PDA

View Full Version : الخائن ( قصة قصيرة )


الضبابية
14-01-2004, 09:46 AM
أسبلت الشمس رموش النور على مدينة القدس العتيقة ،
فروت كل أغصان الزيتون الأسيرة بطهور نور ،
و انثنت إلى ذاك الحي الصغير شمال المدينة الرافلة بثوب حزن مخضب بالدم ،
طرقت نسائم الصبح كل الأبواب فانطلق المقدسيون يعمرون مدينتهم بجد و دأب ..
و انطلق بين هؤلاء شاب يحمل وجها وسيما قسيما ،و عقلا راجحا ، و قلبا طاهرا .

===

اتخذ العم صالح مجلسه المعتاد على باب دكانه و عيناه تتابعان الغادي و الرائح ،
يلقي التحية على هذا و يسأل عن صحة ذاك ،
مر عليه الطبيب جمال فانعطف إليه يسلم عليه ،
و بينما هما في حديث عابر تعلقت عينا العم بشاب طويل القامة حنطي البشرة هادئ النظرات يعبر الطريق بخطو سريع واسع ،
فالتفت الطبيب إلى حيث نظر الشيخ ..
و قال العم : إنه طارق .. عجبا .. قد تغيرت عادات هذا الفتى ..
هز الطبيب رأسه بهدوء و اكتفى بالصمت بينما عقله يستعيد الصورة الماضية لطارق ،
كان مثال الشاب الملتزم المتفوق أنهى دراسته الثانوية و التحق بفرع الهندسة الكيميائية في جامعة القدس ،
و ما لبث أن تغير ..
كان تغيره غريبا على كل من عرفه ؛ غدا كثير الغياب عن رفاقه كثير الغياب عن منزله ،
يخرج من الفجر و يعود بعد منتصف الليل ، ما عادوا يجدونه معهم في صلاة الجماعة في المسجد ..
كل شيء فيه تغير إلا شيئا واحدا .. حرصه على دراسته .
عاد الطبيب يهز رأسه بهدوء و هو يقول : يا للأيام !

===

عبست الشمس ففرت السحب من أمامها لتسطع بكل غضبتها على حواجز المرور الصهيونية التي تسد عرض الطريق الرئيسي ،
و وقف الفلسطينيون و الغضب يملأ أعماقهم و قد تعطلت أعمالهم و مدارسهم .. كل ذلك بفضل التعنت الصهيوني .
و بينهم و قريبا من حاجز المرور وقف النقيب أدهم و عيناه تفوران بذاك الغضب الهائل الذي يثور في أعماقه ،
فجأة استحال كل الغضب إلى ذهول ،
هز رأسه ببطء لينفض عن نفسه دهشته و يقترب من المكان الذي وقف فيه ضابط صهيوني مع ابن أخي أدهم .. أجل .. ابن أخيه طارق يتحادثان ،
أنصت ليسمع و ليته ما سمع ..
- أجل يا حاييم .. لكن الأمر ليس سهلا .. أنت تطلب مني اختراق كل حرصهم و جلب أخبار العملية التخريبية القادمة
- و هل يمكنني أن أعتمد على غيرك ؟ أحضرها و ستجد المقابل الذي اعتدت مضاعفا .. كما أننا سنحظى بسهرة ........
و تنحى العم ..
تنحى الضابط الفلسطيني و قلبه يخفق لا يريد أن يصدق ..
طارق !! طارق يخونهم ؟

===

جلست الأم تعد الثواني و ترقب عودة ابنها بينما عيناها تختلسان النظرات إلى حجرة الجلوس
حيث اختلى زوجها بشقيقه و قد تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل ،
جلست و القلق ينهش قلبها و عقلها يبحث عن تبرير لتأخر ابنها حتى ذاك الوقت ،
أفاقت من أفكارها على صوت الباب يفتح بهدوء ، اندفعت إليه هامسة : طارق ؟؟
اتسعت عينا الشاب و همس بقلق : أماه ؟!! ماذا هنالك ؟ عمي هنا ؟
كادت تجيب لولا جاء صوت الأب من الداخل منبئا بثورة غضب : طارق .. تعال هنا
منح الفتى ابتسامة مطمئنة لأمه و تمالك القلق الهادر في أعماقه ليدلف إلى الحجرة ،
بينما مكثت الأم قلقة تتحفز للتدخل إذا كان في الأمر شيء ضد ابنها ..
و فجأة ..
شق السكون صوت صفعة هائلة و الأب يهتف بكل الغضب : و خائن ؟
و لم تعد الأم تتمالك نفسها ..
قد أعلنت هذه الصفعة الحقيقة .. حقيقة الخيانة ..
خيانة الوطن .

===

عربد الغضب في صدر أبي طارق و هو يجد مخططا لمخابئ المجاهدين في القدس في جيب ابنه ،
أدرك أن نظرات الناس إلى ابنه كانت حقيقة ،
و أنه قد غفل عنه .. هو الوحيد الذي لم يعلم إلا آخر الأمر ،
دارت كل تلك الأفكار في رأسه بينما ابنه ينهض عن الأرض و يمسح خيط الدم الذي سال من زاوية فمه ،
ثم يطرق و الأفكار تنتهبه ..
تذكر الاحتقار في عيون كل من حوله ،
تذكر تهامس الجميع و نظراتهم تلتهمه .. بكل ازدراء ،
تذكر ابتعاد رفاقه عنه ،
و هاهو أبوه آمن بخيانته ،
اجتذب نفسه ليغادر الحجرة و صوت أبيه يلاحقه :
لن تغادر هذا البيت بعد اليوم ، و إن لم تنته عما تفعل سيكون موتك على يدي .. أتفهم ؟ خائن في بيتي ؟
هرعت الأم إلى ابنها ، رفع إليها عينين حزينتين تصدع لحزنهما قلبها ،
لكن عينيه بغتة برقتا بالسخرية و اللامبالاة و هو يستدير و ييمم نحو حجرته ثم يصفع بابها وراءه ..
و في قلب الأم صرخة تدوي .. ابنها ليس خائنا .. ليس كذلك .. ذاك المحال ..
إنه لا يستطيع أن يخون .. لا ..

===

مر أسبوع كامل منع فيه طارق من مغادرة حجرته ..
أخوته انزووا جانبا خوفا من نظرات أبيهم الغاضبة ..
و الأب عامله بكل ازدراء و حنق رغم أنه لم يكد يصدق ..
أمه وحدها كان قلبها يغالط كل ما تراه ..
و ظلت تقنع نفسها رغم كل الأدلة أن ابنها ليس بخائن .. ليس بخائن أبدا ..
و في نهاية الأسبوع تبخر طارق ..
و انطلقوا يبحثون عنه .. أبوه و عمه و أخوته الفتيان ..
و مرت أسابيع .. القلق يذيب قلب الأم و الغضب يحرق أعصاب الأب و الأخوة حائرون ..
و كل من عرف الفتى يتحدث عنه و عن خيانته ..
و كهل يمر في الحارة كل يوم يطل على باب البيت من بعيد و تكتسي عيناه بابتسامة معزية .

===

- السلام عليكم .. كيف حالك يا أبا طارق ؟ ... هل يمكنني أن ألقاك الآن في بيتنا ؟
و عاد القلق يثور أكثر و أكثر في قلب الأم ..
بينما خرج الأب ليلقى الطبيب جمال و الذي كان صوته أثناء المحادثة الهاتفية حزينا أشبه بصوت .. الناعي .

===

- أهلا يا أبا طارق .. تفضل ..
- خيرا يا جمال .. أهنالك خطب ما ؟
ران الصمت على الطبيب للحظات و اكتست عيناه بالأسف ثم همس :
أنا آسف .. إنما ابنك .. حسنا .. إنه بالداخل ..
و هرع الأب إلى حيث أشار الطبيب ..
دفع باب الحجرة لتصطدم عيناه بابنته جمان تنحني على جسد سربله الدم ..
و تحيط كف أخيها بيديها بكل حنان
اعتدلت جمان و أطرقت بحزن ،
اقترب الأب و خفق قلبه يدوي في صدره حتى يكاد يشقه ،
و فتح الفتى عينيه ليطل منهما اعتذار عابق بالدمع ،
همس طارق : أبتي .. سامحني يا أبتي .. قد آلمتكم جميعا .. لكنني ..
و جاء صوت الطبيب قائلا : لا تعتذر يا طارق .. قد كنت بطلا بحق .. إن ابنك يا أبا طارق أحد أفراد المقاومة .. خدع اليهود و غرر بهم .. قد ظلمناه .. ما كان خائنا .. و ما خابت تربيتك فيه .. بارك الله فيك يا طارق .. بارك الله فيك ..
اندفع الأب يحتضن ابنه ..
و سالت دموع طارق و هو يدفن نفسه في صدر أبيه إثر أن افتقده زمنا طويلا ..
بينما أسرعت جمان تدعو أمها و أخوتها ..
و الأنفاس الأخيرة تذوي في صدر البطل .. طارق

===

و عادت الشمس تشرق من جديد ..
حملت بين ثنايا نورها نعي بطل بذل سعادته و أمنه و حياته في سبيل تراب وطنه ..
و لم يثنه ظلم لحق به عن الدرب الذي اختاره ..
فمضى عليه راضيا مرضيا .. و شاء الله أن يبرئه ..
فعرف كل من اتهموه ببطولته ..
ثم رحل تاركا وراءه قصة .. بطل .



كل الود
أختكم في الله
غموض

shahnaz
14-01-2004, 10:04 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قصة تقشعر لها الأبدان وتذرف لها الدموع !!

أسلوب أكثر من رائع !!

نسأل الله أن يطعمنا الشهادة !!


سلمت يمناك .. غاليتي (( غموض )) الضبابية ..


و بانتظار المزيد من روائعك !! :)


كل الود

أرق تحية !!

إرث أحزان
14-01-2004, 08:58 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الضبابية ...

رائعة هي القصة ....

سلمت يداك لا عدمناك ..

تحياتي

حروف سوالف
19-01-2004, 10:41 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نتضر المزيد ...........

تحياتي حروف سوالف

وفوووية
21-01-2004, 11:15 AM
رد مقتبس من إرث أحزان
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الضبابية ...

رائعة هي القصة ....

سلمت يداك لا عدمناك ..

تحياتي