PDA

View Full Version : ولا نكفرأحداً من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله


حفيد حمزة
30-03-2003, 04:25 PM
بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله، وهو : أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً ، قال الله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . وقال صلى الله عليه وسلم : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر . متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه . وقال صلى الله عليه وسلم : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . و : إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر - فقد باء بها أحدهما . متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه . وقال صلى الله عليه وسلم : أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً ، ومن كانت فيه [خصلة منهن كان فيه] خصلة من النفاق حتى يدعها . إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر . متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه . وقال صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، والتوبة معروضة بعد . وقال صلى الله عليه وسلم : بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة . رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه . وقال صلى الله عليه وسلم : من أتى كاهناً فصدقه ، أو أتى امرأة في دبرها ، فقد كفر بما أنزل على محمد . وقال صلى الله عليه وسلم : من حلف بغير الله فقد كفر . رواه الحاكم بهذا اللفظ . وقال صلى الله عليه وسلم : ثنتان في أمتي [بهم] كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت . ونظائر ذلك كثيرة .
والجواب : أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية ، كما قالت أن الخوارج ، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال ، ولا يقبل عفو ولي القصاص ، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر ! وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام . ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ، ولا يدخل في الكفر ، ولا يستحق الخلود مع الكافرين ، كما قالت المعتزلة . فإن قولهم باطل أيضاً ، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ، الى أن قال : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف . فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا ، وجعله أخاً لولي القصاص ، والمراد أخوة الدين بلا ريب . وقال تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، الى أن قال : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم . ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل ، بل يقام عليه الحد ، فدل على أنه ليس بمرتد . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم ، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار ، إن كان له عمل صالح أحذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ، ثم ألقي في النار . أخرجاه في الصحيحين . فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه . وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما تعدون المفلس فيكم ؟ قالوا : المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار ، قال : المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال ، [فيأتي] وقد شتم هذا ، وأخذ مال هذا ، وسفك دم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، فيقتص هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار . رواه مسلم . وقد قال تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات . فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته . وهذا مبسوط في موضعه .
والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة ، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ، لكن قالت الخوارج . نسميه كافراً ، وقالت المعتزلة : نسميه فاسقاً ، فالخلاف بينهم لفظي فقط . وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب ، كما وردت به النصوص . لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، ولا ينفع مع الكفر طاعة ! وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة - : تبينت لك فساد القولين ! ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى .
ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أهل السنة اختلفوا خلافاً لفظياً ، لا يترتب عليه فساد ، وهو : أنه هل يكون الكفر على مراتب ، كفراً دون كفر ؟ كما اختلفوا : هل يكون الإيمان على مراتب ، إيماناً دون إيمان ؟ وهذا اختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان : هل هو قول وعمل يزيد وينقص ، أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً ، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً - ولا نطلق عليهما اسم الكفر . ولكن من قال : إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، قال : هو كفر عملي لا اعتقادي ، والكفر عنده على مراتب ، كفر دون كفر ، كالإيمان عنده . ومن قال : إن الإيمان هو التصديق ، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان ، والكفر هو الجحود ، ولا يزيدان ولا ينقصان ، قال : هو كفر مجازي غير حقيقي ، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة . وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان ، كقوله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم ، أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، إنها سميت إيماناً مجازاً ، لتوقف صحتها عن الإيمان ، أو لدلالتها على الإيمان ، إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً . ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى صلاتنا . فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب ، إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول وما تواترعنهم أنهم من أهل الوعيد . ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار ، كالخوارج والمعتزلة . ولكن أراد ما في ذلك التعصب على من يضادهم ، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه ، والتشنيع عليه ! واذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف ؟! قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى الآية .
وهنا أمر يجب أن يتفطن له ، وهو : أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة ، وقد يكون معصية : كبيرة أو صغيرة ، ويكون كفراً : إما مجازياً ، وإما كفراً أصغر ، على القولين المذكورين . وذلك بحسب حال الحاكم : فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخير فيه ، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله - : فهذا كفر أكبر . وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة ، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ، ويسمى كافراً كفراً مجازياً ، أو كفراً أصغر . وإن جهل حكم الله فيها ، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ، فهذا مخطىء ، له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور .
وأراد الشيخ رحمه الله بقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله - مخالفة المرجئة . وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين ، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك . فإن قدامة بن عبد الله شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة ، وتأولوا قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات الآية . فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، اتفق هو و علي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا ، وإن أصروا على استحلالها قتلوا . وقال عمر لقدامة : أخطأت استك الحفرة ، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر . وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر ، وكان تحريمها بعد وقعة أحد ، قال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فأنزل الله هذه الآية . بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين ، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس . ثم إن أولئك الذين فعلوا [ذلك يذمون] على أنهم أخطأوا وأيسوا من التوبة . فكتب عمر إلى قدامة يقول له : حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب . ما أدري أي ذنبيك أعظم ؟ استحلالك المحرم أولاً ؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً ؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام .

المصدر / الشبكة الاسلامية