هجران
29-11-2003, 03:14 PM
"ليست الحرب الا سياسة بوسائل اخرى"
كلوسفيتز (Clausewitz )
عندما يكون الانسحاب المخرج الوحيد للاستراتيجيا العسكرية الامبراطورية
زحفت مع أوائل صيف 1812 قوات نابوليون بونابارت بأعداد هائلة (500 الف جندي) و بسرعة غير مسبوقة نحو حدود الامبراطورية الروسية الشمالية الغربية, عند نهر نيمن (Niemen). لم تكن اي من الملكيات الاوروبية المخلخلة تتوقع انذاك اي معركة جدية بين الكسندر الاول قيصر روسيا و الذي لم يكن يحضى بمواهب تذكر و الامبراطور الكورسيكي الشاب الذي اصبح في تلك المرحلة بمثابة الكسندر جديد—ذلك النموذج الغربي للامبراطور الكلاسيكي—ألف عنه و لاجله بيتهوفن سمفونيته الثالثة. لم يكن يبدو هناك اي مجال لتوقع اي نتيجة بخلاف سقوط موسكو. وفعلا مع شهر سبتمبر و اثر معارك محدودة و فتوحات فرنسية لمدن خالية دخلت القوات الفرنسية بدون تهليل السكان—غير الموجودين اساسا— الى موسكو فارغة سيُحرق ثلاث ارباعها, امام ذهول بونابرت, اياما قليلة اثر ذلك. لم يمكث الجيش الفرنسي في مدينة الاشباح تلك اكثر من ثلاث اسابيع. و بحلول شتاء مبكر بدأ الجنود الفرنسيون و حلفائهم احد افظع و اشهر الانسحابات العسكرية في التاريخ: تحت ضربات "الجنرال برد" و الهجومات المفاجئة و السريعة للقوات القوقازية من الحرس الملكي الروسي لم يصل الى نهر نيمن بحلول شهر ديسمبر من سنة 1812 الا 20 ألف جندي من اصل النصف مليون الذين بدؤوا الحملة. كانت تلك هزيمة مدوية بدأت مسلسل اندحار الاستراتيجيا الامبراطورية لبونابرت و التي سقطت نهائيا مع هزيمته في معركة واترلو. يمثل الانسحاب الفرنسي من موسكو درسا اساسيا في التاريخ العسكري الغربي. درس اخر من الانسحابات البونابارتية لا يُذكر بكثرة هو الانسحاب من مصر. لم يحرق المصريون القاهرة غير انهم جعلوها مخيفة و مقلقة الى حد كافي لكي يبحر الفرنسيون متقهقرين الى مارسيليا.
في المعايير العسكرية لم يكن الانسحاب من روسيا مهما في ذاته بقدر ما كانت اسبابه و الظروف التي احاطت به داعية للاهتمام. كلوسفيتز, احد مؤسسي العلم العسكري الحديث مع بداية القرن التاسع عشر, أولى اهتماما خاصا بالحملة الروسية. كان الدرس الاساسي بالنسبة له انه لا يمكن ان توجد اي قوة عسكرية قادرة على الانتصار في اراضي غريبة دون دعم سياسي محلي. و سواء كانت المدن و المجالات المسيطر عليها عامرة ام غير اهلة بالسكان فانها ستبقى في جميع الحالات في حكم الخالية من الناحية السياسية اذا كانت مناوئة في موقفها السياسي العام للحاكم العسكري الجديد. ان فكرة الدور الرئيسي للعامل السياسي في المسائل العسكرية هي الاضافة الاساسية التي قام بها كلوسفيتز, و التي جعلته احد المصادر العسكرية الاساسية في الاكاديميات العسكرية الغربية. غير انه لا يوجد مثال واحد يشير الى تعلم الجيوش الاستعمارية الغربية افكار كلوسفيتز من الاكاديميات التي تخرجوا منها: فقد كان على هذه الجيوش على مدى القرنين الماضيين ان تتعلم حكمة كلوسفيتز من حركات المقاومة الوطنية المسلحة. و أخيرا كان عليها, بعد فشل كل مشروع استعماري, ان تجرب انسحابا بونابارتيا مكررا بامجاد ضئيلة و بخسائر متفاوتة.
ليس العراق روسيا القرن التاسع عشر, و لا يملك العراقيون "الجنرال برد" و لم يهجروا مدنهم, كما لا يجرؤ احد على الادعاء بانه يشاهد ملامح الرئيس الامريكي في الصورة البونابارتية الساحرة, مثلما لا يمكن مقارنة "سرعة" هجوم نصف المليون جندي مشاة من الجيش الفرنسي مع السرعة الالكترونية لفرق الجيش الامريكي. غير ان هناك نقطة أساسية تشترك فيها الحملة الروسية مع الحملة العراقية: مادامت القوى المحتلة مهزومة سياسيا فان هزيمتها العسكرية ليست مستحيلة.
ارجاع مركز القيادة الى قطر و "المطرقة الحديدية": توتر الاستراتيجيين العسكريين الامريكيين
بعد راحة قصيرة لم يجف خلالها حبر مذكرات الجنرال فرانكس رجعت القيادة المركزية للقوات المسلحة الامريكية من مقرها الدائم في تامبا-فلوريدا الى القاعدة المؤقتة في قطر. مثٌل هذا الحدث الصامت هو تأكيد لمؤشرات تكاثرت في الايام الاخيرة يمحي جميعها الاعلان الامريكي بالانتصار و يشير الى اعادة توزيع موازين القوى العسكرية. فبهذا القرار أظهر الرئيس الامريكي, بوصفه القائد العام للقوات المسلحة, ان شعار "المهمة أُنجزت" (Mission Accomplished) الذي رفع بحضوره على احدى حاملات الطائرات الامريكية في افريل الماضي هو غير صحيح في الظرف الراهن. "المهمة" لم تُنجز: هذا هو الدرس الرهيب الذي أفاقت علي دويه الادارة و القيادة العسكرية الامريكية في الايام الاخيرة. كان تسريب تقرير المخابرات الامريكية من بغداد الى الواجهة الاعلامية و الذي يتحدث عن ايمان العراقيين المتزايد بامكانية هزم القوات الامريكية, عنوان اضطراب القيادة الامريكية.
هناك عنوان اخر لتوتر و اضطراب اصحاب القرار في واشنطن هذا الاسبوع: "المطرقة الحديدية". لقد كان ذلك اشارة للرجوع الى وضع ليس له علاقة بما بعد سقوط بغداد. لقد بات من البين ان العسكريين الامريكيين بصدد التعامل مع مدن رئيسية بما فيها بغداد كمدن معادية معرضة للعقاب الجماعي من خلال القصف المدفعي و الجوي (أنظر: الطاهر الاسود "ملاحظات عامة عن الصراع العسكري في العراق" (Tunisnews) عدد 1272 بتاريخ 13 نوفمبر 2003). يعني ذلك أمرا جوهريا: لقد اصبحت بغداد, من جديد, خارج السيطرة المطلقة للاحتلال الامريكي.
لكي نعاين اجواء "المطرقة الحديدية" دعنا نقرأ مقتطفات من التقرير التالي الهام للمراسلين المحليين في بغداد و نواحيها لصحيفة الزمان العراقية لهجمات وقعت ليلة الخميس-الجمعة (14 نوفمبر). نشير هنا ان هذه الصحيفة بالذات لا يمكن ان تعمل على تضخيم مكانة المقاومة العراقية بفعل مساندتها و رئيس تحريرها (سعد البزاز) الدؤوبة للسلطات الامريكية:
"الزمان- بغداد تعيش أسوأ لياليها بسبب معاودة القصف-المروحيات الامريكية تمشط المناطق المحيطة بمطار بغداد و سجن أبوغريب
عاشت العاصمة العراقية ليل الخميس الجمعة أسوأ لياليها فقد استمرت المروحيات و الطيران الحربي الامريكي بالتحليق و قصفت اهدافا منتقاة في شرق و غرب بغداد. و واصلت القوات الامريكية مهاجمة اهداف قرب المطار الدولي, حيث تقع اكبر قاعدة لها و مواقع قريبة من سجن أبو غريب يفترض ان موالين للرئيس المخلوع قد استخدموها في هجمات ضد جنودها, و ذلك في اطار عملية جديدة اطلق عليها اسم "المطرقة الحديدية". وترددت اصداء انفجارات و زخات الرصاص في ارجاء العاصمة و اضاءت طلقات كاشفة السماء ليل الخميس الجمعة (...) قالت الفرقة المدرعة الامريكية الاولى في بيان ان مروحية حربية للقوات الجوية من طراز سبوكي استخدمت مدفعا من عيار 150 ملليمترا و رشاشا من عيار 40 ملليمترا لتدمير مبنى سابق للحرس الجمهوري في حي الفرات ببغداد. و قال البيان ان مقاتلي المقاومة استخدموا في الاونة الاخيرة المبنى لتنفيذ هجمات على القوات الامريكية. و هاجمت القوات الامريكية ايضا موقعين يشتبه انهما لاطلاق نيران المورتر و القذائف الصاروخية في بغداد و اعتقلت ثلاث اشخاص بعد ان تعرضت لنيران اسلحة خفيفة. و دمرت نيران طائرة هليكوبتر من طراز ايه سي- 130 يوم الاربعاء مستودعا في بغداد قال الجيش الامريكي انه كان يستخدم للتخطيط لشن هجمات على قواته (...)"
(الزمان 14 نوفمبر 2003)
بالاضافة لللمسات الدعائية لهذا التقرير و للطابع الانتقائي ضرورة لحقيقة ما يجري على ارض الواقع, فانه يحوي معطيات اساسية لا يمكن عدم ملاحظتها, و هي كالتالي:
- اننا بصدد حرب فعلية مفتوحة تستعمل فيها القوات الامريكية قواتها الجوية و البرية ضد مقاومة تبدو كانها تتموقع في مجالات واضحة و تتحرك بشكل مجموعات صغيرة و بسرعة.
-ان المواجهات لم تعد تقع فقط في مزارع نائية او حتى على اطراف مدن ثانوية كما كانت الحال في الاشهر الفارطة (الفلوجة مثلا), بل اصبحت تشمل و تتركز في مواقع وسط العاصمة بغداد (حي الفرات). اكثر من ذلك توجد بعض مواقع المقاومة العراقية جوار مراكز عسكرية امريكية حصينة و شديدة الحراسة (المطار و سجن ابو غريب), و حسب التقرير اعلاه فإن القوات الامريكية لم تكتشف هذه المواقع سوى في الايام الاخيرة (؟؟!!!)
-لا تتعلق مواقع المقاومة العراقية بمنازل صغيرة او مزارع نائية و انما مخازن كبيرة تحرص القوات الامريكية على عدم الاقتراب منها عند مهاجمتها حيث تستعمل الطائرات المروحية و المدافع المحمولة جوا. و كما نقلت تقارير تلفزية مختلفة فإن القوات الامريكية قد اجلت الليالي الفارطة احياء بكاملها لمحاصرة هذه المواقع.
-أخيرا لا توجد مصادر مستقلة تؤكد سلامة المعطيات الاستخبارية التي تبني على اساسها القوات الامريكية هجماتها و بالتالي لا يوجد ما يمنع ان القتلى من العراقيين يمكن ان يكونوا ضحايا لقصف عشوائي او لقصف متأخر لمواقع غادرها عناصر المقاومة قبل ان يتاح للقوات الامريكية اكتشافها.
ان عملية "المطرقة الحديدية" ستكون عنيفة كما يبدو واضحا من معطيات كثيرة. غير ان دقة "الطرق" امر غير مؤكد, بل يبدو ان احتمالات "طرق" القوات الامريكية لاصابعها كبيرة, كما تشير الى ذلك ملامح القصف عشوائي اضافة للاعتقالات الجماعية. و لتفادي ذلك لا يكفي الجيش الامريكي انتقال قيادته المركزية من تامبا-فلوريدا الى قطر.
استراتيجيا عامة تهدف لانسحاب أسرع بكثير مما كان متوقعا ؟
اصبح من الواضح الان ان المشروع الراهن الذي أطلقته الادارة الامريكية ل"العرقنة" او"تسريع تسليم السلطة للعراقيين" و بغض النظر عن الصيغة التي ستتم بها, تعني التقليل من الهيمنة الكمية للقوات الامريكية لصالح قوات عسكرية عراقية و دولية. و اصبح رائجا ان ذلك يعني في النهاية انسحابا بشكل استعجالي للقوات الامريكية من العراق. فحسب مقال صادر امس في صحيفة الواشنطن بوست (14 نوفمبر: ص A 1 و 22) هناك مؤشرات عن ان "العرقنة" العسكرية تعني بقاء القوات الامريكية لمدة لا تزيد عن البضع اشهر حتى الترفيع في عدد قوات عراقية جديدة حليفة للقوات الامريكية. و لاحظت بعض هذه المصادر التي قارنت الوضع بمحاولة اقامة الولايات المتحدة اقامة حكومة موالية في جنوب الفيتنام ان هذه الفترة لا تزيد عن "الستة أشهر", و هو ما يلتقي تقريبا مع الاعلان الرسمي الذي قام به بريمر اليوم (15 نوفمبر) من اقامة لحكومة مؤقتة بحلول شهر جوان 2004. و بالتالي فإن ملامح المشروع الامريكي في هذه الايام—و ليس هناك ضامن انه لن يتغير— في العراق تتجه في الاتجاه التالي: انسحاب كامل او جزئي للقوات الامريكية و الدفع بقوات عراقية لمواجهة المقاومة العراقية بدعوى انها "تفهم بشكل أفضل بلادها". مما يعني ببساطة العمل على تعويض الوضع الراهن للاحتلال بوضع حرب اهلية فوضية. غير ان مفارقات المأزق الامريكي في حال اختيار هذا النهج بارزة. حيث تستنجد الادارة الامريكية في هذه االحالة بنموذج الوضع الفيتنامي, و الفرق الوحيد هو أن افاق الوضع العراقي تتجه في وجهة معاكسة لتطور الحالة الفيتنامية: فبينما بدأ التواجد الامريكي في الفيتنام بأعداد قليلة معتمدا على قوات أكبر من القوات المحلية الحليفة ليتجه نحو التزايد السريع لحجم القوات الامريكية الى حد تحجيم شبه كلي لقوات محلية حليفة, فإن الوضع العراقي يتجه حسب المصدر أعلاه من وضع الاحتلال الكامل الى وضع تعاظم دور القوات المحلية الحليفة. المسألة الرئيسية –رهن العراق بالاحتلال— يتم تجاهلها هنا. الاهم من ذلك حسب مقال الواشنطن بوست هناك شكوك قوية داخل الاوساط الرسمية الامريكية و تلك المقربة منها في النجاح بفرض حكومة موالية خاصة اذا تمت انتخابات حقيقية. كما هناك شكوكا معقولة تماما من ان اي توجه سريع لتكوين الجيش العراقي يمكن ان تسللا اسهل لعناصر النظام السابق و ينتهي الامر بذلك الى اعادة تهيئة الظروف لعودة أنصار الرئيس السابق الى السلطة. إن كل هذه المعطيات تؤكد مرة اخرى سوء الوضع الامريكي في العراق, و الذي يجعل الادارة الامريكية ببساطة شديدة, و كما يعبر عن ذلك المثل العربي الفصيح, "تستنجد في الرمضاء بالنار".
مؤشرات على بداية توتر العلاقة بين اقطاب المحافظين الجدد على خلفية الوضع في العراق
سبق ان تعرضنا في مقال سابق الى مؤشرات عن الوحدة الهشة لمجموعة المحافظين الجدد, الامر الذي يبرز خصوصا بين العناصر التي تتقلد مناصب تنفيذية في الادارة الامريكية و اولائك الذين برزوا بشكل خاص كمنظرين لهذا التيار. و كنا أشرنا على سبيل المثال الى التهجم العلني أسابيع قليلة قبل احداث 11 سبتمبر الذي قاده قطبي منظري المحافظين الجدد (كريستول و كاغان) على مجموعة وزارة الدفاع (رامسفيلد و وولفويتز) عندما توجهت الاخيرة بميزانية للدفاع اقل بكثير من الارقام التي طالما نادى بها المحافظون الجدد (أنظر: الطاهر الاسود "نشأة و تطور استراتيجيا الحرب الاستباقية" في (Tunisnews) عدد 1270 بتاريخ 11 نوفمبر 2003).
و في إطار الازمة الحالية في العراق فإن توترا مماثلا يبدو في الافق. فاليوم (15 نوفمبر) نُشر على صفحات الانترنت مقال مشترك كالعادة لكريستول و كاغان سيصدر في عدد 17 نوفمبر القادم لدورية (The Weekly Standard) عنوانه "استراتيجيا خروج أم استراتيجيا انتصار؟" يهاجم بشكل مكثف ما يسميهم ب"جماعة البنتاغون".
(أنظر المقال على الرابط التالي) http://www.ceip.org/files/publications/2003-17-11-Kaganwklystandard.asp
و يتهم كل منهما بوضوح وزارة الدفاع بتبني استراتيجيا تتهرب من الزيادة في عدد القوات المسلحة الامريكية مقابل تسليم العراق الى جيش عراقي مشكوك في ولائه. و يوجهان خطابهما الى الرئيس بوش واصفين إياه بأنه يعبر عن الموقف الصحيح من خلال تمسكه بالخطوط العامة لسياسته المعروفة ب"عقيدة بوش" و يناشدانه بالتدخل بسرعة ضد خطط وزارة الدفاع. و الحل للوضع الراهن حسب الكاتبين هو الزيادة في عدد القوات المسلحة لكي "يفهم العراقيون جدية التزامنا في بلدهم", و من ثمة التصعيد المسلح الى اقصى الحدود ضد المقاومة العراقية.
سنرجع لهذا المقال بشكل أكثر تفصيل لاحقا, و سنكتفي الان بالقول أن مقال (كريستول و كاغان) يؤكد ان خيار الانسحاب (كلي او جزئي) في مدة زمنية قريبة يبدو جادا. ومن غير المعروف إن كان سيكون أكثر احتمالية في حالة تبنيه من قبل الطرف الذي كان دائما يتميز بالتشدد (رامسفيلد و وولفويتز), لكن من المثير أن يختار وزير الخارجية الامريكي كولن باول هذا الوقت بالذات لفضح هزال "مجلس الحكم" ("لا يوجد فيه كرزاي") في وقت تحتاج فيه "خطط وزارة الدفاع" للترويج له و الاعتماد عليه اكثر مما مضى.
في هذا الاطار نريد إضافة الملاحظة التالية: في بداية التورط الامريكي في الفيتنام كان وزير الدفاع الامريكي ماكنمارا يدافع بشكل مستمر من اجل الدفع بالقوات الامريكية في المستنقع الفيتنامي و كان يمثل بذلك الطرف الاكثر تشددا داخل الادارة الامريكية مقابل مسؤولين كبار في وزارة الخارجية الامريكية كانوا يفضلون الامتناع عن الذهاب بعيدا في المغامرة الفيتنامية. المفارقة انه مع تأكد الادارة الامريكية من استحالة القضاء على المقاومة الفيتنامية انقلبت المواقف بشدة: فقد أصبح ماكنمارا مع انسحاب سريع و باي ثمن في حين اصبح مسؤولو وزارة الخارجية الامريكية و مجلس الامن القومي مع سياسة التمسك بالبقاء الى حين استعداد هو شي منه للقبول بصيغة تحفظ ماء وجه القوات الامريكية, و هو التوجه الذي تمسكت به الادارة الامريكية.
النتيجة نعرفها جميعا: مقاومة فيتنامية الى النهاية, و انسحابا امريكيا يحتل مواقع الصدارة مع الانسحاب البونابارتي في الانسحابات العسكرية الاكثر إذلالا في التاريخ. فالقليلون هم الذين لم يشاهدوا صورة السفير الامريكي على سطح السفارة الامريكية في سايغون معلقا مع ملفاته المبعثرة و العلم الامريكي باخر هليكوبتر امريكية مغادرة من الفيتنام. في حالة ما اذا تذكرت الادارة الامريكية المورطة الان في العراق تلك الصورة, خاصة في ظل انبعاث كوابيس الفيتنام مع تصاعد المقاومة العراقية, فلربما تسعى لتفادي... تصوير بريمر معلقا في هليكوبتر جديدة.
كلوسفيتز (Clausewitz )
عندما يكون الانسحاب المخرج الوحيد للاستراتيجيا العسكرية الامبراطورية
زحفت مع أوائل صيف 1812 قوات نابوليون بونابارت بأعداد هائلة (500 الف جندي) و بسرعة غير مسبوقة نحو حدود الامبراطورية الروسية الشمالية الغربية, عند نهر نيمن (Niemen). لم تكن اي من الملكيات الاوروبية المخلخلة تتوقع انذاك اي معركة جدية بين الكسندر الاول قيصر روسيا و الذي لم يكن يحضى بمواهب تذكر و الامبراطور الكورسيكي الشاب الذي اصبح في تلك المرحلة بمثابة الكسندر جديد—ذلك النموذج الغربي للامبراطور الكلاسيكي—ألف عنه و لاجله بيتهوفن سمفونيته الثالثة. لم يكن يبدو هناك اي مجال لتوقع اي نتيجة بخلاف سقوط موسكو. وفعلا مع شهر سبتمبر و اثر معارك محدودة و فتوحات فرنسية لمدن خالية دخلت القوات الفرنسية بدون تهليل السكان—غير الموجودين اساسا— الى موسكو فارغة سيُحرق ثلاث ارباعها, امام ذهول بونابرت, اياما قليلة اثر ذلك. لم يمكث الجيش الفرنسي في مدينة الاشباح تلك اكثر من ثلاث اسابيع. و بحلول شتاء مبكر بدأ الجنود الفرنسيون و حلفائهم احد افظع و اشهر الانسحابات العسكرية في التاريخ: تحت ضربات "الجنرال برد" و الهجومات المفاجئة و السريعة للقوات القوقازية من الحرس الملكي الروسي لم يصل الى نهر نيمن بحلول شهر ديسمبر من سنة 1812 الا 20 ألف جندي من اصل النصف مليون الذين بدؤوا الحملة. كانت تلك هزيمة مدوية بدأت مسلسل اندحار الاستراتيجيا الامبراطورية لبونابرت و التي سقطت نهائيا مع هزيمته في معركة واترلو. يمثل الانسحاب الفرنسي من موسكو درسا اساسيا في التاريخ العسكري الغربي. درس اخر من الانسحابات البونابارتية لا يُذكر بكثرة هو الانسحاب من مصر. لم يحرق المصريون القاهرة غير انهم جعلوها مخيفة و مقلقة الى حد كافي لكي يبحر الفرنسيون متقهقرين الى مارسيليا.
في المعايير العسكرية لم يكن الانسحاب من روسيا مهما في ذاته بقدر ما كانت اسبابه و الظروف التي احاطت به داعية للاهتمام. كلوسفيتز, احد مؤسسي العلم العسكري الحديث مع بداية القرن التاسع عشر, أولى اهتماما خاصا بالحملة الروسية. كان الدرس الاساسي بالنسبة له انه لا يمكن ان توجد اي قوة عسكرية قادرة على الانتصار في اراضي غريبة دون دعم سياسي محلي. و سواء كانت المدن و المجالات المسيطر عليها عامرة ام غير اهلة بالسكان فانها ستبقى في جميع الحالات في حكم الخالية من الناحية السياسية اذا كانت مناوئة في موقفها السياسي العام للحاكم العسكري الجديد. ان فكرة الدور الرئيسي للعامل السياسي في المسائل العسكرية هي الاضافة الاساسية التي قام بها كلوسفيتز, و التي جعلته احد المصادر العسكرية الاساسية في الاكاديميات العسكرية الغربية. غير انه لا يوجد مثال واحد يشير الى تعلم الجيوش الاستعمارية الغربية افكار كلوسفيتز من الاكاديميات التي تخرجوا منها: فقد كان على هذه الجيوش على مدى القرنين الماضيين ان تتعلم حكمة كلوسفيتز من حركات المقاومة الوطنية المسلحة. و أخيرا كان عليها, بعد فشل كل مشروع استعماري, ان تجرب انسحابا بونابارتيا مكررا بامجاد ضئيلة و بخسائر متفاوتة.
ليس العراق روسيا القرن التاسع عشر, و لا يملك العراقيون "الجنرال برد" و لم يهجروا مدنهم, كما لا يجرؤ احد على الادعاء بانه يشاهد ملامح الرئيس الامريكي في الصورة البونابارتية الساحرة, مثلما لا يمكن مقارنة "سرعة" هجوم نصف المليون جندي مشاة من الجيش الفرنسي مع السرعة الالكترونية لفرق الجيش الامريكي. غير ان هناك نقطة أساسية تشترك فيها الحملة الروسية مع الحملة العراقية: مادامت القوى المحتلة مهزومة سياسيا فان هزيمتها العسكرية ليست مستحيلة.
ارجاع مركز القيادة الى قطر و "المطرقة الحديدية": توتر الاستراتيجيين العسكريين الامريكيين
بعد راحة قصيرة لم يجف خلالها حبر مذكرات الجنرال فرانكس رجعت القيادة المركزية للقوات المسلحة الامريكية من مقرها الدائم في تامبا-فلوريدا الى القاعدة المؤقتة في قطر. مثٌل هذا الحدث الصامت هو تأكيد لمؤشرات تكاثرت في الايام الاخيرة يمحي جميعها الاعلان الامريكي بالانتصار و يشير الى اعادة توزيع موازين القوى العسكرية. فبهذا القرار أظهر الرئيس الامريكي, بوصفه القائد العام للقوات المسلحة, ان شعار "المهمة أُنجزت" (Mission Accomplished) الذي رفع بحضوره على احدى حاملات الطائرات الامريكية في افريل الماضي هو غير صحيح في الظرف الراهن. "المهمة" لم تُنجز: هذا هو الدرس الرهيب الذي أفاقت علي دويه الادارة و القيادة العسكرية الامريكية في الايام الاخيرة. كان تسريب تقرير المخابرات الامريكية من بغداد الى الواجهة الاعلامية و الذي يتحدث عن ايمان العراقيين المتزايد بامكانية هزم القوات الامريكية, عنوان اضطراب القيادة الامريكية.
هناك عنوان اخر لتوتر و اضطراب اصحاب القرار في واشنطن هذا الاسبوع: "المطرقة الحديدية". لقد كان ذلك اشارة للرجوع الى وضع ليس له علاقة بما بعد سقوط بغداد. لقد بات من البين ان العسكريين الامريكيين بصدد التعامل مع مدن رئيسية بما فيها بغداد كمدن معادية معرضة للعقاب الجماعي من خلال القصف المدفعي و الجوي (أنظر: الطاهر الاسود "ملاحظات عامة عن الصراع العسكري في العراق" (Tunisnews) عدد 1272 بتاريخ 13 نوفمبر 2003). يعني ذلك أمرا جوهريا: لقد اصبحت بغداد, من جديد, خارج السيطرة المطلقة للاحتلال الامريكي.
لكي نعاين اجواء "المطرقة الحديدية" دعنا نقرأ مقتطفات من التقرير التالي الهام للمراسلين المحليين في بغداد و نواحيها لصحيفة الزمان العراقية لهجمات وقعت ليلة الخميس-الجمعة (14 نوفمبر). نشير هنا ان هذه الصحيفة بالذات لا يمكن ان تعمل على تضخيم مكانة المقاومة العراقية بفعل مساندتها و رئيس تحريرها (سعد البزاز) الدؤوبة للسلطات الامريكية:
"الزمان- بغداد تعيش أسوأ لياليها بسبب معاودة القصف-المروحيات الامريكية تمشط المناطق المحيطة بمطار بغداد و سجن أبوغريب
عاشت العاصمة العراقية ليل الخميس الجمعة أسوأ لياليها فقد استمرت المروحيات و الطيران الحربي الامريكي بالتحليق و قصفت اهدافا منتقاة في شرق و غرب بغداد. و واصلت القوات الامريكية مهاجمة اهداف قرب المطار الدولي, حيث تقع اكبر قاعدة لها و مواقع قريبة من سجن أبو غريب يفترض ان موالين للرئيس المخلوع قد استخدموها في هجمات ضد جنودها, و ذلك في اطار عملية جديدة اطلق عليها اسم "المطرقة الحديدية". وترددت اصداء انفجارات و زخات الرصاص في ارجاء العاصمة و اضاءت طلقات كاشفة السماء ليل الخميس الجمعة (...) قالت الفرقة المدرعة الامريكية الاولى في بيان ان مروحية حربية للقوات الجوية من طراز سبوكي استخدمت مدفعا من عيار 150 ملليمترا و رشاشا من عيار 40 ملليمترا لتدمير مبنى سابق للحرس الجمهوري في حي الفرات ببغداد. و قال البيان ان مقاتلي المقاومة استخدموا في الاونة الاخيرة المبنى لتنفيذ هجمات على القوات الامريكية. و هاجمت القوات الامريكية ايضا موقعين يشتبه انهما لاطلاق نيران المورتر و القذائف الصاروخية في بغداد و اعتقلت ثلاث اشخاص بعد ان تعرضت لنيران اسلحة خفيفة. و دمرت نيران طائرة هليكوبتر من طراز ايه سي- 130 يوم الاربعاء مستودعا في بغداد قال الجيش الامريكي انه كان يستخدم للتخطيط لشن هجمات على قواته (...)"
(الزمان 14 نوفمبر 2003)
بالاضافة لللمسات الدعائية لهذا التقرير و للطابع الانتقائي ضرورة لحقيقة ما يجري على ارض الواقع, فانه يحوي معطيات اساسية لا يمكن عدم ملاحظتها, و هي كالتالي:
- اننا بصدد حرب فعلية مفتوحة تستعمل فيها القوات الامريكية قواتها الجوية و البرية ضد مقاومة تبدو كانها تتموقع في مجالات واضحة و تتحرك بشكل مجموعات صغيرة و بسرعة.
-ان المواجهات لم تعد تقع فقط في مزارع نائية او حتى على اطراف مدن ثانوية كما كانت الحال في الاشهر الفارطة (الفلوجة مثلا), بل اصبحت تشمل و تتركز في مواقع وسط العاصمة بغداد (حي الفرات). اكثر من ذلك توجد بعض مواقع المقاومة العراقية جوار مراكز عسكرية امريكية حصينة و شديدة الحراسة (المطار و سجن ابو غريب), و حسب التقرير اعلاه فإن القوات الامريكية لم تكتشف هذه المواقع سوى في الايام الاخيرة (؟؟!!!)
-لا تتعلق مواقع المقاومة العراقية بمنازل صغيرة او مزارع نائية و انما مخازن كبيرة تحرص القوات الامريكية على عدم الاقتراب منها عند مهاجمتها حيث تستعمل الطائرات المروحية و المدافع المحمولة جوا. و كما نقلت تقارير تلفزية مختلفة فإن القوات الامريكية قد اجلت الليالي الفارطة احياء بكاملها لمحاصرة هذه المواقع.
-أخيرا لا توجد مصادر مستقلة تؤكد سلامة المعطيات الاستخبارية التي تبني على اساسها القوات الامريكية هجماتها و بالتالي لا يوجد ما يمنع ان القتلى من العراقيين يمكن ان يكونوا ضحايا لقصف عشوائي او لقصف متأخر لمواقع غادرها عناصر المقاومة قبل ان يتاح للقوات الامريكية اكتشافها.
ان عملية "المطرقة الحديدية" ستكون عنيفة كما يبدو واضحا من معطيات كثيرة. غير ان دقة "الطرق" امر غير مؤكد, بل يبدو ان احتمالات "طرق" القوات الامريكية لاصابعها كبيرة, كما تشير الى ذلك ملامح القصف عشوائي اضافة للاعتقالات الجماعية. و لتفادي ذلك لا يكفي الجيش الامريكي انتقال قيادته المركزية من تامبا-فلوريدا الى قطر.
استراتيجيا عامة تهدف لانسحاب أسرع بكثير مما كان متوقعا ؟
اصبح من الواضح الان ان المشروع الراهن الذي أطلقته الادارة الامريكية ل"العرقنة" او"تسريع تسليم السلطة للعراقيين" و بغض النظر عن الصيغة التي ستتم بها, تعني التقليل من الهيمنة الكمية للقوات الامريكية لصالح قوات عسكرية عراقية و دولية. و اصبح رائجا ان ذلك يعني في النهاية انسحابا بشكل استعجالي للقوات الامريكية من العراق. فحسب مقال صادر امس في صحيفة الواشنطن بوست (14 نوفمبر: ص A 1 و 22) هناك مؤشرات عن ان "العرقنة" العسكرية تعني بقاء القوات الامريكية لمدة لا تزيد عن البضع اشهر حتى الترفيع في عدد قوات عراقية جديدة حليفة للقوات الامريكية. و لاحظت بعض هذه المصادر التي قارنت الوضع بمحاولة اقامة الولايات المتحدة اقامة حكومة موالية في جنوب الفيتنام ان هذه الفترة لا تزيد عن "الستة أشهر", و هو ما يلتقي تقريبا مع الاعلان الرسمي الذي قام به بريمر اليوم (15 نوفمبر) من اقامة لحكومة مؤقتة بحلول شهر جوان 2004. و بالتالي فإن ملامح المشروع الامريكي في هذه الايام—و ليس هناك ضامن انه لن يتغير— في العراق تتجه في الاتجاه التالي: انسحاب كامل او جزئي للقوات الامريكية و الدفع بقوات عراقية لمواجهة المقاومة العراقية بدعوى انها "تفهم بشكل أفضل بلادها". مما يعني ببساطة العمل على تعويض الوضع الراهن للاحتلال بوضع حرب اهلية فوضية. غير ان مفارقات المأزق الامريكي في حال اختيار هذا النهج بارزة. حيث تستنجد الادارة الامريكية في هذه االحالة بنموذج الوضع الفيتنامي, و الفرق الوحيد هو أن افاق الوضع العراقي تتجه في وجهة معاكسة لتطور الحالة الفيتنامية: فبينما بدأ التواجد الامريكي في الفيتنام بأعداد قليلة معتمدا على قوات أكبر من القوات المحلية الحليفة ليتجه نحو التزايد السريع لحجم القوات الامريكية الى حد تحجيم شبه كلي لقوات محلية حليفة, فإن الوضع العراقي يتجه حسب المصدر أعلاه من وضع الاحتلال الكامل الى وضع تعاظم دور القوات المحلية الحليفة. المسألة الرئيسية –رهن العراق بالاحتلال— يتم تجاهلها هنا. الاهم من ذلك حسب مقال الواشنطن بوست هناك شكوك قوية داخل الاوساط الرسمية الامريكية و تلك المقربة منها في النجاح بفرض حكومة موالية خاصة اذا تمت انتخابات حقيقية. كما هناك شكوكا معقولة تماما من ان اي توجه سريع لتكوين الجيش العراقي يمكن ان تسللا اسهل لعناصر النظام السابق و ينتهي الامر بذلك الى اعادة تهيئة الظروف لعودة أنصار الرئيس السابق الى السلطة. إن كل هذه المعطيات تؤكد مرة اخرى سوء الوضع الامريكي في العراق, و الذي يجعل الادارة الامريكية ببساطة شديدة, و كما يعبر عن ذلك المثل العربي الفصيح, "تستنجد في الرمضاء بالنار".
مؤشرات على بداية توتر العلاقة بين اقطاب المحافظين الجدد على خلفية الوضع في العراق
سبق ان تعرضنا في مقال سابق الى مؤشرات عن الوحدة الهشة لمجموعة المحافظين الجدد, الامر الذي يبرز خصوصا بين العناصر التي تتقلد مناصب تنفيذية في الادارة الامريكية و اولائك الذين برزوا بشكل خاص كمنظرين لهذا التيار. و كنا أشرنا على سبيل المثال الى التهجم العلني أسابيع قليلة قبل احداث 11 سبتمبر الذي قاده قطبي منظري المحافظين الجدد (كريستول و كاغان) على مجموعة وزارة الدفاع (رامسفيلد و وولفويتز) عندما توجهت الاخيرة بميزانية للدفاع اقل بكثير من الارقام التي طالما نادى بها المحافظون الجدد (أنظر: الطاهر الاسود "نشأة و تطور استراتيجيا الحرب الاستباقية" في (Tunisnews) عدد 1270 بتاريخ 11 نوفمبر 2003).
و في إطار الازمة الحالية في العراق فإن توترا مماثلا يبدو في الافق. فاليوم (15 نوفمبر) نُشر على صفحات الانترنت مقال مشترك كالعادة لكريستول و كاغان سيصدر في عدد 17 نوفمبر القادم لدورية (The Weekly Standard) عنوانه "استراتيجيا خروج أم استراتيجيا انتصار؟" يهاجم بشكل مكثف ما يسميهم ب"جماعة البنتاغون".
(أنظر المقال على الرابط التالي) http://www.ceip.org/files/publications/2003-17-11-Kaganwklystandard.asp
و يتهم كل منهما بوضوح وزارة الدفاع بتبني استراتيجيا تتهرب من الزيادة في عدد القوات المسلحة الامريكية مقابل تسليم العراق الى جيش عراقي مشكوك في ولائه. و يوجهان خطابهما الى الرئيس بوش واصفين إياه بأنه يعبر عن الموقف الصحيح من خلال تمسكه بالخطوط العامة لسياسته المعروفة ب"عقيدة بوش" و يناشدانه بالتدخل بسرعة ضد خطط وزارة الدفاع. و الحل للوضع الراهن حسب الكاتبين هو الزيادة في عدد القوات المسلحة لكي "يفهم العراقيون جدية التزامنا في بلدهم", و من ثمة التصعيد المسلح الى اقصى الحدود ضد المقاومة العراقية.
سنرجع لهذا المقال بشكل أكثر تفصيل لاحقا, و سنكتفي الان بالقول أن مقال (كريستول و كاغان) يؤكد ان خيار الانسحاب (كلي او جزئي) في مدة زمنية قريبة يبدو جادا. ومن غير المعروف إن كان سيكون أكثر احتمالية في حالة تبنيه من قبل الطرف الذي كان دائما يتميز بالتشدد (رامسفيلد و وولفويتز), لكن من المثير أن يختار وزير الخارجية الامريكي كولن باول هذا الوقت بالذات لفضح هزال "مجلس الحكم" ("لا يوجد فيه كرزاي") في وقت تحتاج فيه "خطط وزارة الدفاع" للترويج له و الاعتماد عليه اكثر مما مضى.
في هذا الاطار نريد إضافة الملاحظة التالية: في بداية التورط الامريكي في الفيتنام كان وزير الدفاع الامريكي ماكنمارا يدافع بشكل مستمر من اجل الدفع بالقوات الامريكية في المستنقع الفيتنامي و كان يمثل بذلك الطرف الاكثر تشددا داخل الادارة الامريكية مقابل مسؤولين كبار في وزارة الخارجية الامريكية كانوا يفضلون الامتناع عن الذهاب بعيدا في المغامرة الفيتنامية. المفارقة انه مع تأكد الادارة الامريكية من استحالة القضاء على المقاومة الفيتنامية انقلبت المواقف بشدة: فقد أصبح ماكنمارا مع انسحاب سريع و باي ثمن في حين اصبح مسؤولو وزارة الخارجية الامريكية و مجلس الامن القومي مع سياسة التمسك بالبقاء الى حين استعداد هو شي منه للقبول بصيغة تحفظ ماء وجه القوات الامريكية, و هو التوجه الذي تمسكت به الادارة الامريكية.
النتيجة نعرفها جميعا: مقاومة فيتنامية الى النهاية, و انسحابا امريكيا يحتل مواقع الصدارة مع الانسحاب البونابارتي في الانسحابات العسكرية الاكثر إذلالا في التاريخ. فالقليلون هم الذين لم يشاهدوا صورة السفير الامريكي على سطح السفارة الامريكية في سايغون معلقا مع ملفاته المبعثرة و العلم الامريكي باخر هليكوبتر امريكية مغادرة من الفيتنام. في حالة ما اذا تذكرت الادارة الامريكية المورطة الان في العراق تلك الصورة, خاصة في ظل انبعاث كوابيس الفيتنام مع تصاعد المقاومة العراقية, فلربما تسعى لتفادي... تصوير بريمر معلقا في هليكوبتر جديدة.