dbooor
25-03-2005, 12:49 AM
الحسن البصري
أرسلت أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين جاريةً لها في بعض أمورها... فتركت تلك الجارية طفلها ومضت... ولكن الطفل بدأ يبكي بكاءً شديداً، فرقّت عليه أم سلمة رضي الله عنها ، فما كان منها إلا أن وضعته على صدرها وأعطته ثديها تُعلِّله به إلى أن تجيء أمه... فدرَّ عليه اللبن فشربه... وشرب معه الحكمة والفصاحة
وُلد ذلك الصبي في خلافة عمر بن الخطاب... فدعا له عمر رضي الله عنه أن يفقهه ويرزقه العلم...
فنال بركتين... بركة نشأته تربيته عند أم المؤمنين أم سلمة، وبركة دعاء عمر بن الخطاب
ذلك هو الحسن البصري...
كان الحسن جامعاً عالماً عالياً رفيعاً ثقةً مأموناً عابداً ناسكاً كبيرَ العلم فصيحاً جميلاً وسيماً... إن أردته عالماً فقيهاً، فلقد أفتى زمن الصحابة... وإن أردته محدثاً فهو من كبار المحدثين ... وإن أردته مفسراً لكتاب الله، فلا تكاد تجد صفحة من صفحات كتب التفسير بالأثر تخلو من رأي أو تفسير للحسن البصري...
وكان أشد الناس شبهاً بأصحاب رسول الله
قال لنا أبو قتادة عليكم بهذا الشيخ يعني - الحسن البصري - فإني والله ما رأيت رجلا قط أشبه رأياً بعمر بن الخطاب
وكان أحدهم يقول ما رأيت رجلاً قط لم يصحب النبي أشبه بأصحاب رسول الله من هذا الشيخ يعني الحسن
كان الحسن دائم الحزن، زاهداً في الدنيا، ذاكرأً الموت وما بعده... يشعر أنه قد فرّط في جنب الله
نطق بالحكمة وكان أكثر حكمه يدور حول الآخرة والإقبال عليها، والدنيا والتنفير منها...
كان يقول: فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحا...
ابن آدم... إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك...
ابن آدم... السكين تجذ والكبش يعتلف والتنور يسجر...
ابن آدم... أصبحت بين مطيتين لا يعرجان بك خطر الليل والنهار حتى تقدم الآخرة، فأما إلى الجنة وإما إلى النار فمن أعظم خطراً منك...
إن لله عز وجل عباداً كمن رأى أهلَ الجنةِ في الجنة مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار مخلدين... قلوبُهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة... صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة... أما الليل فمُصافّة أقدامُهُم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم: ربنا ربنا... وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء... كأنهم القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، أو خولطوا ولقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم...
لم يبق في قلبه خوف من أحد سوى الله... فلم يخف من الولاة والسلاطين، وكان ينصحهم ويذكرهم ولا يخاف في الله لومة لائم... وإليك هذا الموقف مع أحد ولاة العراق زمن بزيد بن عبد الملك... وهو يجمع الحكمة والموعظة في آن واحد...
لما ولي عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي، فأمر لهما ببيت وكانا فيه شهرا أو نحوه، ثم إن أحد الحرس غدا عليهما ذات يوم، فقال: إن الأمير داخل عليكما... فجاء عمر يتوكأ على عصا له فسلم ثم جلس معظما لهما. فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك ينفذ كتباً أعرف أن في إنفاذها الهلكة. فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله عز وجل. فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجاً؟
فال الحسن: يا أبا عمرو أجب الأمير... فتكلم الشعبي، فانحط في حبل ابن هبيرة...
فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ - أي الحسن البصري-
فقال: أيها الأمير قد قال الشعبي ما قد سمعت...
فألح عليه، قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟
فقال: أقول يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره. فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك...
يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد عبد الملك من الله عز وجل...
يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك...
يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة...
يا عمر بن هبيرة إني أخوِّفُكَ مقاماً خوفَكَهُ اللهُ تعالى، فقال: ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد...
يا عمر بن هبيرة إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه...
فبكى عمر وقام بعبرته...
في مستهل رجب سنة عشر ومائة للهجرة توفي الحسن البصري... وكان يغمى عليه عند موته ثم يقول: لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم...
وكانت جنازته مشهودة...
قال حميد الطويل توفي الحسن عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه... فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به... فلم تقم صلاة العصر بالجامع. ولا أعلم أنها تُرِكَت منذ كان الإسلام إلا يومئذ. لأنهم تبعوا كلهم الجنازة حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر...
أويس القَرَني
هو من أئمة التابعين ومن أئمة الزاهدين... أسلم زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لم يستطع القدوم إليه بسبب برِّهِ لأمه...
ليس له سوى إزار من صوف ورداء من صوف... ولقد أهدي له مرةً بردة فلبسها، فتعجب كل من رآه: تُرى من أين لأويس هذه البردة؟!... وكان في كثير من الأحيان لا يستطيع حضور الجمع والجماعات من العُري...
بشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة من حوله وأعطاهم اسمه وأوصافه ورغّبهم بلقائه... فكان عمر بن الخطاب يطلبه طلباً حثيثاً...
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أ فيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على
أويس... فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم... قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم... قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم... قال: أ لك والدة؟ قال: نعم... قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرّه. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل... فاستغفر لي... قال: فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة... قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبرات الناس أحب إلي...
وفي رواية عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة إن الله تعالى يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الأبرياء، الشعثة رؤوسهم، المغبرة وجوههم، الخمصة بطونهم إلا من كسب الحلال، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإن خطبوا المتنعمات لم يُنكحوا، وإن غابوا لم يُفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا، وإن طلعوا لم يُفرح بطلعتهم، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يُشهدوا. قالوا: يا رسول الله كيف لنا برجل منهم؟ قال: ذاك أويس القرني... قالوا: وما أويس القرني؟ قال: أشهل ذا صهوبة، بعيد ما بين المنكبين، معتدل القامة، آدم شديد الأدمة، ضارب بذقنه إلى صدره، رام بذقنه إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله، يتلو القرآن، يبكي على نفسه، ذو طمرين لا يؤبه له، متزر بإزار صوف ورداء صوف، مجهول في أهل الأرض معروف في أهل السماء، لو أقسم على الله لأبرّ قسمه، ألا وإن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء، ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد: أدخلوا الجنة... ويقال لأويس: قف فاشفع، فيشفع الله عز وجل في مثل عدد ربيعة ومضر!! يا عمر ويا علي إذا أنتما لقيتماه فاطلبا إليه أن يستغفر لكما يغفر الله تعالى لكما!!
ولم يصل إلينا من أخباره شيء كثير من شديد حرصه على الابتعاد عن أعين الناس...
يُروى أنه قتل في معركة صفين ضمن جيش عليٍّ رضي الله عنه ...
نادى رجل من أهل الشام يوم صفين: أ فيكم أويس القرني؟ قلنا: نعم، وما تريد منه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أويس القرني خير التابعين بإحسان...
الأحنف بن قيس
ذلك الذي ضرب العرب فيه المثل بالحلم...
ذلك قائد من قواد جيوش المشرق الذي فتح كبرى مدن خراسان... كبلخ ومرو وطوقان شاه وأقليم خوارزم
ذلك الذي أشار على عمر بن الخطاب رضي الله عنه استكمال الفتح وعدم التوقف بعدما أراد عمر الوقوف عنها... فانشرح صدره لذلك...
ذلك هو الأحنف بن قيس... أشرف رجل في قبيلته بني تميم وقائدها...
ذلك الذي استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم... قال الأحنف: بينا أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان، إذ لقيني رجل من بني ليث، فأخذ بيدي... فقال: ألا أبشرك... قلت: بلى... قال: أما تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومك بني سعد أدعوهم إلى الإسلام فجعلْتُ أخبرُهُم وأَعْرُضُ عليهم... فقلتَ: إنه يدعو إلى خيرٍ... وما أسْمَعَ إلا حسناً...
امتحنه سيدنا عمر بن الخطاب فحبسه سنة كاملة... ثم قال له عمر: قد بلوتك وخبرتك... فرأيت علانتيك حسنة... وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك... وإنا كنا نتحدث إنما يُهلِكُ هذه الأمة كلُّ منافقٍ عليمٍ...
وقد قدم الأحنف إلى عمر، فخطب فأعجب عمر منطقه... قال: كنت أخشى أن تكون منافقاً عالماً... فانحدر إلى مصرِكَ – أي بلدك- فإني أرجو أن تكون مؤمناً...
وقال عنه عمر مرة: هذا والله السيد!!!
روى ابن جدعان عن الحسن أن عمر كتب إلى أبي موسى: ائذن للأحنف بن قيس وشاوره واسمع منه...
أرأيت إلى كل هذه الصفات الكريمات... أرأيت إلى هذا الشرف الرفيع؟!...
لقد اجتمع له كل هذا... لكنه اجتمع له أيضاً من صفات القبح الشكلي والدمامة الشيء الكثير... وكان أعور أحنف- أي يمشي على ظهر قدميه ووحشيهما- دميماً قصيراً كان ضئيلاً صعل الرأس- أي صغير الرأس- متراكب الأسنان مائل الذقن ناتئ الوجنة باخق العين – منخسف العين - خفيف العارضين أحنف الرجلين... سبحان موزّع الصفات والمواهب...
ولقد سئل عنه أحد معاصريه فقال: إنه كان لا يشره ولا يحسد ولا يمنع حقاً... كان موفقاً للخير معصوماً عن الشر... كان أشد الناس على نفسه...
كان يكثر الصيام... واستمر ذلك حتى حين شاخ وكبر... فقيل للأحنف: إنك كبير والصوم يضعفك، قال: إني أعدّه لسفرٍ طويلٍ...
كان يتهجد بالليل كثيراً...
كان يضع المصباح قريباً منه ثم يقدم إصبعه إلى النار ثم يقول: يا أحنف ما حملك على ما فعلت في يوم كذا...
أيها الأخوة ليتنا نتعلم من سيدنا الأحنف هذه الخصلة...
أخي... أختي... لِمَ لا نجلس خلف مكتبنا ونتلمس أخطاءنا ذلك اليوم ونتلمس بإصبعنا مصباح مكتبنا... علَّهُ يذكرنا بحرارة جهنم... ونحاسب أنفسنا بقولنا: يا فلان ما حملك على ما فعلت في يوم كذا...
ووصل إلى مستوى رفيع جداً من حسن الخلق والحلم لا يطاوله أحد...
انظر ماذا قال زياد بن أبيه والي العراق حين لامه أحدهم في تقريب الأحنف ومعاشرته: يا قوم كيف لي بإطراح رجل هو يسايرني منذ دخلت العراق... ولم يصكك ركابي ركاباه قط... ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه... ولا تأخر عني فلويت إليه عنقي... ولا أخذ علي الروح في صيف قط... ولا الشمس في شتاء قط... ولا سألته عن شيء من العلوم إلا وظننته لا يحسن سواه...
ولقد اشتكى ابن أخ الأحنف إلى الأحنف بن قيس وجع ضرسه فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني أربعين سنة ما ذكرتها لأحد!!!... سبحان الله! أربعين سنة ما علم بهذا أحد... لم يشكُ ذلك لأحد سوى الله... وتلقاها بالصبر والرضا من الله تعالى...
تعلم ذلك من عمّه... قال الأحنف: شكوت إلى عمي مصيبة نزلت بي... فأسكتني ثلاثاً ثم قال لي: يا أبا بحر لا تشكُ الذي نزلَ بكَ إلى مخلوقٍ... فإنما هو صديقٌ تسوءُهُ... أو عدوٌ تسرُّهُ...
وتعلم الحلم تعلماً... وتلقاه دروساً من معلمه...كان يقول: ما تعلمتُ الحِلمَ إلا من قيس بن عاصم المنقري... لأنه قَتَلَ ابن أخٍ له بعض بنيه... فأُتِيَ بالقاتلِ مكتوفاً يُقادُ إليه... فقال: ذعرتم الفتى... ثم أقبل على الفتى فقال: يا بني بئسَ ما صَنعْتَ، نقَّصْتَ عددَكَ وأوهنت عَضُدَكَ وأشمتَّ عدوَّك وأسأت بقومك... خلّوا سبيله، واحملوا إلى أمِّ المقتولِ ديَّتَهُ فإنها غريبة... ثم انصرفَ القاتلُ وما حلَّ قيس حبوته ولا تغير وجهه...
وأخذ يدرب نفسه على الحلم تدريباً خاصاً... يقول الأحنف: ما نازعني أحدٌ إلا أخذت أمري بأمور... إن كان فوقي عرفت له(مكانته)... وإن كان دوني رفعت قدري عنه... وإن كان مثلي تفضلت عليه...
وقال: لست بحليم ولكني أتحالم...
وكان يقول إذا عجب الناس من حلمه: إني لأجد ما تجدون – أي أنه يجد في نفسه الغضب والغيظ والضيق- ولكني صبور...
فأثمر جهاده وصبره وتحالمه...
قيل إن رجلاً خاصمَ الأحنف وقال: لئن قلت واحدةً لتسمعن عشراً فقال: لكنك إن قلت عشراً لم تسمع واحدة...
وانظر إلى مقالاته ما أروعها وما أحكمها والتي تدل على عِظَمِ خُلُقِه:
عَجِبتُ لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر...
ثلاثٌ في ما أذكرهن إلا لمعتبر... ما أتيتُ بابَ سلطانٌ إلا أن أُدْعى... ولا دخلتُ بينَ اثنين حتى يُدخِلاني بينهما... وما أذكُرُ أحداً بعدَ أن يقومَ من عندي إلا بخيرٍ...
ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة... شريف من دنيء... وبَرٌّ من فاجر... وحليم من أحمق...
مَنْ أسرعَ إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون...
سُئِلَ: ما المروءة؟ قال: كتمانُ السر والبُعدُ من الشرّ...
الكاملُ مَن عُدَّتْ سقطاتُهُ...
رأس الأدبِ آلة المنطق... لا خير في قول بلا فعل... ولا في منظر بلا مخبر... ولا في مال بلا جود... ولا في صديق بلا وفاء... ولا في فقه بلا ورع... ولا في صدقة إلا بنية... ولا في حياة إلا بصحة وأمن...
َوجدْتُ الحلمَ أنصرُ لي من الرجال...
لا يتم أمر السلطان إلا بالوزراء والأعوان... ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة... ولا تنفع المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفة...
مات في الكوفة سنة سبع وستين للهجرة... بعد حياة ملؤها جهاد النفس وجهاد الأعداء وحسن الخلق والحِلم...
روي عن عبد الرحمن بن عمارة بن عقبة قال: حضرت جنازة الأحنف بالكوفة فكنت فيمن نزل قبره... فلما سويَّتُه رأيته قد فسح له مدَّ بصري... فأخبرت بذلك أصحابي فلم يروا ما رأيت...
قال زياد بن أبيه: الأحنف قد بلغ من الشرف والسؤدد ما لا تنفعه معه الولاية ولا تضره...
قال خالد بن صفوان: كان الأحنف بن قيس يفرّ من الشرف والشرف يتبعه...
قال الحسن البصري: ما رأيت شريفَ قومٍ كان أفضلَ من الأحنف...
رحمه الله ونسأل الله أن يمنّ علينا بخلق وأدب كالذي اتصف به الأحنف... ونسأله أن يحشرنا وإياه بجوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والعظماء الآخرين من الصحابة والتابعين... وأن يقبل مني هذه السطور من حياة التابعين... ويجعلها في ميزان حسناتنا... إنه واسع الكرم... يجزي بالحسنة عشراً ويتجاوز عن السيئة... سبحانه...
شريح القاضي
أسلم زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه...
التابعي الذي نتحدث عنه هو شريح بن الحارث الكندي القاضي... قدم من اليمن إلى المدينة في عهد خلافة الصديق رضي الله عنه
كان فقيهاً كبيراً... وكان يتجلى فقهه بالأحكام القضائية التي كان يُصدِرُها... كما قال ذلك التابعي الآخر مكحول: اختلفت إلى شريح أشهراً، لم أسأله عن شيء... اكتفي بما أسمعه يقضي به!!!
ويقول الشعبي: كان شريح أعلمهم بالقضاء
عيّنه عمر ليقضي في الكوفة بين الناس منذ أول يوم التقيا فيه... وها كم القصة:
اشترى عمر فرساً من رجلٍ على أن ينظر إليه... فأخذ الفرس فسار به فعطب... فقال لصاحب الفرس: خذ فرسك... فقال: لا... قال: فاجعل بيني وبينك حكماً... قال الرجل: شريح... قال: ومن شريح؟! قال: شريح العراقي... قال: فانطلقا اليه فقصا عليه القصة... فقال: يا أمير المؤمنين ردَّ كما أخذته، أو خُذْ بما ابتعته... فقال عمر: وهل القضاء إلا هذا!! سِرْ إلى الكوفة... فإنه لأول يوم عرفه يومئذ...
وكما كانت عادة عمر بن الخطاب مع ولاته وموظفيه... فهو لم يترك شريحاً دون توجيه وإرشاد... فقد أرسل إليه برسالة يبين له ويذكره بأسلوب القضاء ومنهجه فقال فيها: ((إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به... فإن لم يكن في كتاب الله وكان في سنة رسول الله فاقض به... فإن لم يكن فيهما فاقض بما قضى به أئمة الهدى... فإن لم يكن فأنت بالخيار إن شئت تجتهد رأيك، وإن شئت تؤامرني... ولا أرى مؤامرتك إياي إلا أسلم لك...))
ثم تلقى شهادة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: قم يا شريح فأنت أقضى العرب!!!
وهو ذلك القاضي الذي حكم ليهودي على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه... ادعى اليهودي أن درع علي رضي الله عنه له... فجاء علي بابنه الحسن شاهداً فلم يقبل شريح شهادة الابن لوالده... فقضى لليهودي... فأسلم ذلك اليهودي لما رأى من العدل واستشهد في إحدى معارك أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه...
أقام على قضاء الكوفة ستين سنة...
وقضى في البصرة سنة... فقال أحد سكانها: قدم شريح فقضى فينا سنة... فلم يقض فينا مثله قبله ولا بعده!!!
ثم قدم إلى دمشق زمن معاوية... وسُمِّي (( قاضي المصرَيْن))...
وكان إذا قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس علي غضاب...
وهذا أمر طبيعي لذلك القاضي... الذي يحكم لهذا على هذا... فلابد لمن سُلب منه شيء جراء حُكم القاضي أن يجد في نفسه شيئاً من عدم الرضا...
بل إنه حكم على ابن له بالسجن!!! فابنه قد كفل رجل، ولكن الرجل هرب... فأصدر الأب حكمه على ابنه... ثم كان يأتي ابنه بالطعام بنفسه وهو في سجنه...
وهناك قصة أخرى لأحد أبناء شريح: قال لأبيه: إن بيني وبين قوم خصومة... فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم، وإن لم يكن لي لم أخاصم... فقص قصته عليه... فقال شريح: انطلق فخاصمهم... فانطلق فخاصمهم فقضى على ابنه!!! فقال له لما رجع إلى أهله: فضحتني... فقال: يا بني والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم... ولكن الله هو أعز علي منك... خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فتذهب ببعض حقهم!!!...
انظروا أيها الأخوة والأخوات إلى العدل والقسط في أجلى معانيها... أرجو أيها الأخوة أن نتحلى بهذا العدل في أنفسنا... في أسرتنا... في عملنا... في جميع نواحي حياتنا... ولكن العدل يحتاج من إلى موضوعية و تثبت وتبين ورشد وضبط للأعصاب والعواطف... فهل نستطيع أن نعدل وأن نكون من المقسطين؟!...
كان شريح لا يسبقه أحد بالسلام...
كان شريح يجعل ميازيبه في داره- أي ميازيب المطر والميزاب هو مصرف لمياه المطر المتجمع على سطح الدار- ولا يسلطها إلى الشارع خشية أن تؤذي أحد المسلمين...
أرأيتم مدى حرصه على عدم إيذاء المارة من الناس... أريد أن أقف هنا لأقول لكم أننا يجب أن نخرج من إيماننا وعباداتنا بمزيد من القيم والأخلاق والسلوكيات وأن نتمتع بحساسية مرهفة تجاه الآخرين... نريد أخلاقاً تسير بيننا في أريد أن أقول أننا يجب أن نطبق آداب الإسلام التي تمثل المثالية... كل ضمن محيطه ودائرته... فلابد لهذه الدوائر أن تتقاطع وتندمج وتصبح هيكلاً واحداً... فهذه هي الطريق للنهوض بمجتمعاتنا... ولا نبالغ في هذا... فمجتمعاتنا ينخر فيها الفساد والسرقات في المستويات العليا في الدولة والرشوة وسيادة الأفكار العفنة... ولا تنمية تقوم على أسس الفساد... ولا يعالج الفساد إلا القيم والأخلاق السامية...
كان شريح شاعراً مجيداً...
من أقواله وأشعاره:
رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلت يميني حين أضرب زينبا
وزينب شمس والنساء كواكب إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا...
إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات... أحمد إذ لم يكن أعظم منها... وأحمد إذ رزقني الصب عليها... وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب... وأحمد إذ لم يجعلها في ديني...
كان شريح يقول للشاهدين في مجلس الحكم: إنما يقضي على هذا الرجل أنتما... وإني لمتق بكما... فاتقيا...
وكان يقول للذي يقضي له: أما والله إني لأقضي لك وإني لأرى أنك ظالم... ولكن لست أقضي بالظن، إنما أقضي بما يحضرني من البينة... وما يحل لك قضائي شيئاً حرَّمَهُ اللهُ عليك... انطلق...
استغنى من القضاء قبل موته بسنة رحمه الله تعالى...
عاش مئة وثماني سنين...
توفي سنة ثمان وسبعين للهجرة...
توفي في يومٍ حارّ... وأوصى أن يُصلَّى عليه بالجبانة... وأن لا يؤذن به أحداً... ولا تتبعه صائحة... وأن لا يجعل على قبره ثوب... وأن يسرع به السير... وأن يلحد له...
رحمه الله تعالى وجمعنا معه في أعلى عليين...
مسروق بن الأجدع
أسلم زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربى عند أم المؤمنين العالمة عائشة رضي الله عنها... وكان يكنى بأبي عائشة... فقد سمّى ابنته بهذا الاسم...
هذا التابعي كان أعلم بالفتوى من شريح القاضي- رغم مكانة شريح العلمية... كان شريح يستشيره، وهو لا يستشير شريحاً أبداً كما قال الشعبي!!!
هذا هو مسروق بن الأجدع الهمداني... وهو ابن أخت عمرو بن معد يكرب...
سُمي مسروقاً لأنه سُرِق وهو صغير ثم وُجِدَ...
صاحب وروى عن أبي بن كعب وعمر وعن أبي بكر الصديق إن صح وعن أم رومان ومعاذ ابن جبل وخباب وعائشة وابن مسعود وعثمان وعلي وعبد الله بن عمرو وابن عمر وسبيعة ومعقل بن سنان والمغيرة بن شعبة وزيد رضي الله عنهم أجمعين...
قال الشعبي – وهو يدل علل همة مسروق في طلب العلم: ما علمت أن أحداً كان أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق!!!...
وقال الشعبي: لما قدم عبيد الله بن زياد الكوفة قال: من أفضل الناس؟ قالوا له: مسروق!!...
وقال ابن المديني: ما أقدّم على مسروق أحداً من أصحاب عبد الله – أي عبد الله بن مسعود... صلى خلف أبي بكر!!!...
وعن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم مسروق بن الأجدع!!...وكانت عائشة تقول: يا مسروق إنك من ولدي وإنك لمن أحبهم إلي!!
وقال يحيى بن معين: مسروق ثقة لا يسأل عن مثله!!!...
وبالإضافة لكونه يعلم الناس الشريعة ويفتي لهم... كان يعلم الناس القرآن ويقرئهم إياه...
جاهد وشارك في معركة القادسية فشُلَّت يدُه...
وكانت له همة للعبادة عجيبة جداً...
روي عن ابن سيرين أن امرأة مسروق قالت: كان يصلى حتى تورم قدماه!!!... فربما جلست خلفه أبكى مما أراه يصنع بنفسه...
وكان مسروق يصلي بالناس في رمضان فيقرأ العنكبوت في ركعة...
هذه من ناحية الصلاة أما الحج... فقد حج مسروق فما نام إلا ساجداً على وجهه!!!...
أما الصيام فكان يجتهد فيه... حتى غُشي عليه في يوم صائف فنزلت إليه ابنته عائشة – وكان لا يعصي لها طلباً! – فقالت: يا أبتاه أفطر واشرب... قال: ما أردت بي يا بنية؟ قالت: الرفق... قال: يا بنية إنما طلبْتُ الرفقَ لنفسي في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة!!!...
اسمحوا لي أن أقف هنا أمام هذه اللقطة الجميلة من حياة هذا العالم الجليل... اسمحوا لي أن نقف أمام العلاقة المتميزة بين الأب مع ابنته... كان لا يعصي لها طلباً...
هذا يدل أين وصل حبه ولطفه بها...
ويدل أيضاً على مدى رعايته لها وتأمين طلباتها وحاجاتها – ضمن حدود الشرع الواسع – فذلك يؤدي إلى تفتح مدارك البنت وصقل موهبها الكامنة... وهذا ضروري جداً لبناء شخصية الفتاة المسلمة...
ثم نلتفت إلى الحوار الذي دار بينهما... لقد أصبحت ابنته بمثابة الصديقة والصاحبة المقرَّبة... ناقشته في أمر من أمور العبادة – وهذه الأمور قد تكون شخصية عند بعض الأشخاص وتثير بعض الحساسية... وبما أنه لا يعصي لها طلباً... فلم يقل لها: هذا أمر لا يخصك فلا تناقشيني فيه...
بل تدرّج معها بالمنطق، وأخذها خطوة خطوة في الحوار حتى وصلا ((سوية)) إلى قناعة واحدة... بأن ما يفعله هو الصواب...
ورغم أننا قلنا أن العلاقة ارتفعت إلى مستوى الصداقة، نلاحظ المحافظة على الأدب الجمّ واللطف في الحوار بين الوالد وابنته... يا أبتاه... يا بنية... وهذه من أرق الأساليب في الحوار وأكثرها أدباً...
أرسلت أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين جاريةً لها في بعض أمورها... فتركت تلك الجارية طفلها ومضت... ولكن الطفل بدأ يبكي بكاءً شديداً، فرقّت عليه أم سلمة رضي الله عنها ، فما كان منها إلا أن وضعته على صدرها وأعطته ثديها تُعلِّله به إلى أن تجيء أمه... فدرَّ عليه اللبن فشربه... وشرب معه الحكمة والفصاحة
وُلد ذلك الصبي في خلافة عمر بن الخطاب... فدعا له عمر رضي الله عنه أن يفقهه ويرزقه العلم...
فنال بركتين... بركة نشأته تربيته عند أم المؤمنين أم سلمة، وبركة دعاء عمر بن الخطاب
ذلك هو الحسن البصري...
كان الحسن جامعاً عالماً عالياً رفيعاً ثقةً مأموناً عابداً ناسكاً كبيرَ العلم فصيحاً جميلاً وسيماً... إن أردته عالماً فقيهاً، فلقد أفتى زمن الصحابة... وإن أردته محدثاً فهو من كبار المحدثين ... وإن أردته مفسراً لكتاب الله، فلا تكاد تجد صفحة من صفحات كتب التفسير بالأثر تخلو من رأي أو تفسير للحسن البصري...
وكان أشد الناس شبهاً بأصحاب رسول الله
قال لنا أبو قتادة عليكم بهذا الشيخ يعني - الحسن البصري - فإني والله ما رأيت رجلا قط أشبه رأياً بعمر بن الخطاب
وكان أحدهم يقول ما رأيت رجلاً قط لم يصحب النبي أشبه بأصحاب رسول الله من هذا الشيخ يعني الحسن
كان الحسن دائم الحزن، زاهداً في الدنيا، ذاكرأً الموت وما بعده... يشعر أنه قد فرّط في جنب الله
نطق بالحكمة وكان أكثر حكمه يدور حول الآخرة والإقبال عليها، والدنيا والتنفير منها...
كان يقول: فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحا...
ابن آدم... إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك...
ابن آدم... السكين تجذ والكبش يعتلف والتنور يسجر...
ابن آدم... أصبحت بين مطيتين لا يعرجان بك خطر الليل والنهار حتى تقدم الآخرة، فأما إلى الجنة وإما إلى النار فمن أعظم خطراً منك...
إن لله عز وجل عباداً كمن رأى أهلَ الجنةِ في الجنة مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار مخلدين... قلوبُهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة... صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة... أما الليل فمُصافّة أقدامُهُم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم: ربنا ربنا... وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء... كأنهم القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، أو خولطوا ولقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم...
لم يبق في قلبه خوف من أحد سوى الله... فلم يخف من الولاة والسلاطين، وكان ينصحهم ويذكرهم ولا يخاف في الله لومة لائم... وإليك هذا الموقف مع أحد ولاة العراق زمن بزيد بن عبد الملك... وهو يجمع الحكمة والموعظة في آن واحد...
لما ولي عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي، فأمر لهما ببيت وكانا فيه شهرا أو نحوه، ثم إن أحد الحرس غدا عليهما ذات يوم، فقال: إن الأمير داخل عليكما... فجاء عمر يتوكأ على عصا له فسلم ثم جلس معظما لهما. فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك ينفذ كتباً أعرف أن في إنفاذها الهلكة. فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله عز وجل. فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجاً؟
فال الحسن: يا أبا عمرو أجب الأمير... فتكلم الشعبي، فانحط في حبل ابن هبيرة...
فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ - أي الحسن البصري-
فقال: أيها الأمير قد قال الشعبي ما قد سمعت...
فألح عليه، قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟
فقال: أقول يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره. فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك...
يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد عبد الملك من الله عز وجل...
يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك...
يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة...
يا عمر بن هبيرة إني أخوِّفُكَ مقاماً خوفَكَهُ اللهُ تعالى، فقال: ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد...
يا عمر بن هبيرة إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه...
فبكى عمر وقام بعبرته...
في مستهل رجب سنة عشر ومائة للهجرة توفي الحسن البصري... وكان يغمى عليه عند موته ثم يقول: لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم...
وكانت جنازته مشهودة...
قال حميد الطويل توفي الحسن عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه... فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به... فلم تقم صلاة العصر بالجامع. ولا أعلم أنها تُرِكَت منذ كان الإسلام إلا يومئذ. لأنهم تبعوا كلهم الجنازة حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر...
أويس القَرَني
هو من أئمة التابعين ومن أئمة الزاهدين... أسلم زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لم يستطع القدوم إليه بسبب برِّهِ لأمه...
ليس له سوى إزار من صوف ورداء من صوف... ولقد أهدي له مرةً بردة فلبسها، فتعجب كل من رآه: تُرى من أين لأويس هذه البردة؟!... وكان في كثير من الأحيان لا يستطيع حضور الجمع والجماعات من العُري...
بشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة من حوله وأعطاهم اسمه وأوصافه ورغّبهم بلقائه... فكان عمر بن الخطاب يطلبه طلباً حثيثاً...
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أ فيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على
أويس... فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم... قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم... قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم... قال: أ لك والدة؟ قال: نعم... قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرّه. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل... فاستغفر لي... قال: فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة... قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبرات الناس أحب إلي...
وفي رواية عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة إن الله تعالى يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الأبرياء، الشعثة رؤوسهم، المغبرة وجوههم، الخمصة بطونهم إلا من كسب الحلال، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإن خطبوا المتنعمات لم يُنكحوا، وإن غابوا لم يُفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا، وإن طلعوا لم يُفرح بطلعتهم، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يُشهدوا. قالوا: يا رسول الله كيف لنا برجل منهم؟ قال: ذاك أويس القرني... قالوا: وما أويس القرني؟ قال: أشهل ذا صهوبة، بعيد ما بين المنكبين، معتدل القامة، آدم شديد الأدمة، ضارب بذقنه إلى صدره، رام بذقنه إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله، يتلو القرآن، يبكي على نفسه، ذو طمرين لا يؤبه له، متزر بإزار صوف ورداء صوف، مجهول في أهل الأرض معروف في أهل السماء، لو أقسم على الله لأبرّ قسمه، ألا وإن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء، ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد: أدخلوا الجنة... ويقال لأويس: قف فاشفع، فيشفع الله عز وجل في مثل عدد ربيعة ومضر!! يا عمر ويا علي إذا أنتما لقيتماه فاطلبا إليه أن يستغفر لكما يغفر الله تعالى لكما!!
ولم يصل إلينا من أخباره شيء كثير من شديد حرصه على الابتعاد عن أعين الناس...
يُروى أنه قتل في معركة صفين ضمن جيش عليٍّ رضي الله عنه ...
نادى رجل من أهل الشام يوم صفين: أ فيكم أويس القرني؟ قلنا: نعم، وما تريد منه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أويس القرني خير التابعين بإحسان...
الأحنف بن قيس
ذلك الذي ضرب العرب فيه المثل بالحلم...
ذلك قائد من قواد جيوش المشرق الذي فتح كبرى مدن خراسان... كبلخ ومرو وطوقان شاه وأقليم خوارزم
ذلك الذي أشار على عمر بن الخطاب رضي الله عنه استكمال الفتح وعدم التوقف بعدما أراد عمر الوقوف عنها... فانشرح صدره لذلك...
ذلك هو الأحنف بن قيس... أشرف رجل في قبيلته بني تميم وقائدها...
ذلك الذي استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم... قال الأحنف: بينا أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان، إذ لقيني رجل من بني ليث، فأخذ بيدي... فقال: ألا أبشرك... قلت: بلى... قال: أما تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومك بني سعد أدعوهم إلى الإسلام فجعلْتُ أخبرُهُم وأَعْرُضُ عليهم... فقلتَ: إنه يدعو إلى خيرٍ... وما أسْمَعَ إلا حسناً...
امتحنه سيدنا عمر بن الخطاب فحبسه سنة كاملة... ثم قال له عمر: قد بلوتك وخبرتك... فرأيت علانتيك حسنة... وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك... وإنا كنا نتحدث إنما يُهلِكُ هذه الأمة كلُّ منافقٍ عليمٍ...
وقد قدم الأحنف إلى عمر، فخطب فأعجب عمر منطقه... قال: كنت أخشى أن تكون منافقاً عالماً... فانحدر إلى مصرِكَ – أي بلدك- فإني أرجو أن تكون مؤمناً...
وقال عنه عمر مرة: هذا والله السيد!!!
روى ابن جدعان عن الحسن أن عمر كتب إلى أبي موسى: ائذن للأحنف بن قيس وشاوره واسمع منه...
أرأيت إلى كل هذه الصفات الكريمات... أرأيت إلى هذا الشرف الرفيع؟!...
لقد اجتمع له كل هذا... لكنه اجتمع له أيضاً من صفات القبح الشكلي والدمامة الشيء الكثير... وكان أعور أحنف- أي يمشي على ظهر قدميه ووحشيهما- دميماً قصيراً كان ضئيلاً صعل الرأس- أي صغير الرأس- متراكب الأسنان مائل الذقن ناتئ الوجنة باخق العين – منخسف العين - خفيف العارضين أحنف الرجلين... سبحان موزّع الصفات والمواهب...
ولقد سئل عنه أحد معاصريه فقال: إنه كان لا يشره ولا يحسد ولا يمنع حقاً... كان موفقاً للخير معصوماً عن الشر... كان أشد الناس على نفسه...
كان يكثر الصيام... واستمر ذلك حتى حين شاخ وكبر... فقيل للأحنف: إنك كبير والصوم يضعفك، قال: إني أعدّه لسفرٍ طويلٍ...
كان يتهجد بالليل كثيراً...
كان يضع المصباح قريباً منه ثم يقدم إصبعه إلى النار ثم يقول: يا أحنف ما حملك على ما فعلت في يوم كذا...
أيها الأخوة ليتنا نتعلم من سيدنا الأحنف هذه الخصلة...
أخي... أختي... لِمَ لا نجلس خلف مكتبنا ونتلمس أخطاءنا ذلك اليوم ونتلمس بإصبعنا مصباح مكتبنا... علَّهُ يذكرنا بحرارة جهنم... ونحاسب أنفسنا بقولنا: يا فلان ما حملك على ما فعلت في يوم كذا...
ووصل إلى مستوى رفيع جداً من حسن الخلق والحلم لا يطاوله أحد...
انظر ماذا قال زياد بن أبيه والي العراق حين لامه أحدهم في تقريب الأحنف ومعاشرته: يا قوم كيف لي بإطراح رجل هو يسايرني منذ دخلت العراق... ولم يصكك ركابي ركاباه قط... ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه... ولا تأخر عني فلويت إليه عنقي... ولا أخذ علي الروح في صيف قط... ولا الشمس في شتاء قط... ولا سألته عن شيء من العلوم إلا وظننته لا يحسن سواه...
ولقد اشتكى ابن أخ الأحنف إلى الأحنف بن قيس وجع ضرسه فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني أربعين سنة ما ذكرتها لأحد!!!... سبحان الله! أربعين سنة ما علم بهذا أحد... لم يشكُ ذلك لأحد سوى الله... وتلقاها بالصبر والرضا من الله تعالى...
تعلم ذلك من عمّه... قال الأحنف: شكوت إلى عمي مصيبة نزلت بي... فأسكتني ثلاثاً ثم قال لي: يا أبا بحر لا تشكُ الذي نزلَ بكَ إلى مخلوقٍ... فإنما هو صديقٌ تسوءُهُ... أو عدوٌ تسرُّهُ...
وتعلم الحلم تعلماً... وتلقاه دروساً من معلمه...كان يقول: ما تعلمتُ الحِلمَ إلا من قيس بن عاصم المنقري... لأنه قَتَلَ ابن أخٍ له بعض بنيه... فأُتِيَ بالقاتلِ مكتوفاً يُقادُ إليه... فقال: ذعرتم الفتى... ثم أقبل على الفتى فقال: يا بني بئسَ ما صَنعْتَ، نقَّصْتَ عددَكَ وأوهنت عَضُدَكَ وأشمتَّ عدوَّك وأسأت بقومك... خلّوا سبيله، واحملوا إلى أمِّ المقتولِ ديَّتَهُ فإنها غريبة... ثم انصرفَ القاتلُ وما حلَّ قيس حبوته ولا تغير وجهه...
وأخذ يدرب نفسه على الحلم تدريباً خاصاً... يقول الأحنف: ما نازعني أحدٌ إلا أخذت أمري بأمور... إن كان فوقي عرفت له(مكانته)... وإن كان دوني رفعت قدري عنه... وإن كان مثلي تفضلت عليه...
وقال: لست بحليم ولكني أتحالم...
وكان يقول إذا عجب الناس من حلمه: إني لأجد ما تجدون – أي أنه يجد في نفسه الغضب والغيظ والضيق- ولكني صبور...
فأثمر جهاده وصبره وتحالمه...
قيل إن رجلاً خاصمَ الأحنف وقال: لئن قلت واحدةً لتسمعن عشراً فقال: لكنك إن قلت عشراً لم تسمع واحدة...
وانظر إلى مقالاته ما أروعها وما أحكمها والتي تدل على عِظَمِ خُلُقِه:
عَجِبتُ لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر...
ثلاثٌ في ما أذكرهن إلا لمعتبر... ما أتيتُ بابَ سلطانٌ إلا أن أُدْعى... ولا دخلتُ بينَ اثنين حتى يُدخِلاني بينهما... وما أذكُرُ أحداً بعدَ أن يقومَ من عندي إلا بخيرٍ...
ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة... شريف من دنيء... وبَرٌّ من فاجر... وحليم من أحمق...
مَنْ أسرعَ إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون...
سُئِلَ: ما المروءة؟ قال: كتمانُ السر والبُعدُ من الشرّ...
الكاملُ مَن عُدَّتْ سقطاتُهُ...
رأس الأدبِ آلة المنطق... لا خير في قول بلا فعل... ولا في منظر بلا مخبر... ولا في مال بلا جود... ولا في صديق بلا وفاء... ولا في فقه بلا ورع... ولا في صدقة إلا بنية... ولا في حياة إلا بصحة وأمن...
َوجدْتُ الحلمَ أنصرُ لي من الرجال...
لا يتم أمر السلطان إلا بالوزراء والأعوان... ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة... ولا تنفع المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفة...
مات في الكوفة سنة سبع وستين للهجرة... بعد حياة ملؤها جهاد النفس وجهاد الأعداء وحسن الخلق والحِلم...
روي عن عبد الرحمن بن عمارة بن عقبة قال: حضرت جنازة الأحنف بالكوفة فكنت فيمن نزل قبره... فلما سويَّتُه رأيته قد فسح له مدَّ بصري... فأخبرت بذلك أصحابي فلم يروا ما رأيت...
قال زياد بن أبيه: الأحنف قد بلغ من الشرف والسؤدد ما لا تنفعه معه الولاية ولا تضره...
قال خالد بن صفوان: كان الأحنف بن قيس يفرّ من الشرف والشرف يتبعه...
قال الحسن البصري: ما رأيت شريفَ قومٍ كان أفضلَ من الأحنف...
رحمه الله ونسأل الله أن يمنّ علينا بخلق وأدب كالذي اتصف به الأحنف... ونسأله أن يحشرنا وإياه بجوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والعظماء الآخرين من الصحابة والتابعين... وأن يقبل مني هذه السطور من حياة التابعين... ويجعلها في ميزان حسناتنا... إنه واسع الكرم... يجزي بالحسنة عشراً ويتجاوز عن السيئة... سبحانه...
شريح القاضي
أسلم زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه...
التابعي الذي نتحدث عنه هو شريح بن الحارث الكندي القاضي... قدم من اليمن إلى المدينة في عهد خلافة الصديق رضي الله عنه
كان فقيهاً كبيراً... وكان يتجلى فقهه بالأحكام القضائية التي كان يُصدِرُها... كما قال ذلك التابعي الآخر مكحول: اختلفت إلى شريح أشهراً، لم أسأله عن شيء... اكتفي بما أسمعه يقضي به!!!
ويقول الشعبي: كان شريح أعلمهم بالقضاء
عيّنه عمر ليقضي في الكوفة بين الناس منذ أول يوم التقيا فيه... وها كم القصة:
اشترى عمر فرساً من رجلٍ على أن ينظر إليه... فأخذ الفرس فسار به فعطب... فقال لصاحب الفرس: خذ فرسك... فقال: لا... قال: فاجعل بيني وبينك حكماً... قال الرجل: شريح... قال: ومن شريح؟! قال: شريح العراقي... قال: فانطلقا اليه فقصا عليه القصة... فقال: يا أمير المؤمنين ردَّ كما أخذته، أو خُذْ بما ابتعته... فقال عمر: وهل القضاء إلا هذا!! سِرْ إلى الكوفة... فإنه لأول يوم عرفه يومئذ...
وكما كانت عادة عمر بن الخطاب مع ولاته وموظفيه... فهو لم يترك شريحاً دون توجيه وإرشاد... فقد أرسل إليه برسالة يبين له ويذكره بأسلوب القضاء ومنهجه فقال فيها: ((إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به... فإن لم يكن في كتاب الله وكان في سنة رسول الله فاقض به... فإن لم يكن فيهما فاقض بما قضى به أئمة الهدى... فإن لم يكن فأنت بالخيار إن شئت تجتهد رأيك، وإن شئت تؤامرني... ولا أرى مؤامرتك إياي إلا أسلم لك...))
ثم تلقى شهادة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: قم يا شريح فأنت أقضى العرب!!!
وهو ذلك القاضي الذي حكم ليهودي على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه... ادعى اليهودي أن درع علي رضي الله عنه له... فجاء علي بابنه الحسن شاهداً فلم يقبل شريح شهادة الابن لوالده... فقضى لليهودي... فأسلم ذلك اليهودي لما رأى من العدل واستشهد في إحدى معارك أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه...
أقام على قضاء الكوفة ستين سنة...
وقضى في البصرة سنة... فقال أحد سكانها: قدم شريح فقضى فينا سنة... فلم يقض فينا مثله قبله ولا بعده!!!
ثم قدم إلى دمشق زمن معاوية... وسُمِّي (( قاضي المصرَيْن))...
وكان إذا قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس علي غضاب...
وهذا أمر طبيعي لذلك القاضي... الذي يحكم لهذا على هذا... فلابد لمن سُلب منه شيء جراء حُكم القاضي أن يجد في نفسه شيئاً من عدم الرضا...
بل إنه حكم على ابن له بالسجن!!! فابنه قد كفل رجل، ولكن الرجل هرب... فأصدر الأب حكمه على ابنه... ثم كان يأتي ابنه بالطعام بنفسه وهو في سجنه...
وهناك قصة أخرى لأحد أبناء شريح: قال لأبيه: إن بيني وبين قوم خصومة... فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم، وإن لم يكن لي لم أخاصم... فقص قصته عليه... فقال شريح: انطلق فخاصمهم... فانطلق فخاصمهم فقضى على ابنه!!! فقال له لما رجع إلى أهله: فضحتني... فقال: يا بني والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم... ولكن الله هو أعز علي منك... خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فتذهب ببعض حقهم!!!...
انظروا أيها الأخوة والأخوات إلى العدل والقسط في أجلى معانيها... أرجو أيها الأخوة أن نتحلى بهذا العدل في أنفسنا... في أسرتنا... في عملنا... في جميع نواحي حياتنا... ولكن العدل يحتاج من إلى موضوعية و تثبت وتبين ورشد وضبط للأعصاب والعواطف... فهل نستطيع أن نعدل وأن نكون من المقسطين؟!...
كان شريح لا يسبقه أحد بالسلام...
كان شريح يجعل ميازيبه في داره- أي ميازيب المطر والميزاب هو مصرف لمياه المطر المتجمع على سطح الدار- ولا يسلطها إلى الشارع خشية أن تؤذي أحد المسلمين...
أرأيتم مدى حرصه على عدم إيذاء المارة من الناس... أريد أن أقف هنا لأقول لكم أننا يجب أن نخرج من إيماننا وعباداتنا بمزيد من القيم والأخلاق والسلوكيات وأن نتمتع بحساسية مرهفة تجاه الآخرين... نريد أخلاقاً تسير بيننا في أريد أن أقول أننا يجب أن نطبق آداب الإسلام التي تمثل المثالية... كل ضمن محيطه ودائرته... فلابد لهذه الدوائر أن تتقاطع وتندمج وتصبح هيكلاً واحداً... فهذه هي الطريق للنهوض بمجتمعاتنا... ولا نبالغ في هذا... فمجتمعاتنا ينخر فيها الفساد والسرقات في المستويات العليا في الدولة والرشوة وسيادة الأفكار العفنة... ولا تنمية تقوم على أسس الفساد... ولا يعالج الفساد إلا القيم والأخلاق السامية...
كان شريح شاعراً مجيداً...
من أقواله وأشعاره:
رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلت يميني حين أضرب زينبا
وزينب شمس والنساء كواكب إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا...
إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات... أحمد إذ لم يكن أعظم منها... وأحمد إذ رزقني الصب عليها... وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب... وأحمد إذ لم يجعلها في ديني...
كان شريح يقول للشاهدين في مجلس الحكم: إنما يقضي على هذا الرجل أنتما... وإني لمتق بكما... فاتقيا...
وكان يقول للذي يقضي له: أما والله إني لأقضي لك وإني لأرى أنك ظالم... ولكن لست أقضي بالظن، إنما أقضي بما يحضرني من البينة... وما يحل لك قضائي شيئاً حرَّمَهُ اللهُ عليك... انطلق...
استغنى من القضاء قبل موته بسنة رحمه الله تعالى...
عاش مئة وثماني سنين...
توفي سنة ثمان وسبعين للهجرة...
توفي في يومٍ حارّ... وأوصى أن يُصلَّى عليه بالجبانة... وأن لا يؤذن به أحداً... ولا تتبعه صائحة... وأن لا يجعل على قبره ثوب... وأن يسرع به السير... وأن يلحد له...
رحمه الله تعالى وجمعنا معه في أعلى عليين...
مسروق بن الأجدع
أسلم زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربى عند أم المؤمنين العالمة عائشة رضي الله عنها... وكان يكنى بأبي عائشة... فقد سمّى ابنته بهذا الاسم...
هذا التابعي كان أعلم بالفتوى من شريح القاضي- رغم مكانة شريح العلمية... كان شريح يستشيره، وهو لا يستشير شريحاً أبداً كما قال الشعبي!!!
هذا هو مسروق بن الأجدع الهمداني... وهو ابن أخت عمرو بن معد يكرب...
سُمي مسروقاً لأنه سُرِق وهو صغير ثم وُجِدَ...
صاحب وروى عن أبي بن كعب وعمر وعن أبي بكر الصديق إن صح وعن أم رومان ومعاذ ابن جبل وخباب وعائشة وابن مسعود وعثمان وعلي وعبد الله بن عمرو وابن عمر وسبيعة ومعقل بن سنان والمغيرة بن شعبة وزيد رضي الله عنهم أجمعين...
قال الشعبي – وهو يدل علل همة مسروق في طلب العلم: ما علمت أن أحداً كان أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق!!!...
وقال الشعبي: لما قدم عبيد الله بن زياد الكوفة قال: من أفضل الناس؟ قالوا له: مسروق!!...
وقال ابن المديني: ما أقدّم على مسروق أحداً من أصحاب عبد الله – أي عبد الله بن مسعود... صلى خلف أبي بكر!!!...
وعن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم مسروق بن الأجدع!!...وكانت عائشة تقول: يا مسروق إنك من ولدي وإنك لمن أحبهم إلي!!
وقال يحيى بن معين: مسروق ثقة لا يسأل عن مثله!!!...
وبالإضافة لكونه يعلم الناس الشريعة ويفتي لهم... كان يعلم الناس القرآن ويقرئهم إياه...
جاهد وشارك في معركة القادسية فشُلَّت يدُه...
وكانت له همة للعبادة عجيبة جداً...
روي عن ابن سيرين أن امرأة مسروق قالت: كان يصلى حتى تورم قدماه!!!... فربما جلست خلفه أبكى مما أراه يصنع بنفسه...
وكان مسروق يصلي بالناس في رمضان فيقرأ العنكبوت في ركعة...
هذه من ناحية الصلاة أما الحج... فقد حج مسروق فما نام إلا ساجداً على وجهه!!!...
أما الصيام فكان يجتهد فيه... حتى غُشي عليه في يوم صائف فنزلت إليه ابنته عائشة – وكان لا يعصي لها طلباً! – فقالت: يا أبتاه أفطر واشرب... قال: ما أردت بي يا بنية؟ قالت: الرفق... قال: يا بنية إنما طلبْتُ الرفقَ لنفسي في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة!!!...
اسمحوا لي أن أقف هنا أمام هذه اللقطة الجميلة من حياة هذا العالم الجليل... اسمحوا لي أن نقف أمام العلاقة المتميزة بين الأب مع ابنته... كان لا يعصي لها طلباً...
هذا يدل أين وصل حبه ولطفه بها...
ويدل أيضاً على مدى رعايته لها وتأمين طلباتها وحاجاتها – ضمن حدود الشرع الواسع – فذلك يؤدي إلى تفتح مدارك البنت وصقل موهبها الكامنة... وهذا ضروري جداً لبناء شخصية الفتاة المسلمة...
ثم نلتفت إلى الحوار الذي دار بينهما... لقد أصبحت ابنته بمثابة الصديقة والصاحبة المقرَّبة... ناقشته في أمر من أمور العبادة – وهذه الأمور قد تكون شخصية عند بعض الأشخاص وتثير بعض الحساسية... وبما أنه لا يعصي لها طلباً... فلم يقل لها: هذا أمر لا يخصك فلا تناقشيني فيه...
بل تدرّج معها بالمنطق، وأخذها خطوة خطوة في الحوار حتى وصلا ((سوية)) إلى قناعة واحدة... بأن ما يفعله هو الصواب...
ورغم أننا قلنا أن العلاقة ارتفعت إلى مستوى الصداقة، نلاحظ المحافظة على الأدب الجمّ واللطف في الحوار بين الوالد وابنته... يا أبتاه... يا بنية... وهذه من أرق الأساليب في الحوار وأكثرها أدباً...