PDA

View Full Version : اليتيمه


من انا
02-09-2004, 09:07 PM
قصه او خاطره... حزينه, قرأتها وعجبتنى مررره ...نقلتها لكم من جريده الرياض.
بعنوان اليتيمه....أتمنى إنكم تقرأوها
كتبها:ابراهيم محمد النملة


(.. إليها.. حينما قالت.. متى أكبر؟!!!..)
- 1-
تشابهت عندي الأيام...
فغدا سوف يرتدي لباس اليوم.. مثلما ارتدى اليوم لباس الأمس...
مات أبي.. ورثيته بدموعي ورثاني الآخرون بنعتي باليتيمة..
فهل بالفعل أنا بموت أبي باليتيمة...
أذكر جيداً معلمة الإنشاء التي طلبت منا أن نعبر بالكلمات عن الأيتام.. لحظتها لم أستطع أن اكتب شيئاً.. وحينما مات أبي وشعرت انني يتيمة من أقوال الآخرين... هنا فقط تمنيت أن أعود لمعلمتي وأعطيها صفحات وصفحات عن موضوع الأيتام بدمعة من عيني!!!..
أربعة عشر عاماً فقط كنت مع أبي.. وحينما دخل جسدي عامه الخامس عشر لم أجد أبي!!!..
لا أستطيع أن أصف شيئا من الصباحات التي توالت على عيني حينما انزاح الظلام مبللاً من رطوبة عيني، فكل صباح يأتي لا يختلف عن كل مساء أتى بعد أبي...
فراغ كبير يحتل كل أجزاء صدري ويمتد ليسع دارنا وأنحاءها، لم يسد هذا الفراغ الذي يمتد بشكل مفزع كل الوجوه التي نظرت إلى وجهي ومن ثم رحلت!!!..
أقتت منها الشفقة ونظرات الأسى، وسمعت منها كل الكلمات التي تنعتني باليتيمة!!!..
ناديت أبي في وحدتي.. ولم يفتح الباب علي!!!..
ناديت أبي بين الجموع.. ولم أسمع سوى كلمات تحمل الشفقة والمسكنة...
وصمت عن ندائي لأبي لتصبح الكلمة حين نطقها على لساني كقطعة جلد يابسة وأن نطقها أصبح كخروج الروح من الجسد حينما توالت الأيدي إحساناً وربتت على رأسي!!!..
جلست على سريري بين اجتراح لماض كان فيه أبي ومستقبل لن أشم فيه رائحة أبي.. أرسل نظراتي على رتاج الباب رغم يقيني أن يد أبي لن تطرق الباب ليسألني عن صحتي ودراستي ويحني قامته نحو جبيني ويلثمني قبلة المساء..
لن أجده جالساً في حوش دارنا الصغير يستمع إلى المذياع ويطارد الدقائق ليسمع نشرة المساء وحينما يسمعها يبسط جريدته أمامه وكأنه يقرأ ما قبل الأحداث التي سمعها من المذياع!!!..
وخلا الحوش من جسد أبي.. وصمت مذياعه القديم.. ورفضت الحياة ان أتنفس بوجهها!!!
أعلم جيداً ان هذا المساء لن يحمل وجه أبي ولن تعبق الدار بصوته الشاجن... ولن نأكل الخبز الساخن الذي يحضره لنا كل مساء بعد صلاة العشاء!!!..
- 2-
في وقت لا يحمل سمة الحاضر قال لي أبي:-
سألبسك لباساً أنيقاً وسأطعمك طعاماً نظيفاً.. وخرج..
وعشت بكلماته تلك سبعة أيام أرسم لجسدي ذلك اللباس الذي رأيته في احد المتاجر وأمني نفسي بتلك الوجبة التي تحدثت عنها زميلاتي.. أبي قال لي تلك الكلمات وسافر... أدار مفتاح سيارته وحمل معه أجساداً لا يعرفها ليسافر بها على طريق الطائف ولم يعد!!!..
سألت عنه أمي المتلحفة سوادها على غير عادتها.. وبكت أمي سؤالي!!!..
سألت عنه وجوه الأقرباء التي توافدت ثلاثة أيام نحو دارنا ولف سؤالي على شفاههم الصمت..
أحدهم قال لي حينما رحم دموعي بسؤالها المتكرر عن وجه أبي الغائب عن تلك الوجوه التي تخطت عتبة دارنا:-
لقد قال لي أبوك أنه حين يعود سيبتاع لك لباساً أنيقاً وسيطعمك طعاماً نظيفاً.. - صمت لبرهة ثم أكمل - ولكنه لن يعود!!!..
قلت له بوداعة:
- أنا لا أريد اللباس الأنيق ولا الطعام النظيف.. قل له ذلك ودعه يعود...
مسح دمعة فرت من عينه وتركني ألوك حسرتي ودهشتي!!!
- 3-
الكل خاف من دمعتي ومن حزني ورحل..!!!
لم أجد بعد أيام من يعرف مساحة عتبة بابنا..
تقاسمت الوحدة معي تلك الليالي الطويلة التي أتت بدون وجه أبي.. بكيت لها وصرخت بملء صوتي بها:
- يكفيني ما ستر جسدي الأعوام الماضية.. انه لباس يحمل ترهلات الزمن ولكنه يخفي جسدي!!!.. وتكفيني قطعة الخبز الباقية من عشاء الأمس رغم أن الزمن قد نشر قساوته عليها فقط أريد أبي!!!..
أريده أن يغمرني بضحكته الصافية وأن يحرسني بنظرته الحانية...
فكلماته لاتزال تئن في مسمعي.. مات أبي وفقدت كل شيء.. ولم أعد أسمع سوى ماضي كلماته التي لن يعيدها أبداً!!!..
أريد أبي.. وأرفض أن يدفع حياته ثمناً للباس جديد أو لقمة نظيفة!!!..
فلباس الأمس يا أبي قد غسلته بدموع رحيلك.. وابت أن تسد جوعي بقايا خبز الأمس!!!..
هل تعلم يا أبي.. أن صدى صوتك هو لباسي.. ورائحة أنفاسك هي طعامي.. ورحل صدى صوتك ورائحة أنفاسك فماذا عساي أن ألبس وان آكل بعدك يا أبي؟!!!
قالوا لي:-
- لقد أصبحت يتيمة.. وسكتوا على تلك الجملة!!!...
لم أرهم بعدها... وكأن وفاءهم لأبي أن يقولوا تلك الجملة ويمحوا بها تأنيب الضمير لرحيلهم!!!
اختفت أجسادهم وأصبح الظلام يمتد من مساحة نفسي لكل مساحات الدار...
لقد أراد لي أبي فرحة كفرحة زميلاتي في لباسهن الجديد... ولكني لم أحصل على تلك الفرحة التي أرادها أبي... ولم أعد أرى سمات الفرحة في وجوههن!!!..
ولم أبك حسرة على فقد جسدي من اللباس الجديد، كانت فقط كلمات قلتها لأبي قبل سفره ذات مساء، أعرف جيداً قدرة أبي ولكني لم أجد غير أبي لأقول له تلك الكلمات وأنا واثقة ان نظراته لشكوتي لن تكتسب استهزاء أو مذلة لي...
مد يده وربت على شعر رأسي، حينها نظرت إلى جسدي ووجدت اللباس الجديد قد ارتدى جسدي.. أذكر ذلك جيداً في رحيله، ولن أنسى ما قالته لي أمي في صباح حمل ليله بوحي لأبي.
- لم ينم أبوك البارحة.. فدمعته قد غلبت نعاسه.. وأبوك لا ينام حينما يشم رائحة الرطوبة!!
وها أنا في هذه اللحظات.. أتفحص بذاكرتي وجه أبي أمامي وتغمرني رائحة الرطوبة!!!..
- 4-
تعب أبي في حياته كثيراً..
ومات وهو لايزال يحمل التعب على جسده..
مل من ارتكاز جسده لساعات طويلة خلف مقود سيارته.. مسافراً على الخطوط السريعة بين المدن يبحث لنا عن حياة من لحيح المسافرين الذين لم يجدوا مقعداً في الطائرة أو هم رغبوا توفيراً سيارة أبي، سمعت أبي ذات وقت يقول لأمي حينما أتى من سفر طويل:
- يلحون عليّ بالسرعة لنختصر الساعات وأضغط تلبية لهم على كابح البنزين وعندما أتذكر ان تلك الضغطة قد تؤويني سنين عديدة في السجن أرفع قدمي عن كابح البنزين.. فدية أحدهم أغلى بكثير من ثمن سيارتي!!!
وزاد أبي من الضغط على كابح البنزين حينما أوصلهم لمدنهم ولم يجد أحداً يريد العودة معه وانفجر إطار السيارة الأمامي ليخرجوا أبي من سيارته جثة هامدة بعد ما فقد السيطرة على السيارة..
ذهبوا بجثة أبي إلى المقبرة.. كان يخاف أبي من السرعة.. ومات مما كان يخاف منه!!!..
مات أبي.. ولم تمت كلماته وأمانيه ونصائحه التي أضفت على أيامي بعد رحيله العزة والاستعفاف..
تلك الكلمات التي لم تغب عن ذاكرتي، أمارسها في كل وقت.. جعلتني أرى أبي في تصرفاتي حتى بعد موته!!!..
ولكني لم أستطع أن أوقف تدفق كلمة يتيمة من الأفواه التي بقيت تذرف الكلمة بعد موت أبي.. يتيمة.. قالوها عند مرور جسدي بينهم.. وتوقعوا انني لا أتقبل منهم سوى نظرات العطف والاحسان!!!..
ولم يعلمني أبي ذلك!!!..
تركت كلماتهم وتوقعاتهم وعشت أجتر من كلمات أبي ما كان أبي يريد أن يراني فيها ووجدت نفسي في كلمات أبي!!!..
اليتيمة.. تلك هي أنا!!!..
فرحيل أبي غير اسمي في نداءات الآخرين..
ولكن أبداً لم يغيروا كلمات أبي حينما قالتها كل تصرفاتي!!!..
- 5-
والآن.. قد انتهى كل شيء!!!..
لم يترك أبي لنا بعد موته ما يُرغب ويُطمع الناس فينا..
تكاتفنا أنا وأخوتي ووضعنا جميعاً أيدينا فوق يد أمي المكلومة بموت أبي...
وأصبح أخي الذي يكبرني بسنتين يدفع قيمة ايجار مسكننا من راتبه الضئيل حينما ترك الدراسة وعمل بوظيفة رجل أمن أمام احدى بوابات البنوك..
تلك الوظيفة التي محت حاجتنا للآخرين.. تعبنا وتعبنا ولكننا لم نمد أيدينا لطلب الصدقة أو الزكاة أو الإحسان.. لقد حافظنا بتعب شديد على كبرياء أبي!!!..
ولم نمانع جميعاً حينما قال لنا أخي الكبير:
- سنترك هذه الدار ونستأجر شقة صغيرة!!
واستأجرنا الشقة الصغيرة في حارة تخجل من اتساع الحارات التي تقع شمال حارتنا!!!.. يسمع فيها كل منا أنفاس الآخر.. تلك الشقة التي لم نر حتى الآن لون دهان جدرانها.. فنظراتنا قد حوت وجوهنا!!!
وفي أول ليلة أتت لنا في هذه الشقة الصغيرة استلقيت على فراشي بجانب فراش أمي ورفعت يدي إلى الله العلي القدير أن تمر السنون القادمة بسرعة وألتحق أنا بوظيفة راتبها أفضل من راتب وظيفة أخي الكبير وأحقق أمنية أمي وأمنيتنا جميعاً بالسفر إلى مكة المكرمة لنؤدي العمرة لأبي رحمه الله!!!..



قصه او خاطره... حزينه, قرأتها وعجبتنى مررره ...نقلتها لكم من جريده الرياض.