PDA

View Full Version : رسالة((التوابع والزوابع)).....لإبن شهيد الأندلسي.


ابن الرومي
31-01-2001, 06:08 AM
وهي قصة خيالية كتبها ((ابن شهيد الأندلسي)) يحكي فيها رحلةً قام
بها في أرض الجن، بصحبة جنيٍّ اسماه زهير بن نمير، وقد اتصل خلال هذه الرحلة بتوابع الشعراء والكتاب، فناظرهم وناظروه، وناقشهم وناقشوه، وعرض عليهم آرائه ونماذج من شعره، فنال إجازتهم بالتفوق، وكسب اعجابهم، عوضاً عمَّا ما في القصة من الفكاهات والدعابات والطرائف.
واختيار ابن شهيد لرسالته اسم ((التوابع والزوابع)) لأنه استوحاها من عالم الجن وأبطالها من الشياطين.....فالتوابع هو جمع تابع وتابعة وهو الجنيُّ والجنية، أما الزوابع فهو جمع زوبعة
وهو اسم شيطان أو رئيس الجن ومنه سمي الإعصار زوبعة....
"
"
"
"
أهمية الرسالة:
وتعود أهمية الرسالة لوجود أوجه شبهٍ كثيرة بين ((التوابع والزوابع)) وبين رسالة((الغفران)) لأبي العلاء المعري دعت الباحثين للحديث عن التأثير بين الرسالتين، وتاريخ كتابة كلٍ منهما فمنهم من يقول إن ابن شهيد تأثر بالمعري ومنهم من يقول العكس.....
إن الإشارات الواردة في رسالة الغفران تؤكد أن المعري كتبها سنة 424هــ، أما رسالة التوابع والزوابع فكتبت بين عامي 414-415هـ
اذاً من الممكن أن يكون المعري قد اطلع على التوابع والزوابع واستفاد منها، لأن نتاج ابن شهيد الأندلسي كان منتشراً في المشرق والمغرب في ذاك الوقت.
ومن المستبعد أن يكون ابن شهيد قد تأثر برسالة الغفران لأن رسالته سابقةٌ لها.
وأصل القصة وفكرتها المستمدة من العالم الآخر في الرسالتين يعتمد على القرآن الكريم ومعراج الرسول صلى الله عليه وسلم، والآيات الكثيرة في وصف الجنة والنار، وكل هذه العناصر هي أصل عام في الرسالتين، فليس من الضروري أن يكون هناك تأثير بين الرسالتين لأن الفكرة فيهما ليست غريبة عن العقلية الإسلامية.
"
"
"
"
"
ترجمة ابن شهيد:

هو أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد بن عيسى بن شهيد بن الوضاح الأندلسي القرطبي.
وأسرة بني شهيد من أكبر وأشهر الأسر الأندلسية في عصر سيادة قرطبة، وقد كان في أيدي الكثير من أبناءها المناصب من قبل خلفاء بني أمية من الحجابة والوزارة والقيادة والكتابة حتى سقوط الخلافة الأموية في الأندلس .....
وبعض المؤرخين جعل لهذه الأسرة نسباً عربياً، ولكن البعض منهم من أمثال الرازي، وابن حيان يذكرون أن الوضاح جدهم الأكبر كان مولىً
لمعاوية ابن مروان ابن الحكم، ولعل هذا هو الصواب لأن ابن حزم لم يشر اليهم في حديثه عن القبائل العربية التي استقرت في الأندلس في كتابه الشهير((جمهرة أنساب العرب)) هذا على الرغم من أن أبو عامر بن شهيد كاتب الرسالة التي نحن بصددها كان معاصراً له بل وصديقه أيضاً، والمقري صاحب كتاب((نفح الطيب)) يقول(( وكان شهيد بن عيسى بن شهيد مولى معاوية بن مروان بن الحكم، وكان من سبي البرابر، وقيل أنه رومي، وبني شهيد الفضلاء من نسله)).
وقد كان جدهم شهيد بن عيسى، الذين ينسبون اليه هو الداخل الى الأندلس مع عبدالرحمن بن معاوية((الداخل))، وكان وثيق الصلة بالأمير الأموي، فقد كان يستخلفه على قصره حين خروجه لإخماد الفتن الناشبة في الأندلس، هذا وقد أوكل له محاربة بعض الخارجين عليه أبان حكمه على الأندلس....
أما ابنه عيسى بن شهيد فقد كان شخصيةً مرموقة في بلاط بني أمية
فقد عهدت إليه بعض المناصب الهامة منها:
ولاية الكتابة لعبد الرحمن الأوسط، ثم الوزارة ثم الحجابة.
أما في عصر الخلافة فقد كان لهذه الأسرة المناصب الرفيعة أيضاً.
ففي عهد عبد الرحمن الناصر نجد حسن بن قاسم بن شهيد يعين على
كورة((لبلة))، كما عين أمية بن محمد بن أمية على ((إستجة))
كما ولي خالد بن أمية الوزارة وكان من قبلها على الخزانة....
"
"
"
جدُّ شاعرنا:
وهو أحمد بن عبد الملك بن عمر بن شهيد، والذي يعتبر نقطة تحول في تاريخ عائلة ابن شهيد والذي بدأ عمله السياسي كحاكم على مدينة باغة ثم ولي الوزارة والحجابة إضافةً الى خطة الشرطة العليا مع المظالم وهو أول من لقب ((بذي الوزارتين))، وكان هذا إثر هديةٍ ضخمة قدمها الى عبد الرحمن الناصر أطنبت كتب التاريخ في وصفها يقول عنها ابن خلدون: (( وهي مما يدل على ضخامة الدولة الأموية، واتساع أحوالها،.............وهي هديةٌ عظيمة الشأن، اشتهر ذكرها الى الآن، واتُفق على أنه لم يهاد أحد من ملوك الأندلس بمثلها........)).
وهي قد تصل الى حد الخرافة من مثاقيل الذهب والتبر والنقد والعود ومن المسك والعنبر والثياب..............
والد ه:
وفي عصر الدولة العامرية عادت هذه الأسرة الى الظهور على المسرح السياسي فنرى عبدالملك بن أحمد بن عيسى بن شهيد، والد كاتب الرسالة يشغل منصب الوزارة لدى المنصور بن أبي عامر، وكان من ندمائه والمقربين اليه، وقد استعمله والياً على الجهات الشرقية، حتى أعفاه من الخدمة بعد ذلك بناءً على رغبته الشخصية.
مولده ونشأته:
ولد أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد في القسم الشرقي من مدينة قرطبة، ونشأ حياةً مترفة في قصر أبيه الوزير، وشهد عزَّ أبيه في عهد العامريين، وكان قد اتصل بعبد الملك المظفر بعد وفاة أبيه وبلغ لديه رتبة الوزارة في عهده، لكنه لم يصل الى منزلة الكتابة ليلقب بالوزير الكاتب ، على شدة شوقه اليها أسوةً بغيره من الوزراء الأدباء................
وقد شهد ابن شهيد الفتنة البربرية والتي كان من آثلرها ، سقوط الدولة الأموية في الأندلس وانقسامها الى دويلات صغيرة متنازغة في ما بينها، والتخريب المروع الذي حل بقرطبة الزهراء والذي كان بمثابة الفاجعة الكبرى التي حلت على أبي عامر ابن شهيد، لأنها هوت بالمجد العامري، وقضت على أيام البهجة والرخاء في ظل العامريين، وكانت نشأته لا تقويه على الكفاح، لنعومتها......ولقد اتصل أبو عامر بالحكام اللذين تعاقبوا على قرطبة إما طمعاً في عطائهم أو ارضاءً لهم فاتصل بالمستعين والمهدي، ثم اتصل بالحموديين.......لكن لم يكن له أبداً ما كان له في عهد العامريين.
"
"
"
"
"
"
رسالة ((التوابع والزوابع)):
لم يعثر الى الآن على مخطوطة لرسالة التوابع والزوابع، وانما وصل إلينا فصول أوردها ابن بسام في ذخيرته ، كما أورد الثعالبي في اليتيمة بعضاً من رسائله، وقد وجه ابن شهيد رسالته إلى أبي بكر بن حزم، وهو أبو بكر يحيى بن حزم شيخٌ من شيوخ الأدب، خاطبه بن شهيد برسالة ((التوابع والزوابع)) والتي سماها بـ((شجرة الفاكهة))، وهو من بيتٍ آخر غير بيت الفقيه أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفقيه المشهور
.........الرسالة:
"
"
"
يقول في صدرها مخاطباً لأبي بكر بن حزم:
((لله أبا بكر ظنٌّ رميته فأصميت(1)، وحدسٌ أملته فما أشويت(2)! أبديتَ بهما وجه الجليَّة، وكشفتَ عن غُرَّةِ الحقيقة، حين لمحتَ صاحبك الذي تكسَّبتهُ ورأيته قد أخذ بأطرافِ السماء، فألَّفَ بين قمريها، ونظمَ فرقديها، فكلَّما رأى ثغراً سدَّه بسُهاها(3)، أو لمح خرقاً رمَّهُ بزُباناها(4)، إلى غير ذلك. فقلتَ: كيف أُوتيَ الحكمَ صبيَّا، وهزَّ بجِذْعِ نخلة الكلام فاسَّاقطَ عليه رُطباً جنيَّا، أما إن بهِ شيطاناً يهديه، وشيْصبَناً(5) يأتيه،! وأُقسمُ أنَّ لهُ تابِعةٌ (6)تُنْجده، وزابِعةً(7) تُؤيِّدُه، ليس هذا في قدرةِ الأِنس، ولا هذا النَّفَسُ لهذهِ النَّفْس. فأمَّا وقد قُلتَها، أبا بكرٍ، فأَصِخْ أُسمِعْكَ العجب العجاب:
كنتُ أيَّام كُتَّاب الهجاء، أحِنُّ إلى الأُدباء، وأصبو إلى تأليف الكلام، فاتَّبعتُ الدواوين، وجلست إلى الأساتيذ، فنَبَض لي عِرقُ الفَهْم، ودرَّ لي شريانُ العِلم، بموادَّ روحانية، وقليل الإلتماح من النظر يزيدني، ويسيرُ المطالعة من الكتب يفيدني، إذ صادفَ شنُّ العِلمِ طَبَقَة، ولم أكن كالثلجِ تقْتبِسْ منهُ ناراً، ولا كالحمارِ يحملُ أسفاراً، فطعنتُ ثُغْرةَ البيانِ دِراكاً، وأعلقتُ رِجلَ طَيرِهِ أشْراكاً، فانثالت ليَ العجائب، وانهالت عليَّ الرغائب،، وكان لي أوائل صبْوتي هوىً اشتدَّ به كَلَفي، ثمَّ لحِقَني بعدُ مللٌ في أثناءِ ذلك الميل، فاتفقَ أنْ ماتَ من كنتُ أهواه مدَّةَ ذلك الملل، فجزعتُ وأخذتُ في رثائهِ يوماً في الحائرِ(8)، وقد أُبْهِمَتْ عليَّ أبوابه، وانفردتُ فقلتُ:
تولَّى الحِمامُ بظبيِّ الخُدورِ..........وفازَ الردى بالغزالِ الغريرِ

إلى أنْ انتهيتُ إلى الاعتذار من الملل الذي كان، فقلتُ:
وكنتُ مللتكَ لا عنْ قِلىً.............ولا عن فسادٍ جرى في ضميري

فأُرتِجَ عليَّ القول وأُفحِمْتُ، فإذا أنا بفارسٍ ببابِ المجلسِ على فرسٍ أدهم كما بقلَ وجهه، قد اتَّكأَ على رُمحِه، وصاحَ بي: أعجزاً يا فتى الإنس؟...قلتُ: لا وأبيك، للكلامِ أحيان، وهذا شأْنُ الإنسان! قال لي: قل بعده:
كمثلِ مَلالِ الفتى للنعيمِ...........إذا دامَ فيه وحـــالِ السرورِ

فأثْبتُ إجازته، وقلتُ له: بأبي أنت! منْ أنت؟ قال: أنا زُهير بن نمير من أشْجعِ(9) الجنّ، فقلتُ: وما الذي حداكَ إلى التصَوُّرِ لي؟ فقال: هوىً فيك، ورغبةً في اصطِفائِك، قلتُ: أهلاً بك أيُّها الوجهُ الوضَّاح، صادفت قلباً إليكَ مقلُوباً، وهوىً نحوكَ مجنوباً. وتحادثنا حيناً ثمَّ قال لي: متى ما شئتَ استِحضاري فأنشد هذه الأبيات:
وآلى زهيرُ الــحبِّ يا عزُّ أنـــه...إذا ذكــــرتهُ الذاكراتُ أتاها
إذا جَرَتِ الأفواهُ يومـــاً بذكرها... يُخيَّلُ لـــــي أني أُقبِّلُ فـاها
فأغْشى ديارً الذاكرين وإنْ نأت... أُجارعُ من داري هوىً لهواها

وأَوثبَ الأدهم جِدارَ الحائطِ ثمَّ غابَ عنِّي، وكنتُ أبا بكرِ، متى أُرتِجَ عليَّ، أو انقطَعَ بي مسلك، أو خانني أُسلوبٌ أُنشِدُ الأبياتَ فيُمثَّلُ صاحبي، فأسيرُ إلى ما أرغب، وأُدركَ بقريحتي ما أطلب، وتأكَّدتْ صُحبتنا، وجرت قِصصٌ لولا أن يطول الكتابُ لذكرتُ أكثرها، لكنَّي ذاكرٌ بعضها)).
توابع الشعراء:
"
"
"
"
((تذاكرتُ يوماً مع زهير بن نمير أخبار الخطباءِ والشعراء، وما كان يألَفُهُم من التوابع والزوابع، وقلتُ: هل لي حيلةٌ في لقاءِ من اتَّفقَ منهم؟ قال: حتى أستأْذِنَ شيخنا. وطار عنِّي ثمَّ انصرفً كلمحٍِ بالبصر، وقد أُذِنَ له، فقال: حُلَّ على متنِ الجواد. فصرنا عليه، وسار بنا كالطائر يجْتابُ الجوَّ فالجوَّ، ويقطَعُ الدوَّ فالدوَّ(10)، حتى التَمحْتُ أرضاً لا كأرضنا، وشارفتُ جواً لا كجوِّنا، مُتفَرِّع الشجر، عَطِرَ الزهر، فقال لي: حللتَ أرضَ الجِنِّ أبا عامر، فبمن تُريدُ أن نبدأ؟ قلتُ الخطباء أولى بالتقديمِ، لكنِّي إلى الشعراءِ أشْوَق. قال: فمنْ تُريد منهم؟ قلتُ: صاحبَ امرئِ القيس. فأمالَ العِنانَ إلى وادٍ منَ الأوديةِ ذي دَوْحٍ تتكسَّرُ أشجاره، وتترنَّمُ أطياره، فصاح: يا عُتيبةُ بن نَوفَل، بسِقْطِ اللَّوى فحَوْمَل، ويومِ دارةِ جُلجُل، إلاَّ ما عَرَضت علينا وجهك، وأنْشدتنا من شعرك، وسمعتَ من الإنسيّ، وعرَّفتنا كيف إجازتك له! فظهر لنا فارسٌ على فرسٍ شقراء كأنَّها تلتهب، فقال: حيَّاك اللهُ يا زهير، وحيَّا صاحبك! أهذا فتاهُمْ؟ قلتُ: هو هذا، فأيُّ جمرةٍ يا عُتيبة! فقال لي: أنشِد، فقلتُ: السيِّدُ أولى بالإنشاد. فتطَامحَ طَرْفُه، واهتزَّ عِطْفُه، وقبضَ عِنانَ الشقراءِ وضربها بالسوط، فسَمَتْ تُحضِرُ طُولاً عنَّا، وكرَّ فاستقبلنا بالصَّعْدةِ(11) هازاً لها، ثمَّ رَكَزها وجعل يُنشِد:
سما لكَ شوقٌ بعدما كان أقصَرا.........

حتى أكملها ثمَّ قال لي: أنْشِد، فهممتُ بالحَيْصَة(12) ، ثمَّ اشتدَّتْ قُوى نفسي وأنشدتُ:
شَجَتْهُ مَغانٍ من سُليمى وأدْؤرُ................
فلمَّا انتهيتُ تأمَّلني عُتيبةُ ثمَّ قال: اذهبْ فقد أجزْ تُكْ. وغابَ عنَّا.
فقال لي زهير: من تُريد بعد؟ قلتُ: صاحبَ طَرَفة. فجزَعْنا(13) واديَ عُتيبة، وركضنا حتى انتهينا إلى غَيضةٍ شجرُها شجران: سامٌ(14) يفوحُ بَهاراً(15)، وشِحْرٌ(16) يعْبَقُ هندِياً(17) وغراً. فرأينا عيناً مَعِينةً(18) تسيل، ويدورُ ماؤها فلكِياً ولا يحُول، فصاح بهِ زهير: يا عنترُ بن العجلان، حلَّ بكَ زهيرٌ وصاحِبه، فبِخَولة، وما قَطعْتَ معها من ليلة، إلاَّ ما عرضت وجهك لنا! فبدا إلينا راكبٌ جميلُ الوجه، قد توشَّحَ السيف، واشتمل عليه كِساء خَزّ، وبيدهِ خَطيّ، فقال: مرحباً بكما! واستنشدني فقلتُ: الزعيمُ أولى بالإنشاد، فأنشد:
لِسُعدى بِحزَّانِ الشريف طُلولُ.......(19)

حتى أكملها، فأنشدته من قصيدة:
أمِنْ رسمِ دارٍ بالعقيقِ مُحِيلِ........

فصاحَ عنترٌ: للهِ أنت! اذهبْ فإنَّك مُجازٌ. وغاب عنَّا. ثمَّ مِلنا عنه.
فقال لي زهير: إلى من تتوقُ نفسك بعدُ من الجاهليين؟ قلتُ: كفاني من رأيت، اصْرِفْ وجه قصدنا إلى صاحبِ أبي تمَّام. فركضنا ذلتَ اليمين حيناً، ويشتدُّ في إثْرِنا فارسٌ كأنَّه الأسد، على فرسٍ كأنَّها العُقاب، وهو في عَدْوه ذلك يُنْشِد:
طعنتُ ابن عبد القيس طعنةَ ثائرٍ.....لها نَفَذٌ لولا الشعاعٌ أضاءها

فاستَربْتُ منه، فقال لي زهير: لا عليك، هذا أبو الخطَّارِ صاحبُ قيسِ ابن الخطيم. فاسْتَبى لُبِّي من إنشادهِ البيت، وازددتُ خوفاً لِجُرأتِه، وأنَّنا لم نُعًرِّج عليه، فصرفَ زهيرٌ إليه وجهَ الأدهم، وقال: حيَّاك اللهُ أبا الخطَّار! فقال: أهكذا يُحادُ عن أبي الخطَّار، ولا يُخْطَرُ عليه؟ قال: علِمناكَ صاحبَ قنْص، وخِفنا أن نشغلك، فقال لي: أنشِدنا يا أشجَعيّ، وأُقسِمُ أنَّك إن لم تُجِدْ ليَكُونَنَّ يومَ شَرّ. فأنشدته قولي من قصيدة:
مَنازِلُهُم تَبكي إليكَ عَفاءها..........

فلمَّا انتهيتُ تبسَّم وقال: لَنِعْمَ ما تخَلَّصتَ! اذهبْ فقد أجزتك.
ثمَّ انصرفنا، وركضنا إلى شجرةٍ غَيناء(20) يتفَجَّرُ من أصلِها عينٌ كمُقلَةٍ حَوْراء. فصاح زهير: يا عتَّابُ بن حَبْناء، حلَّ بك زهيرٌ وصاحبه، فبِعمروٍ والقمرِ الطالع، وبالرُّقعةِ المفكوكة الطابع(21) إلاَّ ما أريتنا وجهك، فانفلقَ ماءُ العين عن وجهِ فتىً كفِلْقةِ القمر، ثمَّ اشتقَّ الهواءَ صاعداً إلينا من قَعْرِها حتى استوى معنا. فقال: حيَّاك اللهُ يا زهير، وحيَّا صاحبك! فقلتُ: وما الذي أسكنكَ قعرَ هذه العين يا عتَّاب؟ قال: حيائي من التَّحسُنِ باسمِ الشعرِ وأنا لا أُحْسِنُه. فصِحْتُ: ويلي منه، كلامُ مُحْدَثٍ وربِّ الكعبة! واستنشدني فلم أُنشِده إجلالاً له، ثمَّ أنشدته:
أَبَكَيتَ إذْ ظَعَنَ الفريقُ فِراقها................

فلمَّا انتهيت قال: أنشدني من رثائك. فأنشدته:
أعِينا امرءاً نَزَحَتْ عَينهُ...ولا تَعْجبا من جُفُونٍ جمادِ

إلى أن انتهيت فيها إلى قولي:
ولـــــكنَّني خانــــني مـــعشري...ورُدْتُ يَـــفاعاً وبــيلَ المراد
وهل ضربَ السيف من غير كفٍ...وهل ثبتَ الرَّسُ في غير هادِ

فقال: زدني من رثائك وتحريضك، فأنشدته:
أفي كلِّ عامٍ مصرعٌ لعظيمِ...أصابَ المنايا حادثي وقديمي

فقال: إن كنتَ ولا بُدَّ قائلاً، فإذا دعتكَ نفسُكَ إلى القولِ فلا تَكُدَّ قريحتك، فإذا أكملتَ فجَمامِ ثلاثةً(22) لا أقلَّ. ونَقِّحْ بعد ذلك، وتذكَّر قوله(23):
وجَشَّمني خوفُ ابن عفَّانَ رَدَّها...فثَقَّفتُها حولاً كَريتاً ومَرْبَعا
وقد كانَ في نفسي عليها زيادةٌ...فَلمْ أرى إلا أن أُطيعَ وأسمعا

وما أنتَ إلاَّ مُحسِنٌ على إساءةِ زمانِكْ. فقَبَّلتُ على رأسِه، وغاصَ في العين.
ثمَّ قال لي زهير: من تريد بعده؟ قلتُ: صاحبَ أبي نواس، قالَ: هو بدَيْرِ حنَّة(24) منذُ أشهر، قد غلبتْ عليه الخمر، ودَيْرُ حنَّة في ذلك الجبل. وعرضه عليَّ، فإذا بيننا وبينه فراسخ. فركضنا ساعةً وجُزنا في ركضنا بقصرٍ عظيمٍ قُدَّامَه ناوَرْد(25) يتطاردُ فيه فُرسان، فقلتُ: لمن هذا القصرُ يا زهير؟ قال: لطَوْقِ بن مالك، وأبو الطَّبعِ صاحبُ البحتري في ذلك الناوَرْد، فهل لكَ في أن تراه؟ قلتُ: ألفُ أجل، إنَّه لمن أساتيذي، وقد كنتُ أُنسِيتُه. فصاح: يا أبا الطَّبع! فخرجَ إلينا فتىً على فرسٍ أشعل(26)، وبيده قناة، فقال له زهير: إنَّك مؤتَمُّنا(27)، فقال: لا، صاحبك أشمخُ مارِناً من ذلك، لولا أنَّه ينقُصُه. قلتُ: أبا الطَّبع على رِسلِك، إنَّ الرجالَ لا تُكالُ بالقُفزان. أنشدنا من شعرك. فأنشد:
ما على الرَّكْبِ من وقوفِ الرِّكابِ..........

حتى أكملها، ثمَّ قال: هاتِ إن كنتَ قلتَ شيئاً. فأنشدته:
هذه دارُ زينبٍ والرَّبابِ.........

حتى أكملتها. فكأنَّما غَشَّى وجهَ أبي الطبعِ قِطعةٌ من الليل. وكرَّ راجعاً إلى ناوَرْدِه دون أن يُسلِّم. فصاح به زهير: أأجَزْتَه؟ قال: أجَزْتُه، لا بورِكَ فيك من زائر، ولا في صاحبك أبي عامر!
فضربَ زهير الأدهمَ بالسَّوطِ، فسار بنا في قَنْته(28)، وسِرنا حتى انتهينا إلى أصلِ جبلِ دَير حنَّة، فشقَّ سمعي قَرْعُ النَّواقيس، فصِحْتُ: منْ منازِلِ أبي نواس، وربِّ الكعبةِ العلياء! وسِرنا نَجْتابُ أدياراً وكنائسَ وحانات، حتى انتهينا إلى ديرٍ عظيم تَعْبقُ روائِحه، وتَصُوك(29) نوافِحُه. فوقف زهير ببابه وصاح: سلامٌ على أهلِ دير حنَّة! فقلتُ لزهير: أَوهلْ صِرنا بذاتِ الأُكَيراح(30)؟ قال: نعم. وأقبلتْ نحونا الرَّهابين، مُشدَّدةً بالزنانير، قد قبضتْ على العكاكيز، بيضَ الحواجِبِ واللِّحى، إذا نظروا الى المرءِ استحيا، مُكثرينَ للتَّسبيح، عليهم هَدْيُ المسيح. فقالوا: أهلاً بك يا زهير من زائر، وبصاحبك أبي عامر! ما بُغْيتُك؟ قال: حُسينُ الدِّنان. قالوا: إنَّه لفي شُرْبِ الخمرة، منذ أيامِ عشرة، وما نراكما مُنتَفِعين به. فقال: وعلى ذلك(31). ونزلنا وجاؤوا بنا إلى بيتٍ قد اصطَفَّتْ دِنانُه، وعكَفتْ غِزلانه، وفي فُرجَتِه شيخٌ طويلُ الوجهِ والسَّبَلة....
(32)، قد افترشَ أضْغاثَ زَهر، واتَّكأَ على زِقِّ خمر، وبيده طَرْجَهارة(33)، وحواليهِ صِبيةٌ كأظبٍ(34) تعطو إلى عَرارة(35). فصاح به زهير: حيَّاكَ اللهُ أبا الإحسان! فجاوبَ بجوابٍ لا يُعْقَلُ لغَلبةِ الخمرِ عليه. فقال زهير: اقْرَعْ أُذُنَ نشوتِه بإحدى خمرياتك، فإنَّه ربما تنبَّه لبعضِ ذلك. فصحتُ أُنشد من كلمةٍ لي طويلة:
ولرُبَّ حانٍ قد أدَرتُ بدَيْرهِ.....خمرَ الصبا مُزِجتْ بصفوِ خمورهِ...

فصاحَ من حبائلِ نشوته: أأشجَعِيّ؟ قلتُ أنا ذاك! فاستدعى ماءً قَراحاً، فشرِبَ منه وغسلَ وجهه، فأفاقَ واعتذرَ لي من حاله. فأدركتني مهابَتُه، وأخذتُ في إجلاله لمكانه من العلم والشعر. فقال لي: أنشد، أو حتى أُنشدُك؟ فقلتُ: إنَّ ذلك لأشَدُّ لتأنيسي، على أنه ما بعدك لمحسنٍ إحسان. فأنشد:
يا دير حنَّة من ذاتِ الأُكَيراحِ...من يَصْحُ عنكَ فإنِّي لستُ بالصاحي
يَعتادُهُ كلَّ محفوفٍ مَفارِقَهُ...من الدِّهانِ عليه سَحْقُ أمْساحِ
لا يَدْلِفونَ إلى ماءٍ بآنيَةٍ...إلاَّ اغتِرافاً من الغُدْرانِ بالرَّاحِ

فكدتُ واللهِ أخرُجُ من جِلدي طرباً. ثمَّ أنشد:
طرَحتمْ من التِّرحالِ أمراً فغمَّنا.......

وأنشد أيضاً:
لِمنْ دِمَنٌ تزدادُ طيبَ نسيمِ... على طولِ ما أَقْوَتْ وحُسنَ رُسومِ
تجافى البِلى عنهُنَّ حتى كأنَّما...لَبِسْنَ من الإقواءِ ثوبَ نعيمِ

واستمرَّ فيها حتى أكملها، ثمَّ قال لي: أنشد. فقلتُ: وهل أبقيتَ للإنشادِ موضِعا؟ قال: لا بُدَّ لك، وأَوْعِثْ بي ولا تُنْجِدْ(36)، فأنشدته:
أصباحٌ شِيمَ أمْ برقٌ بدا...أمْ سنا المحبوبِ أورى أَزْنُدا
فلمَّا انتهيت قال: للهِ أنت! وإن كان طبعكَ مُخترعاً منك. ثمَّ قال لي: أنشدني من رثائك شيئاً. فأنشدته من قولي في بُنَيَّةٍ صغيرة:
أيُّها المُعتدُّ في أهلِ النُّهى...لا تَذُبْ إثْرَ لفقيدٍ ولها

حتى انتهيت إلى قولي:
وإذا الأُسدُ حَمَتْ أغْيالها...لمْ يَضُّرَّ الخيسَ صرْعاتُ المها
وغريبٍ يا ابنَ أقمارِ العُلا...أن يُراعَ البدرُ من فقدِ السُّها

فلمَّا انتهيتُ قال لي: أنشدني من رثائك أشَدَّ من هذا وأَفْصح. فأنشدته من رثائي في أبي ذَكوان. ثمَّ قال: أنشدني جَحْدَرَيَّتَك(37) من السِّجن، فأنشدته:
قريبٌ بمُحْتَلِّ الهوانِ بعيدُ.......

فبكى لها طويلاً. ثمَّ قال: أنشدني قطعةً من مُجونِك، فقد بَعُدَ عهدي بمثلك. فأنشدته:
وناظِرةٍ تحتَ طيِّ القناعِ...دعاها إلى اللهِ والخيرِ داعِ

فلمَّا سمع هذا البيتَ قامَ يرقُص به ويُردِّدُه، ثمَّ أفاق، ثمَّ قال: هذا واللهِ شئٌ لمْ نُلْهَمه نحن. ثمَّ استدناني فدنّوتُ منه فقبَّلَ بين عينَيَّ، وقال: اذهبْ فإنَّك مُجاز. فانصرفنا عنه وانحدرنا منَ الجبل........
.....
فقال لي زهير: ومن تريد بعد؟ قلتُ له: خاتِمةَ القومِ صاحبَ أبي الطَّيب، فقال: اشدُدْ له حيَازِيمَك(38)، وعطِّرْ له نَسِِمَك، وانثُر عليه نُجومَك. وأمال عنان الأدهم إلى طريقٍ، فجعلَ يركض بنا، وزهيرٌ يتأمَّل آثار فرسٍ لمحناها هناك. فقلتُ له: ما تتَبُّعكَ لهذه الآثار؟ قال: هي آثار فرسِ حارثةَ بن المُغَلِّس صاحبِ أبي الطَّيب، وهو صاحبُ قنص. فلم يزل يتقرَّاها حتى دفَعنا إلى فارسٍ على فرسٍ بيضاء كأنَّه قضيبٌ على كثِيب.وبيده قَناةٌ قد أسنَدها إلى عُنُقِه، وعلى رأسِه عِمامةٌ حمراء قد أرخى لها عَذَ بةً(39) صفراء. فحيَّاه زهير، فأحسنَ الرَّدَّ ناظِراً من مقلةٍ شَوساء(40)، قد مُلِئت تِيهاً وعُجباً. فعرَّفهُ زهيرٌ قصدي، وألقى إليه رغبتي. فقال: بلغني أنَّه يتناول، قلتُ: للضرورة الدافِعة، وإلاَّ فالقَريحةُ غيرُ صادعة، والشَّفرةُ غيرُ قاطعة. قال: أنشدني، وأَكْبرتُه أن أستنشده، فأنشدته قصيدتي التي أوَّلُها:
أبرقٌ بدا أمْ لمعُ أبيضَ قاصلِ........

فلمَّا انتهيتُ قال: أنشدني أشدَّ من هذا. فأنشدت قصيدتي:
هاتيكَ دراهمُ فقفْ بِمعَانها.........

فلمَّا انتهيت، قال لزهير: إن امتدَّ بهِ طَلَقُ العُمُر، فلا بدَّ أن ينقثَ بِدُرَر، وما أراه إلاَّ سيُحْتَضَر، بين قريحةٍ كالجمر، وهِمَّةٍ تَضَعُ أَخْمَصهُ على مَفرِقِ البدر. فقلتُ: هلاَّ وضَعْتَه على صَلْعةِ النَّسر! فاسْتَضحك إلىَّ وقال: اذهبْ فقد أجزتك بهذه النكتة. فقبَّلتُ على رأسه وانصرفنا................

فقال لي زهير: من تريد بعده؟فقلت: مِلْ بي إلى الخُطباء، فقد قضيتُ وطراً من الشعراء. فركضنا حِيناً طاعنين في مطلَعِ الشمس، ولقينا فارساً أسرَّ إلى زهير، وانجزع عنَّا(41)، فقال لي زهير: جُمِعتْ لكَ خطباء الجنِّ بمَرْجِ دُهْمان، وبيننا وبينهم فرسخان، فقد كُفِيتَ العناء إليهم على انفرادهم. قلت: لمَ ذاك؟ قال: للفرقِ بين كلامين اختلف فيه فتيان الجِنّ.
وانتهينا إلى المَرجِ فإذا بنادٍ عظيم، قد جمع كلَّ زعيم، فصاح زهير: السلام على فرسان الكلام. فردُّوا وأشاروا بالنزول. فأَفْرجوا حتى صرنا مركزَ هالةِ مجلسِهم، الكُلُّ ناظرٌ إلى شيخٍ أصلع، جاحظِ العين اليمنى، على رأسِه قَلنْسُوَةٌ بيضاء طويلة. فقلت سرَّاً لزهير: من ذلك؟ قال: عُتبةُ بن أرقَم صاحبُ الجاحظ، وكنيته أبو عيينة. قلت: بأبي هوَ! ليس رغبتي سواه، وغيرَ صاحبِ عبد الحميد. فقال لي: إنَّه ذلك الشيخُ الذي إلى جانِبه. وعرَّفه صّغْوي إليه، وقولي فيه. فاستدناني وأخذَ في الكلامِ معي، فصمتَ أهلُ المجلس، فقال: إنَّك لخطيب، وحائِكٌ للكلامِ مُجيد، لولا أنَّك مُغْرىً بالسَّجْع، فكلامُك نظْمٌ لا نثر.
فقلتُ في نفسي: قَرَعكَ، باللهِ، بقَرِعَته، وجاءك بمُماثلته(42). ثمَّ قلت له: ليس هذا، أعزَّكَ الله، مني جهلاً بأمرِ السَّجع، وما في المماثلة والمُقابلة(43) من فضل، ولكنِّي عدِمتُ ببلدي فرسان الكلام، ودُهِيتُ بغباوةِ أهلِ الزمان، وبالحَرَا(44) أن أُحرِكَهم بالإزدواج. ولو فرشتُ للكلامِ فيهم طَوْلقاً(45)، وتحركتُ لهم حركة مَشُولم(46)، لكانَ أرفعَ لي عندهم، وأولجَ في نفوسهم.
فقال: أهذا على تلك المناظر، وكِبَرِ تلك المحابر، وكمالِ تلك الطيالِس؟ قلت: نعم، إنَّها لِحاءُ الشجر، وليس ثمَّ ثَمَرٌ ولا عَبَق. قال لي : صدَقتَ، إنِّي أراك قد ماثلت معي. قلت: كما سمعت. قال: فكيفَ كلامُهم بينَهم؟ قلت: ليس لسيبويه فيه عمل، ولا للفراهيدي(47) إليه طريق، ولا للبيانِ عليه سِمَة. إنَّما هيَ لكنَةٌ أعْجَميِّةٌ يؤدُّونَ بها المعاني تأيديةَ المَجوسِ والنَّبَط. فصاح: إنَّا لله، ذهبت العربُ وكلامُها، ارمِهمْ يا هذا بسجْعِ الكُهَّان، فعسى أن ينفعَك عندهم، ويُطيرَ لك ذكْراً فيهم. وما أراك، مع ذلك، إلاَّ ثقيلَ الوطأة عليهم، كريهَ المَجِئ إليهم.
فقال الشيخُ الذي إلى جانبه، وقد علمتُ أنَّه صاحبُ عبد الحميد، ونفسي مرتَقِبةٌ إلى ما يكون منه: لا يَغُرَّنْكَ منه، أبا عُيينة، ما تكلَّف لك من المماثلة، إن السَّجْعَ لطَبْعُه، وإن ما أسمعك كُلْفة. ولو امتدَّ به طَلَقُ الكلام
وجرت أفراسهُ في ميدان البيان، لصلَّى كَوْدَنُه(48) وكلَّ بَرْثَنُه. وما أراه إلاَّ من اللُّكْنِ اللذين ذَكّر، وإلاَّ فما للفصاحةِ لا تَهْدِر، ولا للأعرابيةِ لا تُومِض؟......
فقلت في نفسي: طبعُ عبد الحميد ومساقُه، وربِّ الكعبة! فقلت له: لقد عجِلتَ، أبا هُبيرة،-وكان زهيرٌ عرَّفني كنيته- إن قوسكَ لنَبْع، وإن ماء سهمِكَ لسُمّ، أحِماراً رميتً أمْ إنساناً، وقَعْقعَةً طلبتَ أمْ بياناً؟ وأبيك، إن البيان لصعب، وإنَّك منه لفي عباءةٍ تتكشَّفُ عنها أستاهُ معانيك، تكشُّفَ استِ العنزِ عن ذنَبِها. الزمان دِفءٌ لا قُرّ، والكلامُ عراقِيٌ لا شامِيّ(49). إنِّي لأرى من دَمِ اليرْبُوعِ بكفَّيك، وأَلْمحُ من كُشى(50) الضَّبِّ على ماضِغَيك. فتبسَّمَ إلىَّ وقال: أهكذا أنتَ يا أُطَيلِس(51)، تركَبُ لكلِّ نَهْجَه، وتَعجُّ إليه عَجَّه؟(52) فقلت: الذِّئبُ أطلَس، وإن التيسَ ما علِمت!.....
فصاح به أبو عيينة: لا تعرضْ له، وبالحَرَا أن تتخلَّصَ منه. فقلت: الحمد للهِ خالقِ الأنامِ في بطونِ الأنعام! فقال: إنَّها لكافِيةٌ لو كان له حِجْر(53). فبسطاني وسألاني أن أقرأَ عليهما من رسائلي، فقرأتُ رسالتي في صفةِ البردِ والنَّارِ والحطب فاستحسناها.....))
"
"
"
..........انتهت الرسالة
"
"
معاني المفردات:
(1) أصمى: أي أصابه في مقتل.
(2) أشواه: أي أصابه في غير مقتل.
(3) السها: كوكب خفي من بنات نعش الصغرى، كان العرب يمتحنون أبصارهم به لخفائه.
(4) الزباني: واحد الزبانيين، وهما كوكبان نيران في قرني برج العقرب معترضان بين الشمال والجنوب.
(5) الشيصبان: اسم الشيطان، وهو اسم لقبيلة من الجن.
(6) التابعة: جنية تحب الإنسان وتتبعه أينما يذهب.
(7) الزابعة والزوبعة: رئيس الجن أو اسم للشيطان.
(8) الحائر: المكان المطمئن يجتمع فيه الماء، ثم سموا البستان به.
(9) أشجع الجن: أي ينتسب إلى بني أشجع من الجن، ومن المعروف أن ابن شهيد يدعي أنه ينتسب إلى بني أشجع العربية، فإذن بين ابنشهيد وزهير بن نمير وشائج قرابة.
(10)الدَّو: الفلاة.
(11)الصعدة: القناة المستوية.
(12)الحيصة: الهرب.
(13)جزعنا: قطعنا.
(14)السام: الخيزران.
(15)البهار: نبات طيب الرائحة.
(16)الشحر: اسم شجرة.
(17) الهندي: الشجر الهندي ذو الرائحة الذكية.
(18)معينة: أي ظاهرة على وجه الأرض.
(19)الحزان: جمع حزيز وهو الغليظ من الأرض، والشريف: وادٍ بنجد.
(20)الغيناء: الشجرة الخضراء.
(21)الطابع: الخاتم يطبع به، يشير إلى قول أبي تمام:
ياعمرو قل للقمر الطالع...اتسع الخرق على الراقع
يا طول فكري فيك من حاملٍ...لرقعةٍ مفكوكة الطابع.
(22)جمام ثلاثة: أي فراحة ثلاثة أيام.
(23)هذين البيتين لسويد بن كراع.
(24)دير حنَّة: ديرٌ بظاهر الكوفة، كان يزوره أبو نواس، ويأوي إلى الحانات القريبة منه لشرب الخمر.
(25)الناورد: الميدان، وهي من الفارسية ومعناها: معركة، قتال.
(26)الأشعل من الخيل: ما كان في ذنبه والناصية والقذال بياض.
(27)مؤتمنا: أي نأتم بك.
(28)القنت: الزاوية أو الجانب.
(29)تصوك: تعبق.
(30)ذات الأكيراح: هو دير حنَّة، والأكيراح ومفردها كِرح وهي كلمة سريانية بمعنى الكوخ الصغير يكون حول الدير يسكنه من الرهبان من لا قلاية له.
(31) أي وعلى ذلك الحال نريده.
(32)السبلة: شعر الشارب.
(33)الطرجهارة: الفنجان أو ما يشبه الكأس يشرب به.
(34)أظب: جمع ظبي.
(35)تعطو: أي ترفع رأسها لتأكل من العرارة، وهو نبات صحراوي طيب الرائحة.
(36)أوعث: أي سر في المكان السهل، لاتنجد: لا تسر في المكان المرتفع.
(37)جحدريتك: نسبة إلى جحدر، وهو رجل من بني جشم بن بكر كان يخيف السبيل بأرض اليمن، فبلغ خبره الحجاج، فشدد في طلبه حتى ظفر به، فأمر بحبسه، فنظم قصيدةً جميلة يرثي بها نفسه، ويحن إلى أولاده، ويستعطف الحجاج، فلما بلغ الحجاج شعره، خيره بين أن يقتله بالسيف، أو أن يلقيه إلى السباع، فقال له : أعطني سيفاً وألقني إلى السباع، فأعطاه وألقاه إلى أسدٍ مجوع، ففلق هامته بالسيف، فأعجب الحجاج به، وأكرمه وجعله من أصحابه.
(38)يقال شد للأمر حيازمه أي استعد له وتهبأ للقيام به، والحيازيم جمع حيزوم، وهو ما استدار بالظهر والبطن.
(39)العذبة: طرف العمامة ينسدل من خلفها على مؤخرة الرأس بين الكتفين.
(40)المقلة الشوساء: التي تنظر بمؤخرها كبراً أو حنقاً.
(41)انجزع عنا: انقطع عنا.
(42)المماثلة: من المحسنات البديعية وهي الإزدواج الذي عُرف به الجاحظ في أسلوبه حين يكتب.
(43)المقابلة: نوع من أنواع المحسنات البديعية.
(44)بالحرا: أي حري بكذا وخليقٌ بكذا.
(45)الطولق: نبات.
(46)رقية في كتاب ((كليلة ودمنة)) ((شولم، شولم)) سبع مرات، فلعل حركة مشولم هي حركة الراقي وهو يرقي بهذه الكلمات.
(47)الفراهيدي: لقب الخليل بن أحمد واضع علم العروض.
(48)الكودن: الفرس الهجين، وصلَّى: يعني جاء ترتيبه الثاني في السباق.
(49)في ذلك تعريض بعبد الحميد لأن الجاحظ عراقي وعبد الحميد شامي.
(50)الكشى: جمع كُشية وهي شحمة في بطن الضب يأكلها الأعراب.
(51)الأطيلس: الذئب الأمعط في لونه غبرة إلى السواد.
(52)يعج عجَّه: أي ينهج نهجه ويسير على أسلوبه.
(53)الحجر: العقل.
"
"
"
"
"
.........همسات عابرة:

وما ألانَ قَــــناتي غمْــــزُ حـــــادِثَةٍ
ولا استَخفَّ بحِلمي قطُّ إنسانُ
أمضي على الهولِ قُدْماً لا يُنهنِهُني
وأنثني لسَفيهي وهو حرْدَان
ولا أُقـــــارِضُ جُــــهَّالاً بـــــــجهلِهمُ
والأمرُ أمريَ والأيَّامُ أعوان
أُهيبُ بالـــــــصبرِ والشَّـــحناءُ ثائِرةً
وأكظِمُ الغيظَ والأحقادُ نيران
ودَّ الفتى مـــنهمُ لـــو مــــتَّ من يدِهِ
وإنَّهُ منك ضخمُ الجوفِ ملآن


.............((ابن شهيد الأندلسي)).

بنت العرب
31-01-2001, 11:06 PM
سلام أخي ابن الرومي

هذا نص يحتاج أن أطبعه لأتمهل في قرائته :)


شكرا لك لما تنقله لنا من مفيد :)




تحياتي
بنت العرب

هند
02-02-2001, 12:26 AM
بصراحة ..

انت تثري المكان .. بجميل نقلك و نقشك .. من ابداع ..

و لكن يا طيب ( يا ابن الرومي ) :)

كان سيكون اكثر امتاعا .. لو نشرت الموضوع على اجزاء .. :)

منعا للملل اثناء القراة .. الطويلة ..


و سهولة للنظر ..

:)

في انتظار جديدك ..

@)).......

ابن الرومي
02-02-2001, 06:18 PM
شكراً لأطرائك الذي جعل أوداجي تنتفخ....
وصدقيني لم يخطر ببالي وأنا أكتب الموضوع أن أجزأه على أجزاء
ولكن سأضع ملاحظتك في عين الإعتبار......
تحياتي لك.