PDA

View Full Version : !*!*! رسالة العصــــــــــــر!*!*!


العهد
20-08-2003, 12:27 PM
رسـالة العصر ( 1 / 4 )

سلمان بن فهد العودة


إن الحب في الله هو الإكسير الذي يحطّم العوائق، ويربط القلوب والنفوس مهما تباعدت في مواقعها ومواقفها ومداراتها واتجاهاتها وانشغالاتها؛ فلنرفع راية المحبة في وجه كل أعاصير الكراهية والبغضاء !
إن العصر الذي نعيشه يضجُّ بالمظالم والعدوان والقتل والعنف ؛ مرة باسم الحرية ، ومرة باسم الديمقراطية ، ومرة باسم السلام ، ومرة باسم الإسلام ؛ فلنعالج ذلك كلّه برفع راية المحبة والوئام ، ومحبة الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، و المحبة في الله وفي رسوله -صلى الله عليه وسلم- من خصائص المؤمنين ، يقول الله –عز وجل- : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[المائدة:54] .
ولندرك أن العسر كلمة صغيرة محفوفة باليسر قبلها واليسر بعدها ولن يغلب عسر يسرين .. (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح:5-6] .

إِذَا ضَاقَتْ بِكَ الدُّنْيَا
فَفَكِّرْ فِي أَلَمْ نَشْرَحْ

فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْـرَيْنِ
تَأَمَّلْ فِيهِمَا تَفْرَحْ

والحياة أيضاً كما هي مليئة بالعوائق، والعقبات، والنكبات؛ مليئة بالفرص. فإذا نظرت إلى الجانب المظلم؛ فاختلس نظرة أخرى إلى الجانب المشرق، ولتكن رسالةُ العصرِ تبشيراً بالمحبة والفرج والتيسير من الحكيم الخبير.
هذه خواطر أخوية هدفها المناصحة والمصافحة والمصالحة ، وقد كان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا تلاقوا لم يفترقوا حتى يقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر، كما رواه الطبراني في الأوسط [ 5124] والبيهقي في شعب الإيمان[8639] وسنده جيد.
إن من الفقه القرآني العناية بالمسائل الكبيرة والمهمة وإعطاءها حقها، بينما نغرق كثيراً .. كثيراً في مسائل من الدرجة الثالثة أو العاشرة .. وتستغرق الكثير من جهدنا وطاقتنا ، وطاقة الإنسان محدودة فإذا استغرقها في التفاصيل والجزئيات انقطع عن التأصيل والكليات ، وانشغل بالمسائل الصغار عن الكبار ، والصحابة-رضي الله عنهم- كانوا يتذاكرون هذه السورة لما فيها من أصول المسائل التي يجدر بالمسلم العناية بها ، ولأنها تربية على الأصول الكبرى ، وقد ينشغل المرء بالمفضول عن الفاضل ، وهذا من مداخل الشيطان كما ذكره أهل العلم، أو يتحرج المرء من صغيرة ويقدم على كبيرة ، وكان ابن عمر يقول لأهل العراق: ما أسْأًلَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة ، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتسألون عن دم البعوضة.
والذين يجلدون الإمام أحمد بن حنبل كانوا يسألونه عن الدم الذي ينضح على ثيابهم ، وكانوا ينتقدونه على أن يصلي وهو جالس والقيد في يديه وفي رجليه؛ ولذا فإننا نقف هنا مع ثلاث مسائل مهمة:
أولها : الزمان.
الثانية : الإنسان.
الثالثة : العمل.
هذه المسائل الثلاث هي سر النجاح والفلاح في الدنيا ، وهي سر الفوز والنجاة في الدار الآخرة ؛ ولنقف عند كل واحدة منها.

أولاً : الزمان.وهو العصر .. وهو البريء المتهم المظلوم، فالناس كثيراً ما يلقون مشاكلهم وإخفاقاتهم على الزمان ، وهو مجرد وعاء ليس له ولا عليه ، هو طرف محايد، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سب الدهر ، وقال عن ربه تبارك وتعالى : "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار" أخرجه البخاري [4826]، ومسلم [2246] من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ومعنى (أنا الدهر) أي أن ما ينسبه الناس إلى الدهر إنما هو بمشيئة الله تعالى وقدره، فهو خالقه سبحانه، ولا شيء في هذه الدنيا يتم عبثاً ولا اعتباطاً، وإنما هو بتقدير الحكيم الخبير.

نعــيب زماننا والعيب فينا
وما لزمـــاننا عيب سوانا

وقد نهجوا الزمان بغير جرم
ولو نطق الزمان بنا هجانا

وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

وقد أقسم الله تعالى بالعصر لعظمته وأهميته وضخامة أثره، فهو ظرف العمل ووعاؤه ، وهو سبب الربح في الدنيا والآخرة أو الخسارة فيهما، ولهذا قيل : الوقت هو الحياة ، قال الله تعالى : " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا"[الفرقان:62] قال ابن عباس من فاته عمل الليل قضاه بالنهار ، ومن فاته عمل النهار قضاه بالليل.
وقال جل وعلا : "وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ*وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ"[فاطر:36-37] .
قال ابن عباس : عمرناكم ستين سنة.
وفي صحيح البخاري [6419] عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة".
قال أحد البطالين لعامر بن عبد قيس : تعال أكلمك ، قال له: أمسك الشمس.
أي ليس لدي وقت لهذا الكلام إلا أن تمسك الشمس ويتوقف الزمن ويتوقف دوران الأيام وصرير الأقلام ، فحينئذ أتوقف لمحادثتك ، ولهذا عني السلف بحفظ الأوقات وضبطها.
وقد كتب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله- كتابه المعروف "قيمة الزمن عند العلماء".
وأقسم الله تعالى بـ"العصر"؛ لأنه يتحول ويتبدل ويتغير، ليل ونهار ، وصيف وشتاء ، وحر وبرد ، وعزة وذلة ، ونصر وهزيمة ، وفقر وغنى ، وشدة ورخاء ، وقوة وضعف ، ومرض وعافية ، وعسر ويسر ، وغيبة وحضور ، وهذا هو التاريخ كله مبسوط أمامك :

تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت
وتحدث من بعد الأمور أمورُ

وتجري الليالي باجتماع وفرقة
وتطلع فيها أنجم وتغورُ

وتطمع أن يبقى السرور لأهله
وهذا محال أن يدوم سرورُ

عفا الله عمن صير الهم واحداً
وأيقن أن الدائرات تدورُ

إن في الحاضر اليوم من ضعف المسلمين وتفرقهم وسطحية تفكير هم وتسلط عدوهم أمراً يبعث على الكآبة والحزن، وهذا يمكن مداواته بنوع من الامتداد إلى المستقبل ، وانتظار الفرج والسعي في التغيير ، وألا نظن أن الواقع سرمدٌ لا يزول.
كنت أقرأ قول الله تعالى: "أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ"[إبراهيم:44] وأتعجب وأتساءل من هؤلاء الذين اقسموا ما لهم من زوال؟
أليس كل الناس يدري، بل حتى الحيوان يدري أن لـه أجلاً ينتهي إليه، وأن الموت في انتظاره طال الزمن أو قصر ؟
من هؤلاء الذين اقسموا ما لهم من زوال ؟
حتى قرأت كتاب نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي فوكوياما ، والذي كان احتفالاً بسقوط الشيوعية، يقول: إن الغرب قد انتصر ، إن الديمقراطية الغربية قد انتصرت وحدث الأمر المنتظر فلا جديد بالتاريخ بعد ذلك إنها نهاية التاريخ .. " أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ*وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ"[إبراهيم:44-45] حل اليمين المتطرف محل الطغيان اليساري في العراق وفي غير العراق" فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ"[إبراهيم:47].

ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت
لنا رغبة أو رهبة عظمائها

فلما انتهت أيامنا عصفت بنا
شدائد أيام قليل رخائها

وكان إلينا في السرور ابتسامها
فصار علينا في الهموم بكاؤها

وصرنا نلاقي النائبات بأوجه
رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها

إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت
علينا الليالي لم يدعنا حياؤها

وأقسم الله بـ"العصر " إشارة إلى ضرورة المعاصرة والمعايشة والفهم للزمان ، وهذا هو الفرق بين العصر والدهر، فالدهر هو الزمان كله، أما العصر فهو عصرك الذي تعيش فيه ، فالمرء محتاج إلى أن يكون عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه مدركاً للتحولات والتغيرات التي تطرأ.

ما بين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلى حال

إن القدرة على فهم المتغيرات ومواكبتها مع التزام الشريعة الربانية والوقوف عند حدود الله عز وجل هي غاية التقوى ولهذا قال الله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرحمن:29] وقال صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه : "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" أخرجه مسلم[770] ، وعلمنا ربنا تبارك وتعالى أن نقول في كل ركعة : "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ"[الفاتحة:6] ليؤكد على أن ثمت ألواناً وأبواباً من الهداية لم تفتح بعد ، وأننا بحاجة إلى أن نطرقها، وأن نسأل الله تعالى فتحها، وأنه ليس صحيحاً أن ما أنت عليه يكفي .
وليس ما أنت عليه هو الحق دائماً وأبداً، بل من الفقه العظيم القدرة على استيعاب المتغيرات دون إخلال بثوابت الشريعة ومحكماتها.
والناس منهم من يجمد على بعض المعاني، وبعض الآراء والمفاهيم القابلة للأخذ والرد وهؤلاء يجعلون الأمر القابل للتغير ثابتاً حتى ليرفض الكثيرون منهم السنة التي لم يعلموها من قبل ، قال لي أحدهم : ما بال فلان كان يضع يديه على صدره في الصلاة ثم أصبح يضعها على سرّته.
ومن الناس من يضطرب في الثوابت والمسلمات والضروريات والقطعيات ، حتى لتجد اليوم في بعض حوارات الإنترنت أو الفضائيات جدلاً في مسائل قطعية محسومة كالمجادلين في الله تبارك وتعالى أو القرآن أو الوحي أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو في علاقة الدين بالسياسة، وتستمع إلى نوع من العلمنة والتغريب ، واستنساخ القيم الموجودة في الثقافة الأمريكية أو غيرها، ونحن في هذا المقام وغيره نتذكر قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان:67]، قال الأمريكي المسلم محمد علي: "إذا كنت أقول اليوم وأنا في الأربعين ما كنت أقوله وأنا ابن العشرين فمعنى ذلك أني ضيعت عشرين سنة من عمري دون جدوى".
إن المتغيرات والأحوال تكشف عن معادن الرجال وقدرتهم على الاستقلال ، فمن الناس من يقع في أسر النفس وهواها ، ومنهم من يقع في أسر السلطة ، ومنهم من يقع في أسر الأتباع ، والحرية هي الخلاص من ذلك كله.
قال أبو يزيد البسطامي : لو صحت الصلاة بغير القرآن لصحت بقول الشاعر :

أتمنى على الزمان محالا
أن ترى مقلتاي طلعة حرّ


وأقول : لو صحت الصلاة بشيء غير القرآن لصحت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" أخرجه البخاري [2887] من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- تعس عبد المادة، تعس عبد الشهوة ، ولكنها لا تصح بغير كلام الله فأقرؤوا ما تيسر منه.

فإن تكن الأحوال فينا تبدلت
بنعمى وبؤسى والحوادث تفعلُ

فما لينت منا قناة صليبة
ولا ذللتنا للذي ليس يجملُ

ولكن رحلناها نفوساً كريمة
تحمّل ما لا تستطيع فتحملُ

العهد
20-08-2003, 08:51 PM
رسالة العصر ( 2 / 4 )




أقسم الله بـ"َالْعَصْرِ " لأن من معاني العصر، الوقت الذي هو آخر النهار ، فهو قرب النهاية وموسم الحصاد ، وفيه صلاة العصر التي ذكرها الله تعالى في غير موضع فسماها "الصَّلَاةِ الْوُسْطَى"[البقرة:238] "وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا"[طه:130].
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان البخاري (552) ومسلم (626) عن ابن عمر : ( الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله ) أي فقد أهله وماله.
وإذا كان العصر هو آخر النهار فعصر هذه الأمة المحمدية هو آخر الدنيا، ونهاية المطاف وأجمل شيء آخره ، فنحن أمة المجد والعزة والتاريخ والانتصار، وأمتنا آخر الأمم وأعظمها وأولها دخولاً الجنة وأفضلها عند الله تبارك وتعالى شاء من شاء وأبى من أبى ، ولتعلمن نبأه بعد حين.
وفي صحيح البخاري (2268) عن ابن عمر رضي الله عنه ونحوه أيضا (558) عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال : من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود ، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط ؟ فعملت النصارى ، ثم قال : من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين ؟ فأنتم هم ، فغضبت اليهود والنصارى ، فقالوا : ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء ؟ قال : هل نقصتكم من حقكم ؟ قالوا: لا . قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء ) فإذا كنا نحن أمة العصر ، ورسالتنا هي رسالة العصر ، فينبغي علينا أن نكون شهداء على الناس ، وكان خليقاً بنا أن نكون أكثر الناس علماً ، وأحسنهم خلقاً ، وأعظمهم حضارة، وأعرف الناس بمصالح الدنيا والآخرة.
أما واقع الحال اليوم فنحن أمة مستهلكة ، أمة منهوبة الثروات، محتلة في أراضيها في غير ما بلد من بلاد الإسلام.
إن 65% من فقراء العالم هم من المسلمين، و80% من اللاجئين في العالم هم من المسلمين ، وعلى الرغم من أن المسلمين يمثلون ربع أوخمس سكان الكرة الأرضية غير أن نصيبهم من الاقتصاد لا يتجاوز 6 % ، كما أن شعوب المسلمين في غالبهم ضحية الضخ الإعلامي الفاسد.
إن الفتاة اليوم تعرف المئات ممن يشكلن لها مثلاً أعلى من ممثله وغانية وراقصة وعارضة أزياء بل عارضة أجساد ، ولكننا حين نريد ضرب المثل الجيد من الواقع يرجع البصر إلينا خاسئاً وهو حسير ، ولهذا نفزع إلى التاريخ ، ونتحدث عن زينب وخديجة وعائشة وسمية وحفصة ...
فلم لا يوجد في واقعنا وعصرنا ومجتمعنا -ونحن أمة العصر وأمة الشهود- أمثال القمم الشامخة من القدوات للكبار والصغار من الرجال والنساء .
هل عقمت أرحام الأمهات عن مثل هذا ؟!.
بل إننا على رغم فقرنا وضعف حالنا وشدة حاجتنا والتحديات التي تواجهنا مشغولون بتدمير بعضنا البعض ، ومطالبة الآخرين بالكمال، وربما دخلنا في متاهة من الأوهام هروباً من مواجهة هذا الواقع ، ولذا يحسن التحذير من بعض الكتب التي تتكلم عن عمر هذه الأمة ، وتحدد أزمنة معينة، وتتناول أشراط الساعة بطريقة غير علمية ولا شرعية .
قد تكون هذه الكتب وغيرها كتبت بحسن نية ، ولكنها تهجم على الغيب ، وتربي الناس على الاتكالية والانتظار وتمهد لبعض المواقف السلبية اعتماداً على الحديث الذي مر في مثل المسلمين واليهود والنصارى وأشباهه.

ثانياً الإنسان :
"إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ"[العصر:2] كل الإنسان, وحين يخاطب الإنسان في القرآن فهذه إشادة.
"يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ"[الانشقاق:6] ، "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"[الانفطار:6] ، "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ"[الإنسان:2] ، "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"[الإسراء:70] .
والإنسان مهدد غالباً بالخسار لقوله تعالى : "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" [التين:4-6].
إنه الإنسان الذي خلقه الله تعالى واختاره واصطفاه وعلمه وأسجد له ملائكته، وحينما قالوا : " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ "[البقرة:30] قال ربنا الحكيم : " إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ "[البقرة:30] ، وهذا إشادة ظاهرة بجنس الإنسان وخصوصيته وكفاءته ومسئوليته ، و العقاب والعتاب يكون على قدر المسؤولية ، وقوله تعالى : ( لفي خسر ) أبلغ من أن نقول : ( إن الإنسان لخاسر ) لأن الخسر حينئذ كأنه إناء أو وعاء يحيط بالإنسان من كل جانب، وهنا يكون التنكير للتهويل والتعظيم أي أنه في خسارة عظيمة .
ويحتمل أن يكون المعنى تفاوت الخسارة، فالناس غالبهم في خسر، فمنهم من خسارته كلية مطلقة، خسر نفسه وأهله وماله ودنياه وآخرته ، كالكافرين الأخسرين أعمالاً الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ومنهم من خسارته جزئية أي فقد بعض الربح ، ومنهم من فقد كل الربح ، ومنهم من فقد رأس المال، ومنهم من ترتب عليه ديون للآخرين، فهؤلاء هم الأخسرون (وهم في الآخرة هم الأخسرون) {النحل:5}فالحياة سوق والعمل تجارة، " أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ"[البقرة:16] وفي صحيح مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري:(كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).
فالإنسان متحرك بطبعه، وفعال وهمام، وسائر لا يتوقف، وسمي الإنسان إنسانا؛ً لأنه ينوس أي يتحرك ولا يقف ، وكل أحد ساعٍ متحرك، ولكن منهم ساعٍ في كمال نفسه ونجاتها، ومنهم ساعٍ في هلاكها وإباقها.

العهد
22-08-2003, 04:28 AM
رسـالة العصـر (3 / 4 )



إن الحياة إذا خلت من هدف نبيل صارت حياة بلا معنى ، فلكي يكون لحياتنا معنى علينا أن نحدد أهدافنا :
أولاً : هدف خاص ، فلا تثريب عليك فيه ولا عيب ، بل الشريعة جاءت لتحقيق هذا الهدف ، كالتفوق في الدراسة أو في العمل أو في الرزق أو في الزواج أو في المصالح المباحة من مصالح الدنيا، وهذا الخير الذي يتحقق لك شخصياً هو في النهاية خير للأمة كلها فالأمة مجموعة أفراد ، والعاقل إذا وجد الحلال لم يلجأ إلى الحرام، والأمة مجموعة نجاحات أنت أحد تجلياتها ومظاهرها.
الكثيرون والكثيرات من الناس يسألون عن دورهم في الأزمات والمواقف وفي الملمات ، مع أنه يجب أن يكون دورنا ليس مجرد رد فعل لما يقع ، وإن كان رد الفعل المتزن المدروس مطلوباً ولا بد منه، ولكن نطمع أن يكون دورنا ديمومة واستمراراً ونضجاً ، وإن كان بطيئاً على حد المثل الغربي الذي يقول : بطيء ولكنه فعَّال .
والحذر .. الحذر من أن يكون أحدنا كثير الجلبة والضجيج كما العربة الفارغة .

ثانياً : هدف عام لخدمة الأمة ، والدفاع عن قضاياها ، ومتابعة أحداثها ، والتألم لألمها والكلمة الطيبة صدقة ، والموقف النبيل، والمساندة والمساعدة، والدعم بالمال، والدعم بالنصيحة والرأي ، مما يجب للمسلم على أخيه المسلم حتى لو كان أخوه مفرطاً أو مقصراً عرفه أو لم يعرفه ، ولا يلزم أن تكون هذه المواقف النبيلة التي نحن مطالبون بأدائها من قضايا أمتنا من العراق أو فلسطين أو أي مكان من الأرض ، لا يلزم أن تكون هذه المواقف رفعاً نهائياً لمعاناة الأمة ، فهذا ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، لكن يجب أن نقنع أنفسنا بأننا نستطيع أن نصنع شيئاً ، ودعنا نورث لأولادنا وأحفادنا من بعدنا بداية جيدة تمكنهم من مواصلة البناء عليها.

ثالثاً .. العمل :
وقد جمع الله تبارك وتعالى أصول العمل ونهاية الكمال العلمي والعملي اللازم للشخص والمتعدي للآخرين في أربع خصال :
- الإيمان .
- والعمل الصالح .
- والتواصي بالحق .
- والتواصي بالصبر.

أولاً : الإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، يقول الله جل وعلا:"ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[البقرة:285] .
فإن هذا الإيمان الذي يعتمل في قلب الإنسان هو شرط النجاة ، فإن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة ، والإيمان يأتي في القرآن غالباً بصيغة الجمع يقول تعالى :"الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ"[يونس:63] "، إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا"[الشعراء:227]، " إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا"[سبأ:37] إشارة إلى روح الجماعة والفريق والتخلص من الأنانيات ، ومن الدوران حول الذات والمصالح الشخصية ، فإن كثيراً من الأمم ومن أهل الكفر الذين لا يؤمنون بالله ، عندهم قدر كبير من الإحساس بأهمية الاجتماع فنجد دولة كالصين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة هي دولة واحدة فحسب ، بينما تجد عند المسلمين ولعاً ورغبة بالاختلاف والتفرق والتشرذم حتى إنك تتخيل أن التمزق جزء من طبيعتنا ، لو لم نجده لاخترعناه ، وهذا ولّد ضعف الإيمان وضياع الجهود ، وصنع الشقاء في حياتنا ، والقسوة في قلوبنا والعنف في لغتنا ، بينما الدين جاء رحمة حتى للبهائم والطيور والجمادات ، ورحمة للعالمين فضلاً عن المسلمين.

ثانياً : العمل الصالح ، فهو قرين الإيمان في كتاب الله عز وجل ، بل هو منه فالإيمان قول وعمل كما هو مذهب السلف والأئمة ، قال الحسن رحمه الله : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. انظر مصنف ابن أبي شيبة (35211) وشعب الإيمان للبيهقي (65).
فالعمل يكون بالقلب واللسان والجوارح ، العمل يكون عبادة ويكون خلقاً ، ويكون إعانة للناس في مصالحهم الدنيوية، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( في بضع أحدكم صدقة ) أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر – رضي الله عنه-، وقال عليه الصلاة والسلام:(حتى اللقمـة تجعلهـا في فيِّ امرأتــك ).أخرجه البخاري (1295)، ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه-

ثالثاً : التواصي بالحق : والتواصي يدل على الرحمة ويدل على الشفقة ، فأنت أمام شخص يحبك ويرحمك ويوصيك ، وأيضاً أنت تحبه وترحمه فتوصيه ، فالحاكم والمحكوم، والعالم والمتعلم ، والوالد والولد ، والشاب والشيخ ، والرجل والمرأة ، هذا معنى قوله تعالى : "َتَوَاصَوْا "[العصر:3] ليس هناك جهة معينة محددة توصي والباقون يستمعون وينفذون، بل كل أحد من أهل لا إله إلا الله هو موصٍ وموصى، ومعلم ومتعلم ، وآمر ومأمور ، وناصح ومنصوح ، ولهذا لم يقل: "أوصوا" ، بل قال : "َتَوَاصَوْا "[العصر:3] فهي مهمة يشترك فيها الجميع ، ومن هنا نرفض مصطلح "رجال الدين" بالمفهوم الكنسي الذي يفترض أن ثمة فئة من الناس لديها تفويض رباني في فهم الكتاب المقدس وفي الأمر به .. كلا .. ولكن لدينا متخصصون لهم اعتبار ، فهم يعرفون النصوص ، ويمحصون صحيحها من ضعيفها ويعرفون ناسخها من منسوخها ، ويجمعون بين ما هو ظاهر التعارض فيها ، ولكن لا عصمة لآحادهم .. إنما العصمة لما أجمعوا عليه وأما ما اختلفوا فيه فاختلافهم رحمة ، واتفاقهم حجة.
ولكل علم متخصصون ، فالطب له متخصصون يرجع إليهم والإدارة والاقتصاد كذلك ، ولهذا نقول في المسائل الدينية الشرعية والفقهية هناك مختصون ينبغي أن يكون لقولهم وزن واعتبار ، ولكن ليس لدينا رجال دين يحتكرون فهم الكتاب المقدس ، فهم جميعاً يتواصون بالحق وبالدعوة إلى الله وبالرحمة ، ويتواصون بالتواصي على ذلك، ولهذا جاءت وصايا القرآن الكريم الكثيرة "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"[الإسراء:23] "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا"[النساء:36] ، وكتب فيها كثير من العلماء من المتقدمين والمتأخرين كتباً معروفة.
وجاءت وصايا النبي صلى الله عليه وسلم كالوصية بالنساء، والوصية بالصلاة، والوصية بالحزم .. إلى غير ذلك.
إن المسؤولية لا تخص أباً ولا حاكماً ولا عالماً ، بل الآية الكريمة تؤسس لقيام المسلم أو المسلمة بالدور المنشود في الإصلاح، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وأن نقول جميعاً للمحسن : أحسنت ، وأن نقول جميعاً للمسيء : أسأت ، كما قال عمر رضي الله عنه : لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها .
ولم يصل المسلمون إلى الهوة التي يعيشونها اليوم من انحدار وتراكم الأخطاء والسلبيات وعدم وجود العمل الجاد الصادق للتصحيح إلا لما قال قائلهم : لا يقول لي أحد منكم اتق الله إلا علوت رأسه بالسيف. "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ"[البقرة:206] .
لكنها الكلمة المنبعثة من الرحمة والصدق والإشفاق .. ليست تشهيراً ولا تشفياً ولا معارضة لذات المعارضة ولا لاعتبارات شخصية ، بل سهراً على مصالح الأمة وحفاظاً على ثغورها ، ورعاية لحاضرها ، وتخطيطاً لمستقبلها وتعاوناً على البر والتقوى .
"وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر:3]، وهنا تبرز أهمية الحوار داخل المجتمع الإسلامي لإنضاج الرأي وتجنب الانشقاق .
والتواصي إنما يكون بالحق ، فالذي تراه أنت ليس بالضرورة أن يكون هو الحق ، وإنما الحق الذي نطق به القرآن الكريم أو صرح به النبي العظيم عليه الصلاة والسلام أو أجمعت عليه الأمة أما الرأي الذي تراه فقصاره أن يكون صواباً يحتمل الخطأ ، ويمكن أن يكون خطأ يحتمل الصواب ، فليس أحد يملك الحق ، أو يجزم به أو يخوّل أن يكون لديه الكلمة الأخيرة أو المقالة المطلقة.

رابعاً : التواصي بالصبر : وهو مطية لا تكبوا .. كما قال علي رضي الله عنه ، وهو من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد ، فمن لا صبر له فلا إيمان له ، الإيمان يحتاج إلى صبر ، والعمل الصالح يحتاجه ، والحق والدعوة تحتاجه ، والصبر أيضاً يحتاج إلى صبر.

سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري
سأصــــــــبر حتى يحكم الله في أمري

سأصــــــبر حتـــــى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمـــر من الــصـبر

والدين يحتاجه والدنيا تحتاجه ، الصبر هو أساس الفضائل ورأس الأخلاق ، به تصفو الحياة ويطيب العيش ، قال عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا بالصبر.
وكان محمد بن شبرمة إذا نزل به بلاء تلفت يميناً وشمالاً ثم قال : سحابة صيف عن قليل تقشعُّ.
وقال سفيان في تفسير قوله تعالى :"وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ"[السجدة:24] قال : لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوساً.
فالصبر يحافظ على ا لاعتدال في شخصية الإنسان وفي رأيه وفي علمه وعمله وفي دعوته وفي دنياه وفي آخره.
أيتها المرأة الشاكية من صلف زوجها وسوء حالها وشراسة خلقه وقلة اهتمامه...
أيها المريض الذي تحير فيه الأطباء...
أيها المدين الذي أثقلت كاهله المطالب...
أيها المهموم الذي باكره الهم وغابت البسمة عن شفتيه، وعاجله الحزن قبل الأوان...
علاجكم الناجع هو الصبر ، فهو علاج الحالات المستعصية الذي ينتظر فيها فرج الله تبارك وتعالى .
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تُعطني أنت هذا الصباح ؟
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتجزع إن لم يجدها الغمام؟
كتب إلي أحد الإخوة قصته مع الفقر والدَّين والجوع ، وقال في آخر المطاف : هممت أن أكتب قصيدة التمس فيها المعونة من تاجر أو أمير أو وزير ، فإذا بهاتف في أعماقي يقول : هؤلاء هم الآخرون مخلوقون مثلنا وفقراء إلى الله تعالى ، فقدرت أن أنظم قصيدة فيمن خلقني وخلقهم ، وكتبت القصيدة.
وكانت هذه نهاية المعانات مع الفراغ والبطالة والدَّين خلال شهور .

المجاهد عمر
22-08-2003, 08:11 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاكم الله على هذا الجهد المتواصل ، ونحن في إنتظار الجزء الرابع...


عمر

العهد
24-08-2003, 10:58 PM
إن الصبر ذو وجهين ، ضبط الإقدام ، فلا يقدم الإنسان إلا بما يعلم أنه ينفعه في دينه أو دنياه ، ولا يتورط فيما لا يعلم عواقبه ومآلاته .
وضبط الإحجام : فلا يحجم الإنسان إلا عما يضره .
ليس الصبر أمام الأزمات فقط ، بل الصبر سلوك ومنهج يحكم حياة الإنسان في كل شيء ، الصبر لا بد منه في كل شيء ، في الصحبة، في الشركة.
"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ"[الكهف:28] في العلاقة بين اثنين ، زوجين ، أو صديقين " إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا"[الكهف:67-69].
الصبر لطالب العلم كما في قصة موسى والخضر ، والصبر ضروري للعبادة : "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى"[طه:132] .
الصبر للدعوة .. "يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"[لقمان:17].
الصبر للجهاد .." يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"[الأنفال:45].
الصبر ضروري عند المصائب.. "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ"[البقرة:45].
فيا من فقدت حبيبها .. أو رزئت بأملها .. أو صدمت بما لا تنتظر .. الصبر .. الصبر.
ويا كل أب مفجوع بفلذة كبده، وشعبة روحه الصبر الصبر.

وداعاً حبيبي لا لقاء إلى الحشر
وإن كان في قلبي عليك لظى الجمرِ

صبرت لأني لم أجد لي مخلصاً
إليك وما من حيلة لي سوى الصبر

تراءاك عيــــني في السرير موسداً
على وجهك المكدود أوسمة الطهر

براءة عـــــينيك استثارت مشاعري
وفاضت بأنهار من الدمع في شعري

أرى فمــــك الحلو المعطر في فمي
كما اعتدت هذا الحب من أول البـرِ

أراك جــــــميلاً رافلاً في حــريــرةٍ
بمعــــشبة فيحــــــاء طيــــبة النشرِ

فكيف يصبر الفتى .. وكيف تصبر الفتاة أمام نوازع الشهوات وتنوع الفتن والمغريات وسهولة الوصول إليها؟ إن أعظم عون على الصبر على ذلك مراعاة:
أولاً : مشهد إجلال الله تبارك وتعالى أن تعصيه وهو يراك ، وأنت منه بمرأى ومسمع، لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية .. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ).أخرجه البخاري (2475)، ومسلم(57) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه-.
إن الذي يستحضر عظمة الله تبارك وتعالى وإطلاعه عليه يستحي من الله تعالى أن يجده حيث نهاه ، أو يفقده حيث أمره.
لو كان المرء عارياً أو متلبساً بشهوة فوجد شخصاً يراه من خلل الباب فإنه حينئذ يرعب ويرتبك ويصعب عليه أن يضع عينيه في عينيه مرة أخرى .

إذا ما خلوت الدهر يوماً
فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب


ثانياً : مشهد محبته سبحانه وتعالى " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"[آل عمران:31].

تعصي الإله وأنت تزعم حبه
هذا لعمري في القياس شنيع

لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع

ثالثاً : مشهد النعمة والإحسان ، فأنت تتقلب في نعمه ، وتعصيه بجوارح هو خلقها ، وأمتن بها عليك وائتمنك عليها ، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
رابعاً : مشهد الغضب والانتقام : أن يغضب الله تبارك وتعالى عليك .
"أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُون * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ"[النحل:45-47] وهذا قد يتأخر ليوم الحساب حين يغضب ربنا تبارك وتعالى الغضب المعروف في الحديث. انظر صحيح البخاري (4712)، وصحيح مسلم (194).
خامساً : مشهد المعاجلة والمباغتة والمعاقبة على حال لا تسر : ربما أخذ أحدهم وهو سكران ، أو انقلبت السيارة على من فيها ، وفيها شاب وفتاة في غفلة من أعين الرقباء.
سادساً : سادساً : مشهد العوض والخلف من الله عز وجل، ومن ترك شيئاً لله تعالى عوضه الله خيراً منه ، يقول سفيان: من غض بصره أورثه الله تعالى إيماناً يجد لذته في قلبه، وما عند الله خير وأبقى.
سابعاً : مشهد التفكر في الدنيا وزوالها ، وسرعة أفولها، وتقدم الإنسان، وكيف تعمل الأيام والليالي بهذه الوجوه الجميلة، والأشكال النضرة والخدود الغضة ، وكيف تتحول إلى تجعد واعوجاج وإلى شيخوخة وهرم وضعف.

جبلت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار

وإذا رجوت المستحيل فإنما
تبني الرجاء على شفير هار

فاقضوا مآربكم عجالاً إنما
أعماركم سفر من الأسفار

وتراكضوا خيل الشباب وبادروا
أن تسترد فإنهن عوار

الثامن : مشهد التعرض لرحمة الله تعالى ونفحاته ، فإنه يخشى أن تحجب عمن أصرّ على الحرام ولم ينكسر لعظمة الواحد الديان.
تاسعاً : مشهد مخالفة العادة ، فإن كثيراً من الناس إنما ابتلوا بالإدمان ، الإدمان على الخمر أو المخدرات، أو المشاهدات المحرمة، وربما لا يكون للواحد منهم في ذلك غرض ولا رغبة إلا إنه ينساق إليها بحكم العادة، فحينئذ التحرر من العبودية عز ، العبودية لله تبارك وتعالى .

أطعت مطامعي فاستعبدتني
ولو أني قنعت لكنت حراًّ

عاشراً : مشهد المصلحة العاجلة والآجلة : فإن ما حرم الله تبارك وتعالى شيئاً إلا ومفسدته خالصة أو راجحة ، وما أمر الله تعالى بشيء إلا ومصلحته خالصة أو راجحة ، وطاعة الله ورسوله خير وأبقى وأحمد عاقبة .
بسم الله الرحمن الرحيم " وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر:1-3] .
قال الإمام الشافعي رحمه الله: لو تأمل الناس هذه السورة لوسعتهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

العهد
24-08-2003, 11:00 PM
الأخ مجاهد عمر

و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته

بارك الله فيك أخي الكريم على المتابعه