aziz2000
27-05-2003, 05:44 AM
الدعاة أمام المآسي والنكبات والآلام أصناف ثلاثة: منهم من يؤثر العزلة ويبتعد عن الحياة وينعزل عن الدعوة نجاة بدينه من الفتن، وآخر يائس ما يدري ما يعمل!
والصنف الثالث الجادون؛ المحترقة قلوبهم على الأمة، فهم في هذه الساعة يشمرون، وفي مآذناها يكبرون، وعلى بناء الأجيال يتنادون.
أما العجزة اليائسون فليس لهم مكان بيننا ،وأما المنعزلون التائهون فمكانهم في مؤخرة الركب !وفي هذا الصدد أتذكر الكتب الأربعة التي عملها العلامة (سلمان بن فهد العودة )حول العزلة والاختلاط ،والتي أراها مفيدة وعميقة في هذا الصدد، والتي تناول فيها القضايا الشرعية حول العزلة و الاعتزال والعمل الدعوي في ظل الفتن والمهلكات، وهي نماذج قيمة في هذا المجال.
وإنما يذكر التاريخ نماذج عالية من أولئك الرهط الأطهار الذين ضاقت عليهم الدنيا، ونزلت بهم المصائب والبلايا؛ فأزاحوها بعمل دؤوب، وجد لا يتوانى، وسنان لا تفل!
فلا يُذكر أبو بكر إلا وتُذكر مواقفه في مكة، عندما كان يذود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ،وفي الهجرة عندما ضاقت السبل، وكانت صيحته المدوية التي جعلت التاريخ يذكره مثالاً للدعاة الذين لا يعرفون اليأس والقنوط، عندما ارتد المرتدون، ونجم النفاق، واشرأبت أعناق المشركين، وتطاول الأقزام على الإسلام للنيل منه ،وظنوا أن وفاة المصطفى – صلى الله عليه وسلم- أنما هي إيذان بموت هذا الدين، وما ظنوا أن هناك رجالاً تركهم النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم أنهم لهذا الدين حافظون، وعن حماه مدافعون، وفي سبيله يموتون ،فكانت صيحته المدوية التي أيقظت النائمين، وهزت العاجزين ،وفكت إسار اليائسين "لا ينقص الدين وأنا حي!" إنه موقف بطولي مشرِّف لصدِّيق هذه الأمة، رضي الله عنه.
وعندما يذكر التاريخ الأمويين فإنه يقف طويلاً أمام (عمر بن عبدالعزيز)ذاك الرجل الذي أثقله حمل السابقين، وتركوا له إرثاً تنوء الجبال بحمله،فكان أن قام لها وأعاد الناس إلى عهد الخلافة الراشدة.
وها هو (ابن حنبل) لا يُذكر إلا ويلازمه ذكر محنة (خلق القرآن) التي بقي فيها وحيـداً وهو يرى رفاقه يتساقطون أمام سطوة السلطان، وسوط الجلاد ! فهل أثناه أنه وحيد، لا مناصر، ولا معين ؟إن المتتبع لقصته ليرى أن هذا الرجل كان يحمل هم أمة بكاملها وهوبحق إمام أهل السنة والجماعة.
إنه العمل في ظل الظروف القاهرة والفتن والعارمة.
ثم ماذا ؟
عندما انتكست الأمة واستعمرت من الصليبين ولم تبق مدينة إلا ودنستها أقدام النصارى؛ إلا حلب الشهباء، خرج (نور الدين زنكي) من رحم المأساة،وانطلق من المدينة المتبقية (حلب) وصارع النصارى والصليبين في معارك خلدت ذكراه، وأخرجت للأمة القائد الفذ (صلاح الدين الأيوبي) الذي كسر شوكة الصليبين، ورد كيدهم إلى نحورهم، وجعلهم يفكرون آلاف المرات قبل الإقدام على غزو ديار المسلمين ،وكانت المعركة الحاسمة(حطين) التي أخرجت الصليبيين من أرض الإسلام!
ثم دارت الدائرة على أهل الإسلام ،وانطلقت جحافل التتار تنذر بشر عظيم وتنادي "ويل للعرب من شر قد اقترب " ، وتطأ رؤوس كل من ينظر إليها فضلاً عن الوقوف أمامها، وكان منظرهم فظيعاً مرعباً لكل من يسمع عنهم ؛بله عمن يقابلهم، وانطلقت هذه الجحافل المرعبة المخيفة بخيولها تبث الرعب والفساد، وتخلف وراءها خراباً ودماراً ينذر بسقوط الحضارة، وينادي بالويل والثبور على كل ما صنعته أيدي البشر ، ثم تقدمت هذه القوات إلى أسوار بغداد واستطاعت أن تدك بخيولها الأرض الطاهرة، وأن تربطها في شط الفرات، فهي لا يدانيها جيش، ولا يقف أمامها عتاد!
استباحت هذه الجيوش الجرارة الأمة ، وولغت في دمائها ولم تبق إلا مصر -القاهرة -، فماذا كان ؟وقف المتخاذلون واليائسون يستجدون الرحمة والحل السلمي، والاستسلام لهذه الجيوش التي لا تعرف شيئاً إلا السيف والرمح!ووقف الآخرون يبكون الأمجاد والأطلال، ويحجمون عن قتال هذه الجحافل العظيمة الظالمة.
فما هي إلا وقفة من المظفر (قطز) بددت ظلمات الجبن، وأشعلت الأمل في نفوس اليائسين والمتخاذلين وأعطت العاجزين وقودًا يوقِدون به حماستهم للانطلاق نحو تحطيم الأسطورة التي لا تقهر ،وأعادت إلى الأمة عزها ومكانتها اللائقة،فكانت المعركة الحاسمة التي طاردت فلول التتار وردّت كيدهم إلى نحورهم ،إنها معركة ( عين جالوت)!
فبدد (سيف الدين قطز) ظلمات العجز ،وأنار بثباته طريق اليائسين، وأزاح العذر عن المعتزلين!، وكانت صيحته العالية (واإسلاماه) التي فتحت أبواب السماء ،وقرعت أسوار النصر بشدة، فما كان إلا أن تَنـزّل النصر المبين .
إنها لحظة القائد الذي نسي نفسه، وأذابها في الأمة ،إنها القيادات العظيمة التي صنعها هذا الدين ورباها هذا الإسلام، وخبأها لهذا اليوم العظيم، فلم تبخل عليه في ساعة العسرة.
إن هذا الدين لا يعرف العجز ولا اليأس، ومن رحمة الله تعالى أنه لم يجعل نصره(الدين) بكلمة كن الإلهية ، وإنما يأتي من خلال العمل الإنساني الذي يفقه السنن الكونية، ولا يركن إلى رصيده، إنه الأمر بالعمل والجهاد في شتى الميادين وضروب الأعمال.
بل إنني أرى أن العمل الإسلامي لا يتحفز للانطلاق بعزيمة أكبر إلا في ظل الظروف غير الطبيعية التي تعتبر تحدياً صارخاً له ،فأولئك الرجال آنفي الذكر وغيرهم ممن لم نذكر ، إنما عملوا في ظل ظروف قاهرة وقاتلة ،بل تدع القوي ينهار كما كان من (عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- أمام ما رآه من سطوة الباطل وقوته ،وهكذا مع (ابن حنبل) و(قطز) وغيرهم ...،فالعامل إنما يعمل لهذا الدين تحت ظل أي ظرف، ولا يسأل عن النتيجة مادام العمل مخلصاً !
وإن تعجب فعجب ثبات غير المسلمين، وتفانيهم في طريق إقامة دولتهم ، وهم كما قال ربنا – تعالى-: " وترجون من الله مالا يرجون".
فمن كان يظن في يوم من أيام الدنيا أن اليهود ستقوم لهم دولة، وفي أرض فلسطين الدولة الموعودة في التوراة؛ بل إن المطالع لتاريخ (هرتزل) ليأخذه العجب من تصميم هذا الرجل ،وتحويله الخيال إلى حقيقة ملموسة على أرض الواقع !
من هنا نقول: إن أمتنا اليوم قد أصيبت في صميمها، وطعنت في مقتلها، وازدادت تبعيتها للغرب الأمريكي؛ خاصة بعد احتلال الشرذمة الكافرة للعراق الذي يمثل أحد أعمدة هذه الأمة العظيمة.
ولكن في ظل هذه الظروف ومع ضعف الإمكانات،ومع التضييق الذي سيكون ،ماذا نعمل ؟ هل نتخلى عن العمل، ونترك إخواننا في العراق يواجهون مصيرهم وحدهم ؟ أم نصارع معهم الباطل كما يصارعون؟ والمسلم لا يكمل إيمانه إلا بمؤازرة أخيه المؤمن !مع العلم بأننا لم نستنفذ كل الإمكانات الموجودة ولم نفجر الطاقات الكامنة.
إذاً نحن أمام تحد واضح وصارخ للعمل الصائب في ظل هذه الظروف القاتلة.
لذا علينا أن ننطلق للعمل وفق الأمور والمتطلبات التالية:
1-انقاذ ما يمكن انقاذه من الغزو الصليبي للعراق من حيث :
أ.المحافظة على النشء من الزحف التنصيري
ب.المساهمة في رفع معاناة الشعب العراقي بالمساهمة الجادة في إيصال ما يسد رمقهم، ويعينهم على قضاء حوائجهم.
ج.الدخول إلى إخواننا عن طريق لجان العمل الخيري لإنعاش العمل الإسلامي هناك
د.الاتصال بالإخْوة الدعاة هناك والتنسيق بينهم في أسلوب العمل القادم.
2-العمل على توحيد الصف الإسلامي وتوحيد الجهود العاملة في الساحة الخليجية أولاً ثم الانطلاق إلى غيرها وذلك من خلال:
أ. المؤتمرات العامة، الصحف والمجلات، والاجتماعات، والإنترنت .
ب. عمل مكاتب ارتباط بين العاملين في شتى الدول ،وفي أغلب القطاعات
ج. الاستفادة من خبرات الآخرين العاملين في هذا المجال قبلنا ،ويمكن الاستفادة من التفكير الغربي في هذا المجال ،مع دراسة الأحزاب الغربية والشيوعية وغيرها، وطريقة عملها في المجتمعات.
3-تغيير نمطية العمل، مع توسيع دائرة العمل الإسلامي في شتى قطاعات الدولة، وذلك من خلال عمل مكاتب دعوية مثل :المكتب السياسي، الإعلامي،الدعوي، التربوي ....الخ، بحيث يعمل كل مكتب وفق ضوابط وأسس يتفق عليها حتى لا تتداخل الخطوط، وتتشابك الأمور، ولا يعرف الداعية دوره المحدد والمرسوم له .
4-التأكيد على الدور الاجتماعي للداعية، ونعني به أن يرتبط الداعية بالمجتمع الذي يعيش فيه، وأن لا ينعزل بفكره وخدماته، وحضوره في الأفراح والأتراح.. إلخ.
5-الموازنة بين العمل السياسي والعمل العلمي والإيماني بحيث لا يطغى شئ على الآخر ،فطغيان السياسة يولد جفاء القلب وقسوته،والولوغ في العلوم الشرعية قد يفصله عن مجتمعه ،ويجعله يستغرق في مثاليات لا حصر لها.
6-الانتباه إلى صنع قيادات تقود الأمة والدعوة ،وذلك من خلال التربية الطويلة ،فالقيادات الناضجة هي التي تستطيع قيادة الأمة فلسنا بحاجة إلى من يطاطأ الرأس، دائم الخضوع على شاكلة الشيخ ومريديه، وإنما نحن بحاجة إلى أولئك الأفذاذ الذين يقودون الأمة ،ويرفعونها إلى المستوى المطلوب ، ولا يكونون عبئاً عليها .(انظر كتاب المسار محمد أحمد الراشد- نظرية الأجيال القيادية).
7-إنشاء مدارس وكليات للتعرف على الدعوة وتعليمها؛ من خلال الممارسة العملية، والإدارة النظرية.
8-الاستفادة من الإعلام العالمي في إيصال دعوتنا العالمية لكل الناس ، فالفساق يروجون لباطلهم من خلال الدعايات و العمل الدعائي والإعلامي والمجال مفتوح لهم ،ويخشى أحدنا الولوج إلى هذا المضمار، مما ترك الساحة خالية و الحبل على غاربه أمام هؤلاء يسرحون ويمرحون ،وظل الإسلاميون يندبون حظهم ،ويضربون أخماساً في أسداس مكتفين بالحوقلة والتباكي على ضياع الأمة! والفراغ لا يظل فراغاً، بل لابد من ملئه،فكان ما كان! ولابد أن نعترف أن لدينا قصوراً في الاستفادة من التكنولوجيا الغربية عموماً ،ونحن حاضرون في تصدير الفتاوي الجاهزة والمعلبة أما الاستفادة من المعطيات الواقعية، وتطويع الواقع لخدمة هذا الدين فأمامه آلاف الأسئلة ومعضلات المسائل!إن ماكان بالأمس حراماً أصبح اليوم مباحاً (القنوات الفضائية)، وأصبح العلماء والمشايخ يدلفون إلى هذه القنوات ،بل إننا نعلم اليوم أن فائدة وتأثير فيلم مرئي ومسموع يفوق تأثيره عشرات المرات المحاضرات والمواعظ! فلماذا إذن نحجم عما يفيدنا في الدعوة،وينشر الخير في المجتمع، ونحن في أمس الحاجة إلى أن يتعرف الناس علينا وعلى دعوتنا؟!
9-تكوين الثقافة السياسية لدى الداعية ،فإن الملاحظ أن غالبية الدعاة و القيادات –أيضاً- يفتقرون إلى عمق التحليل ،وعمق الفهم ،وتنقصهم الرؤية السياسية للأحداث،فترى الكثير منهم سطحيي الطرح ،سذج التفكير ،ولا يستطيعون الربط بين المتشابهات ولا يقرنون النظائر ببعضها،بل لا يعرفون خطط الأعداء ولا يقرؤون كتبهم، وينأون عن العمل السياسي المنظم !إن هذه الثقافة وهذا الاطلاع على مخططات الأعداء يجعل الداعية يدرك الدور المنوط به، وضخامة المركز الذي يحتله، ويقدر العمل الذي يقوم به مع إخوانه.أما الحياة هكذا بلا هدف، والعمل بلا وعي وبدون معرفة الخطر المحدق وضخامته؛ فيجعل هذا الداعية في كسل وترهل.
إنها أمانٍِ وآمال بعد تلك الآلام الموجعة ،والأحزان الكبرى ،والدين له رب يحميه والمستقبل لهذا الدين ولو بعد حين، فهل نبخل بأوقاتنا عليه، أم نتمنى أن نكون من الرواد الأوائل الذين يرتقون سلم المعالي؟! والجنان غالية، ولا تكون أعاليها إلا لمن قدم المهر الغالي. فهل سنكون منهم، أم نرضى عيش الذل والهوان؟!
عبد الرحمن عبد الله الجميعان
كاتب كويتي مهتم بالفكر السياسي والحركات الإسلامية
والصنف الثالث الجادون؛ المحترقة قلوبهم على الأمة، فهم في هذه الساعة يشمرون، وفي مآذناها يكبرون، وعلى بناء الأجيال يتنادون.
أما العجزة اليائسون فليس لهم مكان بيننا ،وأما المنعزلون التائهون فمكانهم في مؤخرة الركب !وفي هذا الصدد أتذكر الكتب الأربعة التي عملها العلامة (سلمان بن فهد العودة )حول العزلة والاختلاط ،والتي أراها مفيدة وعميقة في هذا الصدد، والتي تناول فيها القضايا الشرعية حول العزلة و الاعتزال والعمل الدعوي في ظل الفتن والمهلكات، وهي نماذج قيمة في هذا المجال.
وإنما يذكر التاريخ نماذج عالية من أولئك الرهط الأطهار الذين ضاقت عليهم الدنيا، ونزلت بهم المصائب والبلايا؛ فأزاحوها بعمل دؤوب، وجد لا يتوانى، وسنان لا تفل!
فلا يُذكر أبو بكر إلا وتُذكر مواقفه في مكة، عندما كان يذود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ،وفي الهجرة عندما ضاقت السبل، وكانت صيحته المدوية التي جعلت التاريخ يذكره مثالاً للدعاة الذين لا يعرفون اليأس والقنوط، عندما ارتد المرتدون، ونجم النفاق، واشرأبت أعناق المشركين، وتطاول الأقزام على الإسلام للنيل منه ،وظنوا أن وفاة المصطفى – صلى الله عليه وسلم- أنما هي إيذان بموت هذا الدين، وما ظنوا أن هناك رجالاً تركهم النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم أنهم لهذا الدين حافظون، وعن حماه مدافعون، وفي سبيله يموتون ،فكانت صيحته المدوية التي أيقظت النائمين، وهزت العاجزين ،وفكت إسار اليائسين "لا ينقص الدين وأنا حي!" إنه موقف بطولي مشرِّف لصدِّيق هذه الأمة، رضي الله عنه.
وعندما يذكر التاريخ الأمويين فإنه يقف طويلاً أمام (عمر بن عبدالعزيز)ذاك الرجل الذي أثقله حمل السابقين، وتركوا له إرثاً تنوء الجبال بحمله،فكان أن قام لها وأعاد الناس إلى عهد الخلافة الراشدة.
وها هو (ابن حنبل) لا يُذكر إلا ويلازمه ذكر محنة (خلق القرآن) التي بقي فيها وحيـداً وهو يرى رفاقه يتساقطون أمام سطوة السلطان، وسوط الجلاد ! فهل أثناه أنه وحيد، لا مناصر، ولا معين ؟إن المتتبع لقصته ليرى أن هذا الرجل كان يحمل هم أمة بكاملها وهوبحق إمام أهل السنة والجماعة.
إنه العمل في ظل الظروف القاهرة والفتن والعارمة.
ثم ماذا ؟
عندما انتكست الأمة واستعمرت من الصليبين ولم تبق مدينة إلا ودنستها أقدام النصارى؛ إلا حلب الشهباء، خرج (نور الدين زنكي) من رحم المأساة،وانطلق من المدينة المتبقية (حلب) وصارع النصارى والصليبين في معارك خلدت ذكراه، وأخرجت للأمة القائد الفذ (صلاح الدين الأيوبي) الذي كسر شوكة الصليبين، ورد كيدهم إلى نحورهم، وجعلهم يفكرون آلاف المرات قبل الإقدام على غزو ديار المسلمين ،وكانت المعركة الحاسمة(حطين) التي أخرجت الصليبيين من أرض الإسلام!
ثم دارت الدائرة على أهل الإسلام ،وانطلقت جحافل التتار تنذر بشر عظيم وتنادي "ويل للعرب من شر قد اقترب " ، وتطأ رؤوس كل من ينظر إليها فضلاً عن الوقوف أمامها، وكان منظرهم فظيعاً مرعباً لكل من يسمع عنهم ؛بله عمن يقابلهم، وانطلقت هذه الجحافل المرعبة المخيفة بخيولها تبث الرعب والفساد، وتخلف وراءها خراباً ودماراً ينذر بسقوط الحضارة، وينادي بالويل والثبور على كل ما صنعته أيدي البشر ، ثم تقدمت هذه القوات إلى أسوار بغداد واستطاعت أن تدك بخيولها الأرض الطاهرة، وأن تربطها في شط الفرات، فهي لا يدانيها جيش، ولا يقف أمامها عتاد!
استباحت هذه الجيوش الجرارة الأمة ، وولغت في دمائها ولم تبق إلا مصر -القاهرة -، فماذا كان ؟وقف المتخاذلون واليائسون يستجدون الرحمة والحل السلمي، والاستسلام لهذه الجيوش التي لا تعرف شيئاً إلا السيف والرمح!ووقف الآخرون يبكون الأمجاد والأطلال، ويحجمون عن قتال هذه الجحافل العظيمة الظالمة.
فما هي إلا وقفة من المظفر (قطز) بددت ظلمات الجبن، وأشعلت الأمل في نفوس اليائسين والمتخاذلين وأعطت العاجزين وقودًا يوقِدون به حماستهم للانطلاق نحو تحطيم الأسطورة التي لا تقهر ،وأعادت إلى الأمة عزها ومكانتها اللائقة،فكانت المعركة الحاسمة التي طاردت فلول التتار وردّت كيدهم إلى نحورهم ،إنها معركة ( عين جالوت)!
فبدد (سيف الدين قطز) ظلمات العجز ،وأنار بثباته طريق اليائسين، وأزاح العذر عن المعتزلين!، وكانت صيحته العالية (واإسلاماه) التي فتحت أبواب السماء ،وقرعت أسوار النصر بشدة، فما كان إلا أن تَنـزّل النصر المبين .
إنها لحظة القائد الذي نسي نفسه، وأذابها في الأمة ،إنها القيادات العظيمة التي صنعها هذا الدين ورباها هذا الإسلام، وخبأها لهذا اليوم العظيم، فلم تبخل عليه في ساعة العسرة.
إن هذا الدين لا يعرف العجز ولا اليأس، ومن رحمة الله تعالى أنه لم يجعل نصره(الدين) بكلمة كن الإلهية ، وإنما يأتي من خلال العمل الإنساني الذي يفقه السنن الكونية، ولا يركن إلى رصيده، إنه الأمر بالعمل والجهاد في شتى الميادين وضروب الأعمال.
بل إنني أرى أن العمل الإسلامي لا يتحفز للانطلاق بعزيمة أكبر إلا في ظل الظروف غير الطبيعية التي تعتبر تحدياً صارخاً له ،فأولئك الرجال آنفي الذكر وغيرهم ممن لم نذكر ، إنما عملوا في ظل ظروف قاهرة وقاتلة ،بل تدع القوي ينهار كما كان من (عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- أمام ما رآه من سطوة الباطل وقوته ،وهكذا مع (ابن حنبل) و(قطز) وغيرهم ...،فالعامل إنما يعمل لهذا الدين تحت ظل أي ظرف، ولا يسأل عن النتيجة مادام العمل مخلصاً !
وإن تعجب فعجب ثبات غير المسلمين، وتفانيهم في طريق إقامة دولتهم ، وهم كما قال ربنا – تعالى-: " وترجون من الله مالا يرجون".
فمن كان يظن في يوم من أيام الدنيا أن اليهود ستقوم لهم دولة، وفي أرض فلسطين الدولة الموعودة في التوراة؛ بل إن المطالع لتاريخ (هرتزل) ليأخذه العجب من تصميم هذا الرجل ،وتحويله الخيال إلى حقيقة ملموسة على أرض الواقع !
من هنا نقول: إن أمتنا اليوم قد أصيبت في صميمها، وطعنت في مقتلها، وازدادت تبعيتها للغرب الأمريكي؛ خاصة بعد احتلال الشرذمة الكافرة للعراق الذي يمثل أحد أعمدة هذه الأمة العظيمة.
ولكن في ظل هذه الظروف ومع ضعف الإمكانات،ومع التضييق الذي سيكون ،ماذا نعمل ؟ هل نتخلى عن العمل، ونترك إخواننا في العراق يواجهون مصيرهم وحدهم ؟ أم نصارع معهم الباطل كما يصارعون؟ والمسلم لا يكمل إيمانه إلا بمؤازرة أخيه المؤمن !مع العلم بأننا لم نستنفذ كل الإمكانات الموجودة ولم نفجر الطاقات الكامنة.
إذاً نحن أمام تحد واضح وصارخ للعمل الصائب في ظل هذه الظروف القاتلة.
لذا علينا أن ننطلق للعمل وفق الأمور والمتطلبات التالية:
1-انقاذ ما يمكن انقاذه من الغزو الصليبي للعراق من حيث :
أ.المحافظة على النشء من الزحف التنصيري
ب.المساهمة في رفع معاناة الشعب العراقي بالمساهمة الجادة في إيصال ما يسد رمقهم، ويعينهم على قضاء حوائجهم.
ج.الدخول إلى إخواننا عن طريق لجان العمل الخيري لإنعاش العمل الإسلامي هناك
د.الاتصال بالإخْوة الدعاة هناك والتنسيق بينهم في أسلوب العمل القادم.
2-العمل على توحيد الصف الإسلامي وتوحيد الجهود العاملة في الساحة الخليجية أولاً ثم الانطلاق إلى غيرها وذلك من خلال:
أ. المؤتمرات العامة، الصحف والمجلات، والاجتماعات، والإنترنت .
ب. عمل مكاتب ارتباط بين العاملين في شتى الدول ،وفي أغلب القطاعات
ج. الاستفادة من خبرات الآخرين العاملين في هذا المجال قبلنا ،ويمكن الاستفادة من التفكير الغربي في هذا المجال ،مع دراسة الأحزاب الغربية والشيوعية وغيرها، وطريقة عملها في المجتمعات.
3-تغيير نمطية العمل، مع توسيع دائرة العمل الإسلامي في شتى قطاعات الدولة، وذلك من خلال عمل مكاتب دعوية مثل :المكتب السياسي، الإعلامي،الدعوي، التربوي ....الخ، بحيث يعمل كل مكتب وفق ضوابط وأسس يتفق عليها حتى لا تتداخل الخطوط، وتتشابك الأمور، ولا يعرف الداعية دوره المحدد والمرسوم له .
4-التأكيد على الدور الاجتماعي للداعية، ونعني به أن يرتبط الداعية بالمجتمع الذي يعيش فيه، وأن لا ينعزل بفكره وخدماته، وحضوره في الأفراح والأتراح.. إلخ.
5-الموازنة بين العمل السياسي والعمل العلمي والإيماني بحيث لا يطغى شئ على الآخر ،فطغيان السياسة يولد جفاء القلب وقسوته،والولوغ في العلوم الشرعية قد يفصله عن مجتمعه ،ويجعله يستغرق في مثاليات لا حصر لها.
6-الانتباه إلى صنع قيادات تقود الأمة والدعوة ،وذلك من خلال التربية الطويلة ،فالقيادات الناضجة هي التي تستطيع قيادة الأمة فلسنا بحاجة إلى من يطاطأ الرأس، دائم الخضوع على شاكلة الشيخ ومريديه، وإنما نحن بحاجة إلى أولئك الأفذاذ الذين يقودون الأمة ،ويرفعونها إلى المستوى المطلوب ، ولا يكونون عبئاً عليها .(انظر كتاب المسار محمد أحمد الراشد- نظرية الأجيال القيادية).
7-إنشاء مدارس وكليات للتعرف على الدعوة وتعليمها؛ من خلال الممارسة العملية، والإدارة النظرية.
8-الاستفادة من الإعلام العالمي في إيصال دعوتنا العالمية لكل الناس ، فالفساق يروجون لباطلهم من خلال الدعايات و العمل الدعائي والإعلامي والمجال مفتوح لهم ،ويخشى أحدنا الولوج إلى هذا المضمار، مما ترك الساحة خالية و الحبل على غاربه أمام هؤلاء يسرحون ويمرحون ،وظل الإسلاميون يندبون حظهم ،ويضربون أخماساً في أسداس مكتفين بالحوقلة والتباكي على ضياع الأمة! والفراغ لا يظل فراغاً، بل لابد من ملئه،فكان ما كان! ولابد أن نعترف أن لدينا قصوراً في الاستفادة من التكنولوجيا الغربية عموماً ،ونحن حاضرون في تصدير الفتاوي الجاهزة والمعلبة أما الاستفادة من المعطيات الواقعية، وتطويع الواقع لخدمة هذا الدين فأمامه آلاف الأسئلة ومعضلات المسائل!إن ماكان بالأمس حراماً أصبح اليوم مباحاً (القنوات الفضائية)، وأصبح العلماء والمشايخ يدلفون إلى هذه القنوات ،بل إننا نعلم اليوم أن فائدة وتأثير فيلم مرئي ومسموع يفوق تأثيره عشرات المرات المحاضرات والمواعظ! فلماذا إذن نحجم عما يفيدنا في الدعوة،وينشر الخير في المجتمع، ونحن في أمس الحاجة إلى أن يتعرف الناس علينا وعلى دعوتنا؟!
9-تكوين الثقافة السياسية لدى الداعية ،فإن الملاحظ أن غالبية الدعاة و القيادات –أيضاً- يفتقرون إلى عمق التحليل ،وعمق الفهم ،وتنقصهم الرؤية السياسية للأحداث،فترى الكثير منهم سطحيي الطرح ،سذج التفكير ،ولا يستطيعون الربط بين المتشابهات ولا يقرنون النظائر ببعضها،بل لا يعرفون خطط الأعداء ولا يقرؤون كتبهم، وينأون عن العمل السياسي المنظم !إن هذه الثقافة وهذا الاطلاع على مخططات الأعداء يجعل الداعية يدرك الدور المنوط به، وضخامة المركز الذي يحتله، ويقدر العمل الذي يقوم به مع إخوانه.أما الحياة هكذا بلا هدف، والعمل بلا وعي وبدون معرفة الخطر المحدق وضخامته؛ فيجعل هذا الداعية في كسل وترهل.
إنها أمانٍِ وآمال بعد تلك الآلام الموجعة ،والأحزان الكبرى ،والدين له رب يحميه والمستقبل لهذا الدين ولو بعد حين، فهل نبخل بأوقاتنا عليه، أم نتمنى أن نكون من الرواد الأوائل الذين يرتقون سلم المعالي؟! والجنان غالية، ولا تكون أعاليها إلا لمن قدم المهر الغالي. فهل سنكون منهم، أم نرضى عيش الذل والهوان؟!
عبد الرحمن عبد الله الجميعان
كاتب كويتي مهتم بالفكر السياسي والحركات الإسلامية