الفجر
05-08-2002, 10:16 AM
الإسلاميون والثورة الإرترية
د. جلال الدين محمد صالح /6/3/2002م
كنت قد كتبت عن الحركة الإسلامية في القرن الإفريقي، العمق التاريخي، والتعدد المذهبي، وأتبعه اليوم هذا المقال الذي عنونته بعنوان ( الإسلاميون والثورة الإرترية) تأكيدا، وبيانا لأصالة الدور الإسلامي، الذي خالط المسألة الإرترية، وارتبط بها من أول يوم برزت فيه على الوجود كمشكلة سياسية، وتركة استعمارية،خلفها الوجود الإيطالي في القارة الإفريقية، يتنازعها أكثر من حل سياسي، منه ما يتجه بها تارة نحو السودان تقسيما، وتارة أخرى نحو إثيوبيا إلحاقا، وتعود جذور هذا الارتباط المصيري، والتاريخي الوثيق بين الإسلاميين والمسألة الإرترية إلى نشأة حزب الرابطة الإسلامية، الساعد الإسلامي العنيد، الذي أعاق كل محاولات إلغاء إرتريا بحدودها الجغرافية المعروفة، من ساحة الوجود الدولي، واستطاع في النهاية أن يجعل منها قضية حية، تناقش في أروقة الأمم المتحدة، وحقا مشروعا من ورائه ثورة شعبية، من غير أن يعني هذا أن الرابطة الإسلامية، كانت تحمل وقتئذ ما يحمله الإسلاميون اليوم من مشروع حضاري، يستهدف حكم إرتريا بنظام إسلامي، فإن لكل مرحلة تاريخية خصائصها الفكرية، وأولوياتها الضرورية، ومن ثم من الخطأ إثبات إسلامية الرابطة أو نفيها، بمحاكمة حلولها السياسية في الحكم والإدارة إلى ثوابت المشروع الإسلامي المعاصر، كما يطرحه الإسلاميون اليوم ويبشرون به، وإنما لا بد من البحث عن مرجعية منطلقاتها الوطنية، ودوافعها الأساسية، التي جعلت منها تيارا حادا، بالذات في مواجهة سياسات الرغبة الإثيوبية، بجانب الرصيد الفكري، والتراث الأسري في التكوين التربوي، لأبرز زعاماتها القيادية، فإن هذا وحده كاف لإثبات هذه الهوية أو نفيها، وبالرغم من وجود تفسير يعيد هذا الدافع إلى شعور طبقي، ويختزل الرابطة الإسلامية في أنها تعبير عن حالة اجتماعية في المقام الأول " انبثقت من حركة الأقنان المعادية للإقطاع في المنخفضات…"، طبقا لما جاء في كتاب (وراء الحرب في إرتريا ص111 إعداد برخت هبتي سلاسي وآخرين)، فإن وثائق الرابطة تقرر حقيقة أخرى، غير تلك التي أبرزها التفسير المشار إليه، وهو في الحقيقة تفسير لا يمثل إلا محاولة يائسة لتجريد الرابطة من صبغتها الإسلامية، وسلب الإسلام دوره الوطني، انطلاقا من التفسير المادي للتاريخ، الذي يحصر دوافع الإنسان في الجانب المادي، زاعما أن كل تصرفاته السياسية، ومفاهيمه الأخلاقية، إنما هي انعكاس لهذا الجانب ليس إلا، وهو تفسير أثبتت وقائع الأيام خلله وخرفه، ويبدو أن هذا التفسير يستند إلى موقف الشيخ إبراهيم سلطان في مسألة التجري والشماقلي، ومهما كان الحكم على هذا الموقف من حيث أولويته في ذلكم الظرف، وتلكم المرحلة، فإن الإسلام يرفض المفاضلة بين الناس على أساس طبقي، وليس هناك ما يمنع من التعبير عن مثل هذا الموقف إسلاميا، ولكن من مجافاة الموضوعية ومجانبتها، أن يجعل هذا التفسير من هذه الموقف دون غيره من المواقف الأساسية والبارزة بشكل واضح وجلي، ركيزة حكمه على حركة سياسية ضمت مختلف طبقات المجتمع الإسلامي الإرتري، وانطلقت في تأسيس ذاتها من منطلقات عقدية، باسم الإسلام، وتحت زعامة إسلامية، تستمد شرعيتها من الانتساب إلى بيت النبوة، تمثلت في قيادة السيد بكري المرغني، بأنها حركة طبقية قامت لمعاداة الإقطاع في المنخفضات، فإن هذا يتنافى مع أبسط معطيات الواقع التاريخي، بالإضافة إلى أنه يتعارض مع ما أعلنته الرابطة بشكل صريح أمام المجتمع الدولي، من أنها تمثل المسلمين، وتدافع عن مصالحهم، وذلك عندما وقف رئيس وفدها السيد إبراهيم سلطان رحمه الله، أمام اللجنة السياسية في الأمم المتحدة في 20/4/1949م قائلا: إن منظمته تدافع عن مصالح المسلمين. وفقا لما ذكره رجب حراز في كتابه الأمم المتحدة وقضية إرتريا ص 45 معهد البحوث والدراسات العربية.
أضف إلى ذلك أن الشهيد عبد القادر صالح كبيري وضح بما لا يترك مجالا لكل تفسير متهافت أسباب تأسيس الرابطة الإسلامية، ومبررات رفض الالتحاق بإثيوبيا في رسالة كتبها في 25/8/1947م إلى (كولير نور)، الذي كان يسكن وقتها (مقديشو)، يقول فيها: "نحن رزقنا الله السمع والبصر كيف نفكر بالانضواء تحت إثيوبيا المستبدة!! ألم نر حال إخواننا المسلمين … ليس لهم حول ولا قوة … مضطهدون من الأقلية الحقيرة… فإننا نظرا لذلك صَمَّمْنَا على الدفاع عن كياننا، وأن نطالب بحقنا إلى الممات".
وهذا النص بكل ما يحمل من مشاعر، وأحاسيس إسلامية؛ نحو معانات ومرارات المسلم الإثيوبي، يضع حدا لكل التخمينات والتفسيرات التي استهدفت تعرية الرابطة الإسلامية من ثوبها الإسلامي، وإلباسها ثوبا آخر، مفصلا بمقاييس ماركسية، ويعكس في الوقت ذاته الخلفية الثقافية، والتكوين التربوي لكاتبه، وهو أمر متوقع، وغير مستغرب من شخصية إسلامية، خبرت ما كان يعانيه المسلمون الإثيوبيون من ظلم سياسي واقع عليهم عبر العصور من أباطرة إثيوبيا، واتخذته عبرة للأولي الألباب، علاوة على أن هذه الشخصية نفسها تعود في أصل جذورها، ومنبت نشوئها، وسابق تاريخها، إلى أسرة عريقة في الإسلام، اشتهرت بالفقه في الدين، والإمامة فيه، ليس في إطار محيطها المحلي، وإنما أيضا في أوساط المحيط الإقليمي، ويكفي أنها تلقت خطابات تواصل، وهدايا تكريم، من حاكم اليمن وإمامها في القرن السابع عشر الميلادي المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1645 – 1675م)، الأمر الذي يشير إلى ما كان لها من دور سياسي واجتماعي، يمثل مصالح المسلمين، ويتصدر قيادتهم، يتضح هذا من الإطراء، والثناء الذي قاله فيها موفد الإمام المتوكل على الله إلى ملك الحبشة فاسيلاداس (1632 – 1665 )، الذي طلب من إمام اليمن إرسال من يتباحث معه في أمر لا يبوح به لأحد غيره، فكان هذا الرسول، عالم اليمن وفقيهها، الحسن بن أحمد، المعروف بالحيمي، الذي دون رحلته في كتاب سماه (سيرة الحبشة)، حيث قال فيه بعد مقابلته لعدد من أفراد أسرة آل كبيري في (أندرته): " ووصل إلينا إلى ذلك المحل الفقهاء آل كبيري صالح، وكان بأيدينا كتاب إليهم من مولانا أمير المؤمنين، وكسوة سنية فاخرة…ووصل معهم كبيري خير الدين، وله معرفة جيدة بمذهب الشافعي، وهو أفقه من آل كبيري صالح، وهم جميعا على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه." أنظر: ص 94
وهذا الرصيد التاريخي من الموروث الثقافي، والمكانة الاجتماعية والدينية لأسرة الشهيد عبد القادر صالح كبيري، لا بد أن يلقي بظلاله على وعي الشهيد السياسي، وهذا ما نراه يتجلى في الخطاب الذي وجهه إلى كولير نور، ومن غير الممكن إغفاله عند تحليل دوافع تكوين الرابطة الإسلامية، كما لا يمكن تجاهل أثره الواضح، سواء في نفسية السيد الشهيد،رحمه الله، ومشاعره، أو في دوره القيادي عند صياغة التوجه العام للرابطة، وتحديد مطالبها الأساسية التي تشكلت معالمها بالدرجة الأولى والأساسية، على ضوء مصالح المسلمين، تلافيا لمعانات إخواننا المسلمين في إثيوبيا، الذين كانوا يعانون وقتها على حد تعبير الشهيد من اضطهاد الأقلية الحقيرة، ولهذا ليس من الغريب أو العجيب أن نرى بعد ذلك الرابطة الإسلامية تعترض على العلم الإثيوبي، ليكون علم الاتحاد الفيدرالي، وتطالب بعلم جديد، باعتبار أن العلم الإثيوبي لا يمثل القيمة الاعتقادية لمسلمي إرتريا، وشعاراته تستفز مشاعر المسلمين الدينية، وذلك في المذكرة التي رفعتها إلى مندوب هيئة الأمم المتحدة إدوارد ماتينزو في 10/10/1951م حيث تقول المذكرة في ص 13: " لأن الفيدرالية مخلوق جديد ينبغي أن يكون لها علمها الخاص بها، وأن العلم الإثيوبي ليس صالحا ليكون علما سياسيا لفيدرالية تضم المسلمين والمسيحيين، لأنه علاوة على اشتماله على ألوان راية الكنيسة القبطية، فهو يحمل أسد يهوذا، أي رمز الشعب اليهودي، وهذا الأسد يحمل بدوره صليبا، وهذه أمور تتنافى كلها والديانة الإسلامية". وفي هذا دلالة واضحة في أن الرابطة اتخذت من الإسلام مرجعا لها، في القبول والرفض، وإن لم تنادي به دستورا في المجتمع، وهذا كاف لأن يجعل منها سلفا صالحا لحركة الجهاد الإسلامي اليوم، ويجعل من الحركة عَقِبًا بارا بها، ووفيا لها، يحمل شعار تحكيم الإسلام دستورا للحياة، الأمر الذي يجعل من العسير فصل الحركة عن الرابطة، على نحو يباعد بينهما، فكل منهما ينطلق من الدوافع والمرجعية التي انطلق منها الآخر، ملخصة في رفض كل ما يتنافى والدين الإسلامي، مع حماية مصالح المسلمين والدفاع عنها، ولا يضير ما بينهما من اختلاف في مسألة إقامة نظام إسلامي، فهذه مسالة اجتهادية من حيث تحقيقها واقعيا في ظرف زماني، ومكاني، وعدم إثارتها من الرابطة الإسلامية في ذلكم الظرف الزماني والمكاني يعكس رجاحة وعيها السياسي، ويا حبذا لو اقتفى الإسلاميون اليوم أثرها في هذه القضية بالذات، وكفوا عما لا يطيقون فعله، وأنزلوا الإسلام منجما كما نزل أول مرة، فما جعل الله عليهم في الدين من حرج، وهذه مسألة ربما أثرتها لا حقا، وبهذا نخلص إلى أن الاتجاه الإسلامي في إرتريا ما هو إلا حقب من الأجيال المتلاحقة، ذات المرجعية الموحدة، والثوابت المشتركة والمتوارثة، ابتداءً من الرابطة الإسلامية، ومرورا بجبهة تحرير إرتريا، قبل تلوث فطرتها، وانتهاء بحركة الجهاد الإسلامي، التصق بالمسألة الإرترية، وحمل همومها في وقت مبكر، منذ فجر نشوئها، كمشكلة سياسية، وأصر على بقائها حرة طليقة، محمية بسواعد أبنائها من أطماع الهيمنة الإثيوبية، لا لأنها مجرد تربة صالحة للرعي والزراعة، وتطل على شواطئ البحر الأحمر، أو لأنها ذات ثروات طبيعية فحسب، وإنما لأن مصالح المسلمين الثقافية، والسياسية، والاقتصادية فيها، تستدعي عدم التهاون في إلحاقها بالعرش الإمبراطوري، الذي يضطهد إخوانهم في الحبشة.
وهذه الرؤية هي أهم قاسم مشترك يميز الاتجاه الإسلامي الإرتري، ويجمع في الوقت نفسه بين شتى فصائله في مختلف عصورها، وأزمانها، بتعدد اجتهاداتها حول مفهوم محدد وموحد لمعنى الوطنية، فإرتريا في مفهوم هذا الاتجاه لمعنى الوطنية ليست بقعة مقدسة في ذاتها، تتضاءل دونها قداسة الدين، والعرض، والأرض، وإنما هي وعاء مكاني لا معنى لها في ذاتها، ما لم تضمن مصالح الإنسان المسلم بأفرعها المتعددة، دون الإضرار بمصالح الآخر.
يتابع .......
د. جلال الدين محمد صالح /6/3/2002م
كنت قد كتبت عن الحركة الإسلامية في القرن الإفريقي، العمق التاريخي، والتعدد المذهبي، وأتبعه اليوم هذا المقال الذي عنونته بعنوان ( الإسلاميون والثورة الإرترية) تأكيدا، وبيانا لأصالة الدور الإسلامي، الذي خالط المسألة الإرترية، وارتبط بها من أول يوم برزت فيه على الوجود كمشكلة سياسية، وتركة استعمارية،خلفها الوجود الإيطالي في القارة الإفريقية، يتنازعها أكثر من حل سياسي، منه ما يتجه بها تارة نحو السودان تقسيما، وتارة أخرى نحو إثيوبيا إلحاقا، وتعود جذور هذا الارتباط المصيري، والتاريخي الوثيق بين الإسلاميين والمسألة الإرترية إلى نشأة حزب الرابطة الإسلامية، الساعد الإسلامي العنيد، الذي أعاق كل محاولات إلغاء إرتريا بحدودها الجغرافية المعروفة، من ساحة الوجود الدولي، واستطاع في النهاية أن يجعل منها قضية حية، تناقش في أروقة الأمم المتحدة، وحقا مشروعا من ورائه ثورة شعبية، من غير أن يعني هذا أن الرابطة الإسلامية، كانت تحمل وقتئذ ما يحمله الإسلاميون اليوم من مشروع حضاري، يستهدف حكم إرتريا بنظام إسلامي، فإن لكل مرحلة تاريخية خصائصها الفكرية، وأولوياتها الضرورية، ومن ثم من الخطأ إثبات إسلامية الرابطة أو نفيها، بمحاكمة حلولها السياسية في الحكم والإدارة إلى ثوابت المشروع الإسلامي المعاصر، كما يطرحه الإسلاميون اليوم ويبشرون به، وإنما لا بد من البحث عن مرجعية منطلقاتها الوطنية، ودوافعها الأساسية، التي جعلت منها تيارا حادا، بالذات في مواجهة سياسات الرغبة الإثيوبية، بجانب الرصيد الفكري، والتراث الأسري في التكوين التربوي، لأبرز زعاماتها القيادية، فإن هذا وحده كاف لإثبات هذه الهوية أو نفيها، وبالرغم من وجود تفسير يعيد هذا الدافع إلى شعور طبقي، ويختزل الرابطة الإسلامية في أنها تعبير عن حالة اجتماعية في المقام الأول " انبثقت من حركة الأقنان المعادية للإقطاع في المنخفضات…"، طبقا لما جاء في كتاب (وراء الحرب في إرتريا ص111 إعداد برخت هبتي سلاسي وآخرين)، فإن وثائق الرابطة تقرر حقيقة أخرى، غير تلك التي أبرزها التفسير المشار إليه، وهو في الحقيقة تفسير لا يمثل إلا محاولة يائسة لتجريد الرابطة من صبغتها الإسلامية، وسلب الإسلام دوره الوطني، انطلاقا من التفسير المادي للتاريخ، الذي يحصر دوافع الإنسان في الجانب المادي، زاعما أن كل تصرفاته السياسية، ومفاهيمه الأخلاقية، إنما هي انعكاس لهذا الجانب ليس إلا، وهو تفسير أثبتت وقائع الأيام خلله وخرفه، ويبدو أن هذا التفسير يستند إلى موقف الشيخ إبراهيم سلطان في مسألة التجري والشماقلي، ومهما كان الحكم على هذا الموقف من حيث أولويته في ذلكم الظرف، وتلكم المرحلة، فإن الإسلام يرفض المفاضلة بين الناس على أساس طبقي، وليس هناك ما يمنع من التعبير عن مثل هذا الموقف إسلاميا، ولكن من مجافاة الموضوعية ومجانبتها، أن يجعل هذا التفسير من هذه الموقف دون غيره من المواقف الأساسية والبارزة بشكل واضح وجلي، ركيزة حكمه على حركة سياسية ضمت مختلف طبقات المجتمع الإسلامي الإرتري، وانطلقت في تأسيس ذاتها من منطلقات عقدية، باسم الإسلام، وتحت زعامة إسلامية، تستمد شرعيتها من الانتساب إلى بيت النبوة، تمثلت في قيادة السيد بكري المرغني، بأنها حركة طبقية قامت لمعاداة الإقطاع في المنخفضات، فإن هذا يتنافى مع أبسط معطيات الواقع التاريخي، بالإضافة إلى أنه يتعارض مع ما أعلنته الرابطة بشكل صريح أمام المجتمع الدولي، من أنها تمثل المسلمين، وتدافع عن مصالحهم، وذلك عندما وقف رئيس وفدها السيد إبراهيم سلطان رحمه الله، أمام اللجنة السياسية في الأمم المتحدة في 20/4/1949م قائلا: إن منظمته تدافع عن مصالح المسلمين. وفقا لما ذكره رجب حراز في كتابه الأمم المتحدة وقضية إرتريا ص 45 معهد البحوث والدراسات العربية.
أضف إلى ذلك أن الشهيد عبد القادر صالح كبيري وضح بما لا يترك مجالا لكل تفسير متهافت أسباب تأسيس الرابطة الإسلامية، ومبررات رفض الالتحاق بإثيوبيا في رسالة كتبها في 25/8/1947م إلى (كولير نور)، الذي كان يسكن وقتها (مقديشو)، يقول فيها: "نحن رزقنا الله السمع والبصر كيف نفكر بالانضواء تحت إثيوبيا المستبدة!! ألم نر حال إخواننا المسلمين … ليس لهم حول ولا قوة … مضطهدون من الأقلية الحقيرة… فإننا نظرا لذلك صَمَّمْنَا على الدفاع عن كياننا، وأن نطالب بحقنا إلى الممات".
وهذا النص بكل ما يحمل من مشاعر، وأحاسيس إسلامية؛ نحو معانات ومرارات المسلم الإثيوبي، يضع حدا لكل التخمينات والتفسيرات التي استهدفت تعرية الرابطة الإسلامية من ثوبها الإسلامي، وإلباسها ثوبا آخر، مفصلا بمقاييس ماركسية، ويعكس في الوقت ذاته الخلفية الثقافية، والتكوين التربوي لكاتبه، وهو أمر متوقع، وغير مستغرب من شخصية إسلامية، خبرت ما كان يعانيه المسلمون الإثيوبيون من ظلم سياسي واقع عليهم عبر العصور من أباطرة إثيوبيا، واتخذته عبرة للأولي الألباب، علاوة على أن هذه الشخصية نفسها تعود في أصل جذورها، ومنبت نشوئها، وسابق تاريخها، إلى أسرة عريقة في الإسلام، اشتهرت بالفقه في الدين، والإمامة فيه، ليس في إطار محيطها المحلي، وإنما أيضا في أوساط المحيط الإقليمي، ويكفي أنها تلقت خطابات تواصل، وهدايا تكريم، من حاكم اليمن وإمامها في القرن السابع عشر الميلادي المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1645 – 1675م)، الأمر الذي يشير إلى ما كان لها من دور سياسي واجتماعي، يمثل مصالح المسلمين، ويتصدر قيادتهم، يتضح هذا من الإطراء، والثناء الذي قاله فيها موفد الإمام المتوكل على الله إلى ملك الحبشة فاسيلاداس (1632 – 1665 )، الذي طلب من إمام اليمن إرسال من يتباحث معه في أمر لا يبوح به لأحد غيره، فكان هذا الرسول، عالم اليمن وفقيهها، الحسن بن أحمد، المعروف بالحيمي، الذي دون رحلته في كتاب سماه (سيرة الحبشة)، حيث قال فيه بعد مقابلته لعدد من أفراد أسرة آل كبيري في (أندرته): " ووصل إلينا إلى ذلك المحل الفقهاء آل كبيري صالح، وكان بأيدينا كتاب إليهم من مولانا أمير المؤمنين، وكسوة سنية فاخرة…ووصل معهم كبيري خير الدين، وله معرفة جيدة بمذهب الشافعي، وهو أفقه من آل كبيري صالح، وهم جميعا على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه." أنظر: ص 94
وهذا الرصيد التاريخي من الموروث الثقافي، والمكانة الاجتماعية والدينية لأسرة الشهيد عبد القادر صالح كبيري، لا بد أن يلقي بظلاله على وعي الشهيد السياسي، وهذا ما نراه يتجلى في الخطاب الذي وجهه إلى كولير نور، ومن غير الممكن إغفاله عند تحليل دوافع تكوين الرابطة الإسلامية، كما لا يمكن تجاهل أثره الواضح، سواء في نفسية السيد الشهيد،رحمه الله، ومشاعره، أو في دوره القيادي عند صياغة التوجه العام للرابطة، وتحديد مطالبها الأساسية التي تشكلت معالمها بالدرجة الأولى والأساسية، على ضوء مصالح المسلمين، تلافيا لمعانات إخواننا المسلمين في إثيوبيا، الذين كانوا يعانون وقتها على حد تعبير الشهيد من اضطهاد الأقلية الحقيرة، ولهذا ليس من الغريب أو العجيب أن نرى بعد ذلك الرابطة الإسلامية تعترض على العلم الإثيوبي، ليكون علم الاتحاد الفيدرالي، وتطالب بعلم جديد، باعتبار أن العلم الإثيوبي لا يمثل القيمة الاعتقادية لمسلمي إرتريا، وشعاراته تستفز مشاعر المسلمين الدينية، وذلك في المذكرة التي رفعتها إلى مندوب هيئة الأمم المتحدة إدوارد ماتينزو في 10/10/1951م حيث تقول المذكرة في ص 13: " لأن الفيدرالية مخلوق جديد ينبغي أن يكون لها علمها الخاص بها، وأن العلم الإثيوبي ليس صالحا ليكون علما سياسيا لفيدرالية تضم المسلمين والمسيحيين، لأنه علاوة على اشتماله على ألوان راية الكنيسة القبطية، فهو يحمل أسد يهوذا، أي رمز الشعب اليهودي، وهذا الأسد يحمل بدوره صليبا، وهذه أمور تتنافى كلها والديانة الإسلامية". وفي هذا دلالة واضحة في أن الرابطة اتخذت من الإسلام مرجعا لها، في القبول والرفض، وإن لم تنادي به دستورا في المجتمع، وهذا كاف لأن يجعل منها سلفا صالحا لحركة الجهاد الإسلامي اليوم، ويجعل من الحركة عَقِبًا بارا بها، ووفيا لها، يحمل شعار تحكيم الإسلام دستورا للحياة، الأمر الذي يجعل من العسير فصل الحركة عن الرابطة، على نحو يباعد بينهما، فكل منهما ينطلق من الدوافع والمرجعية التي انطلق منها الآخر، ملخصة في رفض كل ما يتنافى والدين الإسلامي، مع حماية مصالح المسلمين والدفاع عنها، ولا يضير ما بينهما من اختلاف في مسألة إقامة نظام إسلامي، فهذه مسالة اجتهادية من حيث تحقيقها واقعيا في ظرف زماني، ومكاني، وعدم إثارتها من الرابطة الإسلامية في ذلكم الظرف الزماني والمكاني يعكس رجاحة وعيها السياسي، ويا حبذا لو اقتفى الإسلاميون اليوم أثرها في هذه القضية بالذات، وكفوا عما لا يطيقون فعله، وأنزلوا الإسلام منجما كما نزل أول مرة، فما جعل الله عليهم في الدين من حرج، وهذه مسألة ربما أثرتها لا حقا، وبهذا نخلص إلى أن الاتجاه الإسلامي في إرتريا ما هو إلا حقب من الأجيال المتلاحقة، ذات المرجعية الموحدة، والثوابت المشتركة والمتوارثة، ابتداءً من الرابطة الإسلامية، ومرورا بجبهة تحرير إرتريا، قبل تلوث فطرتها، وانتهاء بحركة الجهاد الإسلامي، التصق بالمسألة الإرترية، وحمل همومها في وقت مبكر، منذ فجر نشوئها، كمشكلة سياسية، وأصر على بقائها حرة طليقة، محمية بسواعد أبنائها من أطماع الهيمنة الإثيوبية، لا لأنها مجرد تربة صالحة للرعي والزراعة، وتطل على شواطئ البحر الأحمر، أو لأنها ذات ثروات طبيعية فحسب، وإنما لأن مصالح المسلمين الثقافية، والسياسية، والاقتصادية فيها، تستدعي عدم التهاون في إلحاقها بالعرش الإمبراطوري، الذي يضطهد إخوانهم في الحبشة.
وهذه الرؤية هي أهم قاسم مشترك يميز الاتجاه الإسلامي الإرتري، ويجمع في الوقت نفسه بين شتى فصائله في مختلف عصورها، وأزمانها، بتعدد اجتهاداتها حول مفهوم محدد وموحد لمعنى الوطنية، فإرتريا في مفهوم هذا الاتجاه لمعنى الوطنية ليست بقعة مقدسة في ذاتها، تتضاءل دونها قداسة الدين، والعرض، والأرض، وإنما هي وعاء مكاني لا معنى لها في ذاتها، ما لم تضمن مصالح الإنسان المسلم بأفرعها المتعددة، دون الإضرار بمصالح الآخر.
يتابع .......