PDA

View Full Version : مقالة: ((الفصحى والعامية)).


ابن الرومي
16-03-2002, 11:31 AM
هذه مقالة لعملاق الأدب الراحل ((العقاد))..
نشرت في 29 من إبريل سنة 1927 م

يوازن فيها بين الفصحى والعامية فأحسن وأجاد في تبيين قيمة كل منهما ودوره وحجمه....

===============




ترى هل يأتي يوم تصبح فيه لكل أمة لهجة واحدة من لغتها يتكلم بها عليتها وسوادها ويكتب بها أدباؤها ويتحدث بها سوقتها، نحن نقول ولا نظن.

ويقول أناس بل هذا الذي يحدث يوما بعد يوم حتى تزول اللهجات الفصحى ويقل التفاوت بين ما يتكلم به الأسرياء في مجالسهم ومؤلفاتهم وما يتكلم به الغوغاء في السوق وفي الطريق، ويستدلون بهذا التحريف الذي لايزال يدخل في كل لغة فصيحة فينزل بها الى اللهجة الدارجة أو يرتفع باللهجة الدارجة إليها، ثم يقولون: وما عسى أن يكون مصير ذلك إلا أن تنعدم الفوارق وتتوحد الأساليب ويتساوى العلية والسوقة في الكتابة وفي الكلام؟.



هذا رأي لأصحابه يسهل عليك تمحيصه بسؤال تسأله وهو: هل وجدت قط قبل الآن أمة ذات حضارة وعمران كانت تنطق بلهجة واحدة في الكتابة والكلام؟.. أو لعلك تذكرهم خطل هذا الرأي إذا سألتهم: وكيف وجدت اللهجات الفصيحة في الأمم أو كيف وجدت القواعد والمحسنات في كل لسان قديم أو حديث؟.. أيرون أنها نجمت لتستعرض ساعة ثم تزول؟.. أم أنها نجمت مصادفة واتفاقا بغير أسباب داعية إلى ظهورها وتثبيتها وتأصيل قواعدها.



وإذا كانت السنة الغالبة في كل شئ هي أن تنتقل من التوحد إلى التعدد ومن التماثل إلى التنوع فلماذا تشذ اللغات عنها فتنشأ متوحدة ثم تتفرق ثم تعود إلى توحدها القديم.



فالذي نشاهده ونحققه بالتجربة والإستقراء أن الناس ما تكلموا ولا يتكلمون الآن بأسلوب واحد ولهجة واحدة. وسبب ذلك بسيط مفهوم، وهو أنهم لا يفكرون ولا يحسون على نمط واحد، ولا مناص من الإختلاف في التعبير إذا اختلف موقعها من فكره وإحساسه بين ساعة وساعة وبين موضوع وموضوع.



وليس هذا شأن التعبير دون غيره فإنه هو شأنهم كذلك في اللباس والسكن وأدوات الطعام والشراب وسائر ما يشتركون فيه من مرافق الحياة.

فكيف تريدهم مختلفين في أساليب الطعام الذي يكاد يتساوى فيه جميع الأحياء ولا ترى أن يختلفون في اللهجات والعبارات وهي أولى أن تتشعب وتفترق على حسب ما بينهم من تشعب في الذوق والشعور والفكر والمعرفة والمقام!.

فلو أنك أتيت بلغة مصطلح عليها لا تفاوت بين لهجاتها وأساليبها ثم تركتها لأناس يرتضخونها على حسب حظهم من الفهم والإحساس لما مضى على ذلك حين حتى تكون هناك لهجة مهذبة ولهجة مبتذلة وعبارات تستعمل في التوضيح العلمي والسياق الشعري وأخرى تستعمل في مساومات الأسواق ومحادثات الطرقات.



ولن يتكلم الناس على أسلوب واحد ولو كان كلامهم مقصورا على معاني السوق والطريق، فكيف وهم يتناولون من المعاني ما تضيق به رحاب العلوم والفنون وتتمثل أغراضه في معارض شتى من الدين والفلسفة والأدب والسياسة والصناعة وسائر المعارف والأغراض.

ويقول أصحاب هذا الرأي: مالنا لا نكتب باللغة التي نتكلم بها في البيت ونقضي بها مصالحنا في السوق. وكأن هذا أوجه ما يحتجون به للعامية على الفصيحة وأظهر ما يظهرون به فضل اللغة التي لا قواعد لها على لغة القواعد والأساليب.

ولو سألتهم: مالنا لا نلبس الجلاليب في الأندية ومراكز الأعمال أو مالنا لا نخلع كل لباس في حمارة القيظ ولا حاجة لأكثرنا باللباس في وقدة الحر الشديد؟! .. لو سألتهم هذا السؤال لتذكروا أن ما يصنع في البيت ليس من الضروري أن يصنع في كل مكان وليس من اللازم المتفق عليه أن يكون هو أصل التقاليد وقسطاس المعاملات.

فما كان البيت بيتا إلا ليجوز فيه من دعة الجسد والفكر ما ليس يجوز في الديوان والدكان فضلا عن المدرسة والنادي ومحافل البحث والظهور، وما كانت النفس لتستحضر جميع مواقف الحياة وهي في حالة التبذل والراحة أو حالة الإضطرار ومعالجة مطالب الأجسام.

وقد تسمع من هؤلاء من يبشر باللغة العامية ويحب أن تكتب بها روايات المسارح وتبسط بها مواقف الروعة والإحساس، وحجته في هذه الدعوة أننا نحكي الطبيعة في التمثيل ونريد أن نتكلم على المسرح كما نتكلم في كل مكان! ولكنك تراه يذهب إلى دار التمثيل فلا يفوته أن يلبس رداءها الخاص الذي اصطلح القوم على لبسه في هذه الدور، ولا ينسى أن ينبذ عنه عاداته التي تعودها في مجالسه وأشغاله ورياضته، فما باله يا ترى لا يلبس في دار التمثيل كما يلبس في كل مكان؟ وما باله يذكر الزينة في الردهة وينساها حيث تجب الزينة على معرض الفن والتجميل؟ بل لماذا يبرز لنا الممثل على المسرح وقد طلى وجهه بالمساحيق وصبغ جفونه بالكحل ولا يتراءى لنا بوجهه وجفنه كما خلقهما الله وكما نراهما في القهوة وغرف الإستقبال؟!.



فالحق أن ((التهيؤ)) ركن لا غنى عنه في جميع الفنون وفي مقدمتها التمثيل، ولا بد من إلقاء الأثر البليغ في نفس الشاهد من تهيئة خاصة تنسيه الحياة الدارجة وتغمره في جو الفن والجمال وبيئة البلاغة والتفكير، فما الموسيقى وما المناظر والصور وما المساحيق والألوان وما الشارات والمياسم والحركات التي تنبث هنا وهناك في الملاعب والمعارض الفنية إلا وسائل ((للتهيؤ الفني)) وتحضير الذهن لحالة شعورية غير التي كان عليها في البيت أو في الطريق، فمن حق اللغة أن تشترك في ذلك التهيؤ الذي لا غنى عنه وأن تشعر الشاهد أنه في مكان تجب له الرعاية ويحرم فيه الإبتذال، وانظر أنت إلى الرجل الساذج تلقي عليه الموعظة باللغة الفصحى ثم انظر إليه وأنت تلقي إليه الموعظة باللغة التي يستخدمها هو في مخاطبة زملائه وأهله، فإنك لتجدنه في الحالة الثانية وقد تبسم وترخص ونظر إلى الأمر نظرته إلى القصص والفكاهة والقول الذي يؤخذ أو ينبذ على حد سواء، كما يضحك حين يرى الإمام العالم في ثياب الباعة والمكارين أو يرى الأمير الحاكم في غير سمعته وحواشيه، فليس من الكسب للحاسة الفنية أن تفقدها ((تهيؤ)) اللغة الذي يحتاج إليه المشاهد أشد من حاجته إلى كسوة تذكره حين يذهب إلى الملعب أنه ذاهب إلى مكان غير البيت وغير الطريق.



أما الذين يستحسنون التعبير بالعامية ويؤثرونها على الفصيحة لسهولة كتابتها وفهمها فهم مخطئون فيما يتوهمون، بل هم يعكسون الحقيقة ويتكلمون من غير تجربة ولا روية فالكتابة بالفصحى أسهل على معالجها من الكتابة بلغة العامة والجهلاء، ومن توهم غير ذلك فليتناول صفحة يكتبها بالفصحى ثم يحاول ترجمتها إلى العامية ولينظر أيهما أشق عليه وأحوج إلى الدقة وكثرة التمحيص والإنتقاء، ولسنا نشترط أن تكون الصفحة في غرض من الأغراض العالية في الفلسفة أو الشعر أو العلم أو الفن فإن صعوبة التعبير بالعامية في هذه الأغراض أبين من أن تحتاج إلى بيان، ولكننا نطلبها صفحة في البيع والشراء والمساومة وسياسة الجماهير وأشباه هذه المعاني التي لا تعز على الدهماء، فإن تبين بعد هذا أن الكتابة بالعامية ليست بأيسر من الكتابة بالفصحى لم تبق إلا دعوى الجمال والرونق، وليس يدعيها للغة العامة على اللغة الخاصة إنسان له معرفة بالإثنتين.



أما سهولة الفهم فحسبك منها أن عامية القاهرة قلما تفهم على جليتها في بعض قرى الصعيد وأن عامية مصر لا تفهم في تونس والعراق أو في اليمن وفلسطين، وأنك تكتب الفصحى فيفهمك من في مراكش ومن في صنعاء ومن في جاوه ومن في نيويورك، ولكنك تكتب بالعامية فتحتاج إلى عشرين ترجمانا ينقلونها إلى إخوانك في اللغة والدين والآداب ثم ينقلونها إلى لهجات تختلف في ملابسات المعاني ومقارنات الأفكار، فلا تؤدي مرادك إلا على شئ من التجويز والتبديل.



إن في كل أمة لغة كتابة ولغة حديث، وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام له قواعد وأصول، وكلام لا قواعد له ولا أصول.

وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة وما بقي ناس يتمايزون في المدارك والأذواق فلن يأتي اليوم الذي يكتب فيه (فردوس ملتون) بلغة العامل الإنجليزي وفلسفة (كانت) بلغة الزارع الألماني، ولن يأتي اليوم الذي تستوعب فيه قوالب السوق كل ما يخطر على قرائح العبقريين ويختلج في ضمائر النفوس ويتردد في نوابغ الأذهان، فالفصيحة باقية والعامية باقية مدى الأزمان، ومزية الأولى القواعد والإحكام، ومزية الثانية الفوضى والإختلاط، وإذا جاز في زمن من الأزمان أن ننسى الفوارق كلها في التفكير والإحساس والشارة والمقام فهنالك يجوز أن تلغى القواعد وتبطل اللهجات وتطغى العامية على الفصيحة في كل بيئة وكل موضوع، وهيهات!....

نملة
23-03-2002, 01:01 PM
أخي ابن الرومي...
كم أعجبني موضوعك... قد ’يلاحظ كثيرا مدى رجوعنا للخلف ونعتقد ذلك وقد يخجل الكثير الكثير من التحدث باللغة العربية ويعتبرونهعيبا ما قد يثير ضحك الآخرين عليهم... وفي كثير من الأحيان أرى أن اللغة الانجليزية قد اجتاحت العالم كثيرا وقد يتشرف بها الجميع وحتى العرب عند الحديث بها!! ألا يعلمون أنه قمة التخلف... وأننا نرجع للخلف كلمها تنساينا لغتنا العربية...

سأكمل حديثي فيما بعد... لأخرج ما في جعبتي لك وللآخرين

تحياتي نملة :confused:

تلويحة
15-04-2002, 06:36 PM
أخي الفاضل ابن الرومي ..
شكراً لك ولجهودك ولهذا الإختيار، لكنني أقترح ألا يتم تثبيت الموضوع أكثر من أسبوع أو اثنين عندما يفتقر إلى الردود والمشاركات وقد استنفد هذا الموضوع وقته خاصة وهو موضوع مختار لا من الكتابات المتميزة لأحد الأعضاء.

تحياتي

أبجد
29-07-2002, 06:04 PM
الفصحى ونظرية الفكر العامي


تأليف مرزوق بن صنيتان بن تنباك

كتاب يقع في 267 صفحة

تناول فيه حجج أهل العامية، والرد عليها


كتاب يستحق منك أن تقرأه


وشكرا للأخ ابن الرومي على إثارة الشجون