الطارق
10-01-2002, 09:34 PM
يرى البعض أن الجاحظ وفي مقاطع من كتبه يجيد بشكل كبير النثر القصصي لبراعته في تصوير الشخصيات والنفوس وما يؤكد ذلك قصته هذه التي يرويها في كتاب الحيوان :
( كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوار ، لم يرى الناس حاكما قط ولا زميتا ( وقورا ) ولا ركينا ( رزينا ) ولا وقورا حليما ضبط من نفسه ، وملك من حركته ، مثل الذي ضبط وملك .
كان يصلي الغداة في منزله ، وهو قريب الدار من مسجده ، فيأتي مجلسه ، فيحتبئ ، ولا يتكئ ، فلا يزال منتصبا ، لا يتحرك له عضو ولا يلتفت ولا يحل حبوته ، ولا يحول رجلا عن رجل ، ولا يعتمد على أحد شقيه ، حنى كأنه بناء مبني أو صخرة منصوبة فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر ، ثم يعود إلى مجلسه ، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة المغرب ... كذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي قصرها وفي صيفها وشتائها ، وكان مع ذلك لا يحرك يده ولا يشير برأسه ، وليس إلا أن يتكلم فيوجز ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة .
فبينما هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه في السماطين ( مثنى سماط وهو الصف ) بين يديه ، إذ سقط على أنفه ذباب ، فأطال المُكث ، ثم تحول إلى مؤق ( طرف العين مما يلي الأنف ) عينه ، فرام الصبر في سقوطه على المؤق وعلى عضه ونفاذ خرطومه ، كما رام الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرك أرنبته ( طرف أنفه ) أو يغضن وجهه أو يذب بإصبعه .
فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه وأحرقه ، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل ، فلم ينهض ( الذباب ) فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح ، فتنحى ( الذباب ) ريثما سكن جفنه ، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرته الأولى ، فغمس خرطومه في مكان كان قد أواهاه قبل ذلك ، فكان احتماله له أضعف ، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى ، فحرك ( القاضي ) أجفانه وزاد في شدة الحركة وفي فتح العين وفي تتابع الفتح والإطباق ، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته ، ثم عاد إلى موضعه ، فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده ، فلم يجد بداً من أن يذب عن عينيه بيده ، ففعل ، وعيون القوم إليه ترمقه ، فتنحى عنه بقدر ما رد يده وسكنت حركته ، ثم عاد إلى موضعه ، ثم ألجأه إلى أن ذب عن وجهه بطرف كمه ، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك .
وعلم أن فعله كله بعين من حضره من أمنائه وجلسائه . فلما نظروا إليه قال : أشهد أن الذباب ألج من الخنفساء وأزهى من الغراب ، وأستغفر الله ، فما أكثر من أعجبته نفسه ، فأراد الله عز وجل أن يعرفه من ضعفه ما كان عنه مستورا .
وقد علمت أني عند الناس من أزمت الناس ، فقد غلبني وفضحني أضعف خلقه ، ثم تلا قوله تعالى : ( وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب )
*************
يطربني كثير طريقة الجاحظ في رواية القصة ، ففيها من الإمتاع والقدرة في جذب القارئ ما لا حد له ..
والعجيب من أمره أنه يجيد رواية القصة الواحدة بأكثر من طريقة وأسلوب .
يروي قصة جبل العمي مع صديقه أبو مازن الأحدب وبخله الشديد فيقول في كتاب البخلاء :
( وكان جبل خرج ليلا من موضع كان فيه ، فخاف الطائف ( الذي يطوف بأحياء المدينة من قبل الحاكم ليلا ليتفقد أحوالها ) ولم يأمن المستقفي ( أي الذي يقتفي أثره لسلبه ) فقال : لو دققت الباب على أبي مازن ، فبت عنده في أدنى بيت ( أقرب حجره من باب منزله ) أو في دهليزه ، ولم ألزمه من مؤنتي شيئاً ، حتى إذا انصدع عمود الصبح ، خرجت في أوائل المدلجين ( السائر من أخر الليل ) .
فدق عليه الباب دق واثق ، ودق من يخاف أن يدركه الطائف ، أو يقفوه المستقفي ، وفي قلبه عز الكفاية ، والثقة بإسقاط المؤنه .
فلم يشك أبو مازن ،اه دق صاحب هدية ، فنزل سريعا ، فلما فتح الباب وبصر بجبل ، بصر بملك الموت ! فلما رآه جبل واجما ، لا يحير كلمة ، قال له : أني خفت معرة الطائف ، وعجلة المستقفي ، فملت إليك لأبيت عندك .
فتساكر أبو مازن ، وأراه أن وجومه إنما كان بسبب السكر ، فخلع جوارحه ( أي أنه تظاهر بإن فيه تفكك من أثر السكر ) وخبل لسانه ( تظاهر بإن في لسانه فساد من أثر السكر ) وقال : سكران والله ، أنا والله سكران !
قال له جبل : كن كيف شئت ، نحن في أيام الفصل لا شتاء ولا صيف ، ولست أحتاج إلى سطح ، فأغم عيالك بالحر ، ولست أحتاج إلى لحاف ، فأكلفك أن تؤثرني بالدثار ، وأنا كما ترى ثمل من الشراب ، وشبعان من الطعام ، ومن منزل فلان خرجت ، وهو أخصب الناس دخلا ، وإنما أردت أن تدعني أغفي في دهليزك إغفاءة واحدة ، ثم أقوم في أوائل المبكرين .
قال أبو مازن ، وأرخى عينيه وفكيه ولسانه ، ثم قال : سكران والله ! أنا سكران ! لا والله ما أعقل أين أنا ! والله إن أفهم ما تقول ! ثم أغلق الباب في وجهه ، ودخل لا يشك أن عذره قد وضح ، وأنه قد ألطف النظر ، حتى وقع على هذه الحيلة )
وقد ذكر الجاحظ هذه القصة في كتابه " البرصان والعرجان والعميان والحولان " فقال :
( ومن الحدبان أبو مازن الأحدب " ............ " وهو الذي دق عليه الباب جبل العمي بعد أن مضى من الليل وهدأت الرجل ( كناية عن انصراف القوم إلى النوم ) فخرج إليه أبو مازن وهو لا يظن أنه إنسان يريد أن يبيت عنده ، فلما رآه جبل العمي قال له : ليس نحن في الصيف فأضيق على عيالك السطح ، ولا نحن في الشتاء فتكره أكون قرب حُرمتك ، ونحن في الفصل ، وقد تعشيت ، وإنما خفت الطائف ، فدعني أبيت بقية ليلتي في الدهليز ، وفي ثيابي التي علي ، فإذا كان مع الفجر مضيت .
قال ( أبو مازن ) : أنا والله سكران ما أفهم عنك قليل ولا كثير ، فأعاد عليه القول ، فقال : سكران والله ، ليس أفهم عنك ! وأصفق الباب في وجهه .
فضحك جبل ، فمر به الطائف فسأله عن شأنه ، فضحك الطائف وشيعه إلى أهله )
***************
وللجاحظ قصص وكتب عن البخلاء والمعلمين والمتنبيين قصص عن الحمقى ونوادرهم والجواري وقصصهم وغيرهم ..
ويبدوا لي أن الكثير من الكتاب قد أخذوا من قصص الجاحظ وما رواه ، وأدل من ذلك عند مراجعتك لكتاب العقد الفريد ستجد أن كثير من قصص البخلاء ليس مرجعها إلا كتب الجاحظ !
من بين ما ألفه الجاحظ وسخر منهم المعلمين ، وقد ذكر له قصة وقبل أن يؤلف كتابه مع أحد معلمي الصبيان والذي عشق امرأة من غير أن يراها قال ( الجاحظ ) :
(دخلت يوما مدينة ، فوجدت فيها معلما في هيئة حسنة فسلمت عليه ، فرد علي أحسن رد ، ورحب بي ، فجلست عنده ، وباحثته في القرآن ، فإذا هو ماهر فيه ، ثم تفاتحنا الفقه والنحو وأشعار العرب ، فإذا هو كامل الأدب ، فقلت : سأختلف إليه وأزوره .
وجئت يوما لزيارته فإذا بالكُتاب مغلق ولم أجده ، فسألت عنه فقيل : مات له ميت ، فحزن عليه وجلس في بيت عزائه .
فذهبت إلى بيته وطرقت الباب ، فخرجت إلي جارية وقالت : ما تريد ؟ قلت : سيدك . فدخلت وخرجت ، وقالت : باسم الله ، فدخلت إليه وإذا به جالس . فقلت : عظم الله أجرك ، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، كل نفس ذائقة الموت ، فعليك بالصبر .
ثم قلت له : هذا الذي توفي ولدك ؟ قال : لا . قلت : فوالدك ؟ قال : لا . قلت فأخوك ؟ قال : لا . قلت : فزوجتك ؟ . قال : لا . فقلت : فمن هو ؟! قال : حبيبتي . فقلت في نفسي . هذا أول العجائب . فقلت : سبحان الله ! النساء كثير ، وستجد غيرها . فقال : أتظن أني رأيتها ؟ قلت ( في نفسه ) : هذه الثانية . . ثم قلت : وكيف عشقت من لم ترى ؟ فقال : أعلم أني كنت جالسا في هذا المكان ، وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول :
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة *** ردي علي فؤادي أينما كان
فقلت في نفسي : لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتها .
فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول :
لقد ذهب الحمار بأم عمرو *** فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت ، فحزنت عليها ، وأغلقت الكُتاب وجلست في الدار !
فقلت ( الجاحظ ) : يا هذا ، إني كنت ، قد ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين ، وكنت حين صحبتك عزمت على تقطيعه ، والآن قد قويت عزمي على إبقائه ، وأول ما أبدأ بك إن شاء الله ) .
*************
الجاحظ وذاكرته
يذكر الخطيب البغدادي في كتاب " تاريخ بغداد " عن الجاحظ هذه القصة :
( نسيت كنيتي ثلاثة أيام ، فأتيت أهلي فقلت : بما أكنى ؟ فقالوا : بأبو عثمان )
ورغم هذا فكثير من قصص الجاحظ قد رواها وبعد أربعين سنة بعد حدوثها كما صرح في بعض كتبه ، كم أن كتبه وروايته تنفي هذه القصة وتكذبها .
إلا أن الجاحظ وفي موضع من كتاب الحيوان يذكر عن حيوان يساعد البحارة عند الغرق ( الدلفين ) يقول : ( ولم أجدهم يشكون أن بعض الحيوان الذي يكون في البحر مما ليس بسمك ، قد ذهب عني اسمه ، إذا أبصر غريقا عرض له وصار تحت بطنه وصدره فلا يزال كالحامل له والمزجي المعين حتى يقذف به إلى جزيرة أو ساحل أو جبل )
ويبدوا أن الجاحظ قد نسى أسم هذا الحيوان وهو الدلفين ، مع أنه ذكر أسم الدلفين في كتابه هذا في مواضع أخرى من الكتاب ....
( كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوار ، لم يرى الناس حاكما قط ولا زميتا ( وقورا ) ولا ركينا ( رزينا ) ولا وقورا حليما ضبط من نفسه ، وملك من حركته ، مثل الذي ضبط وملك .
كان يصلي الغداة في منزله ، وهو قريب الدار من مسجده ، فيأتي مجلسه ، فيحتبئ ، ولا يتكئ ، فلا يزال منتصبا ، لا يتحرك له عضو ولا يلتفت ولا يحل حبوته ، ولا يحول رجلا عن رجل ، ولا يعتمد على أحد شقيه ، حنى كأنه بناء مبني أو صخرة منصوبة فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر ، ثم يعود إلى مجلسه ، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة المغرب ... كذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي قصرها وفي صيفها وشتائها ، وكان مع ذلك لا يحرك يده ولا يشير برأسه ، وليس إلا أن يتكلم فيوجز ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة .
فبينما هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه في السماطين ( مثنى سماط وهو الصف ) بين يديه ، إذ سقط على أنفه ذباب ، فأطال المُكث ، ثم تحول إلى مؤق ( طرف العين مما يلي الأنف ) عينه ، فرام الصبر في سقوطه على المؤق وعلى عضه ونفاذ خرطومه ، كما رام الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرك أرنبته ( طرف أنفه ) أو يغضن وجهه أو يذب بإصبعه .
فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه وأحرقه ، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل ، فلم ينهض ( الذباب ) فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح ، فتنحى ( الذباب ) ريثما سكن جفنه ، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرته الأولى ، فغمس خرطومه في مكان كان قد أواهاه قبل ذلك ، فكان احتماله له أضعف ، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى ، فحرك ( القاضي ) أجفانه وزاد في شدة الحركة وفي فتح العين وفي تتابع الفتح والإطباق ، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته ، ثم عاد إلى موضعه ، فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده ، فلم يجد بداً من أن يذب عن عينيه بيده ، ففعل ، وعيون القوم إليه ترمقه ، فتنحى عنه بقدر ما رد يده وسكنت حركته ، ثم عاد إلى موضعه ، ثم ألجأه إلى أن ذب عن وجهه بطرف كمه ، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك .
وعلم أن فعله كله بعين من حضره من أمنائه وجلسائه . فلما نظروا إليه قال : أشهد أن الذباب ألج من الخنفساء وأزهى من الغراب ، وأستغفر الله ، فما أكثر من أعجبته نفسه ، فأراد الله عز وجل أن يعرفه من ضعفه ما كان عنه مستورا .
وقد علمت أني عند الناس من أزمت الناس ، فقد غلبني وفضحني أضعف خلقه ، ثم تلا قوله تعالى : ( وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب )
*************
يطربني كثير طريقة الجاحظ في رواية القصة ، ففيها من الإمتاع والقدرة في جذب القارئ ما لا حد له ..
والعجيب من أمره أنه يجيد رواية القصة الواحدة بأكثر من طريقة وأسلوب .
يروي قصة جبل العمي مع صديقه أبو مازن الأحدب وبخله الشديد فيقول في كتاب البخلاء :
( وكان جبل خرج ليلا من موضع كان فيه ، فخاف الطائف ( الذي يطوف بأحياء المدينة من قبل الحاكم ليلا ليتفقد أحوالها ) ولم يأمن المستقفي ( أي الذي يقتفي أثره لسلبه ) فقال : لو دققت الباب على أبي مازن ، فبت عنده في أدنى بيت ( أقرب حجره من باب منزله ) أو في دهليزه ، ولم ألزمه من مؤنتي شيئاً ، حتى إذا انصدع عمود الصبح ، خرجت في أوائل المدلجين ( السائر من أخر الليل ) .
فدق عليه الباب دق واثق ، ودق من يخاف أن يدركه الطائف ، أو يقفوه المستقفي ، وفي قلبه عز الكفاية ، والثقة بإسقاط المؤنه .
فلم يشك أبو مازن ،اه دق صاحب هدية ، فنزل سريعا ، فلما فتح الباب وبصر بجبل ، بصر بملك الموت ! فلما رآه جبل واجما ، لا يحير كلمة ، قال له : أني خفت معرة الطائف ، وعجلة المستقفي ، فملت إليك لأبيت عندك .
فتساكر أبو مازن ، وأراه أن وجومه إنما كان بسبب السكر ، فخلع جوارحه ( أي أنه تظاهر بإن فيه تفكك من أثر السكر ) وخبل لسانه ( تظاهر بإن في لسانه فساد من أثر السكر ) وقال : سكران والله ، أنا والله سكران !
قال له جبل : كن كيف شئت ، نحن في أيام الفصل لا شتاء ولا صيف ، ولست أحتاج إلى سطح ، فأغم عيالك بالحر ، ولست أحتاج إلى لحاف ، فأكلفك أن تؤثرني بالدثار ، وأنا كما ترى ثمل من الشراب ، وشبعان من الطعام ، ومن منزل فلان خرجت ، وهو أخصب الناس دخلا ، وإنما أردت أن تدعني أغفي في دهليزك إغفاءة واحدة ، ثم أقوم في أوائل المبكرين .
قال أبو مازن ، وأرخى عينيه وفكيه ولسانه ، ثم قال : سكران والله ! أنا سكران ! لا والله ما أعقل أين أنا ! والله إن أفهم ما تقول ! ثم أغلق الباب في وجهه ، ودخل لا يشك أن عذره قد وضح ، وأنه قد ألطف النظر ، حتى وقع على هذه الحيلة )
وقد ذكر الجاحظ هذه القصة في كتابه " البرصان والعرجان والعميان والحولان " فقال :
( ومن الحدبان أبو مازن الأحدب " ............ " وهو الذي دق عليه الباب جبل العمي بعد أن مضى من الليل وهدأت الرجل ( كناية عن انصراف القوم إلى النوم ) فخرج إليه أبو مازن وهو لا يظن أنه إنسان يريد أن يبيت عنده ، فلما رآه جبل العمي قال له : ليس نحن في الصيف فأضيق على عيالك السطح ، ولا نحن في الشتاء فتكره أكون قرب حُرمتك ، ونحن في الفصل ، وقد تعشيت ، وإنما خفت الطائف ، فدعني أبيت بقية ليلتي في الدهليز ، وفي ثيابي التي علي ، فإذا كان مع الفجر مضيت .
قال ( أبو مازن ) : أنا والله سكران ما أفهم عنك قليل ولا كثير ، فأعاد عليه القول ، فقال : سكران والله ، ليس أفهم عنك ! وأصفق الباب في وجهه .
فضحك جبل ، فمر به الطائف فسأله عن شأنه ، فضحك الطائف وشيعه إلى أهله )
***************
وللجاحظ قصص وكتب عن البخلاء والمعلمين والمتنبيين قصص عن الحمقى ونوادرهم والجواري وقصصهم وغيرهم ..
ويبدوا لي أن الكثير من الكتاب قد أخذوا من قصص الجاحظ وما رواه ، وأدل من ذلك عند مراجعتك لكتاب العقد الفريد ستجد أن كثير من قصص البخلاء ليس مرجعها إلا كتب الجاحظ !
من بين ما ألفه الجاحظ وسخر منهم المعلمين ، وقد ذكر له قصة وقبل أن يؤلف كتابه مع أحد معلمي الصبيان والذي عشق امرأة من غير أن يراها قال ( الجاحظ ) :
(دخلت يوما مدينة ، فوجدت فيها معلما في هيئة حسنة فسلمت عليه ، فرد علي أحسن رد ، ورحب بي ، فجلست عنده ، وباحثته في القرآن ، فإذا هو ماهر فيه ، ثم تفاتحنا الفقه والنحو وأشعار العرب ، فإذا هو كامل الأدب ، فقلت : سأختلف إليه وأزوره .
وجئت يوما لزيارته فإذا بالكُتاب مغلق ولم أجده ، فسألت عنه فقيل : مات له ميت ، فحزن عليه وجلس في بيت عزائه .
فذهبت إلى بيته وطرقت الباب ، فخرجت إلي جارية وقالت : ما تريد ؟ قلت : سيدك . فدخلت وخرجت ، وقالت : باسم الله ، فدخلت إليه وإذا به جالس . فقلت : عظم الله أجرك ، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، كل نفس ذائقة الموت ، فعليك بالصبر .
ثم قلت له : هذا الذي توفي ولدك ؟ قال : لا . قلت : فوالدك ؟ قال : لا . قلت فأخوك ؟ قال : لا . قلت : فزوجتك ؟ . قال : لا . فقلت : فمن هو ؟! قال : حبيبتي . فقلت في نفسي . هذا أول العجائب . فقلت : سبحان الله ! النساء كثير ، وستجد غيرها . فقال : أتظن أني رأيتها ؟ قلت ( في نفسه ) : هذه الثانية . . ثم قلت : وكيف عشقت من لم ترى ؟ فقال : أعلم أني كنت جالسا في هذا المكان ، وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول :
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة *** ردي علي فؤادي أينما كان
فقلت في نفسي : لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتها .
فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول :
لقد ذهب الحمار بأم عمرو *** فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت ، فحزنت عليها ، وأغلقت الكُتاب وجلست في الدار !
فقلت ( الجاحظ ) : يا هذا ، إني كنت ، قد ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين ، وكنت حين صحبتك عزمت على تقطيعه ، والآن قد قويت عزمي على إبقائه ، وأول ما أبدأ بك إن شاء الله ) .
*************
الجاحظ وذاكرته
يذكر الخطيب البغدادي في كتاب " تاريخ بغداد " عن الجاحظ هذه القصة :
( نسيت كنيتي ثلاثة أيام ، فأتيت أهلي فقلت : بما أكنى ؟ فقالوا : بأبو عثمان )
ورغم هذا فكثير من قصص الجاحظ قد رواها وبعد أربعين سنة بعد حدوثها كما صرح في بعض كتبه ، كم أن كتبه وروايته تنفي هذه القصة وتكذبها .
إلا أن الجاحظ وفي موضع من كتاب الحيوان يذكر عن حيوان يساعد البحارة عند الغرق ( الدلفين ) يقول : ( ولم أجدهم يشكون أن بعض الحيوان الذي يكون في البحر مما ليس بسمك ، قد ذهب عني اسمه ، إذا أبصر غريقا عرض له وصار تحت بطنه وصدره فلا يزال كالحامل له والمزجي المعين حتى يقذف به إلى جزيرة أو ساحل أو جبل )
ويبدوا أن الجاحظ قد نسى أسم هذا الحيوان وهو الدلفين ، مع أنه ذكر أسم الدلفين في كتابه هذا في مواضع أخرى من الكتاب ....