ابو الامير
28-10-2003, 10:46 AM
بين الذكرى والألم، يجدد شهر رمضان الجرح، ويفتح النافذة على فلسطين، فيستعيد الفلسطينيون اللاجئون في لبنان، ذكريات الحنين، والطفولة، والشباب، لا احد قادر على النسيان، لا احد يستطيع ان يقتطع جزءاً من جسده ويقول خذوه لا اريده، الكل يرغب في العودة ويشده الحنين لتراب الارض، لحيفا، ويافا، ونابلس، وعكا، للقدس عاصمة الارض والسماء.
يهل رمضان على الامة العربية، فيعم الفرح على كافة ارجاء الوطن الكبير الا على هذا الجزء من الوطن، فلسطين، حيث يعم الحزن والالم، تأتي الفرحة، ناقصة يشوبها الغصة والقهر...
شهر رمضان عاد حزيناً ايضاً هذا العام على الشتات خارج الوطن. لم يزل الاحباء خارج اسوار الوطن تحاصرهم اشباح الفقر والقهر والعوز داخل (كونتينات) بشرية، تفتقد ادنى متطلبات الحياة الانسانية، ولولا هذا الايمان الذي يقف حداً فاصلاً بين الاستسلام والنضال، وان كان السلاح الوحيد لديهم هو الدعاء والارادة والصمود.
عاد رمضان الى ارض الوطن، والشهداء، مازالوا يتوافدون، وبيوت العزاء والاتراح في كل مكان.
وبين الداخل والخارج نرى المشهد ذاته والآلام ذاتها، فالمخيمات الفلسطينية في الشتات هي جزء لا يتجزأ من احياء وقرى الوطن ـ فلسطين ـ فالسكان ـ هنا يعيشون الحصار والقهر والفقر ولكن بعيداً عن مرمى العدو الصهيوني، لقد استحضروا معهم اسماء قراهم وبلداتهم، وحولوا مكان عيشهم الى فلسطين مصغرة، فترى هنا جامع الاقصى وهناك مستشفى حيفا، ومدرسة نابلس، وعلى الرغم من ان الفلسطينيين يستقبلون شهر الله بفرحة ممزوجة بالالم والحنين. ورغم الجراح، لكن لا بد من الترتيب والترحيب بهذا الزائر الكريم، انها محاولة من الاهالي للعيش بشكل طبيعي حتى ولو ظاهرياً.
هنا سؤال يطرح نفسه، كيف استقبل الفلسطينيون شهر رمضان في لبنان، وهل ما زالوا يحافظون على العادات القديمة التي جلبوها معهم في عام النكبة؟ هذا ما حاولنا معرفته لدى زيارتنا لمخيمات الشتات في ضواحي العاصمة اللبنانية (بيروت).
لم تكن زيارتنا سهلة اذ يصعب عليك ان تزور المخيمات حاملاً موضوعاً واحداً، لان التقيد بعنوان واحد يبدو صعباً بل مستحيلاً في ظل جمهرة عناوين عدة تفرض نفسها، اذ من الصعب على الزائر ان يحصر مهماته في موضوع واحد فكيف يمكن الحديث عن شهر رمضان من دون الاشارة الى الوضع العام للمخيم ونمط العيش فيه. كل شيء في المخيم فلسطيني الهوية، وكأنهم ارادوا عدم اضافة اي تغييرات على الحياة في المخيم، فحولوه الى ما يشبه الوطن.
فالمخيم هو القرية الفلسطينية، وكأن هناك خارطة جديدة رسمت على ارض المخيم، اما البيوت فتختلف عن المنازل الموجودة هناك في الوطن، حتى عن افقرها، ولكن بالرغم من الفقر الذي يكتنفها والبؤس الذي يخيم عليها، فان لها جمالا خاصا، وسحرا مميزا، لكنه مر المذاق، فهي ليست الا امتداداً للبيوت داخل الوطن، حيث يعبق في كل بيت روائح القرى الفلسطينية...في هذه الغربة المرغمة يشعر الفلسطينيون بوحدة تجمعهم، هي وحدة الانتماء الى الوطن، ويجمعهم ايضاً كل متطلبات الصمود امام التحديات المفروضة عليهم، ليبقى امل العودة هو العنوان الاكبر الذي يجعل كل مصاعب وقساوة الحياة في المخيم تغدو مرحلية.
ما اشبه اليوم بالامس، وما امرَّ العيش في قصور خارج حدود الوطن، وهل هناك اطيب من (جلسة) تحت شجرة الزيتون العتيقة التي تمتد جذورها في الارض بصلابة الى ما قبل التاريخ المزيف الذي خطته الايادي السود..طال الانتظار...ضاقت الدنيا بأفقها الواسع..اريد ان اعانق تراب الوطن، اعفر وجهي فيه، اريد العودة...اريد فلسطين...
هذا ما قرأناه في عيون كل رجل وامرأة وطفل في مخيمات الشتات الفلسطينة، اربعة وخمسون عاماً مضوا، ولم يتغير شيء، وفلسطين حاضرة في القلوب والعيون اليوم اكثر من الامس.
يواجهون الحياة بصدور عارية وارادة ثابتة، وبغصن زيتون هي القوة والسلاح الوحيد الذي سيحارب به هذا الشعب ولو طالت الازمان وانقضت الدهور...فالارض تفدى بالغالي والنفيس وما بالك اذا كانت هذه الارض هي فلسطين...غابت اجواء الفرح والزينة والالوان داخل المخيم، لكن ما لفت نظرنا عبارة كتبت بخط عريض ملونة بألوان العلم الفلسطيني، على احدى الجدران تقول: (هنيئاً لشعب الجبارين) وفي الطرف الآخر من المكان عجوز في العقد السابع من عمره يجلس على كرسي منتظراً أذان الظهر، ليقيم الصلاة.
الحاج صبحي عيسى الخليل استقبلنا في منزله المتواضع، وحدثنا عن شهر رمضان في عكا، وعن العادات والتقاليد التي كانوا يمارسونها في هذا الشهر الفضيل، قال لنا: تركت فلسطين وانا في الثلاثين من العمر، وبقي اهلي جميعاً داخل الوطن، وعن نمط الحياة التي كانوا يحيونها هناك، قال: كنا فلاحين نعيش حياة متواضعة نأكل مما نزرع، ونلبس مما ننسج، والاهم من ذلك ما يجمعنا هو الرباط العائلي المقدس، هذا الرابط كان يتعزز اكثر واكثر مع حلول الشهر الكريم، حيث كانت تجتمع العائلة كافة على مائدة واحدة، وهذا تقليد فلسطيني هام حملناه معنا، وكانوا يتشاركون الافراح والاطباق ومتعة اللقاء، والتسامر، لدرجة كنا نشعر معها وكأن القرية في رمضان بيت واحد، فما عندنا من رزق ينال الجار نصيب منه وبالعكس.
وتذرف عيناه الدموع، حينما تعود به الذكرى، الى القرية حيث كان الشيخ يؤذن على سطح المسجد، اذ لم يكن يوجد حينها مآذن مثل اليوم.
لقد كانت الحياة بسيطة خالية من التعقيدات، اما اليوم فلقد تغيرت الاحوال واختلف الايقاع، لان الاحبة غائبون، والارض دنسها الغزاة، اصبحنا نستقبل شهر رمضان بغربة في غياب الاقارب بحسرة والم مبعدين عن الارض والوطن.
جلنا في احياء المخيم المكتظة بالناس فالتقينا بالاستاذ مفيد محي الدين صادق يعمل مدرسا، سألناه.
هل تتذكر اجواء رمضان في فلسطين، وكيف كنتم تحيوه هناك؟ قال لنا: ان اجتماع افراد العائلة في اول ايام شهر رمضان والمشاركة في اول افطار هو التقليد الذي حملناه معنا من داخل الارض واورثناه لاولادنا في الشتات.
لكن استقبالنا لشهر رمضان، رغم ما يحمل معه من معاني الفرح والمحبة والتسامح، له طابع الغربة، اذ كيف نفرح واهلنا يعيشون مأساة مستمرة منذ عقود. في القطاع والضفة وكافة الاراضي الفلسطينية، نجلس على مائدة الافطار وعيوننا مسمرة على شاشة التلفزة نشاهد ونتابع نشرات الاخبار، تملأ الغصة الحناجر، وتقف (اللقمة) في الايادي ونحن نراهم يشيعون الشهيد تلو الشهيد، ويعيشون في ظل ظروف صعبة جداً وربما اصعب من التي نعيشها نحن المحاصرون هنا، فهناك داخل الاراضي تمارس ابشع التصرفات بحق الانسانية من منع للتجوال، ناهيك على ان المساعدات لا تصل الى اي منطقة او قرية.
ويفتقرون الى ابسط مظاهرة الحياة، كالطعام والمياه.
يسألنا بحدة، من سيجلب لابنة الشهيد ثوباً جديداً يوم العيد، وماذا ستقول زوجة الاسير لاولادها عندما يحين موعد الافطار، ويحار في رأسه الف لماذا وكيف وماذا سيحصل فيما بعد....؟؟! كل هذا على مرأى ومسمع من العالم اجمع، والصمت العربي والدولي يخنقنا، ويتابع...صحيح نحن نحيا في الخارج، لكننا نعيش نفس المأساة ونتألم ربما اكثر، هم نوع ما اعتادوا على هذه الحياة، اما نحن فلم نعد نتحمل ما نشاهده على شاشات التلفزة، جرح نازف ولكن مع الاسف لم يهز اي ضمير عربي.
ان ما نشاهده يومياً من الانتهاكات المستمرة لحقوق الانسان، يخفف علينا اعباء الحياة القاسية التي نعيشها هنا داخل هذه الزنزانات، وهذا ما يمدنا بالصبر ويقوي فينا ارادة الصمود والامل بالعودة الى تراب الوطن، وفي الختام لا نجد امامنا سوى الدعاء في شهر الله ان ينصر هذا الشعب، ونرجع لوطننا كي نلقي الاحبة في قلب الوطن.
لم يكن من السهل علينا ان نمر بالمخيمات دون ان نلقى الاطفال، احباء الله لنستطلع احوالهم هناك.
يحتفظ الاطفال في المخيم بصورة خاصة عن فلسطين ويصفونها بكلمات اعتادوا تردادها وسماعها وحلموا بها، يجمعهم هاجس اليهود، هم لم يرونهم وجهاً لوجه، ولكن كونوا عنهم صورة خاصة، انهم وحوش يقتلون ويدمرون، ويشردون الاهالي في الوطن، يحلمون بالعودة الى المسجد الاقصى والقدس، ويعتبرون فلسطين البلد الاجمل وعندما تحدثهم تراهم يحرصون على حفظ الذكريات التي يسمعونها من الاهالي حتى بات في امكان بعضهم وصف البيت والشارع والحي وكأنهم يعيشون فيه.
سألناهم عن شهر رمضان، فبادرنا احدهم بالسؤال، لماذا اتى شهر رمضان هكذا، بحسرة فارغ اليدين وحزين، لم نستقبله نحن الاطفال ككل عام بالزينة واضاءة الشموع والفوانيس....اشعر ان رمضان (زعلان) مثلنا على اطفال الحجارة المحرومين من الحياة واللعب والذهاب الى المدرسة.
قرأنا هذه الاسئلة في عيون الاطفال، انها عيون صادقة لا تعرف الخداع...اطفال اليوم يعيشون مأساة اخوانهم في الداخل، فترى بعضهم يتابع الاخبار ويتكلم السياسة بطريقته الخاصة، فيصف شارون مثلاً (بالغول) الذي يريد أكل كل ما يجده في طريقه.
الطفل الفلسطيني اصبح واعياً، ان هناك ارضاً مغتصبة، ارض تنزف، اصبح يعي جرح القدس وان هناك اقداماً قذرة دنست مهد المسيح وعانت في الارض المقدسة فساداً...فمن يعلم الكبار هذا الكلام، وهل سيكون له صدى على آذانهم؟؟!!.
...وطن
يهل رمضان على الامة العربية، فيعم الفرح على كافة ارجاء الوطن الكبير الا على هذا الجزء من الوطن، فلسطين، حيث يعم الحزن والالم، تأتي الفرحة، ناقصة يشوبها الغصة والقهر...
شهر رمضان عاد حزيناً ايضاً هذا العام على الشتات خارج الوطن. لم يزل الاحباء خارج اسوار الوطن تحاصرهم اشباح الفقر والقهر والعوز داخل (كونتينات) بشرية، تفتقد ادنى متطلبات الحياة الانسانية، ولولا هذا الايمان الذي يقف حداً فاصلاً بين الاستسلام والنضال، وان كان السلاح الوحيد لديهم هو الدعاء والارادة والصمود.
عاد رمضان الى ارض الوطن، والشهداء، مازالوا يتوافدون، وبيوت العزاء والاتراح في كل مكان.
وبين الداخل والخارج نرى المشهد ذاته والآلام ذاتها، فالمخيمات الفلسطينية في الشتات هي جزء لا يتجزأ من احياء وقرى الوطن ـ فلسطين ـ فالسكان ـ هنا يعيشون الحصار والقهر والفقر ولكن بعيداً عن مرمى العدو الصهيوني، لقد استحضروا معهم اسماء قراهم وبلداتهم، وحولوا مكان عيشهم الى فلسطين مصغرة، فترى هنا جامع الاقصى وهناك مستشفى حيفا، ومدرسة نابلس، وعلى الرغم من ان الفلسطينيين يستقبلون شهر الله بفرحة ممزوجة بالالم والحنين. ورغم الجراح، لكن لا بد من الترتيب والترحيب بهذا الزائر الكريم، انها محاولة من الاهالي للعيش بشكل طبيعي حتى ولو ظاهرياً.
هنا سؤال يطرح نفسه، كيف استقبل الفلسطينيون شهر رمضان في لبنان، وهل ما زالوا يحافظون على العادات القديمة التي جلبوها معهم في عام النكبة؟ هذا ما حاولنا معرفته لدى زيارتنا لمخيمات الشتات في ضواحي العاصمة اللبنانية (بيروت).
لم تكن زيارتنا سهلة اذ يصعب عليك ان تزور المخيمات حاملاً موضوعاً واحداً، لان التقيد بعنوان واحد يبدو صعباً بل مستحيلاً في ظل جمهرة عناوين عدة تفرض نفسها، اذ من الصعب على الزائر ان يحصر مهماته في موضوع واحد فكيف يمكن الحديث عن شهر رمضان من دون الاشارة الى الوضع العام للمخيم ونمط العيش فيه. كل شيء في المخيم فلسطيني الهوية، وكأنهم ارادوا عدم اضافة اي تغييرات على الحياة في المخيم، فحولوه الى ما يشبه الوطن.
فالمخيم هو القرية الفلسطينية، وكأن هناك خارطة جديدة رسمت على ارض المخيم، اما البيوت فتختلف عن المنازل الموجودة هناك في الوطن، حتى عن افقرها، ولكن بالرغم من الفقر الذي يكتنفها والبؤس الذي يخيم عليها، فان لها جمالا خاصا، وسحرا مميزا، لكنه مر المذاق، فهي ليست الا امتداداً للبيوت داخل الوطن، حيث يعبق في كل بيت روائح القرى الفلسطينية...في هذه الغربة المرغمة يشعر الفلسطينيون بوحدة تجمعهم، هي وحدة الانتماء الى الوطن، ويجمعهم ايضاً كل متطلبات الصمود امام التحديات المفروضة عليهم، ليبقى امل العودة هو العنوان الاكبر الذي يجعل كل مصاعب وقساوة الحياة في المخيم تغدو مرحلية.
ما اشبه اليوم بالامس، وما امرَّ العيش في قصور خارج حدود الوطن، وهل هناك اطيب من (جلسة) تحت شجرة الزيتون العتيقة التي تمتد جذورها في الارض بصلابة الى ما قبل التاريخ المزيف الذي خطته الايادي السود..طال الانتظار...ضاقت الدنيا بأفقها الواسع..اريد ان اعانق تراب الوطن، اعفر وجهي فيه، اريد العودة...اريد فلسطين...
هذا ما قرأناه في عيون كل رجل وامرأة وطفل في مخيمات الشتات الفلسطينة، اربعة وخمسون عاماً مضوا، ولم يتغير شيء، وفلسطين حاضرة في القلوب والعيون اليوم اكثر من الامس.
يواجهون الحياة بصدور عارية وارادة ثابتة، وبغصن زيتون هي القوة والسلاح الوحيد الذي سيحارب به هذا الشعب ولو طالت الازمان وانقضت الدهور...فالارض تفدى بالغالي والنفيس وما بالك اذا كانت هذه الارض هي فلسطين...غابت اجواء الفرح والزينة والالوان داخل المخيم، لكن ما لفت نظرنا عبارة كتبت بخط عريض ملونة بألوان العلم الفلسطيني، على احدى الجدران تقول: (هنيئاً لشعب الجبارين) وفي الطرف الآخر من المكان عجوز في العقد السابع من عمره يجلس على كرسي منتظراً أذان الظهر، ليقيم الصلاة.
الحاج صبحي عيسى الخليل استقبلنا في منزله المتواضع، وحدثنا عن شهر رمضان في عكا، وعن العادات والتقاليد التي كانوا يمارسونها في هذا الشهر الفضيل، قال لنا: تركت فلسطين وانا في الثلاثين من العمر، وبقي اهلي جميعاً داخل الوطن، وعن نمط الحياة التي كانوا يحيونها هناك، قال: كنا فلاحين نعيش حياة متواضعة نأكل مما نزرع، ونلبس مما ننسج، والاهم من ذلك ما يجمعنا هو الرباط العائلي المقدس، هذا الرابط كان يتعزز اكثر واكثر مع حلول الشهر الكريم، حيث كانت تجتمع العائلة كافة على مائدة واحدة، وهذا تقليد فلسطيني هام حملناه معنا، وكانوا يتشاركون الافراح والاطباق ومتعة اللقاء، والتسامر، لدرجة كنا نشعر معها وكأن القرية في رمضان بيت واحد، فما عندنا من رزق ينال الجار نصيب منه وبالعكس.
وتذرف عيناه الدموع، حينما تعود به الذكرى، الى القرية حيث كان الشيخ يؤذن على سطح المسجد، اذ لم يكن يوجد حينها مآذن مثل اليوم.
لقد كانت الحياة بسيطة خالية من التعقيدات، اما اليوم فلقد تغيرت الاحوال واختلف الايقاع، لان الاحبة غائبون، والارض دنسها الغزاة، اصبحنا نستقبل شهر رمضان بغربة في غياب الاقارب بحسرة والم مبعدين عن الارض والوطن.
جلنا في احياء المخيم المكتظة بالناس فالتقينا بالاستاذ مفيد محي الدين صادق يعمل مدرسا، سألناه.
هل تتذكر اجواء رمضان في فلسطين، وكيف كنتم تحيوه هناك؟ قال لنا: ان اجتماع افراد العائلة في اول ايام شهر رمضان والمشاركة في اول افطار هو التقليد الذي حملناه معنا من داخل الارض واورثناه لاولادنا في الشتات.
لكن استقبالنا لشهر رمضان، رغم ما يحمل معه من معاني الفرح والمحبة والتسامح، له طابع الغربة، اذ كيف نفرح واهلنا يعيشون مأساة مستمرة منذ عقود. في القطاع والضفة وكافة الاراضي الفلسطينية، نجلس على مائدة الافطار وعيوننا مسمرة على شاشة التلفزة نشاهد ونتابع نشرات الاخبار، تملأ الغصة الحناجر، وتقف (اللقمة) في الايادي ونحن نراهم يشيعون الشهيد تلو الشهيد، ويعيشون في ظل ظروف صعبة جداً وربما اصعب من التي نعيشها نحن المحاصرون هنا، فهناك داخل الاراضي تمارس ابشع التصرفات بحق الانسانية من منع للتجوال، ناهيك على ان المساعدات لا تصل الى اي منطقة او قرية.
ويفتقرون الى ابسط مظاهرة الحياة، كالطعام والمياه.
يسألنا بحدة، من سيجلب لابنة الشهيد ثوباً جديداً يوم العيد، وماذا ستقول زوجة الاسير لاولادها عندما يحين موعد الافطار، ويحار في رأسه الف لماذا وكيف وماذا سيحصل فيما بعد....؟؟! كل هذا على مرأى ومسمع من العالم اجمع، والصمت العربي والدولي يخنقنا، ويتابع...صحيح نحن نحيا في الخارج، لكننا نعيش نفس المأساة ونتألم ربما اكثر، هم نوع ما اعتادوا على هذه الحياة، اما نحن فلم نعد نتحمل ما نشاهده على شاشات التلفزة، جرح نازف ولكن مع الاسف لم يهز اي ضمير عربي.
ان ما نشاهده يومياً من الانتهاكات المستمرة لحقوق الانسان، يخفف علينا اعباء الحياة القاسية التي نعيشها هنا داخل هذه الزنزانات، وهذا ما يمدنا بالصبر ويقوي فينا ارادة الصمود والامل بالعودة الى تراب الوطن، وفي الختام لا نجد امامنا سوى الدعاء في شهر الله ان ينصر هذا الشعب، ونرجع لوطننا كي نلقي الاحبة في قلب الوطن.
لم يكن من السهل علينا ان نمر بالمخيمات دون ان نلقى الاطفال، احباء الله لنستطلع احوالهم هناك.
يحتفظ الاطفال في المخيم بصورة خاصة عن فلسطين ويصفونها بكلمات اعتادوا تردادها وسماعها وحلموا بها، يجمعهم هاجس اليهود، هم لم يرونهم وجهاً لوجه، ولكن كونوا عنهم صورة خاصة، انهم وحوش يقتلون ويدمرون، ويشردون الاهالي في الوطن، يحلمون بالعودة الى المسجد الاقصى والقدس، ويعتبرون فلسطين البلد الاجمل وعندما تحدثهم تراهم يحرصون على حفظ الذكريات التي يسمعونها من الاهالي حتى بات في امكان بعضهم وصف البيت والشارع والحي وكأنهم يعيشون فيه.
سألناهم عن شهر رمضان، فبادرنا احدهم بالسؤال، لماذا اتى شهر رمضان هكذا، بحسرة فارغ اليدين وحزين، لم نستقبله نحن الاطفال ككل عام بالزينة واضاءة الشموع والفوانيس....اشعر ان رمضان (زعلان) مثلنا على اطفال الحجارة المحرومين من الحياة واللعب والذهاب الى المدرسة.
قرأنا هذه الاسئلة في عيون الاطفال، انها عيون صادقة لا تعرف الخداع...اطفال اليوم يعيشون مأساة اخوانهم في الداخل، فترى بعضهم يتابع الاخبار ويتكلم السياسة بطريقته الخاصة، فيصف شارون مثلاً (بالغول) الذي يريد أكل كل ما يجده في طريقه.
الطفل الفلسطيني اصبح واعياً، ان هناك ارضاً مغتصبة، ارض تنزف، اصبح يعي جرح القدس وان هناك اقداماً قذرة دنست مهد المسيح وعانت في الارض المقدسة فساداً...فمن يعلم الكبار هذا الكلام، وهل سيكون له صدى على آذانهم؟؟!!.
...وطن