PDA

View Full Version : مناظرة في الحاكمة (( ممتع ))


yazeed6
10-09-2003, 06:02 PM
حامد بن عبد الله العلي الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
هذه حكاية تصويرية ، نقص فيها مثالا ، لمناظرة تمت بين طائفتين ، طائفة تكفر محكّمة القوانين الوضعيّة ، وطائفة لاتحكم بكفرهم .

وأنهم اختصموا ، فرفعوا خصومتهم إلى قاض يقضي بينهم ، وارتضوا حكومته ، فلما دخلوا عليه ، وأخذت كل طائفة منهما ، مجلسها بين يديه .

قال القاضي ، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه :

سأسمع من كل طائفة منكم قولها حتى تنتهي ، ثم أقضي بينكما بكتاب الله مستعينا به ، مستهديا بهداه .

غير أنني قبل ذلك ، سأقدم مقدمة مهمة ، يتحرر فيها محل النزاع بينكما ، ولا اريد أن تخلطوا ما اجمع عليه العلماء ، مع ما اختلفتم فيه ، فاسمعوا ، وعُــوا :

اتفق العلماء على أن من استحل التحاكم إلى غير ما أنزل الله ـ ولو في شيء واحد ـ فهو كافر الكفر الأكبر ، مرتد عن دين الإسلام ، وهو الذي يعتقد جواز الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما جاز للخضر عليه السلام أن يخرج عن شريعة موسى عليه السلام ، والعلمانيون اللادينيون يدخلون في هذا الحكم بلا ريب ، بإجماع العلماء .

والعلمانيون اللادينيون أربعة أقسام :

أحدهما : جاحدون لوجود الله تعالى ، فهم بشريعته أشد جحودا .

الثاني : يصدقون بوجود الله تعالى ، غير أنهم يجحدون إرسال الرسل فهم كالدهرية الذين يعتقدون أن الله تعالى خلق الكون ، وركب في الإنسان العقل ليكون رسوله الهادي ، وليس ثمة يوم يرجع فيه الناس إلى خالقهم فيحاسبهم ، إنما هي الحياة الدنيا ، نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .

الثالث : يصدقون بوجود الله تعالى وبإرساله الرسل ، ولكنهم يقولون لم يرسلهم الله لكل الناس ، بل لمن يحتاج إلى هدايتهم ، أما من يستغني عنهم بعقله ، أو بطريق أخرى يعرف بها الهدى ، فله أن يخرج عن اتباعهم .

الرابع : يؤمنون بوجود الله تعالى ، وبإرساله الرسل ، والذين ينتسبون إلى الإسلام من هذا القسم ، يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه خاتم الرسل ، وأنه نسخ بدينه كل دين قبله ، ووجب اتباعه على جميع الناس .

غير انهم يقولون إن للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، منزلتين :

أحدهما : منزلة دينية هي التي يجب علينا اتباعه فيها ، كالصلاة والصيام والحج وأداء الزكاة ، وما كان من أمر التعبد المحض . والثانية : منزلة دنيوية ، هي التي بها حكم ، وقضى ، وسن العقوبات ، ومنع وأباح من التعاملات المالية ، وحارب أعداءه ، وسالمهم ، وساس الدولة ، وعامل غيره من الدول في عصره ... إلخ ، وهذه كلها لم يوجب الله علينا اتباعه فيها ، لانه صلى الله عليه وسلم ، لم يقم بها من باب الرسالة الدينية التي بعث بها ، وإنما مـــن باب ( أنتم أعلم بشئون دنياكم ) ، وهذه المنزلة ، لم يلزمنا بها صلى الله عليه وسلم ، وإن تركناها فليس في تركها ، خروج عن شريعته ، ولا مخالفة لدينه ، ولا مشاقة لسبيل المؤمنين .

وكذبوا ، وكفروا كفرا واضحا بيّنا لكل من عرف ما دلت عليه قطعيات الشريعة المستفيضة أدلتها في الكتاب والسنة ، وكذبهم ظاهر البطلان ، واضح للعيان ، لان ماحكم به النبي صلى الله وسلم في الأمور المذكورة ، إنما امتثل فيها آيات الكتاب العزيز .

فهو صلى الله عليه وسلم ، لم يحكم بشيء في عصره ، ولم يقض بين الناس ، ولم يأمر عقوبة في نفس أو مال ، ولم يمنع شيئا ، أو يبيح أمرا ، أو يحارب ، أو يسالم عدوا ، ولم يسـس دولتـه ، ولم يعامل اتباعه ، أو أعداءه ، إلا تنفيذا لآيات الكتاب التي أمر الله تعالى فيها بالحكم بكل ما أنزل ، في كل شيء ، من أمور الحياة ، على التفصيل والإجمال .

وهذا كله من المعلوم من الدين بالضرورة ، وكل من علم سيرته صلى الله عليه وسلم ، يتبين له أنه صلى الله عليه وسلم كانت ، تتنزّل عليه الآيات مفرقة وفق الحوادث ، فيأمره الله تعالى ، ويرشده ، فيمتثل أمر ربه ، وأن كل ما كان يصدر منه ، إنما كان وحيا من الله تعالى ، كما قال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وقال ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وغيرها من الآيات الكثيرة .

قال القاضي : وقد اتفق العلماء على كفر العلمانيين اللادينيين بجميع اقسامهم السابقة ، وما أكثرهم في هذا العصر ، حكاما ، وزعماء ، وساسة ، وقضاة ، ومثقفين ، ومفكرين ، وأما من كان منهم مثله قد يعذر بجهله ، فلا يكفر بعينه حتى تقام عليه الحجة .

فليست خصومتكم في حكم هؤلاء ، وإلاّ فقوموا عنّي ، فلا يتخاصم في هذا إلا الجهلاء .

قال القاضي : كما اتفق العلماء على أن الحاكم الذي يستند في أحكامه على ما أنزل الله فيما يظهر للناس ، وقد أنشأ مجلس حكمه على الإقرار بذلك ظاهرا ، ولم ينصب طاغوتا يجعله حاكما بين الناس ، بل الشريعة الإسلامية هي مرجعه ، ثم هو تارة يقضي بما يوافق ما انزل الله ، وتارة يقضي بخلاف ذلك ، لهوى ينصر به عصبة ، أو شهوة يميل بها إلى رشوة ، أو خوف من سلطان يرهبه ، أو طمع فيه أن يقربه ، أنه من الظالمين الفاسقين ، ومن الكافرين الكفر الأصغر ، لا الأكبـــــر .

أما من يجعل مستند أحكامه ، ومرجع قضاءه ، فيما يقضي به بين الناس ، إلى غير ما أنزل الله ، وينصب طاغوتا ـ هو القوانين ـ حاكمة بين الناس لا يعقب على حكمها أحد .

وقد أنشأ مجلس حكمه على أساس التحاكم إلى الطاغوت ، مستبدلا أحكام الشريعة به ، قد جعله مرد التنازع ، وفصل الخصومات ، فإن وافقت أحكام هذا الطاغوت ، أحكام الشريعة الإلهية ، فذاك محض اتفاق ، وإلا فلا يلتفت إلى الشريعة الإلهية في أحكامه .

ثم مع ذلك يزعم أنه غير مستحل ، فهل يكون كافرا كفرا أكبر ، من غير اشتراط الاستحلال ، كما هو الحال في كل النواقض العمليّة ، أم لا يكفر حتى يقر باستحلال كما فعل ؟ هذا هو خلافكم ، وفي هذه القضية سأقضي بينكم .

فهيـــا : لنسمع من الطائفة الأولى :


** قالت الطائفة الأولى التي تكفر محكمة القوانين :
إنه مرتد كافـــر ، لايشك في ردته إلا الخاســـر .

أولا : ــــ

لان الله تعالى جعل هؤلاء الذين يتخذون لهم مطاعين ، يطيعونهم كطاعة الله ، ناصبين أقوالهم شريعة تتبع كشريعة الله تعالى ، جعلهم كالمتخذين أربابا من دون الله ، قال تعالى ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم ) قال المفسرون : أطاعهم في تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما احل الله .

وقال تعالى ( ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) ، قال الطبري رحمــه الله : ( وأما قوله : لا يتخذ بعضنا أربابا من دون الله ، فإن اتخاذ بعضهــم بعضا ، ماكان بطاعة الاتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله ، وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله كما قال جل ثناؤه .. وذكر الآية السابقة ( اتخذوا أحبارهم .. الآية ) وساق بسنده عن ابن جريح قال : إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لم يصلوا لهم ) .

فهؤلاء مشركون شرك الطاعة ، وهو أحد أقسام الشرك الأربعة، شرك المحبة ، وشرك الإرادة ، وشرك الدعاء ، وشرك الطاعة .

ثانيا : ــــ


** قالوا : ولان الله تعالى جعل من ينصب حاكمــاً يُتحاكم إليه ، ويُرجع إليه في فصل الخصومات ورد التنازع ، جعله عابدا للطاغوت ، وطاغوته هو هذا المُتحاكَم إليه من دون الله ، قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت قد أمروا أن يكفروا به ) ، فدلت الآية على أن من يجعل له طاغوتا يرد إليه التحاكم ، غير الله تعالى ، فإنه لم يكفر بالطاغوت .
وبين في غير هذا الموضع أن الإيمان لا يصح إلا بالكفــر الطاغوت ، قال تعالى ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) ، وقال ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله ) .


** قالوا : كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ( ثم اخبر سبحانه أن من تحاكم ، أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه ، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ) إعلام الموقعين 1/50

** وقالوا : وكما قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : رؤوس الطواغيت خمسة ، وعد منها الحاكم بغير ما أنزل الله ، قال ( الثاني الحاكم الجائر المغير لأحكام الله .. الثالث : الذي يحكم بغير ما أنزل الله ) مجموعة التوحيد ص 13

** قالوا : ومعلوم في أصول العقيدة الإسلامية ، أن من يتخذ طاغوتا وربا من دون الله ، فهو الكافر ، لافرق بينه وبين من يسجد للأصنام ، أو يعبد الأوثان ، أو يركع للصليب ، أو يعبد النيران ، إذ كل هؤلاء صور شتى للطواغيت ، ولا يشترط الاستحلال ، للحكم بالردة في مثل هذا الحال ، إلا المرجئة أول العمى والضلال .
ثالثا : ــــ


** وقالوا : ولان الله تعالى قال ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) وقرا ابن عامر من السبعة ( ولا تشرك في حكمه أحدا ) أي لا تشرك متخذا المتحاكم إليه شريكا مع الله ، وبيّنه الله تعالى في القرآن في غير موضع قال ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) فعطفُ أمرِه بعبادته وحده ، على بيان أن الحكم له وحده ، يوضح ما تقدم .
ولهذا قال ( وإن الشياطين ليوحون إلى أولياءهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، فصرح أنهم مشركون باتباعهم التشريع المخالف لشريعة الله .

قالوا : ومن يتخذ له شريكا مع الله ، لا يكون إلا كافرا ، سواء الشريك في الدعاء ، و الشريك في المحبة ، والشريك في الحكم والطاعة ، والشريك في الإرادة .

رابعا : ــــ


** قالوا : ولأن الله تعالى قال : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ومعلوم أن قوله ( فأولئك هم الكافرون ) يختلف عما لو قيل : ( فهم كفر ) ، أو ( فهم كافرون ) ، ذلك أن في الآية تأكيدا باسم الإشارة ، وضمير الفصل ، والإتيان بالاسم المطلق المعرف باللام ( الكافرون) ، وكل هذا يدل على إرادة الكفر الأكبر ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه ( وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله ( ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة ) وبين كفر منكر في الإثبات ) اقتضاء الصراط المستقيم ص 70
خامسا : ـــــ


**قالوا وإذا كان العلماء قد حكموا بنقض الإيمان على من أظهر الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم ، وإن لم يستحل ، فلأن يُحكم بنقض الإيمان على من يتحاكم في القليل والكثير إلى قوانين الكفار ، معرضا عن شريعة الله أولى وأحرى .
كما جاء في مجموعة التوحيد ص ( 404) : ( وذكر الفقيه سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسالة عشرين آية من كتاب الله وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استدل بها على أن المسلم إذا أظهر الطاعة والموافقة للمشركين من غير إكراه ، أنه يكون بذلك مرتدا خارجا عن الإسلام ، وإن شهد أن لا إله إلا الله ويفعل الأركان الخمســة ، أن ذلك لا ينفعه ) .


** قالوا : فيا للعجب أفلا يكون من يظهر الطاعة لهم في اتباع قوانينهم الكفريّة ، دون تشريع الله جملة ، ومن يظهر الموافقة لهم في تحكيم قوانينهم الطاغوتيّة بحذافيرها بدل كتاب الله ، أفلا فيكون أولى بحكم التكفير .
سادسا : ــــ


** قالوا : وقد قال تعالى : ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين ) .
قال ابن كثير رحمه الله : (هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة ، وتحليلهم ما حرم الله ، وتحريمهم ما أحل الله ، فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامية، ما استطاعوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم ، من قتال أعدائهم فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر ، فيحلون الشهر الحرام ، ويحرمون الشهر الحلال ، ليواطئوا عدة ما حرم الله الأشهر الأربعة ، كما قال شاعرهم وهو عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان : ألسنا الناسئين على معدّ *** شهور الحل نجعلها حرامـا فأي الناس لم ندرك بوتر ***وأي الناس لـم نعلك لجاما ))


** قالوا : فإذا كان تغيير حكم واحد من أحكام الله ، ومغيّره مع ذلك يقصد بزعمه ، تعظيم شهور الله الحُرُم ، ليشابه عدة ما حرم الله ، قد سماه الله تعالى زيادة في الكفر ، وقال في ختام الآية ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) ، فكيف بمن يغيّر كل ، أو جـلّ ، أحكام الله تعالى ، ويجلب بدلها أحكام الكفار الملاعين ، ويفرضها بالحديد والنار على بلاد المسلمين ، إلى أيّ مدى يبلغ كفره ، وإلى أيّ حد يصل ظلمـــــه ؟!!

** قالوا : ولنا حجج أخرى يضيق عنها المقام ، وفيما ذكر كفاية لأولى الافهام ، وقد صرح بعض كبار المحققين من العلماء المعاصرين بالفرق بين من يجعل القانون الوضعي هو المرجع ، لحكمه ، وبين من لا يكون كذلك .
قال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله : ( وأما الذي قيل فيه كفر دون كفر ، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص ، وأن حكم الله هو الحق ، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها ، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر ، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل ، ففرق بين المقرر ، والمثبت والمرجع ، جعلوه هو المرجع ، فهذا كفر ناقل عن الملة ) .

وقال أيضا : ( فمن اتخذ مطاعا مع الله فقد أشرك في الرسالة والألوهية ، وهذان الواحد منهما كفر ، بخلاف المسألة الواحدة ، فإنها ليست مثل الذي مصمم ومحكم ، فإن هذا مرتد ، وهو أغلط كفرا من اليهودي والنصراني ) فتاوى الشيخ محمد بن ابر أهيم 12/208


** قالوا : وما أحسن قول الحافظ بن كثير في هذه المسألة قال : ( فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله فقد كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ، فمن فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين ) البدايـــــة والنهاية 13/118
وقال في تفسيره عن الياسا : (هو عبارة عــن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها ـ يعني جنكيز خان زعيم التتر ـ من شرائع شتى ، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها كثر من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعا متبعا ، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك فهو كافر ) .

فهؤلاء الذين يحكمون القوانين الطاغوتية المعاصرة ، كأولئك الذين كانوا يحكمون ( الياسا ) سواء بسواء .


** قالوا : والأمر عندنا في هذه المسألة كما قال العلامة أحمد شاكر رحمـــــه الله : ( إن أمر هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس ، هي كفر بواح ، لاخفاء فيه ، ولا مداورة ) عمدة التفسير 4/174

** قالوا : وكما قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي ( ومن هدي القرآن التي هي أقوم ، بيانه أنه كل من اتبع تشريعا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فاتباعه لذلك التشريع كفر بواح ، مخرج عن الملة الإسلامية ) وقال أيضا : ( وهذا النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أولياءه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم ، أنه لايشك في كفرهم وشركهم إلاّ من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم ) أضواء البيان 4/84
وقال أيضا : ( فالإشراك في الله في حكمه ، كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه : ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) ، وفي قراءة ابن عامر من السبعة ( ولا تشرك في حكمه أحدا ) بصيغة النهي ، وقال في الإشراك به في عبادته ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله )

وقال : ( وقد دل القرآن في آيات كثيرة ، على أنه لاحكم لغير الله ، وأن اتباع تشريع غيره كفر به ، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده ، قوله تعالــى ( إ ن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) ، وقوله : ( إن الحكم إلا لله عليه توكلت ) الآية ، وقوله تعالى ( إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) وقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) وقوله تعالى ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) ، وقوله ( كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ) ، وقوله تعالى ( وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ) والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) .

وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفـر ، فهي كثيرة جدا ، كقوله تعالى ( إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) ، وقوله تعالى ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وقوله تعالى ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان )والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، كما تقدم إيضاحه في سورة الكهف )

وقال : ( فمن الآيات التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم ، والتشريع قال هنا : : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، ثم قال مبينا صفات من له الحكم ، ( ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب ، فاطر السموات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، له مقاليد السموات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم ) .

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية ، من يستحق أن يوصف بانه الرب الذي تفوض إليه الأمور ، ويتوكل عليه ، وأنه فاطر السموات والأرض ، أي خالقهما ومخترعهما ، على غير مثال سابق ، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا ، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية ... فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ، ولاتقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل ) 7/162ـ 164

وتأمل كيف جعل محكمة القوانين الطاغوتية ، متولّين للشيطان ، قد اتخذوه شريكا مع الله ، واستدل على شركهم بقوله تعالى ( إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) .


** قالوا : وكما قال العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله في تعريف الطاغوت وتفسير قوله تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) قال : ( وأما حقيقته والمراد به ، فقد تعددت عبارات السلف عنه ، وأحسن ما قيل فيه كلام ابن القيم رحمه الله حيث قال : الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود ، أو متبوع ، أو مطاع ، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ويتبعونه ، في غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله ، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها ، وتأملت أحوال الناس معها ، رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ) انتهى
وحاصله أن الطاغوت ثلاثة أنواع : طاغوت حكم ، وطاغوت عبادة ، وطاغوت طاعة ومتابعة .. والمقصود في هذه الورقة ، هو طاغوت الحكم ، فإن كثيرا من الطوائف المنتسبيــن إلى الإسلام قد صاروا يتحاكمون إلى عادات آبائهم ) ثم قال : ( وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمرنا باجتنابه ) الدرر السنية 8/272


** وقالت هذه الطائفة : وإنما قلنا إن جعل القوانين الوضعية حاكمة بين العباد ، من النواقض العملية ، لان الكفر الأكبر يكون بالاعتقاد تارة ، وبالعمل تارة ، أما من قال إن الكفر الأكبر لا يكون إلا اعتقاديا ، فهو قول المرجئة .
ذلك أن قولهم الباطل : إن الكفر لا يكون إلا بالجحود التكذيب والاستحلال ، فمن سجد للصنم ، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو استهزأ بالدين ، لا يكفر بهذه الأفعال ـ في عقيدتهم الضالة ـ بل كفره بسبب اعتقاده واستحلاله المقارن لهذه الأفعال ، ولو فُرض أنه غير معتقد ، أو غير مستحل لما فعل ، فهو مؤمن في الباطن ، لانه مصدق ، لان الإيمان عندهم هو التصديق فحسب.


** أما الاعتقاد الصحيح الذي عليه أهل السنة ، أن الإيمان تصديق وعمل ، وأن الكفر الأكبر منه ما يكون بالاعتقاد ، جحود أو تكذيب والاستحلال صورة منه ، ومنه ما يكون بالعمل أو القول ، أو الترك ، مثل من ترك الانقياد للتوحيد وإن صدق بقلبه ونطق بلسانه .
ومن الأمثلة على الكفر الأكبر الذي يكون بالعمل أو القول ، سب الدين ، والاستهزاء بشعائره ، والسجود للأصنام ، والسحر ، واتخاذ الطواغيت حكاما ، ونحو ذلك ، أما مطلق الكبائر ، كالزنى ، والسرقة ، والقتل ، ونحوها ، فلا يكفر المسلم بفعلها مالم يستحلها ، قد أجمع على هذا أهل السنة .

ولهذا يعرف الفقهاء الردة بأنهـــا الكفر بعد الإسلام ، باعتقاد أو شك أو قول أوفعل .


** قالوا : وكيف لا يكفّر محكم القوانين ، و السيوف لم تسل إلا لتعظيم الشريعة ، وتحكيم الكتاب والسنة في الأرض ، والجهاد أصلا لم يشرع إلا لتكون كلمة الله هي العليا ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه .
وكلمة الله هي كلمته الشرعيّة الدينيّة ، وهي أحكامه ، فإن أحكامه تضمنها كلامه الذي أمر به ، ونهى ، جل وعلا ، كما قال تعالى ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لامبدل لكلماته .. الآية ) ، أي كلماته الشرعية ، ومعلوم أن غاية الجهاد إظهار الحكم بشريعة الله تعالى ، كما قال تعالى ( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعلمون بصير ) ، كما قال الإمام الطبري رحمه الله : (يقول : حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره ) .


** قالت هذه الطائفة التي تكفّـر محكمة القوانين : هذا قولنا وهذه حججنا ، نحن فيها متبّعون لكتاب الله تعالى ، مقتدون بمن سلف من أهل العلم المرضييّن ، والعلماء الربانيّين .
قال القاضي : قد أحسنتم في الاستدلال ، والآن نسمع مــن الطائفــــة الأخرى .. فليدلـُـوا بالحجج على نحو هذا المثال .

فتقدم خطيبهم ، وقال :

المقال القادم بإذن الله تعالى نكمل .

yazeed6
10-09-2003, 06:04 PM
فلما قضى خطيب الطائفة التي تكفر محكمة القوانين قوله .

قال القاضي : فليقم من الطائفة الاخرى خطيبهم ، ولينصر قولهم ، وليحسن الجواب ، وليتـأدب فـــي الخطــــاب .

فقام خطيبهم فقال : جميع ما احتججتم به أيتها الطائفة التي تكفر محكمة القوانين مطلقا حق ، وعلى الرأس والعين ، غير أنها محمولة على المستحلين ، دون غيرهم ، فمن استحل التحاكم إلى غير الله تعالى ، وأجاز لنفسه الخروج عن شريعته سبحانه ولو في شيء يسير ، واعتقد أنه غير ملزم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به ، ورأى أن لـه أن يتحاكم إلى شريعة أخرى أو هواه ، ولو خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر خارج عن ملة الإسلام ، وهو متخذ ذلك الذي استحل التحاكم إليــه من دون الله طاغوتا ، وربا ، وشريكا مع الله .

كما ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم ، وهذا إجماع بين المسلمين ، ونحن نستصحب هذا الإجماع ، ونبقى عليه ، ونقول عن موضع النزاع ـ وهم حكم غير المستحلين من محكمة القوانين ـ لا ينقلنا عن ذلك الإجماع المتيقن إلا دليل قاطع ، وما ذكرتموه من الأدلة ، لاينفك عن احتمال إرادة المستحل دون سواه ، والباب في التكفير ، وهو باب خطير ، والسلامة لا يعدلها شيء ، وقد ورد في الحديث ( لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه ، إن لم يكن صاحبه كذلك ) رواه البخاري .

ومضى قائلهــم : ولهذا نقول : أما من يحكم بغير ما أنزل الله لشهوة ، أو إرادة حظوظ الدنيا من حصول رئاسة ، أو بقاء على ملك ، لا تتوفر معه ملذات الدنيا وحطامها إذا التزم الحكم بما أنزل الله تعالى ، فآثر هذه الملذات على تلك الطاعات ، كما يفعل سائر العصاة ، فهو من جملة الفساق والظالمين لانفسهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم تحت المشيئة الإلهية ، إن شاء الله عذبهم ، وإن شاء عفا عنهم ، إن كانوا مقرين بما أنزل الله من أحكام ، معترفين بما يفعلونه من الآثام .

قالوا : وأما قوله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) فنعم ما ذكرتم من تفسير ، لو لم يأت في تفسيرها عن السلف الماضين من الصحابة المرضيين ، والتابعين ، ما يخالفه ، كما روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن طاوس وعطاء وغيرهم أنهم قالوا : كفر دون كفر ، وفسق دون فسق ، وظلم دون ظلم ، أي ليس بالكفر الذي ينقل عن الملة ، لكن هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( قتال المسلم كفر ) ونحو ذلك .

وقد يطلق على المعاصي التي هي دون الكفر الأكبر ، وصف الكفر على معنى الكفر الأصغر ، أي شعبة من شعب الكفر ، وقد يكون في المسلم شعبة من شعب الكفر ، ولا يكون كافرا الكفر الأكبر ، حتى يستجمع خصاله التي توجبه ، والقوم ـ أي السلف ـ أعلم بتأويل كتاب الله تعالى ، وكل خير في اتباع من سلف ، وكل شر في ابتداع من خلف .

قالوا : وأيضا فإن العلة المانعة من تكفير الحاكم الملتزم أحكام الشرع في الظاهر ، وقد أقام مجلس حكمه على أساس التحاكم إلى شريعة الله ، والذي أنتم أيها الطائفة الأخرى لا تكفرونه ، وإن خالف حكم الله طمعا في رشوة أو انتصارا لعصبة ، أو إرضاء لسلطان ، العلة المانعة هي انه غير مستحل لهذا الذنب ، مع أنه قد حكم بغير ما أنزل الله ، فما بالكم أنكرتم هذه العلة ، وقضيتم بخلافها ، مع تحققها في صورة الذي يقضي بالقانون جملة وهو غير مستحل ؟

أفرأيتم لو كان الأول ـ الذي أقام مجلس حكمه على الشريعة ـ يقضي فيما لا يحصى من القضايا كل يوم بالظلم حكما بغير ما أنزل الله ، فهل تحكمون عليه بالكفر ؟ ومتى يتحقق عليه هذا الحكم ؟ وبعد كم قضية ؟ فما تذكرونه من قيود تحكم لادليل عليه ، وإن تركتم الحكم عليه بالكفر الأكبر جملة إلا بالاستحلال مع كثرة وقوع ذلك الذنب منه ، فما بال الحاكم بالقانون إذا لم يستحل حكم عليه بالكفر إذن ! مع أنه كذلك يكثر عنه الحكم بغير ما أنزل الله وهو لا يستحله ، فما الفرق بينهمــا ؟!

قالوا : وأيضا فما بالكم فرقتم بين النصوص التي ورد فيها إطلاق الكفر على المعاصي دون الكفر الأكبر ، مثل قتل المسلم ، والفخر بالاحساب ، والطعن في الأنساب ، وانتفـاء الرجل من أبيه ، وتوليه غير مواليه ، وإتيان الكاهن و العراف من غير تصديق ، والحلف بغير الله من غير تعظيم ، فقلتم في هذا كله : إنه كفر أصغر ، فلما جاءت هذه النصوص في الحاكم بغير ما أنزل الله ، قلتم هي في الكفر الأكبر ؟!

وما الدليل على هذا التفريق ؟ وهلا جعلتم هذه النصوص بابا واحدا ، وقلتم من استحل هذه الذنوب كفر كفرا أكبر ، ومن لم يستحلها فكفره أصغر .

قالوا : أما نحن فالباب عندنا منتظم لاتناقض فيه ، لا نحكم بالكفر الأكبر على من ورد فيه مثل هذه النصوص ، إلا بالاستحلال .

وعلى أية حال ، فالدليل إذا تطرق إليه الاحتمال ، بطل به الاستدلال ، فهذه النصوص غايتها أنها تحتمل إرادة الكفر الأكبر ، و الأصغر ، والأصل في أهل الشهادتين الإسلام ، ولا يحكم عليهم بخلافه ، إلا بدليل قاطع ، والنصوص المحتملة لاتفي بذلك ، واليقين لا يزول بالشك .

قالوا : وقد اشتهر عن السلف قولهم : ( لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب مالم يستحله ) ، وارتضاها الإمام الطحاوي في عقيدته ، التي ارتضاها الأئمة والعلماء ، في سائر الأقطار والأنحاء ، فلننزل هذه القاعدة الجليلة على هذه المسألة الخطيرة .

وقالوا : وقد علمتم ما صنع باب التكفير بأهله ، ضلوا به عن الطريق المستقيم ، فهذا بقاياهم في السجون ، والعذاب الأليم ، وتدرج بهم الشيطان حتى وقعوا في تكفير أكثر الأمة ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فصاروا في أشد الغمة .

قالت الطائفة الأخرى التي تكفر محكمة القوانين : الآن قد حمي الوطيس ، فاسمعوا منا الجواب الباهر ، والدليل القاهر ، وقام خطيبهم فقال : سأكر الساعـة على قولكــم الجائر ، وأبطل رأيكــم الخاسر …

فقال القاضي : على رسلك ، فقد آن الأوان أن أقضي بينكم ، فارجع القهقرى ، واجلس ، واسمعوا لما أقول بآذان صاغية ، وقلوب حاضرة :

الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

yazeed6
10-09-2003, 06:05 PM
** قال القاضي : إنه لابد قبل الخوض في هذه المسائل الشائكــة ، تقديم قواعد مهمة ، وهي :

** أولا : الأصل في أهل الشهادتين أنهم مسلمون ، لا يحكم عليهم بالردة إلا بدليل قاطع ، وبرهان ساطع ، غير أنه كما يجب العناية بحفظ هذا الحق ، يجب أيضا بيان الحد الفاصل بين الإيمان والكفر ، فإن في زوال هذا الحد ، أعظم فساد في الأرض على الإطلاق ، وهو كذلك أعظم أسباب الشقاء في الآخرة ، ولهذا قُدم في القرآن الكفر بالطاغوت في غير موضع ، وكلمة التوحيد هي عنوان هذا الأصل العظيم ، ألا ترون أن نفي عبادة غير الله ، قد تقدمت إثبات عبادة الله ، في لا إله إلا الله .

** ذلك أن صلاح العالم إنما يكون في اتخاذ الله تعالى وحده الرب المعبود ، ومن الإيمان بربويته وألوهيته أن لا يتحاكم إلى سواه ، كما أن فساد العالم واضطراب أحواله ، إنما هو في أن يعبد مع الله غيره ، ومن عبادة غيره أن يشرك في حكمه.

**ثانيا : أن الناس في هذه المسألة طرفان مذمومان ، ووسط على الهدى.

**أما الطرفان المذمومان :

**فأحدهما : الذين غلوا في التكفير بغير حق ، فكفروا أهل الإسلام إلا أنفسهم ، متبعين في ذلك أهواءهم بغير علم .

**والثاني : الذين لا يكفرون أحدا ممن نطق بالشهادتين ولو أتى بمائة ناقض ، فرارا من فتنة التكفير زعموا .

**فالأولون ظالمون معتدون خارجون عن الشريعة ، مستحقون لاعظم الذم ، قد مروقوا من الإسلام كما يرمق السهم من الرمية .

**والآخرون مفسدون في الأرض ، إذ أزالوا الحد الفاصل بين أعظم متناقضين في الوجود ، الإيمان الذي هو الخير كله ، والكفر الذي هو الشر كله ، فهل ثمة إفساد أع

yazeed6
10-09-2003, 06:07 PM
** قال القاضي : إنه لابد قبل الخوض في هذه المسائل الشائكــة ، تقديم قواعد مهمة ، وهي :

** أولا : الأصل في أهل الشهادتين أنهم مسلمون ، لا يحكم عليهم بالردة إلا بدليل قاطع ، وبرهان ساطع ، غير أنه كما يجب العناية بحفظ هذا الحق ، يجب أيضا بيان الحد الفاصل بين الإيمان والكفر ، فإن في زوال هذا الحد ، أعظم فساد في الأرض على الإطلاق ، وهو كذلك أعظم أسباب الشقاء في الآخرة ، ولهذا قُدم في القرآن الكفر بالطاغوت في غير موضع ، وكلمة التوحيد هي عنوان هذا الأصل العظيم ، ألا ترون أن نفي عبادة غير الله ، قد تقدمت إثبات عبادة الله ، في لا إله إلا الله .

** ذلك أن صلاح العالم إنما يكون في اتخاذ الله تعالى وحده الرب المعبود ، ومن الإيمان بربويته وألوهيته أن لا يتحاكم إلى سواه ، كما أن فساد العالم واضطراب أحواله ، إنما هو في أن يعبد مع الله غيره ، ومن عبادة غيره أن يشرك في حكمه.

**ثانيا : أن الناس في هذه المسألة طرفان مذمومان ، ووسط على الهدى.

**أما الطرفان المذمومان :

**فأحدهما : الذين غلوا في التكفير بغير حق ، فكفروا أهل الإسلام إلا أنفسهم ، متبعين في ذلك أهواءهم بغير علم .

**والثاني : الذين لا يكفرون أحدا ممن نطق بالشهادتين ولو أتى بمائة ناقض ، فرارا من فتنة التكفير زعموا .

**فالأولون ظالمون معتدون خارجون عن الشريعة ، مستحقون لاعظم الذم ، قد مروقوا من الإسلام كما يرمق السهم من الرمية .

**والآخرون مفسدون في الأرض ، إذ أزالوا الحد الفاصل بين أعظم متناقضين في الوجود ، الإيمان الذي هو الخير كله ، والكفر الذي هو الشر كله ، فهل ثمة إفساد أعظم من إفسادهم ؟! ولهذا السبب عظم تشنيع السلف على المرجئة .

**كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (فلهذا عظم القول في ذم " الإرجاء " حتى قال إبراهيم النخعي : لفتنتهم - يعني المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة . وقال الزهري : ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء . وقال الأوزاعي : كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء . وقال شريك القاضي - وذكر المرجئة فقال - : هم أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثا ولكن المرجئة يكذبون على الله . وقال سفيان الثوري : تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري وقال قتادة : إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث . وسئل ميمون بن مهران عن كلام " المرجئة " فقال : أنا أكبر من ذلك وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني : ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه وقال أيوب السختياني : أنا أكبر من دين المرجئة إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له : الحسن . وقال زاذان : أتينا الحسن بن محمد فقلنا : ما هذا الكتاب الذي وضعت ؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة فقال لي : يا أبا عمر لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو أضع هذا الكتاب فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ؛ ولا كالخطأ في غيره من الأسماء إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باســم الإيمان والإسلام والكفـــــر والنفاق ) 7/349ـ 395

** وأما الوسط الذين على الهدى : فهم الذين يشهدون لاهل الشهادتين بالإسلام ، ولمن نقضهما بالكفر ، مستدلين بنصوص الكتاب والسنة وبالإجماع ، فهم على هذا الهدي القويم ، والصراط المستقيم .

** ثالثا : أن ما يزول به الإيمان بالكلية إنما يعرف إذا عرفت حقيقة الإيمان ، وقد اختلفت الفرق في حقيقته ، فاختلفت في نواقضه ، والصواب في هذا الباب:

أن ما في القلب ، لا يكون إيمانا بتصديق مجرد ، ليس معه عمل القلب ، ومقتضاه من محبة الله ورسوله وخشية الله ورجاء ما عنده ، لا يكون إيمانا إلا مع عمل القلب ، ذلك أن الإيمان ليس مرادفا للتصديق في اللغة، ولا في نصوص الكتاب والسنة ، بل هو التصديق الذي يقتضي الانقياد القلبي والبدني ، وهو ـ أي هذا التصديق ـ مع الشهادتين وعمل القلب واللسان والجوارح ، كل هذه هــي الإيمان الذي أمــر الله به .

** رابعا : أن العبادات المأمور بها ، كالإيمان الجامع ، وكشعبه مثل الصلاة والوضوء لها ثلاثة أحوال بالنسبة لما فيها من الأفعال :
إما أن يقتصر العبد على الواجب فقط . وإما أن يأتي بالمستحب . وإما أن ينقص عن الواجب ، ثم النقص عن الواجب نوعان : نوع يبطل العبادة كنقص أركان الصلاة ونوع لا يبطلها كنقص واجبات الحج .


** والإيمان كذلك إذا نقص العبد عن الواجبات العملية فيه ، فمن النقص ما لا يبطل الإيمان ، سواء الترك كترك الجهاد الواجب ونحو ذلك ، والفعل كفعل الكبائر مثل الزنى والقتل ونحوهما .
ومن النقص ما يبطل الإيمان في التروك كترك الصلاة عند من يقول بكفر تارك الصلاة ، وترك الأركان الثلاثة الأخرى عندما من يقول به من السلف أيضا .

وفي جانب الفعل كذلك ، فمن الأفعال ما يكون من نقص الواجب الذي يبطل الإيمان ، بمنزلة الأفعال التي تبطل الصلاة كالأكل والشرب فيها ، والحركة الكثيرة ونحو ذلك .

ثم الأفعال التي تبطل الإيمان ، لا يشترط في تكفير فاعلها أن يكون مستحلا .

ثم منها ما هو موضع خلاف ، ومنها ما يكون موضع إجماع بين العلماء ، كمن يسجد للصنم موافقة للمشركين طمعا في شهوات الدنيا ، فهذا مجمع على كفره ، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : ( الوجه الثاني أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن ، وهو ليس في سلطانهم ، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة ، أو مال ، أو مشحة بوطن أو عيال أو خوف مما يحدث في المآل ، فإنه في هذه الحالة يكون مرتدا ، ولا ينفعه كراهته لهم في الباطن ، وهو من قال الله فيهم ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ) فأخبر انه لم يحملهم على الكفر ، الجهل أو بغضه ( أي بغض الدين ) ولا محبة الباطل ، وإنما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين ) مجموعة التوحيد 418

وتأملوا قوله : ( أو خوف مما يحدث في المآل ) يعني أن الإكراه الذي يعذر به من يوافق الكفار على دينهم في الظاهر ، لا يتحقق في هذه الصورة بل يتحقق فيمن يقع عليه الإكراه في الحال .


** وهذه المسألة التي اختلفتم فيها ، إذا قلنا إن اتخاذ متحاكم إليه غير الله في فصل الخصومات ، ورد التنازع الواقع بين العباد ، بحيث يكون هو المرجع المنصوب للقضاء بين العباد ، هو من اتخاذ الشريك مع الله تعالى ، كالصنم الذي يعبد ، والضريح الذي يطاف حوله ، ويُدعى ، ويُركع له يُسجد ، ونحو ذلك من الأفعال التي هي شرك أكبر وكفر أكبر ، فلا معنى لاشتراط الاستحلال للحكم بالتكفير ، ولايجري هذا على قواعد أهل السنة ، بل هو على رأى المرجئة الضالة .
وإذا قيل بل هو باب آخر غير داخل في الكفر ، فهو من جنس اتباع الشيطان في دعوته إلى الذنوب ، وطاعة الرؤساء في معصية الله ، كإعانتهم على الظلم والمعاصي مع عدم الاستحلال ، فالحكم هنا كالحكم على أهل الكبائر .

وهذا القول الثاني هو الذي يحوم حوله ، الذين يدندنون حول إخراج باب الحكم يما أنزل الله من مباحث العقيدة ، زاعمين : أن المراد بالحكم في النصوص الواردة في هذا الشأن ، جنس العمل ، ويقولون : كل عامل بما يخالف الشرع ، هو حاكم بغير ما أنزل الله .

وقال هؤلاء لمن يكفّر محكمة القوانين : إن كفّرتم الحاكمين بغير ما أنزل الله وإن لم يستحلّوا ، فكفّروا أهل الكبائر أيضا ، فذلك لازم لكم لا محالة ، وأخذوا يلمزون المكفّرين للحاكمين بغير ما أنزل الله تعالى بأنهم خوارج .

ولاريب أن من أعظم أسباب تهوين ترك الحكم بما أنزل الله عند الحكام بغير ما أنزل الله ، تحريف النصوص على هذا النحو من أهل الزيغ من الذين يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ، وقد فُتنوا لما اقتربوا من أبواب الطواغيت ، وصاروا أيضا فتنة لأولئك الطواغيت ، يهوّنون لهــم ما هم فيه من الكفر ، ويزيّنون لهم ما يفعلونه من الباطل ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم ، حتى غدو عيونا للطواغيت على العلماء والدعاة إلى الحكم بما أنزل الله ، يعينونهم على هدم الإسلام ، ابتغاء متاع الحياة الدنيا ، وما متاع الدنيا إلا قليل .


** قال القاضي بعد هذه الخطبة الطويلة :
وإذ قد وضحت الآن هذه المقدمات ، فأقول وبالله التوفيق :

الحكم على تارك الحكم بالشريعة لا يتبين إلا بتفصيل صور وقوع الحكم بغير الشريعة من الحكام ، فهم أنواع :

أحدهم : من يحكم بغير ما أنزل الله مستحلا ـ تصريحا أو تلميحا ـ وهؤلاء هم العلمانيون ، المذهب المعروف .

الثاني : من يتولى الحكم على الناس ، وهم يتحاكمون إلى الشريعة قبله ، فيزيحها عنهم ، ويمنع قضاة الشرع من الحكم به ، ويفرض القوانين الوضعية ، ، ويؤسس المؤسسات التي تطورها وتزيدها قوة ، ولا يلتفت إلى سواها البتة في القضاء والحكم ، ولا يكون في ذلك كله مكرها ، بل مستحب للشهوات التي تفوت عليه إن حكم بالشريعة ، غير أنه لا يصرح بالاستحلال ، بل يزعم أنه في ذلك كله غير مستحل ، أو يضرب عن القول صفحا ، ويمضي في شأنه المذكور.

الثالث : أن يكون في قوم يتوارثون الحكم ، فيتولى فيجد من قبله قد مهّد للقوانين ، كما فعل صاحب الصورة السابقة ، فيخشى ما كان يخشاه من قبله من فوات شهوات تفوت إن التزم الحكم بالشريعة ، فيُبقى الأمر على ما كان ، إيثارا للحياة الدنيا وركونا إليها .

الرابع : كالثالث غير انه لا يمنعه من تحكيم الشريعة مانع إيثار الدنيا ، بل الخوف من الأعداء الظاهرين ، وذلك يكون في ظل هيمنة الكفار بالقوة في الأرض ، وتخويفهم المسلمين أن يحكموا بالشريعة ، فيرى البقاء في ولايته ريثما تتغير الأحوال ، ويمكنه أن يحكم بالشرع .

الخامس : كالثالث غير أنه يتأول البقاء على الحكم مع أنه قائم على الحكم بغير ما أنزل الله ، ليزيل التحاكم إلى غير الشريعة بقدر استطاعته لأن المعوقات كثيرة ، والتغيير يحتاج إلى زمن غير يسير ، وهو مع ذلك يعمل باتجاه التحاكم إلى الشريعة أمورا بالتدريج ، ويصدق قوله بما يقدر عليه من عمل ، ويصلح ما استطاع إلى ذلك سبيلا .

فالأول كافـــــر ولا كرامة .

والثاني أخوه ، فأفعاله أبلغ دلالةً على الكفر من الأقـوال .

والثالث ألحق الحسّ بالأسّ .

والرابع عليه أن ينزع قميصا يرتديه زورا ، فإن لم يقدر وكان من أهل الصلاة قائما بأمر الدين فيما يقدر عليه ، فقد يكون معذورا .

والخامس إن شاء الله لا يكون موزورا .

قال القاضي :

واعلموا أن أكثر من تحكم بلادهم القوانين اليوم ، مندرجون تحت الأنواع الثلاثة الأولى ، وأما الرابع والخامس فأقل من تبنة في لبنة .

وإن من أعظم الناس جرما بعد الحاكمين بغير ما أنزل الله ، من يزيّن أو يهوّن لهم هذا الشرك المبين ، من كل مفـتٍ للدينار والدرهم لحّـاس ، أو عالم سوء في الفتنة ركّـاس ، زاعمين أن ترك تحكيم الشريعة ما هو إلا معصية ليست بكفـر مطلقا ، ليبقى هذا البلاء في الناس .

وأشر منهم منزلة من يفتي الطواغيت بان الحكم بالشريعة ليس بلازم في الشريعة ، كما فعل علي عبد الرازق ، ومن تبعه من كل شيطان وسواس خنّاس.


** خاتمــــــــة :
وانصرف الجميع من مجلس النظر ، وقد اجتمعت كلمتهم على ما ذكـر .

فهذه قصة المناظرة .. فتأمل هُديت .. وأحذر المكابـــرة .

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .