غير شكل
29-04-2004, 08:09 AM
أعلنت السلطات الأردنية مؤخرا إلقاء القبض على خلية [ إرهابية ] تنتمي إلى تنظيم القاعدة ، كانت تخطط للقيام بأعمال تفجير كبيرة ضد دائرة المخابرات العامة والسفارة الأمريكية ومجموعة من المراكز الرئيسية ، وقد تميّزت القضية الجديدة بادعاء الأجهزة الأمنية أن المخططين كانوا سيقدمون على قتل مئات الآلاف من السكان الأردنيين ، وسيستخدمون متفجرات كيماوية ، مما كان سيترك أثارا خطيرة على الإنسان والمجتمع ، الأمر الذي إن تم كان سيعرض عمان إلى أكبر نكبة في تاريخها ، ناهيك أن هذا الهجوم -المفترض - هو بمثابة السابقة التاريخية ليس في الأردن بل وفي العالم !!.
التيار الجهادي الأردني النشأة والتطور
قبل مناقشة أبعاد القضية الجديدة تجدر الإشارة إلى وجود تيار جهادي فاعل على الساحة الأردنية في السنوات السابقة ، وبالتحديد منذ بداية التسعينات. هذا التيار الذي استند إلى أدبيات أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني وكلاهما في المعتقلات ( المقدسي في الأردن، وأبو قتادة في لندن ) تطور وانتقل من خلال عدة مراحل ، وقد وصل عدد أتباعه إلى المئات ، بحيث بدأ في التسعينات من خلال جماعات جزئية صغيرة العدد منتشرة في عدة مناطق وأماكن إلى أن شهد حالة من التوحد والتناغم في النصف الثاني من التسعينات بعد اكتشاف شخصية المقدسي واعتقاله، إذ تحولت السجون إلى مراكز للتثقيف السياسي وترتيب شؤون التنظيم داخل السجن وخارجه، وتحديد المسؤوليات وامور القيادة ، واستطاع ابو مصعب الزرقاوي انتزاع القيادة الحركية من المقدسي، في حين اكتفى أعضاء التنظيم باعتبار المقدسي مرشدا روحيا وموجها فكريا لهذا التيار .
ومع خروج القيادات من السجون ، وازدياد عدد الاتباع والأعضاء ، شهد التنظيم امتدادا كبيرا على الساحة الأردنية ، ونموا متطردا كبيرا في مدن رئيسية ، بحيث أصبحت هذه المدن مراكز رئيسية كمدينة السلط ومدينة اربد والزرقاء وكذلك معان، وقد تشكلت قاعدة التنظيم من الشباب ومن الشقين الرئيسين المكونين للمجتمع الأردني: الأردنيين ( أبناء العشائر ) والفلسطينيين ( أبناء المخيمات )، وامتاز أفراده بأنهم من عنصر الشباب غير المتعلم وغير المثقف، محدودي الأفاق الفكرية، أصحاب نزعة تدين متشددة ، ذوي الدخل المنخفض غالبا ..الخ .
ومع تعرض التنظيم إلى ضربات أمنية موجعة، أدت إلى تشتيت جهوده، واعتقال العشرات من أبنائه، وظهور عشرات القضايا في الأردن باسم مكافحة الإرهاب. ووجد أبناء التنظيم في ساحات الجهاد العالمية فرصة سانحة للخروج من المناخ الأمني الشديد في الأردن، والتخلص من قبضة المخابرات العامة فلجأوا إلى الشيشان وكردستان العراق وأفغانستان، وتحول التنظيم إلى طابع العالمية، ولفت انتباه الأجهزة الأمنية الكبرى، وصار موضع ملاحقة، خاصة مع بروز شخصية أبو مصعب الزرقاوي، وتسويقه من خلال المخابرات الغربية على أنه أبرز قيادات القاعدة الجدد، وتحول هذا التنظيم ليصبح [ وفقا للرواية الأمنية الأردنية والغربية ] رافدا مهما ورئيسيا لتنظيم القاعدة، وقد عرف التنظيم باسم تنظيم الموحدين أو التوحيد الأردني / الفلسطيني.
الحكومة والإرهاب
المفارقة في الموضوع أن الحكومة الأردنية ، التي واجهت التيار الجهادي الممتد ، وحضوره المتزايد في المدن الأردنية، وقد أزعجها كثيرا انضمام مئات من أبناء العشائر الأردنية إلى هذا التيار، خاصة مدينتي السلط ومعان، أنها – أي الحكومة – قد استثمرت وجود هذا التيار للتسويق لدور أردني جديد في المنطقة، يكفل مكانة متميزة على الاجندة الأمريكية، بحجة مكافحة الإرهاب. وكذلك تلقي المساعدات. وقد عملت الحكومة على تضخيم كثير من القضايا الأمنية، بل وادعاء كثيرا منها؛ وذلك لتحقيق عدة أهداف سياسية داخلية وخارجية، كما سيأتي .
وقد أثبتت كثير من الحالات والقضايا أن هناك مبالغة وتهويل مقصود، وأن كثيرا من الاعترافات جاءت تحت التهديد والتعذيب، بحيث يتميز جهاز المخابرات الاردنية بوجود كفاءات معتبرة في ابتكار وسائل التعذيب والاضطهاد، الأمر الذي يصل في كثير من الحالات إلى مرحلة التهديد بالاعتداء الجنسي والضرب المبرح، وقد أكدت تقارير دولية في مجال حقوق الإنسان وجود انتهاكات خطيرة وحالات وفاة تحت التعذيب محدودة .
ولعل أبرز الحالات التي تؤكد وجود فبركة أمنية ومبالغة وتهويل في كثير من القضايا ما سمي بقضية مؤتة العسكرية، إذ برأت محكمة التمييز الأردنية مجموعة كبيرة من تلاميذ جامعة مؤتة العسكرية المتهمين بمحاولة اغتيال الملك السابق حسين ( الأمر الذي جعل النظام يطيح بقضاة المحكمة وإقالتهم ). وجاء قرار التمييز – في نقض قرار محكمة أمن الدولة – بعد معاناة دامت شهورا طويلة تعرض خلالها المتهمون إلى تعذيب شديد وكبير، وقدموا اعترافات خطية تحت لهيب السياط ، ولعل قضية مؤتة هي مؤشر على حالات كثيرة أخرى مفبركة أمنيا .
منذ بداية العهد الجديد نشطت دائرة المخابرات الأردنية ، وأخذت تقوم بالدور الرئيسي في إدارة الحياة السياسية الداخلية ، وعملت لترسيخ دورها وتعميق وجودها في القرار السياسي من خلال بث شعور عام بأن الدائرة هي التي تحمي الأردن من الإرهاب ، وهي التي تحقق الاستقرار السياسي للناس ، وقد تعزز هذا الدور بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، ووجد ترحيبا من الملك الذي يريد بأي طريقة تحقيق مشروعية عملية وأخذ وساما من قبل الولايات المتحدة في ريادة الأردن وتعاونها الكبير مع الولايات المتحدة ضد الإرهاب المفترض .
ومن الواضح أن النظام الأردني أخذ يسوق دور الأردن إقليميا من خلال الجهود الأمنية في مكافحة الإرهاب، والكفاءة العالية لجهاز المخابرات الأردنية على هذا الصعيد، وزادت مرحلة التعاون الأمني بين الأردن وإسرائيل وأمريكا إلى مرحلة وجود ضباط أمريكان وربما صهاينة في دائرة المخابرات العامة ، بشهادة عدد من المعتقلين الذين تم التحقيق معهم في الدائرة .
القضية الجديدة : الحقيقة والأبعاد
في قراءة قضايا الأمن في الأردن يصعب التمييز فيها بين مساحة الحقيقة والإدعاء ، بين ما هو واقعي فعلا وبين ما هو مفبرك ومنتج بعناية لتحقيق أهداق معينة ، أما القضية الأخيرة فقد كان حجم الفبركة الأمنية والاخراج الهزيل لها واضحا بشكل جلي، وملفت للانتباه سواء من حيث المضمون أم من حيث التوقيت .
فنص الإدعاء هزيل ومتهافت، ولا يرقى إلى درجة الاحتراف التي كانت تشهدها بعض القضايا ، ويقوم النص على فكرة محورية وهي " شيطنة تنظيم القاعدة " وإظهاره وكأنه تنظيم ليس له فضيلة سوى القتل والتدمير ، وأنه لا يميز بين مدني وعسكري ، وأنه لا يراعي حرمة الدماء والأموال والأعراض . بل ويمكن الخروج باستنتاج آخر من النص وهو أن التنظيم على درجة عالية جدا من الغباء ، بل والجنون ، كي يخطط بعمل يذهب بأرواح مئات الآلاف في بلد عدد سكانها بضع ملايين !! وأغلبهم من الذين يعادون الولايات المتحدة ، كما تشير إلى ذلك تقارير الرأي العام العالمية !! ، بمعنى أن هدف التنظيم – وفقا للرواية السخيفة – هو زرع وتعزيز كراهيته داخل الأردن ولدى الشعوب العربية ، بدلا من الولايات المتحدة الأمريكية !! .
وكيف لمن له ذرة من العقل أن يقبل أن تنظيما إسلاميا ، وإن كنا نختلف معه في جوهر طروحاته وأرائه ومناهجه المستخدمة ، يستبيح قتل مئات الالاف من المسلمين ؟!؛ وبأي دليل شرعي؟ ومن العالم أو العويلم الذي أفتى بذلك على وجه الكرة الأرضية ؟! بل الجاهل الذي استباح ذلك ! ، للأسف أن الرواية الأردنية هي استهتار مخز من قبل الحكومة بعقول الأطفال الصغار فضلا عن عقول عامة الناس ، الذين بلا شك لا تنطلي عليهم هذه القصص المفبركة ، بحيث أصبحت هذه الرواية موضع سخرية وتندر لدى ابناء الشعب .
وقد زادت دائرة المخابرات من تماديها واستهتارها بالحكومة وسمعتها داخليا ومصداقيتها الضحلة المتبقية من خلال بث اعترافات أفراد الخلية على [ التلفاز ] الرسمي ، وكأن أحدا لا يعرف كيف تنتزع الأكاذيب في العالم العربي ، وكيف يعامل الإنسان في دوائر المخابرات العامة!.
على أي حال لا نستطيع أن نحكم على مساحة الصدق في الرواية الرسمية، وإن كان – فيما يبدو – أغلب الأمر مختلقا لتحقيق عدة أهداف في هذه الفترة، إذ تؤكد كثير من المؤشرات على وجود حالة أمنية متوترة في الأردن، ليس على صعيد علاقة الحكم بالتيار الجهادي، وإنما على الصعيد الشعبي العام، كما أشرنا في تقرير سابق في مجلة العصر ( تأجيل لقاء الملك – بوش سابقا ).
من هنا يجدر التساؤل عن أهداف هذه القضية وأبعادها ، الأمر الذي يمكن ان نتناول أبرز مؤشراته من خلال الملحوظات التالية ..
1- أن القضية جاءت من ناحية أهدافها المتوخاة ذكية ، وقادرة على لفت الانتباه عن كثير من القضايا الرئيسية التي كانت تستفز الناس في فلسطين والعراق وكالقضايا الاقتصادية ، وبالتالي خرجت التوصيات من دائرة المخابرات العامة إلى وسائل الإعلام والصحفيين المرتزقة ليشغلوا الرأي العام في هذا الموضوع ، الفترة الحالية .
2- الترويج داخليا أن الأمن في الأردن مستهدف ، وأن هناك محاولات لزعزعة الاستقرار السياسي ، وان الامر لا يقف عند حدود المصالح الأمريكية ، وإنما كذلك يصل إلى استهداف الأبرياء والمدنيين ، وشعار الأمن ، كما هو معروف في التقاليد السياسية العربية يأتي دائما ضد شعار الحريات والتعبير والمعارضة ، لذلك أحد الأهداف الرئيسة احراج المعارضة وتقزيم دورها في هذه الظروف الحساسة ، بالإضافة ان الإخراج فيه تهديد ضمني لكل من يحاول الخروج عن الخطوط التي ترسمها دائرة المخابرات بانه سيواجه عقابا شديدا بحجة الأمن و الدفاع عن الوطن ، وقد يجد تهما معدة مسبقا كالتحريض وزعزعة الاستقرار السياسي .
وستنطلق أبواق الصحافة المحسوبة على الأجهزة الأمنية في هذه الفترة بتحذير الناس والمواطنين من خطورة المرحلة والعداء الكبير للأردن ، وبتذكير الناس بنعمة الاستقرار والهدوء التي يعيشها المجتمع الأردني . لذلك لا يجوز أن تكون القضايا الإقليمية أو عملية رفع الأسعار أو الأسئلة الكبرى حول السياسة الأردنية لا يجوز أن تكون سببا في خسارة نعمة الأمن والهدوء التي ينعم بها الناس في الأردن .
3- التأكيد على دور الأردن - في سياق الأجندة الأمريكية – في مكافحة الإرهاب وقدرة وكفاءة جهاز المخابرات على محاصرة تنظيم القاعدة ، واحباط عملياته قبل أن تبدأ ، الأمر الذي يستدعي من الولايات المتحدة زيادة في الدعم المالي والمعنوي للأردن ، وتخصيص المساعدات كي يتمكن جهاز المخابرات من القيام بعمله وتحقيق حماية المصالح الأمريكية في الأردن ، بل ويجري اليوم تسويق الأجهزة الأمنية الأردنية على المستوى الإقليمي والعالمي من خلال الكفاءة في التعامل مع الحركات الأصولية وانتزاع الاعترافات .
ويرتبط بما سبق أن من أهداف هذه القضية " التسول " من الولايات المتحدة والحصول على مساعدات وأموال لدعم جهاز المخابرات والحكومة في مواجهة العدو المشترك : الحركات الأصولية .
4- أحد الأبعاد الأخرى للموضوع يتجلى في عملية إدارة الصراع بين مؤسسات الحكم في الأردن ، ومحاولة دائرة المخابرات على تأكيد أهميتها وحضورها ، والتحذير من خطورة ابتعاد مؤسسة الحكم أو مجلس الوزراء عن توصياتها أو عن الحدود التي تضعها على السياسة الأردنية . ومن المعروف أن دائرة المخابرات العامة تتدخل في أغلب التفاصيل الجزئية في السياسات الحكومية ، وكثيرا من السياسات والقرارات الرئيسية تطبخ في دائرة المخابرات أو تتدخل فيها .
وتأتي هذه القضية في وقت تحاول فيه دائرة المخابرات تأكيد دورها في ظل ازدياد المطالبات بالإصلاح السياسي، وزيادة هامش الحريات، ونشاط التيارات المطالبة بتحجيم دور الدائرة في التدخل في السياسات الحكومية وفي عملية التعيينات وتوزيع المناصب ، والتي يتم جزء كبير منها بإشراف الدائرة.
مجلة العصر (http://www.alasr.ws/index.cfm?fuseaction=content&contentid=5256&categoryID=16)
التيار الجهادي الأردني النشأة والتطور
قبل مناقشة أبعاد القضية الجديدة تجدر الإشارة إلى وجود تيار جهادي فاعل على الساحة الأردنية في السنوات السابقة ، وبالتحديد منذ بداية التسعينات. هذا التيار الذي استند إلى أدبيات أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني وكلاهما في المعتقلات ( المقدسي في الأردن، وأبو قتادة في لندن ) تطور وانتقل من خلال عدة مراحل ، وقد وصل عدد أتباعه إلى المئات ، بحيث بدأ في التسعينات من خلال جماعات جزئية صغيرة العدد منتشرة في عدة مناطق وأماكن إلى أن شهد حالة من التوحد والتناغم في النصف الثاني من التسعينات بعد اكتشاف شخصية المقدسي واعتقاله، إذ تحولت السجون إلى مراكز للتثقيف السياسي وترتيب شؤون التنظيم داخل السجن وخارجه، وتحديد المسؤوليات وامور القيادة ، واستطاع ابو مصعب الزرقاوي انتزاع القيادة الحركية من المقدسي، في حين اكتفى أعضاء التنظيم باعتبار المقدسي مرشدا روحيا وموجها فكريا لهذا التيار .
ومع خروج القيادات من السجون ، وازدياد عدد الاتباع والأعضاء ، شهد التنظيم امتدادا كبيرا على الساحة الأردنية ، ونموا متطردا كبيرا في مدن رئيسية ، بحيث أصبحت هذه المدن مراكز رئيسية كمدينة السلط ومدينة اربد والزرقاء وكذلك معان، وقد تشكلت قاعدة التنظيم من الشباب ومن الشقين الرئيسين المكونين للمجتمع الأردني: الأردنيين ( أبناء العشائر ) والفلسطينيين ( أبناء المخيمات )، وامتاز أفراده بأنهم من عنصر الشباب غير المتعلم وغير المثقف، محدودي الأفاق الفكرية، أصحاب نزعة تدين متشددة ، ذوي الدخل المنخفض غالبا ..الخ .
ومع تعرض التنظيم إلى ضربات أمنية موجعة، أدت إلى تشتيت جهوده، واعتقال العشرات من أبنائه، وظهور عشرات القضايا في الأردن باسم مكافحة الإرهاب. ووجد أبناء التنظيم في ساحات الجهاد العالمية فرصة سانحة للخروج من المناخ الأمني الشديد في الأردن، والتخلص من قبضة المخابرات العامة فلجأوا إلى الشيشان وكردستان العراق وأفغانستان، وتحول التنظيم إلى طابع العالمية، ولفت انتباه الأجهزة الأمنية الكبرى، وصار موضع ملاحقة، خاصة مع بروز شخصية أبو مصعب الزرقاوي، وتسويقه من خلال المخابرات الغربية على أنه أبرز قيادات القاعدة الجدد، وتحول هذا التنظيم ليصبح [ وفقا للرواية الأمنية الأردنية والغربية ] رافدا مهما ورئيسيا لتنظيم القاعدة، وقد عرف التنظيم باسم تنظيم الموحدين أو التوحيد الأردني / الفلسطيني.
الحكومة والإرهاب
المفارقة في الموضوع أن الحكومة الأردنية ، التي واجهت التيار الجهادي الممتد ، وحضوره المتزايد في المدن الأردنية، وقد أزعجها كثيرا انضمام مئات من أبناء العشائر الأردنية إلى هذا التيار، خاصة مدينتي السلط ومعان، أنها – أي الحكومة – قد استثمرت وجود هذا التيار للتسويق لدور أردني جديد في المنطقة، يكفل مكانة متميزة على الاجندة الأمريكية، بحجة مكافحة الإرهاب. وكذلك تلقي المساعدات. وقد عملت الحكومة على تضخيم كثير من القضايا الأمنية، بل وادعاء كثيرا منها؛ وذلك لتحقيق عدة أهداف سياسية داخلية وخارجية، كما سيأتي .
وقد أثبتت كثير من الحالات والقضايا أن هناك مبالغة وتهويل مقصود، وأن كثيرا من الاعترافات جاءت تحت التهديد والتعذيب، بحيث يتميز جهاز المخابرات الاردنية بوجود كفاءات معتبرة في ابتكار وسائل التعذيب والاضطهاد، الأمر الذي يصل في كثير من الحالات إلى مرحلة التهديد بالاعتداء الجنسي والضرب المبرح، وقد أكدت تقارير دولية في مجال حقوق الإنسان وجود انتهاكات خطيرة وحالات وفاة تحت التعذيب محدودة .
ولعل أبرز الحالات التي تؤكد وجود فبركة أمنية ومبالغة وتهويل في كثير من القضايا ما سمي بقضية مؤتة العسكرية، إذ برأت محكمة التمييز الأردنية مجموعة كبيرة من تلاميذ جامعة مؤتة العسكرية المتهمين بمحاولة اغتيال الملك السابق حسين ( الأمر الذي جعل النظام يطيح بقضاة المحكمة وإقالتهم ). وجاء قرار التمييز – في نقض قرار محكمة أمن الدولة – بعد معاناة دامت شهورا طويلة تعرض خلالها المتهمون إلى تعذيب شديد وكبير، وقدموا اعترافات خطية تحت لهيب السياط ، ولعل قضية مؤتة هي مؤشر على حالات كثيرة أخرى مفبركة أمنيا .
منذ بداية العهد الجديد نشطت دائرة المخابرات الأردنية ، وأخذت تقوم بالدور الرئيسي في إدارة الحياة السياسية الداخلية ، وعملت لترسيخ دورها وتعميق وجودها في القرار السياسي من خلال بث شعور عام بأن الدائرة هي التي تحمي الأردن من الإرهاب ، وهي التي تحقق الاستقرار السياسي للناس ، وقد تعزز هذا الدور بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، ووجد ترحيبا من الملك الذي يريد بأي طريقة تحقيق مشروعية عملية وأخذ وساما من قبل الولايات المتحدة في ريادة الأردن وتعاونها الكبير مع الولايات المتحدة ضد الإرهاب المفترض .
ومن الواضح أن النظام الأردني أخذ يسوق دور الأردن إقليميا من خلال الجهود الأمنية في مكافحة الإرهاب، والكفاءة العالية لجهاز المخابرات الأردنية على هذا الصعيد، وزادت مرحلة التعاون الأمني بين الأردن وإسرائيل وأمريكا إلى مرحلة وجود ضباط أمريكان وربما صهاينة في دائرة المخابرات العامة ، بشهادة عدد من المعتقلين الذين تم التحقيق معهم في الدائرة .
القضية الجديدة : الحقيقة والأبعاد
في قراءة قضايا الأمن في الأردن يصعب التمييز فيها بين مساحة الحقيقة والإدعاء ، بين ما هو واقعي فعلا وبين ما هو مفبرك ومنتج بعناية لتحقيق أهداق معينة ، أما القضية الأخيرة فقد كان حجم الفبركة الأمنية والاخراج الهزيل لها واضحا بشكل جلي، وملفت للانتباه سواء من حيث المضمون أم من حيث التوقيت .
فنص الإدعاء هزيل ومتهافت، ولا يرقى إلى درجة الاحتراف التي كانت تشهدها بعض القضايا ، ويقوم النص على فكرة محورية وهي " شيطنة تنظيم القاعدة " وإظهاره وكأنه تنظيم ليس له فضيلة سوى القتل والتدمير ، وأنه لا يميز بين مدني وعسكري ، وأنه لا يراعي حرمة الدماء والأموال والأعراض . بل ويمكن الخروج باستنتاج آخر من النص وهو أن التنظيم على درجة عالية جدا من الغباء ، بل والجنون ، كي يخطط بعمل يذهب بأرواح مئات الآلاف في بلد عدد سكانها بضع ملايين !! وأغلبهم من الذين يعادون الولايات المتحدة ، كما تشير إلى ذلك تقارير الرأي العام العالمية !! ، بمعنى أن هدف التنظيم – وفقا للرواية السخيفة – هو زرع وتعزيز كراهيته داخل الأردن ولدى الشعوب العربية ، بدلا من الولايات المتحدة الأمريكية !! .
وكيف لمن له ذرة من العقل أن يقبل أن تنظيما إسلاميا ، وإن كنا نختلف معه في جوهر طروحاته وأرائه ومناهجه المستخدمة ، يستبيح قتل مئات الالاف من المسلمين ؟!؛ وبأي دليل شرعي؟ ومن العالم أو العويلم الذي أفتى بذلك على وجه الكرة الأرضية ؟! بل الجاهل الذي استباح ذلك ! ، للأسف أن الرواية الأردنية هي استهتار مخز من قبل الحكومة بعقول الأطفال الصغار فضلا عن عقول عامة الناس ، الذين بلا شك لا تنطلي عليهم هذه القصص المفبركة ، بحيث أصبحت هذه الرواية موضع سخرية وتندر لدى ابناء الشعب .
وقد زادت دائرة المخابرات من تماديها واستهتارها بالحكومة وسمعتها داخليا ومصداقيتها الضحلة المتبقية من خلال بث اعترافات أفراد الخلية على [ التلفاز ] الرسمي ، وكأن أحدا لا يعرف كيف تنتزع الأكاذيب في العالم العربي ، وكيف يعامل الإنسان في دوائر المخابرات العامة!.
على أي حال لا نستطيع أن نحكم على مساحة الصدق في الرواية الرسمية، وإن كان – فيما يبدو – أغلب الأمر مختلقا لتحقيق عدة أهداف في هذه الفترة، إذ تؤكد كثير من المؤشرات على وجود حالة أمنية متوترة في الأردن، ليس على صعيد علاقة الحكم بالتيار الجهادي، وإنما على الصعيد الشعبي العام، كما أشرنا في تقرير سابق في مجلة العصر ( تأجيل لقاء الملك – بوش سابقا ).
من هنا يجدر التساؤل عن أهداف هذه القضية وأبعادها ، الأمر الذي يمكن ان نتناول أبرز مؤشراته من خلال الملحوظات التالية ..
1- أن القضية جاءت من ناحية أهدافها المتوخاة ذكية ، وقادرة على لفت الانتباه عن كثير من القضايا الرئيسية التي كانت تستفز الناس في فلسطين والعراق وكالقضايا الاقتصادية ، وبالتالي خرجت التوصيات من دائرة المخابرات العامة إلى وسائل الإعلام والصحفيين المرتزقة ليشغلوا الرأي العام في هذا الموضوع ، الفترة الحالية .
2- الترويج داخليا أن الأمن في الأردن مستهدف ، وأن هناك محاولات لزعزعة الاستقرار السياسي ، وان الامر لا يقف عند حدود المصالح الأمريكية ، وإنما كذلك يصل إلى استهداف الأبرياء والمدنيين ، وشعار الأمن ، كما هو معروف في التقاليد السياسية العربية يأتي دائما ضد شعار الحريات والتعبير والمعارضة ، لذلك أحد الأهداف الرئيسة احراج المعارضة وتقزيم دورها في هذه الظروف الحساسة ، بالإضافة ان الإخراج فيه تهديد ضمني لكل من يحاول الخروج عن الخطوط التي ترسمها دائرة المخابرات بانه سيواجه عقابا شديدا بحجة الأمن و الدفاع عن الوطن ، وقد يجد تهما معدة مسبقا كالتحريض وزعزعة الاستقرار السياسي .
وستنطلق أبواق الصحافة المحسوبة على الأجهزة الأمنية في هذه الفترة بتحذير الناس والمواطنين من خطورة المرحلة والعداء الكبير للأردن ، وبتذكير الناس بنعمة الاستقرار والهدوء التي يعيشها المجتمع الأردني . لذلك لا يجوز أن تكون القضايا الإقليمية أو عملية رفع الأسعار أو الأسئلة الكبرى حول السياسة الأردنية لا يجوز أن تكون سببا في خسارة نعمة الأمن والهدوء التي ينعم بها الناس في الأردن .
3- التأكيد على دور الأردن - في سياق الأجندة الأمريكية – في مكافحة الإرهاب وقدرة وكفاءة جهاز المخابرات على محاصرة تنظيم القاعدة ، واحباط عملياته قبل أن تبدأ ، الأمر الذي يستدعي من الولايات المتحدة زيادة في الدعم المالي والمعنوي للأردن ، وتخصيص المساعدات كي يتمكن جهاز المخابرات من القيام بعمله وتحقيق حماية المصالح الأمريكية في الأردن ، بل ويجري اليوم تسويق الأجهزة الأمنية الأردنية على المستوى الإقليمي والعالمي من خلال الكفاءة في التعامل مع الحركات الأصولية وانتزاع الاعترافات .
ويرتبط بما سبق أن من أهداف هذه القضية " التسول " من الولايات المتحدة والحصول على مساعدات وأموال لدعم جهاز المخابرات والحكومة في مواجهة العدو المشترك : الحركات الأصولية .
4- أحد الأبعاد الأخرى للموضوع يتجلى في عملية إدارة الصراع بين مؤسسات الحكم في الأردن ، ومحاولة دائرة المخابرات على تأكيد أهميتها وحضورها ، والتحذير من خطورة ابتعاد مؤسسة الحكم أو مجلس الوزراء عن توصياتها أو عن الحدود التي تضعها على السياسة الأردنية . ومن المعروف أن دائرة المخابرات العامة تتدخل في أغلب التفاصيل الجزئية في السياسات الحكومية ، وكثيرا من السياسات والقرارات الرئيسية تطبخ في دائرة المخابرات أو تتدخل فيها .
وتأتي هذه القضية في وقت تحاول فيه دائرة المخابرات تأكيد دورها في ظل ازدياد المطالبات بالإصلاح السياسي، وزيادة هامش الحريات، ونشاط التيارات المطالبة بتحجيم دور الدائرة في التدخل في السياسات الحكومية وفي عملية التعيينات وتوزيع المناصب ، والتي يتم جزء كبير منها بإشراف الدائرة.
مجلة العصر (http://www.alasr.ws/index.cfm?fuseaction=content&contentid=5256&categoryID=16)