الخمشي
30-11-2002, 05:16 AM
أدرج هذه المشاركة قبل فجر الخامس و العشرين من رمضان، أرجو ألا يكون القطار قد فاتني.
القصة:
استيقظ أحمد، صبيحة أول أيام رمضان، على صوت ابن جاره سالم، و هو يصرخ لن أفطر أريد أن أصوم، و في نفس الوقت تتناهى إلى مسامعه، توسلات الأم إلى صغيرها لكي يتناول وجبة إفطاره قبل الذهاب إلى المدرسة، و لكن الطفل كان يرفض بإصرار و عناد عجيبين.
فنهض من فراشه، و ارتدى ملابسه بسرعة، يروم اللحاق بمحاضراته الصباحية، وعند خروجه من شقته، التقى والطفل الصغير الذي أيقظه من النوم، لقد كان ضئيل الحجم، مال عوده الغض، إلى الناحية التي تجره منها حقيبته، و ارتسمت على وجهه البرئ آثار ذلك الحمل الثقيل الذي ينوء به كاهله.
استغرب أحمد، كيف يختفي ذلك الإصرار العجيب، في هذا الجسم
الصغير؟ و أراد أن يشكر الطفل على إيقاظه في الوقت المناسب، و لكن يبدو أن الخواطر التي تحاشدت في عقله، ألهته حتى مضى ابن السادسة و تركه وحيداً أمام باب شقته.
فأغلق أحمد باب شقته و انحدر مع السلم، و هو يجتر شريط ذكرياته منذ أن قدم لهذا البلد، مفارقا أهله. و كان ذلك قبل خمس سنوات، طيل تلك الأعوام، لم يصم فيها يوماً واحداً، و لم يركع ركعة واحدة، باستثناء أشهر الصيف التي يزور فيها أهله. حتى في تلك الأثناء لم يكن يتورع عن ترك الصلاة حينما تحين له الفرصة.
و في أسفل البناية التقى بصديقه الذي كان ينتظره، فبتر شريط ذكرياته، و نسي كل ماحدث معه، ومضيا في السيارة، إلى الجامعة.
* * *
عاد أحمد إلى شقته، بعيد صلاة العصر، و استلقى على سريره، و طفق يعيد شريط ذكرياته مرة أخرى، و عاد بذاكرته خمس سنين إلى الوراء، عاد إلى ذلك الزمن الذي كان يعيش فيه بين أهله، و في وطنه، و بدأ يعيش ذكرياته مع رمضان، لقد كان يصوم و يصلي، بل لم تفته صلاة التراويح و لا التهجد. إذ كان محافظا عليهما في رمضان، و بدأ يستقصي أسباب انتكاسته، و بدأ يتذكر ذلك الشعور الغريب الذي كان ينتابه حينما يسمع الحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه و سلم " من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه". كان ذلك الشعور يهز كيانه هزاً، لم يدري لماذا كان يشعر في ذلك الوقت و كأن الرسول صلى الله عليه و سلم يخاطبه؟ لم يكن يدرك تماما معنى صيام رمضان إيمانا و احتسابا، و لكنه الآن يعي أنه لم يكن يصوم رمضانا إيمانا و احتسابا، بل كان يصومه عادة و تقليدا، و كان يصلي صلاة ميكانيكية كالآلات، كان يرى أهله يصومون فيصوم معهم، و يراهم يفطرون فيفطر معهم، و يراهم يخرجون للصلاة فيخرج معهم، لذا لما بعد عنهم، و رأى في هذا البلد من يفطر في نهار رمضان، لم يكن صعبا عليه أن يفطر، لقد كان إمعة و لازال كذلك.
و بينما هو كذلك إذا بهاتف خفق له قلبه، يتردد صدى هتافه، في زوايا نفسه التي غطاها الران، لم يكن ذلك الهاتف بغريب عليه، و لكنه اليوم يسمعه بأذن غير أذنه التي عرفها، و بقلب غير القلب الذي عرفه، باختصار لقد كان يسمع ذلك الهاتف، بحاسة جديدة، لم يعهدها في نفسه، حاسة يهبها الله لمن يعرفونه حق المعرفة، و قد حان لأحمد أن يعرف الله، و أن يعرف دينه الإسلام.
لقد سمع أحمد أذان صلاة المغرب، فأدرك لأول مرة أنه لم يتناول شيئا هذا اليوم، إنه يعرف أن صيامه غير صحيح، فهو لم ينو الصيام من الليل، و لكنه استبشر بأن الله صرفه عن إثم انتهاك حرمة شهر الصوم.
فأسرع إلى طبق التمر، الذي أرغمته أمه على أخذه معه، حينما زار أهله في المرة الأخيرة، و تناول منه تمرة واحدة، ثم ذهب يغتسل و يتوضأ بسرعة ليدرك صلاة المغرب.
* * *
قدم أحمد قدمه اليمنى و هو يدخل إلى الجامع، فوقع بصره، على جموع الصائمين الذين يتناولون إفطارهم، في فناء المسجد، و أشار إليه أدناهم، بالجلوس إلى جانبه، و لكن جوعه الروحي تغلب على جوع بطنه، فولج إلى داخل المسجد، و استقبل القبلة، و كبر تكبيرة الإحرام، حينها بدا له أنه قد بعث من جديد، و أنه قد وجد لذة العبادة.
لقد صلى قبل ذلك آلاف المرات، ولكن كانت هذه هي أول صلاة يجد فيها حلاوة الصلاة، لقد كانت صلاة خالصة لله، لذا أوجد الله لها قبولا في قلبه، فسالت دموعه أنهارا،من عينين لم تذرفا الدمع قط، خشية لله، و حينما سجد، أحسن بأن هذه هي أول سجدة له في حياته، و بالفعل فقد كانت هي الأولى، أما ماقبلها، فلم تعدوا كونها إنحناءات لامس فيها جبينه الثرى، أما هذه فهي إنحناءة رفرفت روحه على أثرها، في ساحات السكينة و الطمأنينة.
و بعد صلاة المغرب، لم يعد إلى منزله بل جلس يتلو القرآن، فقد كان مشتاقاً، لكلام ربه، ثم صلى التراويح، و رجع إلى شقته، يحمل روحا غير التي كانت بين جوانحه، حينما خرج منها.
و قبل أن يدخل إليها، لفت نظره جمع كبير، عند باب جاره، فسأل أحدهم:
ماذا هناك؟
فجاءه الخبر كالصاعقة، لقد مات ابن سالم، دهسته سيارة وهو آت من صلاة المغرب.
فانضم أحمد إلى جموع المعزين، و قال لأبيه:
لقد مات ابنك، و لكنه قبل أن يموت قدر الله له أن يبعث الحياة في روحي الميتة.
القصة:
استيقظ أحمد، صبيحة أول أيام رمضان، على صوت ابن جاره سالم، و هو يصرخ لن أفطر أريد أن أصوم، و في نفس الوقت تتناهى إلى مسامعه، توسلات الأم إلى صغيرها لكي يتناول وجبة إفطاره قبل الذهاب إلى المدرسة، و لكن الطفل كان يرفض بإصرار و عناد عجيبين.
فنهض من فراشه، و ارتدى ملابسه بسرعة، يروم اللحاق بمحاضراته الصباحية، وعند خروجه من شقته، التقى والطفل الصغير الذي أيقظه من النوم، لقد كان ضئيل الحجم، مال عوده الغض، إلى الناحية التي تجره منها حقيبته، و ارتسمت على وجهه البرئ آثار ذلك الحمل الثقيل الذي ينوء به كاهله.
استغرب أحمد، كيف يختفي ذلك الإصرار العجيب، في هذا الجسم
الصغير؟ و أراد أن يشكر الطفل على إيقاظه في الوقت المناسب، و لكن يبدو أن الخواطر التي تحاشدت في عقله، ألهته حتى مضى ابن السادسة و تركه وحيداً أمام باب شقته.
فأغلق أحمد باب شقته و انحدر مع السلم، و هو يجتر شريط ذكرياته منذ أن قدم لهذا البلد، مفارقا أهله. و كان ذلك قبل خمس سنوات، طيل تلك الأعوام، لم يصم فيها يوماً واحداً، و لم يركع ركعة واحدة، باستثناء أشهر الصيف التي يزور فيها أهله. حتى في تلك الأثناء لم يكن يتورع عن ترك الصلاة حينما تحين له الفرصة.
و في أسفل البناية التقى بصديقه الذي كان ينتظره، فبتر شريط ذكرياته، و نسي كل ماحدث معه، ومضيا في السيارة، إلى الجامعة.
* * *
عاد أحمد إلى شقته، بعيد صلاة العصر، و استلقى على سريره، و طفق يعيد شريط ذكرياته مرة أخرى، و عاد بذاكرته خمس سنين إلى الوراء، عاد إلى ذلك الزمن الذي كان يعيش فيه بين أهله، و في وطنه، و بدأ يعيش ذكرياته مع رمضان، لقد كان يصوم و يصلي، بل لم تفته صلاة التراويح و لا التهجد. إذ كان محافظا عليهما في رمضان، و بدأ يستقصي أسباب انتكاسته، و بدأ يتذكر ذلك الشعور الغريب الذي كان ينتابه حينما يسمع الحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه و سلم " من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه". كان ذلك الشعور يهز كيانه هزاً، لم يدري لماذا كان يشعر في ذلك الوقت و كأن الرسول صلى الله عليه و سلم يخاطبه؟ لم يكن يدرك تماما معنى صيام رمضان إيمانا و احتسابا، و لكنه الآن يعي أنه لم يكن يصوم رمضانا إيمانا و احتسابا، بل كان يصومه عادة و تقليدا، و كان يصلي صلاة ميكانيكية كالآلات، كان يرى أهله يصومون فيصوم معهم، و يراهم يفطرون فيفطر معهم، و يراهم يخرجون للصلاة فيخرج معهم، لذا لما بعد عنهم، و رأى في هذا البلد من يفطر في نهار رمضان، لم يكن صعبا عليه أن يفطر، لقد كان إمعة و لازال كذلك.
و بينما هو كذلك إذا بهاتف خفق له قلبه، يتردد صدى هتافه، في زوايا نفسه التي غطاها الران، لم يكن ذلك الهاتف بغريب عليه، و لكنه اليوم يسمعه بأذن غير أذنه التي عرفها، و بقلب غير القلب الذي عرفه، باختصار لقد كان يسمع ذلك الهاتف، بحاسة جديدة، لم يعهدها في نفسه، حاسة يهبها الله لمن يعرفونه حق المعرفة، و قد حان لأحمد أن يعرف الله، و أن يعرف دينه الإسلام.
لقد سمع أحمد أذان صلاة المغرب، فأدرك لأول مرة أنه لم يتناول شيئا هذا اليوم، إنه يعرف أن صيامه غير صحيح، فهو لم ينو الصيام من الليل، و لكنه استبشر بأن الله صرفه عن إثم انتهاك حرمة شهر الصوم.
فأسرع إلى طبق التمر، الذي أرغمته أمه على أخذه معه، حينما زار أهله في المرة الأخيرة، و تناول منه تمرة واحدة، ثم ذهب يغتسل و يتوضأ بسرعة ليدرك صلاة المغرب.
* * *
قدم أحمد قدمه اليمنى و هو يدخل إلى الجامع، فوقع بصره، على جموع الصائمين الذين يتناولون إفطارهم، في فناء المسجد، و أشار إليه أدناهم، بالجلوس إلى جانبه، و لكن جوعه الروحي تغلب على جوع بطنه، فولج إلى داخل المسجد، و استقبل القبلة، و كبر تكبيرة الإحرام، حينها بدا له أنه قد بعث من جديد، و أنه قد وجد لذة العبادة.
لقد صلى قبل ذلك آلاف المرات، ولكن كانت هذه هي أول صلاة يجد فيها حلاوة الصلاة، لقد كانت صلاة خالصة لله، لذا أوجد الله لها قبولا في قلبه، فسالت دموعه أنهارا،من عينين لم تذرفا الدمع قط، خشية لله، و حينما سجد، أحسن بأن هذه هي أول سجدة له في حياته، و بالفعل فقد كانت هي الأولى، أما ماقبلها، فلم تعدوا كونها إنحناءات لامس فيها جبينه الثرى، أما هذه فهي إنحناءة رفرفت روحه على أثرها، في ساحات السكينة و الطمأنينة.
و بعد صلاة المغرب، لم يعد إلى منزله بل جلس يتلو القرآن، فقد كان مشتاقاً، لكلام ربه، ثم صلى التراويح، و رجع إلى شقته، يحمل روحا غير التي كانت بين جوانحه، حينما خرج منها.
و قبل أن يدخل إليها، لفت نظره جمع كبير، عند باب جاره، فسأل أحدهم:
ماذا هناك؟
فجاءه الخبر كالصاعقة، لقد مات ابن سالم، دهسته سيارة وهو آت من صلاة المغرب.
فانضم أحمد إلى جموع المعزين، و قال لأبيه:
لقد مات ابنك، و لكنه قبل أن يموت قدر الله له أن يبعث الحياة في روحي الميتة.