، ولا تُرِ هؤلاء الأنذالَ من نفسك إلا القوة والصلابة واستعلاءَ الحق على الباطل." فبكى أبي عندما سمع هذه الكلمات من شابةٍ في مقتبل العمر ، كان قلقُ زوجها عليها وعلى أسرته ، أكبر من قلقها عليه وهو في السّجن !
وبعد خروجنا من السجن وركوب السيارة أجهشت بنانُ بالبكاء،وعلمت أنها إنما كانت تتجلد وتتصبر؛ لتري زوجها من نفسها خيرا، ولتربط على قلبه في موقف هو أشد ما يكون حاجة إلى من يربط على قلبه لا من يمزقه.
ولم أر الأخت بنان الطنطاوي فيما بعد ، ولم أسمع عنها إلاّ نبأ اغتيالها ، واستشهادها –إن شاء الله- ، عام 1981م ، في ألمانيا ، عندما جاءت مجموعة من المجرمين القتلة ، تريد قتل زوجها ، الذي لم يكن في الدار ، فلما فتحتْ الباب انصبّتْ عليها نيرانُ الكلاب ، في قصةٍ مُجرمة ، سمعتُ بعض تفاصيلها ، وليستْ هي المقصودة من كتابة هذه السطور .
رحم الله بنان الطنطاوي ، واحتسبها في زمرة الشهداء ، وشفّعها في سبعين من أهلها ، ورحم أباها ، العالم الأديب الداعية الشيخ علي الطنطاوي ،وأمدَّ زوجَها الأستاذ عصام العطار ، بالصّحة والعافية والتوفيق إلى كلّ ما يرضيه . والحمد لله رب العالمين .
أخوكم في الله البراء
المصدر موقع الاسلام اليوم