غير شكل
18-06-2004, 07:37 AM
تعيش بلاد الحرمين الشريفين منذ مطلع التسعينات مخاضا مبشرا بآمال عريضة، ومنذرا بآلام مضنية. وكانت حرب الخليج عام 1991 وأحداث 11 سبتمبر 2001 ثم الغزو الأمريكي للعراق في هذا العام.. براكين هزت التوازن التقليدي القائم في تلك البلاد الطيبة، ووضعت أهلها أمام تحديات فكرية وسياسية جسيمة، لم تنجلِ صورتها بعد. ولا تزال الاستجابة لتلك التحديات بمزيج من الحكمة والإقدام أكبر امتحان لدعاة الإسلام ووعاته هناك.
لقد انبنت الدولة السعودية أول عهدها على تحالف بين عالِم مصلح من أهل البصيرة الشرعية والروح العملية، وبين قائد قبلي من أهل فطرة الخير والمطامح السياسية. وقد استطاع العالم المجدد أن يستفيد من مطامح الزعيم القبلي وسيفِه، لإقامة دولة تحمل فكرة تجديدية في عصر انحطاط فكري وأخلاقي، ضرب بأطنابه على الأمة جمعاء. ولولا أن الدولة السعودية كانت دولة فكرة منذ البدء، لما كان لها ذلك التأثير الفكري والفقهي العالمي الذي لامس شغاف القلوب في أنحاء العالم الإسلامي الفسيح.
وتأسس عقد شراكة بين علماء وأمراء بلاد الحرمين منذ البدء على أن الدولة خادمة للشريعة، لا العكس، وأن العلماء شركاء في القرار الاستراتيجي للدولة، لا مجرد مسوغين للقرار ومسوقين له.. على أن يبذل العلماء البيعة والنصح ويسبغون الشرعية الإسلامية على حكم الأمراء السعوديين ما التزموا بمقتضيات العقد. وكذلك استمر الأمر خلال عقود مديدة من عمر الدولة السعودية.
لكن التحديات التي تواجه بلاد الحرمين اليوم تنذر بأن العقد القديم بين العلماء والأمراء يكاد يفقد الأرضية، وإن لم تتضح بعد ملامح البديل الذي ستجلبه التحولات الفكرية والاجتماعية الآتية.
ومن أسباب ضعف ذلك العقد القديم اليوم:
• أنه عقد أُبرم في مجتمع بسيط، يعيش على الفطرة، ويرضى بالقليل، لم تنْمُ فيه بعدُ المطالب الاجتماعية الكثيرة التي نمت في المجتمعات الحديثة. أما المجتمع السعودي اليوم فله مطالبه في المشاركة السياسية والعدل الاجتماعي التي لا يستطيع العقد القديم ببساطته الوفاء بها.
• أن الأمراء أخلُّوا بالعديد من بنود العقد القديم، وأرادوا الشريعة خادمة للدولة، والعلماء حاشيةً للأمراء، وموظفين في ركابهم. وهو أمر ليس من السهل على العلماء العاملين قبوله، ولا من السهل على عامة الشعب المتدين استساغته.
• أنه عقد أبرم بين نخبتين: العلماء والأمراء، ولم يكن لعامة الناس فيه دور إلا الائتمار بأمرهما. لكن الحياة الاجتماعية الجديدة تجعل لعامة الناس دورا سياسيا لم يعد من الممكن إغفاله أو تجاهله. وبدون تعديل العقد القديم أو تكسيره لن يجد هؤلاء دورهم.
• أن الرؤية الفكرية والسياسية التي انبنت عليها الدولة السعودية كانت رؤية بسيطة، ينقصها التركيب والتنوع، فهي حاصل ترجيحات شرعية جرى العمل بها بصرامة، دون اعتداد بالرأي المقابل. لكن تنوع ثقافة السعودييين اليوم - الإسلامية وغير الإسلامية - لا تنحصر في تلك الآحادية.
• أن العلائق الخارجية للأمراء الناتجة عن الثروة النفطية، جعلت الدولة تعيش ازدواجية أخلاقية في سياساتها، فتتبنى الإسلام في الداخل، وتتحالف مع من يعاديه في الخارج. وقد عبر مالك بن نبي عن ذلك تعبيرا مغاليا- وإن لم يخل من صدق - فقال: "إن النفط أحرق الفكرة الوهابية"!!
وهكذا تعاضد التطور التاريخي، والمطلب الاجتماعي، والتنوع الفكري، والمأزق الأخلاقي.. لتكون ثمرة كل ذلك ضرورة إعادة النظر في العقد القديم بين العلماء والأمراء في بلاد الحرمين، وبناء عقد جديد أكثر استيعابا وواقعية.
ولن يفي العقد الجديد بحاجات الواقع الفكري والسياسي الحالي في بلاد الحرمين إلا إذا تضمن رؤية جذرية للتغيير، تحرص على الطابع الإسلامي للدولة، وتعيد النظر في أساس شرعية السلطة، لا في أدائها من حيث تطبيق الحدود الشرعية والمحافظة على الخلق العام، بل في بناء السلطة ابتداء ومدى انسجام ذلك البناء مع مبادئ الإسلام في الشورى والعدل في الحكم والقسْم.
ولا بد أن يفتح العقد الجديد الباب أمام عامة الناس للمشاركة، بدلا من حصر الأمر في الأمراء والعلماء، وأن ينفتح أكثر على ثقافة العصر وفكره السياسي والاجتماعي، بشكل يخلصه من الازدواجية الأخلاقية السائدة، التي جعلت المرأة المسلمة الملتزمة تُمنع من سياقة سيارتها، بينما تسوق نساء عاريات غير مسلمات سيارات "الجيب" العسكرية في بلاد الحرمين.
لكن إشكالا عمليا ومنهجيا يواجه دعاة الإصلاح في بلاد الحرمين، الذين يسعون إلى التغيير، مع المحافظة على روح الدولة ونفَسها الإسلامي الأصلي. فالعمل السياسي السلمي ليس متاحا، والعنف السياسي ينافي ثقافة الدولة السعودية التي تأسست على فكرة "الطاعة" والخوف من "الفتنة".
ومما يزيد من عمق الإشكال أن الثقافة العملية لدى أهل الجزيرة العربية عموما، وأبناء بلاد الحرمين خصوصا، لم تتطور بعدُ بالشكل المطلوب، قياسا بثقافتهم الأخلاقية والمبدئية: فهم كنـز من الإيمان الراسخ والحماس المتفجر، لكن توجيه ذلك الإيمان والحماس، وتصويبهما عبر القنوات الملائمة إلى الأهداف المطلوبة هو التحدي الأكبر أمام المصلحين.
وفي بلاد الحرمين اليوم – حسبما ما يتراءى لنا من بعيد - أربع مدارس فكرية، لكل منها رؤيتها لمنهج التغيير:
• مدرسة العمل من داخل النظام، بما يعنيه ذلك من بذل الولاء للأمراء، ونصحهم سرا دون إحراج أو ضغط أو معارضة لسلطتهم. ونقطة الضعف في هذه المدرسة هي أنها تتشبث ببنود العقد القديم الذي لم يعد يتسع لمقتضيات المرحلة التاريخية الجديدة.
• مدرسة الليبرالية والتفلت من التقاليد والدين معا، ولها حضور في الإدارة والإعلام، بتشجيع من بعض الأمراء المترفين، ودفعٍ من بعض المثقفين المتغربين، لكن لا جذور لها في مجتمع بلاد الحرمين العميق التدين. فصوتها أكبر من حجمها الفعلي.
• مدرسة المنازلة والمواجهة، وهي امتداد لتجارب الجهاد التي تأسست عليها الدولة، لكن أهلها في الغالب تنقصهم الخبرة السياسية، والحكمة الدعوية. فهم ينقلون معارك الثغور إلى قلب الدولة، بل إلى قلب الإسلام، وهو ما يضعف موقفهم الشرعي والسياسي.
• مدرسة الإصلاح والتغيير السلمي، وهي تتبنى منهج التدرج والترفق، دون دفع ثمن فادح من الدماء والطاقات. وتعتمد مناهج النضال السياسي والإعلامي المعاصرة، مع حرص على الروح الإسلامية. وهذه أقرب المدارس إلى النجاح، إن طورت أساليبها بذكاء ومرونة.
ومهما يكون من أمر، فإن نتائج المخاض الذي تعيشه بلاد الحرمين اليوم، لن يتوقف عند حدودها الجغرافية. لقد امتد الإشعاع الفكري والفقهي للدولة السعودية الأولى إلى العديد من أصقاع الأرض، وسيمتد الإشعاع الفكري والفقهي للدولة الجديدة التي سينحسر عنها المخاض الحالي إلى مدىً أبعد وآفاقٍ أرحب.
أما هل ستكون الدولة الجديدة "سعودية" أم لا.. فذلك سؤال يكبر يوما بعد يوم.
محمد المختار الشنقيطي
15/06/2004
مجلة العصر
لقد انبنت الدولة السعودية أول عهدها على تحالف بين عالِم مصلح من أهل البصيرة الشرعية والروح العملية، وبين قائد قبلي من أهل فطرة الخير والمطامح السياسية. وقد استطاع العالم المجدد أن يستفيد من مطامح الزعيم القبلي وسيفِه، لإقامة دولة تحمل فكرة تجديدية في عصر انحطاط فكري وأخلاقي، ضرب بأطنابه على الأمة جمعاء. ولولا أن الدولة السعودية كانت دولة فكرة منذ البدء، لما كان لها ذلك التأثير الفكري والفقهي العالمي الذي لامس شغاف القلوب في أنحاء العالم الإسلامي الفسيح.
وتأسس عقد شراكة بين علماء وأمراء بلاد الحرمين منذ البدء على أن الدولة خادمة للشريعة، لا العكس، وأن العلماء شركاء في القرار الاستراتيجي للدولة، لا مجرد مسوغين للقرار ومسوقين له.. على أن يبذل العلماء البيعة والنصح ويسبغون الشرعية الإسلامية على حكم الأمراء السعوديين ما التزموا بمقتضيات العقد. وكذلك استمر الأمر خلال عقود مديدة من عمر الدولة السعودية.
لكن التحديات التي تواجه بلاد الحرمين اليوم تنذر بأن العقد القديم بين العلماء والأمراء يكاد يفقد الأرضية، وإن لم تتضح بعد ملامح البديل الذي ستجلبه التحولات الفكرية والاجتماعية الآتية.
ومن أسباب ضعف ذلك العقد القديم اليوم:
• أنه عقد أُبرم في مجتمع بسيط، يعيش على الفطرة، ويرضى بالقليل، لم تنْمُ فيه بعدُ المطالب الاجتماعية الكثيرة التي نمت في المجتمعات الحديثة. أما المجتمع السعودي اليوم فله مطالبه في المشاركة السياسية والعدل الاجتماعي التي لا يستطيع العقد القديم ببساطته الوفاء بها.
• أن الأمراء أخلُّوا بالعديد من بنود العقد القديم، وأرادوا الشريعة خادمة للدولة، والعلماء حاشيةً للأمراء، وموظفين في ركابهم. وهو أمر ليس من السهل على العلماء العاملين قبوله، ولا من السهل على عامة الشعب المتدين استساغته.
• أنه عقد أبرم بين نخبتين: العلماء والأمراء، ولم يكن لعامة الناس فيه دور إلا الائتمار بأمرهما. لكن الحياة الاجتماعية الجديدة تجعل لعامة الناس دورا سياسيا لم يعد من الممكن إغفاله أو تجاهله. وبدون تعديل العقد القديم أو تكسيره لن يجد هؤلاء دورهم.
• أن الرؤية الفكرية والسياسية التي انبنت عليها الدولة السعودية كانت رؤية بسيطة، ينقصها التركيب والتنوع، فهي حاصل ترجيحات شرعية جرى العمل بها بصرامة، دون اعتداد بالرأي المقابل. لكن تنوع ثقافة السعودييين اليوم - الإسلامية وغير الإسلامية - لا تنحصر في تلك الآحادية.
• أن العلائق الخارجية للأمراء الناتجة عن الثروة النفطية، جعلت الدولة تعيش ازدواجية أخلاقية في سياساتها، فتتبنى الإسلام في الداخل، وتتحالف مع من يعاديه في الخارج. وقد عبر مالك بن نبي عن ذلك تعبيرا مغاليا- وإن لم يخل من صدق - فقال: "إن النفط أحرق الفكرة الوهابية"!!
وهكذا تعاضد التطور التاريخي، والمطلب الاجتماعي، والتنوع الفكري، والمأزق الأخلاقي.. لتكون ثمرة كل ذلك ضرورة إعادة النظر في العقد القديم بين العلماء والأمراء في بلاد الحرمين، وبناء عقد جديد أكثر استيعابا وواقعية.
ولن يفي العقد الجديد بحاجات الواقع الفكري والسياسي الحالي في بلاد الحرمين إلا إذا تضمن رؤية جذرية للتغيير، تحرص على الطابع الإسلامي للدولة، وتعيد النظر في أساس شرعية السلطة، لا في أدائها من حيث تطبيق الحدود الشرعية والمحافظة على الخلق العام، بل في بناء السلطة ابتداء ومدى انسجام ذلك البناء مع مبادئ الإسلام في الشورى والعدل في الحكم والقسْم.
ولا بد أن يفتح العقد الجديد الباب أمام عامة الناس للمشاركة، بدلا من حصر الأمر في الأمراء والعلماء، وأن ينفتح أكثر على ثقافة العصر وفكره السياسي والاجتماعي، بشكل يخلصه من الازدواجية الأخلاقية السائدة، التي جعلت المرأة المسلمة الملتزمة تُمنع من سياقة سيارتها، بينما تسوق نساء عاريات غير مسلمات سيارات "الجيب" العسكرية في بلاد الحرمين.
لكن إشكالا عمليا ومنهجيا يواجه دعاة الإصلاح في بلاد الحرمين، الذين يسعون إلى التغيير، مع المحافظة على روح الدولة ونفَسها الإسلامي الأصلي. فالعمل السياسي السلمي ليس متاحا، والعنف السياسي ينافي ثقافة الدولة السعودية التي تأسست على فكرة "الطاعة" والخوف من "الفتنة".
ومما يزيد من عمق الإشكال أن الثقافة العملية لدى أهل الجزيرة العربية عموما، وأبناء بلاد الحرمين خصوصا، لم تتطور بعدُ بالشكل المطلوب، قياسا بثقافتهم الأخلاقية والمبدئية: فهم كنـز من الإيمان الراسخ والحماس المتفجر، لكن توجيه ذلك الإيمان والحماس، وتصويبهما عبر القنوات الملائمة إلى الأهداف المطلوبة هو التحدي الأكبر أمام المصلحين.
وفي بلاد الحرمين اليوم – حسبما ما يتراءى لنا من بعيد - أربع مدارس فكرية، لكل منها رؤيتها لمنهج التغيير:
• مدرسة العمل من داخل النظام، بما يعنيه ذلك من بذل الولاء للأمراء، ونصحهم سرا دون إحراج أو ضغط أو معارضة لسلطتهم. ونقطة الضعف في هذه المدرسة هي أنها تتشبث ببنود العقد القديم الذي لم يعد يتسع لمقتضيات المرحلة التاريخية الجديدة.
• مدرسة الليبرالية والتفلت من التقاليد والدين معا، ولها حضور في الإدارة والإعلام، بتشجيع من بعض الأمراء المترفين، ودفعٍ من بعض المثقفين المتغربين، لكن لا جذور لها في مجتمع بلاد الحرمين العميق التدين. فصوتها أكبر من حجمها الفعلي.
• مدرسة المنازلة والمواجهة، وهي امتداد لتجارب الجهاد التي تأسست عليها الدولة، لكن أهلها في الغالب تنقصهم الخبرة السياسية، والحكمة الدعوية. فهم ينقلون معارك الثغور إلى قلب الدولة، بل إلى قلب الإسلام، وهو ما يضعف موقفهم الشرعي والسياسي.
• مدرسة الإصلاح والتغيير السلمي، وهي تتبنى منهج التدرج والترفق، دون دفع ثمن فادح من الدماء والطاقات. وتعتمد مناهج النضال السياسي والإعلامي المعاصرة، مع حرص على الروح الإسلامية. وهذه أقرب المدارس إلى النجاح، إن طورت أساليبها بذكاء ومرونة.
ومهما يكون من أمر، فإن نتائج المخاض الذي تعيشه بلاد الحرمين اليوم، لن يتوقف عند حدودها الجغرافية. لقد امتد الإشعاع الفكري والفقهي للدولة السعودية الأولى إلى العديد من أصقاع الأرض، وسيمتد الإشعاع الفكري والفقهي للدولة الجديدة التي سينحسر عنها المخاض الحالي إلى مدىً أبعد وآفاقٍ أرحب.
أما هل ستكون الدولة الجديدة "سعودية" أم لا.. فذلك سؤال يكبر يوما بعد يوم.
محمد المختار الشنقيطي
15/06/2004
مجلة العصر