احمد شرف الدين
30-03-2005, 05:21 PM
-
دارفور.. الأزمة الإنسانية
بقلم: حامد إبراهيم حامد
ظل إقليم دارفور الذي يسلط عليه الأضواء حاليا على مدى ثلاث عقود يعيش أوضاعا مضطربة ولم يعرف الاستقرار المنى والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بسبب ظواهر طبيعية وأمنية وسياسية فقد عانت المنطقة من فترات جفاف وتصحر قادت إلى ثلاثة مجاعات كبيرة عام 1973 وعام 1985 وعام 1992.
وأدى شح الأمطار في شمال الإقليم ووسطه إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان جنوبا إلى مناطق السافنا المدارية حول جبل مرة والمناطق الحدودية مع أفريقيا الوسطى وتشاد كما أدت إلى نفوق أعداد كبيرة من الماشية وظهور حالات فقر وسط القبائل الرعوية خاصة رعاة الإبل والأبقار في شمال وغرب المنطقة بسبب تمدد التصحر جنوب حيث ظل يتمدد سنويا بمعدل ثلاث كيلومترا حتى باتت جميع مناطق شمال ووسط دارفور صحراوية جراء وشبه صحراوية بسبب عامل الطبيعة.
كما أدى الصراع التشادي التشادي، والصراع الليبي التشادي في الإقليم خلال الثمانيات وبداية التسعينات إلى انتشار السلاح والجماعات المسلحة وبالتالي قاد إلى ظاهرة النهب المسلح التي استفحلت بالمنطقة متزامنة مع ظاهرة الجفاف والتصحر وراح ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن من بينهم 3500 شرطي.
وقد أثرت الهجرات التشادية إلى دارفور بسبب تدهور الأوضاع في تشاد والجفاف والتصحر أمنيا بشكل كبير على الأوضاع في الإقليم خاصة في تطور أحداث النهب المسلح وانتشار السلاح وأصبحت كل الماشية السودانية المنهوبة تتجه برا إلى تشاد واشتركت في عمليات النهب عسكريون سابقون من الجيش التشادي وأفرادا من القبائل العربية وقبيلة الزغاوة من تشاد والسودان.
وقد استوطن أكثر من ثلاثة ملايين تشادي السودان نصفهم بدارفور خاصة في المناطق الحدودية الجنوبية الغربية والشرقية مند جنوب دارفور علما بان هناك أكثر من 50 قبيلة مشتركة بين السودان وتشاد وأصبح العنصري التشادي سواء من القبائل الأفريقية مثل الزغاوة أو العربية القاسم المشترك في التدهور المنى بدارفور على مدي السنوات الماضية وحتى الآن.
ولعبت حرب الجنوب وتطورات الأوضاع في إثيوبيا دورا مهما في تأجيج الوضع الأمنى بدارفور وقد استفادت القبائل المختلفة من توفر السلاح الذي يتم تهربيه إلى المنطقة واستفادت القبائل أيضا من سياسة التجييش التي قننتها الحكومة السودانية عبر التدريب في الدفاع الشعبي لمواجهة الحرب في الجنوب وتدرب العديد من أبناء القبائل على السلاح بطريقة رسمية واستفادوا منه لحماية قبائلهم في مواجهة القبائل الأخرى.
وكانت دارفور والتي تبلغ مساحتها نصف مليون كيلومتر مربع وتعادل مساحة ثلاث دول أوروبية هي فرنسا وهولندا والبرتغال وتعادل 20% من مساحة السودان تتميز بالتجانس والتعايش السلمي بين مختلف قبائلها وأجناسها ويتم حل المشاكل القبلية عبر الإدارة الأهلية التي كانت لها القوة والسلطة قبل حلها وتسييسها من قبل السلطة ويبلغ تعداد سكان الإقليم 6ر6 مليون نسمة أي 22% من سكان السودان ويساهم في الدخل القومي بأكثر من 25% خاصة صادرات الثروة الحيوانية والحبوب الزيتية.
وتعيش في دارفور أكثر من 100 قبيلة رئيسية من أشهرها الفور التي سميت المنطقة بها وهناك قبائل أخري عديدة منها الرزيقات وهى قبيلة عربية والتي تنقسم إلى رزيقات بقارة وتعيش في جنوب الإقليم منطقة الضعين ورزيقات "أبالة " رعاة الإبل وهذا الفرع الذي ينسب إليه" الجنجويد" ومن القبائل أيضا الزغاوة والتنجر والميدوب والزيادية والبرتى والمساليت والتامة والفلاتة والقمر والمعاليا والبني هلبة والتعايشة والسلامات وتتداخل جميع القبائل وتتزاوج مع بعضها البعض.
صراع المكونات
وأغلب قبائل دارفور مشتركة مع تشاد وليبيا وجمهورية وسط أفريقيا وقد أدت ظاهرة الجفاف والتصحر إلى هجرات جماعية للقبائل المختلفة من الشمال إلى الجنوب أو المدن الرئيسية ومن أهم القبائل التي هاجرت للجنوب الزغاوة وهى قبيلة تمارس الرعي وبعد استقرار أفرادها جنوبا مارسوا الزراعة والتجارة وأصبحت أغنى قبيلة بدارفور والسودان وتوزع أبناء الزغاوة والذين استفادوا من الهجرة إلى ليبيا خال الثمانيات والسبعينات في جميع أنحاء السودان يمارسون مهنة التجارة. والمعروف أن كل قبائل دارفور تملك أراضي خاصة بها حتى القبائل العربية الرعوية ولذلك سميت بعض المناطق في دارفور بأسماء القبائل مثل دار الزغاوة. دار الميدوب دار الرزيقات وغيرها وتسمي الأراضي الخاصة بالقبائل من رعاة الإبل ب" الدمر" حيث يستقرون فيها خلال فترة الصيف.
وأدت الهجرات بسبب الجفاف والتصحر والبحث عن مراع وارض زراعية خصبة جديدة إلى احتكاك مع القبائل المحلية ودخلت القبائل في صراعات محلية وشملت الصراعات بين القبائل العربية في ما بينها مثلما حدث بين قبيلتي البنى هلبة والمهرية في منطقة عد الفرسان عام1984، والصراع بين القمر والفلاتة عام1987.
بيد أن هذه الصراعات القبلية تطورت بتحالف بعض القبائل العربية ضد الفور في مناطق جبل مرة ووادي صالح بعد الانفلات المنى عام 1986م حيث انتظمت هذه القبائل فيما سمى ب ( التجمع العربي) والذي انشأ في بداية الثمانيات عندما كان احمد إبراهيم دريج وهو من الفور يتولى منصب حاكم الإقليم ليكون كيانا سياسيا سريا هدفه السيطرة على جميع أراضى دارفور وطرد جميع القبائل غير العربية من المنطقة، ونتج عن هذا الكيان تنظيم سرى أخر عرف بتنظيم ( قريش) وهدفه تجميع القبائل العربية بدارفور وكردفان وفق برنامج ممرحل لحكم السودان ومنافسة قبائل الشمال التي استأثرت بالحكم منذ الاستقلال.
وفى مواجهة التجمع العربي والذي كان يجد الدعم من السلطات الرسمية في الخرطوم إبان حكومة الصادق المهدي حاول الفور إحياء حركة "سونى" التي تأسست كمنظمة عسكرية سرية عام 1965م وكذراع لنهضة دارفور التي كانت تضم جميع مثقفي المنطقة بالخرطوم بيد أن الفور فشلوا في إحياء التنظيم بسبب عدم خبرتهم العسكرية وتضييق القبائل العربية والحكومة لهم.
مشكلة دارفور أو الأزمة الإنسانية التي تبارت الدول والمنظمات علي إظهارها خلال الفترة الأخيرة باعتبارها أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم خلال الفترة الأخيرة لم تكن وليدة اليوم ولم تكن أيضا وليدة الإحداث الطارئة في السنوات الأخيرة وإنما هي حصيلة لنزاعات وتراكمات ورواسب ساهمت فيها الأوضاع السياسية والنخبة الحاكمة في السودان منذ الاستقلال.
وظلت هذه الأزمة مكتومة ولم تسلط عليها الأضواء رغم تحذير بعض المراقبين من أن هناك نارا تحت الرماد قد تشتعل في أي لحظة، خاصة أن المنطقة لم تشهد وجود مشاريع تنموية وحتى المشاريع التي أنشأت مثل مشروع غرب السافنا ومشروع تنمية جبل مرة ومشروع أبحاث غزالة جاوزت لتحسين الماشية بالضعفين قد تم تصفيتها كما تعانى المنطقة من الفاقد التربوي الكبير للتلاميذ بسبب نقص المدارس وانتشار السلاح وتفشي الجهل وتدنى الخدمات الصحية حيث لا يوجد بها إلا ثلاث مستشفيات كبيرة في نيالا أو الفاشر والجنينة وحتى هذه المستشفيات تعانى من نقص الأطباء. وقد سببت التنمية غير المتوازنة وتدنى البنيات التحتية بدارفور إلى هجرة أعداد كبيرة من أبناء الإقليم للعمل في وسط السودان في المشاريع الزراعية.
وقد ساهمت كل هذه العوامل في استفحال الأمر والذي تحول من غبن محلي ونزوح داخلي إلي تمرد مسلح ضد الحكومة له أهداف سياسية وارتباطات خارجية وقد ساعدت ذلك سياسات الحكومة المركزية في الخرطوم والتي ظلت تنظر إلى دارفور بأنها منطقة مرشحة للتمرد بعد ثورة داود بولاد القيادي في الجبهة الإسلامية القومية والذي انضم للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في بداية التسعينات بسبب موقف قادة الجبهة من الصراع القبلي بين قبيلته الفور وبعض المجموعات العربية. وقاد مجموعة من مقاتلي الحركة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1991 بهدف السيطرة على منطقة جبل مرة لإعلان انضمام الفور للتمرد. إلا أن الحكومة استنفرت جميع القبائل وخاصة العربية التي استطاعت القضاء على قواته وألقي القبض عليه واعدم رميا بالرصاص بمحاكمة إيجازية سريعة وسرية.
وبعد مقتل بولاد بدأ الفور في وضع الترتيبات اللازمة لإنشاء كيان عسكري بدلا من المليشيات غير المنظمة وأجروا اتصالات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق كما أجروا اتصالات مع قياداتهم السياسية في الخارج وعلى رأسهم أحمد إبراهيم دريج حاكم إقليم دارفور السابق ورئيس الحزب الفيدرالي.
الشرارة الأولي للنزاع الأخير
يري العديد من أبناء دارفور أن الشرارة لهذا النزاع الأخير قد انطلقت عام 1986 في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي حينما تجمعت بعض القبائل العربية تحت مسمي التجمع العربي بدعم من حزب الأمة في مواجهة قبيلة الفور التي يدعمها الحزب الاتحادي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحكومي.
وقد ظهر هذا الصراع في الحرب الأهلية بين الفور وبعض القبائل العربية في مناطق جبل مرة وجنوب وغرب دارفور والتي راح ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن وبلغت خسائرها أكثر من 20 مليون دولار. وقد استطاعت حكومة الإنقاذ إجبار الطرفين للتوصل إلي اتفاقية صلح قبلي هش في أيامها الأولي إلا أن الصراعات القبلية تواصلت بعد عام 1993 في مختلف مناطق دارفور الشمالية والغربية بين القبائل العربية والأفريقية خاصة قبائل الفور والمساليت والزغاوة.
ولعبت العوامل السياسية دورا مهما في إذكاء هذه الصراعات التي كانت في الأساس صراعا حول المرعي والماء وساهمت الحكومة المركزية في تأجيجها بعد تطبيق سياسة تقسيم الولايات بإنشاء إدارات أهلية جديدة للقبائل الرعوية في أراضى القبائل المستقرة علما بأن أغلب هذه القبائل وافدة من تشاد وألغت الحكومة بمقتضى ذلك الإدارات الأهلية القديمة.
ونتيجة لذلك اندلع الصراع المسلح بين قبيلة المساليت الأفريقية وبعض القبائل العربية، وشهدت المنطقة نتيجة لهذه التحولات إحراقا للقرى وتشريدا للمواطنين.
بيد أن الصراع لم يتطور إلي صراع سياسي عسكري وتمرد مسلح إلا بعد قيام مجموعة مسلحة من أبناء الفور الذين تحالفوا مع الزغاوة باحتلال مدينة قولو عاصمة محافظة جبل مرة بغرب دارفور في 19 يوليو/تموز 2002م حيث تم لأول مرة إعلان الحركة المسلحة وتوزيع منشورات سياسية باسم جيش تحرير دارفور وحدد أهداف الحركة الجديدة في تحرير الإقليم من سيطرة الشماليين بحجة مساهمتهم في تردي الخدمات وتهميش المنطقة.
وفي عام 2003 تحولت دارفور إلي منطقة عمليات عسكرية تماما لمواجهة التحالف الجديد خاصة وان الحكومة بدأت في التنبه لخطورة الادعاءات التي بدأت تنشر من أن مسلحي الزغاوة يسعون لإقامة "دولة الزغاوة الكبرى" والتي تضم دارفور وتشاد وأجزاء من ليبيا والنيجر.
وقد استفاد التجمع العربي من هذا الادعاء في التقرب من الحكومة والتنسيق معها لمواجهة التهديد المنى الجديد وقد تزامن ذلك مع انضمام أعداد كبيرة من أبناء الزغاوة من الإسلاميين إلى الحركة المسلحة والتي غيرت اسمها إلى "حركة تحرير السودان" والى حركة العدالة والمساواة والتي أسسها القيادي الإسلامي السابق الدكتور خليل إبراهيم.
وأصبحت للحركتين قوات منظمة حيث تملك الحركة الشعبية أكثر من 16 ألف جندي فيما تملك حركة العدالة حوالي 9 آلاف كما أصبح لهما برنامج وخطاب سياسي يطالب بتحقيق المساواة في السلطة والثروة لجميع أبناء المناطق المهمشة في السودان.
الاستنفار الشعبي والتنسيق بين الحكومة وبعض القبائل العربية بشمال وغرب دارفور والتي لها نفوذ على مستوى الحكومة المركزية بالخرطوم لم يتم بصورة واضحة إلا بعد إحداث الفاشر في أبريل/نيسان 2003 عندما استطاع المتمردون تدمير 6 طائرات عسكرية في مطار المدينة واختطاف قائد عسكري برتبة لواء.
وأدت هذه الأحداث إلي لفت انتباه العالم والرأي العام المحلي داخل السودان الذي ربما لم يسمع من قبل بالتمرد المسلح. رغم أن المتمردين كانوا قد سيطروا على مناطق جبل مرة وأجزاء واسعة من مناطق الزغاوة في شمال الإقليم على الحدود الشمالية الغربية مع تشاد وليبيا وأدت العملية محليا إلي عدة نتائج سلبية حيث أوقفت الحكومة المفاوضات التي كان يجريها والي شمال دارفور الفريق إبراهيم سليمان لحل القضية سلميا بالاستجابة للمطالب الشعبية.
وبدأت الحكومة في التعبئة لسحق التمرد عسكريا واستنفرت القبائل المختلفة لمواجهة تطورات الأحداث والتي كانت تصفها قبل ذلك بعمليات قطاع الطرق والنهب واستفادت من مليشيات القبائل العربية في منطقة جبل مرة والتي كانت تقاتل الفور والزغاوة تحت اسم" الجنجويد". واعترفت بها رسميا -حسب ما تقول المعارضة في دارفور- كقوات دفاع شعبي يتم معاملتها كقوات نظامية كما استفادت من الوجود المسلح لبعض العناصر الأجنبية التي دخلت السودان عبر الحدود مع ليبيا ووصلت إلى مناطق وادي صالح بغرب دارفور وأغلبها من العناصر العربية التي كانت تستهدف تشاد في الأساس.
وتكاتفت القبائل العربية بشمال وغرب دارفور بعد أن وفرت لها الحكومة السلاح والأموال -حسب مصادر المعارضة- وظهرت ما يعرف بمليشيات الجنجويد والتي تحولت من مجموعة صغيرة كانت تحارب في مناطق جبل مرة للاستحواذ علي نفوذ محلي إلي مليشيات منظمة ومدربة تحت سيطرة الجيش السوداني تملك أسلحة حديثة وانتشرت في كل مناطق الإقليم الشمالي والغربي. ولجوء الحكومة لمليشيات "الجنجويد" كذراع عسكري للقتال في دارفور تم لعدة اعتبارات منها انه لا يمكنها استنفار الدفاع الشعبي لاعتبار ديني حيث أن الدفاع الشعبي هدفها جهادي والحرب في الجنوب وان
وقد تحولت مليشيات الجنجويد من أداة لقتال المتمردين إلي أداة هدم ضد المواطنين العزل واستغلت الأوضاع لصالحها وقد ترتب علي عملياتها الوضع المأساوي الذي تعيشه دارفور حاليا والتي لم تعرفه عبر تاريخها الطويل حيث لأول مرة يهاجر السودانيون إلى تشاد بدلا من استقبال السودان للاجئين التشاديين كما هو معروف عادة.
وقد وجهت الحكومة والجنجويد عملياتهما -كما تقول المعارضة- ضد المواطنين المدنيين وتسببت هذه العمليات في نزوح أكثر من مليون مواطن من قراهم منهم حوالي 200 ألف هربوا إلي تشاد وتأثر أكثر من مليونين آخرين وقتل أكثر من 50 ألف مواطن وتم حرق أكثر من 3000 قرية ومدينة في ولايات دارفور الثلاث ومن أشهرها قرى كورما وطويلة القريبتان من الفاشر كما تسببت في خلخلة مجتمع دارفور المتماسك والمتسامح وانتشر السلاح وسط القبائل التي سعت لحماية أفرادها وتسببت عمليات الجنجويد العشوائية في جعل جميع سكان دارفور من القبائل غير المتورطة معها رصيدا لصالح المتمردين وبالتالي هدفا للغارات الجوية من الطيران العسكري الحكومي والجنجويد.وسحبت الحكومة تواجدها العسكري خارج المدن الرئيسية بدارفور مما منح الجنجويد والمتمردين فرصة لاستهداف الآمنين.
وقد مارس المتمردون أيضا عمليات البطش والتعذيب ضد المواطنين المعارضين لهم من هذه القبائل الأفريقية وشكل المتمردون محاكم إجازية لمحاكمة المواطنين وفرضوا ضرائب وإتاوات عليهم واختطفوا زعماء القبائل وموظفين حكوميين وسيارات المواطنين وبذلك أصبح مواطنو الفري في دارفور هدفا لعمليات الجنجويد والمتمردين معا.
وعلى الرغم من محاولات الحكومة إنكار علاقاتها بالجنجويد إلا أن كل القرائن -حسب أوساط المعارضة- تدل على وجود هذه العلاقة والتنسيق بل أن الجنجويد في نظر مواطني دارفور الوليد الشرعي لحكومة الإنقاذ والتي استفادت من حرب قبلية بسيطة كان يمكن حلها إلى إنشاء كيان عسكري أدى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي لسكان دارفور ورغم أن الجنجويد يتكون في الغالب من القبائل العربية إلا أن القبائل العربية الكبرى بجنوب دارفور مثل الرزيقات والبنى هلبة والهبانية والتعايشة والمعاليا لم تشارك فيها حيث أن اغلب المشاركين من القبائل العربية بشمال وغرب دارفور من رعاة الإبل والذين فقدوا مواشيهم بسبب الجفاف والتصحر وانضمت إليهم المجموعات المهاجرة من تشاد والتي لها أطماع استيطانية في دارفور بسبب فقدانها أراضيها في تشاد.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الصراع في دارفور وعمليات الجنجويد صراعا بين الرعاة والمزارعين بسبب شح الموارد الطبيعية لعامل الجفاف والتصحر لأن هذه العمليات وإن كانت تتم برعاية الحكومة إلا أن لها أهداف خفية تتمثل في طرد القبائل الأفريقية المستقرة من أراضيها وسلبها مواشيها وممتلكاتها ورغم إصرار الحكومة على نفى ذلك إلا أن الدلائل تدحض ذلك حيث أنه يصعب تصنيف القبائل طبقا لادعاءات الحكومة من حيث الرعاة والمزارعون.
ذلك أن الزغاوة التي تقاتلها الحكومة ومليشيات الجنجويد، قبيلة رعوية ولا تمارس الزراعة إلا في حدود ضيقة وهى أغنى قبيلة من حيث تربية الإبل والضأن على مستوى دارفور. كما أن قبيلة الميدوب أيضا تعد من القبائل الرعوية ودخلت في صراع مع الجنجويد والحكومة فيما لا تملك بعض القبائل العربية التي انضممت للجنجويد أي أنواع من الماشية بل حرفتها الأساسية هي الزراعة ولها أراض ومستقرة فيها منذ القدم.
وأصبحت دارفور بسبب التمرد وعمليات الجنجويد منطقة طاردة للسكان وقد تركت هذه العمليات أوضاعا سلبية علي الوضع الاقتصادي وهجر المواطنون المدن ومن أشهرها مدينة مليط التجارية الحدودية مع ليبيا والتي أصبحت تعاني أوضاعا مأساوية بسبب إغلاق الطريق البري فهاجر أغلب سكانها للخرطوم وجنوب دارفور.
وهناك اتهامات موجهة ضد الحكومة بعدم الجدية في القضايا المتعلقة بالمنطقة خاصة وأنها لم تنفذ في السابق مقررات وتوصيات أكثر من 15 مؤتمرا أمنيا وقبليا ناقشت وأوصت بمعالجة قضايا دارفور. ويري البعض أن تكليف الشرطة للقيام بمهام نزع أسلحة الجنجويد محاولة للتهرب من الواقع باعتبار الشرطة كانت قد فشلت في السابق في التعامل مع قضية النهب المسلح فكيف لها أن تتعامل مع مليشيات عسكرية مدربة تملك سلاحا أقوي من سلاحها؟
ويرى العديد من أبناء دارفور أن ما يجري في المنطقة حاليا يمثل نتاجا طبيعيا لسياسة الشمال تجاه الغرب الكبير "دارفور وكردفان" وهى سياسة تقوم على عدم الاستقرار في المنطقة بجعل القبائل المختلفة تقاتل بعضها بعضا حتى لا يتحد سكان المنطقة والذين يبلغ عددهم أكثر من نصف عدد سكان السودان الشمالي إذا تم استثناء الشرق والجنوب وجنوب النيل الأزرق. ويرى هؤلاء أن الإنقاذ بدأت في تنفيذ هذه السياسة بعدما وقف أبناء غرب السودان مع الشفيع أحمد محمد الأمين العام الأسبق للمؤتمر الوطني الذي ترشح ضد الدكتور غازي صلاح الدين عام 1996 لتولى منصب الأمانة فيما وقف جميع أبناء الشمال والوسط معه وكان هذا بداية الشرارة في بروز عدم الثقة من جديد بين أبناء الغرب وخاصة أبناء دارفور وأبناء الشمال والوسط حيث بدأت الحكومة في محاربتهم اقتصاديا وبدا الحديث يدور عن سيطرة أبناء الغرب وخاصة الزغاوة اقتصاديا على السودان من خلال سيطرتهم على أشهر سوق شعبي في العاصمة السودانية " سوق ليبيا" بأم درمان.
أيضا هناك آراء أخرى تقول أن حكومة الإنقاذ تريد من عملياتها هذه معاقبة الدار فوريين بسبب موقفهم من الجبهة الإسلامية القومية عام 1985 عندما كانت تعول عليهم كثيرا في الانتخابات البرلمانية ووضعت كل ثقلها في دارفور إلا أنها لم تتحصل سوى على نائبين من بين 38 نائبا تحصل عليه حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي وحتى النائبان انشقا عليها وانضما للحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة محمد عثمان الميرغني ويعزز هذا الموقف انشقاق يحيى داود بولاد والذي كان رئيسا للجبهة بجنوب دارفور وانضمامه للحركة الشعبية لتحرير السودان.
ويشكو العديد من مواطني غرب السودان عموما ودارفور على وجه الخصوص من تعرضهم للتمييز السلبي من سكان وسط وشمال السودان وذلك رغم اشتراكهم في الإسلام كما أن هناك توتر في العلاقات وعدم ثقة بين الطرفين بسبب مظاهرا لتعالى العرقي والثقافي حيث أن اغلب سكان الشمال والوسط ينظرون بالدونية لسكان الغرب وسكان دارفور على وجه الخصوص.
وتقليديا يعد إقليم دارفور مواليا لحزب الأمة وذلك لانتماء الغالبية من أهله لطائفة الأنصار التي تقودها أسرة المهدي. وقد كان الإقليم يمثل منطقة مغلقة لنفوذ ذلك الحزب حتى الآن رغم محاولات اختراقه من القوى الحديثة المحلية والأحزاب العقائدية خاصة الجبهة الإسلامية القومية التي ركزت في دعايتها على إهمال الحكومات المركزية وقيادة حزب الأمة لقضايا تطوير الإقليم ونجحت الحركة الإسلامية في تحقيق اختراقات واضحة خاصة وسط الشباب والمتعلمين من خريجي الجامعات حيث يلاحظ أن اغلب رؤساء الاتحادات الطلابية بالجامعات على مدى السنوات من دارفور ولكن انشقاق الحركة الإسلامية السودانية إلى فريقين بقيادة الدكتور حسن الترابي والفريق عمر البشير اثر تأثيرا كبيرا على أبناء دارفور حيث انضم اغلبهم إلى الترابي واستغلت الحكومة ذلك واتهمت المتمردين خاصة حركة العدالة والمساواة بأنها موالية للمؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي بعد الانشقاق واتهم الشعبي بدعم المتمردين وحتى أن إعادة اعتقال الدكتور الترابي مؤخرا جاء في إطار هذه الاتهامات.
ماذا بعد ؟
ونتيجة لتطورات الأوضاع وتفاقهما بعد لجوء أكثر من 200 ألف سوداني إلى تشاد اضطرت الحكومة تحت الضغط العالمي خاصة من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية إلى الاعتراف بحجم المشكلة وطالبت المجتمع الدولي بتقديم الدعم الإغاثي للاجئين والنازحين ولكنها لم تعترف بأسباب نزوحهم وأصبحت دارفور محط أنظار العالم حيث زارها أكثر من 21 وفدا دوليا خلال فترة قصيرة
على رأسهم وزير الخارجية الأمريكي كولن باول والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ورغم الضغوط الدولية والتهديد بفرض عقوبات على الحكومة إلا أنه لا يلوح في الأفق ما يشير إلى نهاية قربيه لمأساة النازحين واللاجئين في دارفور وان الوضع المنى وتخوف النازحين واللاجئين من العودة لقراهم المحترقة والمسلوبة لا يزال يشكل تهديدا وان محادثات السلام بين الحكومة وحركتا التمرد لا تزال متعثرة وان فداحة المأساة واضحة والأكثر أهمية للمجتمع الدولي الآن هو توفير الغذاء والدواء للنازحين والذي يتطلب توفير التمويل كما يتطلب توفر الأمن الذي يكمن في وقف ناشط الجنجويد والذي لا يتم إلا بممارسة المزيد من الضغط على الحكومة السودانية.
رغم التهديد من قبل الدول الغربية بالتدخل في السودان إلا أن ذلك غير وارد حاليا وأن أي تدخل خارجي سيكون أفريقيا في المرحلة الأولى وان الدور الغربي يبقى فقط في توفير التمويل للقوات التي يرسلها الاتحاد الأفريقي للمنطقة وان هناك أحاديث لم تتبلور بعد حول مشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق بقوات لحفظ السلام في المنطقة وان الدول الغربية قد تكون لديها خطط مستقبلية إذا فشل الاتحاد الأفريقي تقوم على إنشاء مناطق آمنة يمنع فيها وجود عسكري حكومي لحماية النازحين.
وتقود واشنطن الضغوط الدولية ضد الحكومة السودانية ونجحت في نقل الملف السوداني إلى مجلس الأمن وتدخل واشنطن في قضية دارفور ليس جديد حيث أنها تدخلت مرتين من قبل عام 1973 و1985 لإغاثة آلاف الجوعى من المجاعة بالمنطقة عبر جسور جوية مباشرة لنقل الغذاء و حتى بات المواطن العادي في دارفور يعرف عن أمريكا وأياديها البيضاء أكثر مما يعرف عن حكوماته المختلفة التي تخلت عنه إبان المحنتين و الجديد في التدخل الأمريكي هو طرح شعارات حماية المواطنين من حكومتهم التي استخدمت مليشيات الجنجويد ضدهم ولذلك كان اللجوء لمجلس الأمن لإصدار قرار دولي ضد الخرطوم.
ويري العديد من المراقبين أن التهديدات الأمريكية الموجهة ضد السودان بشأن أزمة دارفور جدية وان وراءها أهدافا أخري تتمثل في أن واشنطن التي سعت ونجحت في تحقيق انفراج في قضية جنوب السودان لا وجود لملف آخر يهدد بنسف الاستقرار في السودان خاصة وأنها حددت موعدا لتوقيع الاتفاق النهائي بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان قبل الانتخابات الرئاسية وان وجود مشكلة دارفور تعرقل هذه المساعي وتبدد فرص الرئيس الذي يسعي للنجاح في السودان من خلال قضية الجنوب.
كما أن واشنطن أيضا تشعر بعقدة ذنب من مجزرة رواندا وأنها لا تريد تكرارها في السودان وان الإدارة الأمريكية تنظر للسودان باعتبارها من الدول المارقة والتي يجب محاسبتها و ذلك لا تزال تفرض عليه العقوبات وتضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب.ويأتي التهديد أيضا في ظل الإستراتيجية الأمريكية لمنطقة شرق أفريقيا والذي يمثل السودان جزءا منها حيث تسعي واشنطن لخلق بؤرة استقرار أمني في المنطقة من خلال تشكيل قيادة عسكرية لمراقبة الإرهابيين كما أن واشنطن لها أهداف أخري تتمثل في وجود النفط في السودان وتشاد والذي يتطلب الاستقرار لدخول الشركات الأمريكية ولكل هذه الأسباب فإن التهديدات الأمريكية جدية ويجب للحكومة السودانية أن تواجهها بمزيد من الإجراءات لكسب الثقة خاصة وان واشنطن وضعت قائمة من المسئولين الحكوميين تطالب بمحاكمتهم بتهمة دعم الإرهاب وان قائمتها الخاصة بقادة الجنجويد جزء من توجه أمريكي عام تجاه الحكومة السودانية وان المجتمع الدولي لن يستطيع منع التوجه الأمريكي والذي يتم عبر مجلس الأمن.
لقد تدخل الأفارقة في القضية بتبني الوساطة التشادية والتي تصر الحكومة السودانية على اعتبارها الأساس لعدة اعتبارات منها أنها تستطيع الضغط على تشاد باعتبار أن التهديد المنى للحكومة التشادية دائما يؤتى من السودان عبر دارفور وان تشاد تعتمد اقتصاديا على السودان عبر بوابة بور تسودان لنقل وارداتها و لقد استغل المتمردون ضعف الموقف التشادي كذريعة لعدم حضور المفاوضات . وقد أدى الموقف من قضية دارفور إلي تمرد داخلي في صفوف النخبة الحاكمة بتشاد وإخماد محاولة انقلاب ضد إدريس دبي قالت بعض أجهزة المخابرات الغربية أن اثنين من إخوته غير الأشقاء متورطان فيها وهما تيمان دبي ذا النفوذ الديني الواسع ودوسة دبي باعتبار أن الحكومة التشادية تخلت عن الزغاوة.وقالت بعض التقارير الغربية أن أكثر من 150 من ضباط الجيش التشادي قد التحقوا بأقربائهم المتمردين في السودان كما أن الجيش التشادي يمد المتمردين بانتظام بالسلاح والمؤن.
والأمر بالنسبة للحكومة السودانية هو السباق مع الزمن لتأكيد فرض هيبتها علي دارفور وتفادى العقوبات الدولية وفقا لقرار مجلس الأمن الذي أمهلها شهرا لإثبات جديتها وان ذلك لا يتم إلا من خلال التواجد العسكري الرسمي المكثف في جميع المناطق لطمأنة المواطنين المحليين الذين نزحوا من مناطقهم مع العلم بأن تنفيذ هذه الالتزامات مرتبط أيضا بتحالفاتها مع الجنجويد ومن الصعب عليها التخلي عنهم ولذلك لجأت الحكومة إلي خيار دمجهم في الشرطة أو القوات النظامية الأخرى رغم معارضة منظمات حقوق الإنسان والمواطنين. و أنها بدلا من السعي الجاد لحل القضية لجأت لأسلوب التعبئة والاستنفار واتهام الغرب وإسرائيل باستهداف السودان والإسلام من خلال التدخل في دارفور.
وخلاصة القول أن الأمم المتحدة لا تريد تكرار مأساة رواندا من جديد في دارفور وان الضغوط علي الحكومة السودانية ستزداد ضراوة خلال الفترة القادمة بعد تصعيد القضية من قبل واشنطن في مجلس الأمن الأمر الذي سيؤدي حتما لإرسال قوات دولية وان طلائع القوات الأفريقية التي قرر الاتحاد الإفريقي إرسالها لدارفور ستكون نواة لهذه القوات إذا لم تلتزم الحكومة السودانية بتنفيذ التزاماتها وفقا لمطالب المجلس والدول الغربية المانحة للعون وبالتالي ستكون دارفور بوابة للتدخل في الشأن السوداني بتفريط حكومي.
_______________
كاتب وصحفي سوداني
المصدر:darfor.net
بقلم:حامد ابراهيم حامد
دارفور.. الأزمة الإنسانية
بقلم: حامد إبراهيم حامد
ظل إقليم دارفور الذي يسلط عليه الأضواء حاليا على مدى ثلاث عقود يعيش أوضاعا مضطربة ولم يعرف الاستقرار المنى والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بسبب ظواهر طبيعية وأمنية وسياسية فقد عانت المنطقة من فترات جفاف وتصحر قادت إلى ثلاثة مجاعات كبيرة عام 1973 وعام 1985 وعام 1992.
وأدى شح الأمطار في شمال الإقليم ووسطه إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان جنوبا إلى مناطق السافنا المدارية حول جبل مرة والمناطق الحدودية مع أفريقيا الوسطى وتشاد كما أدت إلى نفوق أعداد كبيرة من الماشية وظهور حالات فقر وسط القبائل الرعوية خاصة رعاة الإبل والأبقار في شمال وغرب المنطقة بسبب تمدد التصحر جنوب حيث ظل يتمدد سنويا بمعدل ثلاث كيلومترا حتى باتت جميع مناطق شمال ووسط دارفور صحراوية جراء وشبه صحراوية بسبب عامل الطبيعة.
كما أدى الصراع التشادي التشادي، والصراع الليبي التشادي في الإقليم خلال الثمانيات وبداية التسعينات إلى انتشار السلاح والجماعات المسلحة وبالتالي قاد إلى ظاهرة النهب المسلح التي استفحلت بالمنطقة متزامنة مع ظاهرة الجفاف والتصحر وراح ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن من بينهم 3500 شرطي.
وقد أثرت الهجرات التشادية إلى دارفور بسبب تدهور الأوضاع في تشاد والجفاف والتصحر أمنيا بشكل كبير على الأوضاع في الإقليم خاصة في تطور أحداث النهب المسلح وانتشار السلاح وأصبحت كل الماشية السودانية المنهوبة تتجه برا إلى تشاد واشتركت في عمليات النهب عسكريون سابقون من الجيش التشادي وأفرادا من القبائل العربية وقبيلة الزغاوة من تشاد والسودان.
وقد استوطن أكثر من ثلاثة ملايين تشادي السودان نصفهم بدارفور خاصة في المناطق الحدودية الجنوبية الغربية والشرقية مند جنوب دارفور علما بان هناك أكثر من 50 قبيلة مشتركة بين السودان وتشاد وأصبح العنصري التشادي سواء من القبائل الأفريقية مثل الزغاوة أو العربية القاسم المشترك في التدهور المنى بدارفور على مدي السنوات الماضية وحتى الآن.
ولعبت حرب الجنوب وتطورات الأوضاع في إثيوبيا دورا مهما في تأجيج الوضع الأمنى بدارفور وقد استفادت القبائل المختلفة من توفر السلاح الذي يتم تهربيه إلى المنطقة واستفادت القبائل أيضا من سياسة التجييش التي قننتها الحكومة السودانية عبر التدريب في الدفاع الشعبي لمواجهة الحرب في الجنوب وتدرب العديد من أبناء القبائل على السلاح بطريقة رسمية واستفادوا منه لحماية قبائلهم في مواجهة القبائل الأخرى.
وكانت دارفور والتي تبلغ مساحتها نصف مليون كيلومتر مربع وتعادل مساحة ثلاث دول أوروبية هي فرنسا وهولندا والبرتغال وتعادل 20% من مساحة السودان تتميز بالتجانس والتعايش السلمي بين مختلف قبائلها وأجناسها ويتم حل المشاكل القبلية عبر الإدارة الأهلية التي كانت لها القوة والسلطة قبل حلها وتسييسها من قبل السلطة ويبلغ تعداد سكان الإقليم 6ر6 مليون نسمة أي 22% من سكان السودان ويساهم في الدخل القومي بأكثر من 25% خاصة صادرات الثروة الحيوانية والحبوب الزيتية.
وتعيش في دارفور أكثر من 100 قبيلة رئيسية من أشهرها الفور التي سميت المنطقة بها وهناك قبائل أخري عديدة منها الرزيقات وهى قبيلة عربية والتي تنقسم إلى رزيقات بقارة وتعيش في جنوب الإقليم منطقة الضعين ورزيقات "أبالة " رعاة الإبل وهذا الفرع الذي ينسب إليه" الجنجويد" ومن القبائل أيضا الزغاوة والتنجر والميدوب والزيادية والبرتى والمساليت والتامة والفلاتة والقمر والمعاليا والبني هلبة والتعايشة والسلامات وتتداخل جميع القبائل وتتزاوج مع بعضها البعض.
صراع المكونات
وأغلب قبائل دارفور مشتركة مع تشاد وليبيا وجمهورية وسط أفريقيا وقد أدت ظاهرة الجفاف والتصحر إلى هجرات جماعية للقبائل المختلفة من الشمال إلى الجنوب أو المدن الرئيسية ومن أهم القبائل التي هاجرت للجنوب الزغاوة وهى قبيلة تمارس الرعي وبعد استقرار أفرادها جنوبا مارسوا الزراعة والتجارة وأصبحت أغنى قبيلة بدارفور والسودان وتوزع أبناء الزغاوة والذين استفادوا من الهجرة إلى ليبيا خال الثمانيات والسبعينات في جميع أنحاء السودان يمارسون مهنة التجارة. والمعروف أن كل قبائل دارفور تملك أراضي خاصة بها حتى القبائل العربية الرعوية ولذلك سميت بعض المناطق في دارفور بأسماء القبائل مثل دار الزغاوة. دار الميدوب دار الرزيقات وغيرها وتسمي الأراضي الخاصة بالقبائل من رعاة الإبل ب" الدمر" حيث يستقرون فيها خلال فترة الصيف.
وأدت الهجرات بسبب الجفاف والتصحر والبحث عن مراع وارض زراعية خصبة جديدة إلى احتكاك مع القبائل المحلية ودخلت القبائل في صراعات محلية وشملت الصراعات بين القبائل العربية في ما بينها مثلما حدث بين قبيلتي البنى هلبة والمهرية في منطقة عد الفرسان عام1984، والصراع بين القمر والفلاتة عام1987.
بيد أن هذه الصراعات القبلية تطورت بتحالف بعض القبائل العربية ضد الفور في مناطق جبل مرة ووادي صالح بعد الانفلات المنى عام 1986م حيث انتظمت هذه القبائل فيما سمى ب ( التجمع العربي) والذي انشأ في بداية الثمانيات عندما كان احمد إبراهيم دريج وهو من الفور يتولى منصب حاكم الإقليم ليكون كيانا سياسيا سريا هدفه السيطرة على جميع أراضى دارفور وطرد جميع القبائل غير العربية من المنطقة، ونتج عن هذا الكيان تنظيم سرى أخر عرف بتنظيم ( قريش) وهدفه تجميع القبائل العربية بدارفور وكردفان وفق برنامج ممرحل لحكم السودان ومنافسة قبائل الشمال التي استأثرت بالحكم منذ الاستقلال.
وفى مواجهة التجمع العربي والذي كان يجد الدعم من السلطات الرسمية في الخرطوم إبان حكومة الصادق المهدي حاول الفور إحياء حركة "سونى" التي تأسست كمنظمة عسكرية سرية عام 1965م وكذراع لنهضة دارفور التي كانت تضم جميع مثقفي المنطقة بالخرطوم بيد أن الفور فشلوا في إحياء التنظيم بسبب عدم خبرتهم العسكرية وتضييق القبائل العربية والحكومة لهم.
مشكلة دارفور أو الأزمة الإنسانية التي تبارت الدول والمنظمات علي إظهارها خلال الفترة الأخيرة باعتبارها أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم خلال الفترة الأخيرة لم تكن وليدة اليوم ولم تكن أيضا وليدة الإحداث الطارئة في السنوات الأخيرة وإنما هي حصيلة لنزاعات وتراكمات ورواسب ساهمت فيها الأوضاع السياسية والنخبة الحاكمة في السودان منذ الاستقلال.
وظلت هذه الأزمة مكتومة ولم تسلط عليها الأضواء رغم تحذير بعض المراقبين من أن هناك نارا تحت الرماد قد تشتعل في أي لحظة، خاصة أن المنطقة لم تشهد وجود مشاريع تنموية وحتى المشاريع التي أنشأت مثل مشروع غرب السافنا ومشروع تنمية جبل مرة ومشروع أبحاث غزالة جاوزت لتحسين الماشية بالضعفين قد تم تصفيتها كما تعانى المنطقة من الفاقد التربوي الكبير للتلاميذ بسبب نقص المدارس وانتشار السلاح وتفشي الجهل وتدنى الخدمات الصحية حيث لا يوجد بها إلا ثلاث مستشفيات كبيرة في نيالا أو الفاشر والجنينة وحتى هذه المستشفيات تعانى من نقص الأطباء. وقد سببت التنمية غير المتوازنة وتدنى البنيات التحتية بدارفور إلى هجرة أعداد كبيرة من أبناء الإقليم للعمل في وسط السودان في المشاريع الزراعية.
وقد ساهمت كل هذه العوامل في استفحال الأمر والذي تحول من غبن محلي ونزوح داخلي إلي تمرد مسلح ضد الحكومة له أهداف سياسية وارتباطات خارجية وقد ساعدت ذلك سياسات الحكومة المركزية في الخرطوم والتي ظلت تنظر إلى دارفور بأنها منطقة مرشحة للتمرد بعد ثورة داود بولاد القيادي في الجبهة الإسلامية القومية والذي انضم للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في بداية التسعينات بسبب موقف قادة الجبهة من الصراع القبلي بين قبيلته الفور وبعض المجموعات العربية. وقاد مجموعة من مقاتلي الحركة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1991 بهدف السيطرة على منطقة جبل مرة لإعلان انضمام الفور للتمرد. إلا أن الحكومة استنفرت جميع القبائل وخاصة العربية التي استطاعت القضاء على قواته وألقي القبض عليه واعدم رميا بالرصاص بمحاكمة إيجازية سريعة وسرية.
وبعد مقتل بولاد بدأ الفور في وضع الترتيبات اللازمة لإنشاء كيان عسكري بدلا من المليشيات غير المنظمة وأجروا اتصالات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق كما أجروا اتصالات مع قياداتهم السياسية في الخارج وعلى رأسهم أحمد إبراهيم دريج حاكم إقليم دارفور السابق ورئيس الحزب الفيدرالي.
الشرارة الأولي للنزاع الأخير
يري العديد من أبناء دارفور أن الشرارة لهذا النزاع الأخير قد انطلقت عام 1986 في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي حينما تجمعت بعض القبائل العربية تحت مسمي التجمع العربي بدعم من حزب الأمة في مواجهة قبيلة الفور التي يدعمها الحزب الاتحادي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحكومي.
وقد ظهر هذا الصراع في الحرب الأهلية بين الفور وبعض القبائل العربية في مناطق جبل مرة وجنوب وغرب دارفور والتي راح ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن وبلغت خسائرها أكثر من 20 مليون دولار. وقد استطاعت حكومة الإنقاذ إجبار الطرفين للتوصل إلي اتفاقية صلح قبلي هش في أيامها الأولي إلا أن الصراعات القبلية تواصلت بعد عام 1993 في مختلف مناطق دارفور الشمالية والغربية بين القبائل العربية والأفريقية خاصة قبائل الفور والمساليت والزغاوة.
ولعبت العوامل السياسية دورا مهما في إذكاء هذه الصراعات التي كانت في الأساس صراعا حول المرعي والماء وساهمت الحكومة المركزية في تأجيجها بعد تطبيق سياسة تقسيم الولايات بإنشاء إدارات أهلية جديدة للقبائل الرعوية في أراضى القبائل المستقرة علما بأن أغلب هذه القبائل وافدة من تشاد وألغت الحكومة بمقتضى ذلك الإدارات الأهلية القديمة.
ونتيجة لذلك اندلع الصراع المسلح بين قبيلة المساليت الأفريقية وبعض القبائل العربية، وشهدت المنطقة نتيجة لهذه التحولات إحراقا للقرى وتشريدا للمواطنين.
بيد أن الصراع لم يتطور إلي صراع سياسي عسكري وتمرد مسلح إلا بعد قيام مجموعة مسلحة من أبناء الفور الذين تحالفوا مع الزغاوة باحتلال مدينة قولو عاصمة محافظة جبل مرة بغرب دارفور في 19 يوليو/تموز 2002م حيث تم لأول مرة إعلان الحركة المسلحة وتوزيع منشورات سياسية باسم جيش تحرير دارفور وحدد أهداف الحركة الجديدة في تحرير الإقليم من سيطرة الشماليين بحجة مساهمتهم في تردي الخدمات وتهميش المنطقة.
وفي عام 2003 تحولت دارفور إلي منطقة عمليات عسكرية تماما لمواجهة التحالف الجديد خاصة وان الحكومة بدأت في التنبه لخطورة الادعاءات التي بدأت تنشر من أن مسلحي الزغاوة يسعون لإقامة "دولة الزغاوة الكبرى" والتي تضم دارفور وتشاد وأجزاء من ليبيا والنيجر.
وقد استفاد التجمع العربي من هذا الادعاء في التقرب من الحكومة والتنسيق معها لمواجهة التهديد المنى الجديد وقد تزامن ذلك مع انضمام أعداد كبيرة من أبناء الزغاوة من الإسلاميين إلى الحركة المسلحة والتي غيرت اسمها إلى "حركة تحرير السودان" والى حركة العدالة والمساواة والتي أسسها القيادي الإسلامي السابق الدكتور خليل إبراهيم.
وأصبحت للحركتين قوات منظمة حيث تملك الحركة الشعبية أكثر من 16 ألف جندي فيما تملك حركة العدالة حوالي 9 آلاف كما أصبح لهما برنامج وخطاب سياسي يطالب بتحقيق المساواة في السلطة والثروة لجميع أبناء المناطق المهمشة في السودان.
الاستنفار الشعبي والتنسيق بين الحكومة وبعض القبائل العربية بشمال وغرب دارفور والتي لها نفوذ على مستوى الحكومة المركزية بالخرطوم لم يتم بصورة واضحة إلا بعد إحداث الفاشر في أبريل/نيسان 2003 عندما استطاع المتمردون تدمير 6 طائرات عسكرية في مطار المدينة واختطاف قائد عسكري برتبة لواء.
وأدت هذه الأحداث إلي لفت انتباه العالم والرأي العام المحلي داخل السودان الذي ربما لم يسمع من قبل بالتمرد المسلح. رغم أن المتمردين كانوا قد سيطروا على مناطق جبل مرة وأجزاء واسعة من مناطق الزغاوة في شمال الإقليم على الحدود الشمالية الغربية مع تشاد وليبيا وأدت العملية محليا إلي عدة نتائج سلبية حيث أوقفت الحكومة المفاوضات التي كان يجريها والي شمال دارفور الفريق إبراهيم سليمان لحل القضية سلميا بالاستجابة للمطالب الشعبية.
وبدأت الحكومة في التعبئة لسحق التمرد عسكريا واستنفرت القبائل المختلفة لمواجهة تطورات الأحداث والتي كانت تصفها قبل ذلك بعمليات قطاع الطرق والنهب واستفادت من مليشيات القبائل العربية في منطقة جبل مرة والتي كانت تقاتل الفور والزغاوة تحت اسم" الجنجويد". واعترفت بها رسميا -حسب ما تقول المعارضة في دارفور- كقوات دفاع شعبي يتم معاملتها كقوات نظامية كما استفادت من الوجود المسلح لبعض العناصر الأجنبية التي دخلت السودان عبر الحدود مع ليبيا ووصلت إلى مناطق وادي صالح بغرب دارفور وأغلبها من العناصر العربية التي كانت تستهدف تشاد في الأساس.
وتكاتفت القبائل العربية بشمال وغرب دارفور بعد أن وفرت لها الحكومة السلاح والأموال -حسب مصادر المعارضة- وظهرت ما يعرف بمليشيات الجنجويد والتي تحولت من مجموعة صغيرة كانت تحارب في مناطق جبل مرة للاستحواذ علي نفوذ محلي إلي مليشيات منظمة ومدربة تحت سيطرة الجيش السوداني تملك أسلحة حديثة وانتشرت في كل مناطق الإقليم الشمالي والغربي. ولجوء الحكومة لمليشيات "الجنجويد" كذراع عسكري للقتال في دارفور تم لعدة اعتبارات منها انه لا يمكنها استنفار الدفاع الشعبي لاعتبار ديني حيث أن الدفاع الشعبي هدفها جهادي والحرب في الجنوب وان
وقد تحولت مليشيات الجنجويد من أداة لقتال المتمردين إلي أداة هدم ضد المواطنين العزل واستغلت الأوضاع لصالحها وقد ترتب علي عملياتها الوضع المأساوي الذي تعيشه دارفور حاليا والتي لم تعرفه عبر تاريخها الطويل حيث لأول مرة يهاجر السودانيون إلى تشاد بدلا من استقبال السودان للاجئين التشاديين كما هو معروف عادة.
وقد وجهت الحكومة والجنجويد عملياتهما -كما تقول المعارضة- ضد المواطنين المدنيين وتسببت هذه العمليات في نزوح أكثر من مليون مواطن من قراهم منهم حوالي 200 ألف هربوا إلي تشاد وتأثر أكثر من مليونين آخرين وقتل أكثر من 50 ألف مواطن وتم حرق أكثر من 3000 قرية ومدينة في ولايات دارفور الثلاث ومن أشهرها قرى كورما وطويلة القريبتان من الفاشر كما تسببت في خلخلة مجتمع دارفور المتماسك والمتسامح وانتشر السلاح وسط القبائل التي سعت لحماية أفرادها وتسببت عمليات الجنجويد العشوائية في جعل جميع سكان دارفور من القبائل غير المتورطة معها رصيدا لصالح المتمردين وبالتالي هدفا للغارات الجوية من الطيران العسكري الحكومي والجنجويد.وسحبت الحكومة تواجدها العسكري خارج المدن الرئيسية بدارفور مما منح الجنجويد والمتمردين فرصة لاستهداف الآمنين.
وقد مارس المتمردون أيضا عمليات البطش والتعذيب ضد المواطنين المعارضين لهم من هذه القبائل الأفريقية وشكل المتمردون محاكم إجازية لمحاكمة المواطنين وفرضوا ضرائب وإتاوات عليهم واختطفوا زعماء القبائل وموظفين حكوميين وسيارات المواطنين وبذلك أصبح مواطنو الفري في دارفور هدفا لعمليات الجنجويد والمتمردين معا.
وعلى الرغم من محاولات الحكومة إنكار علاقاتها بالجنجويد إلا أن كل القرائن -حسب أوساط المعارضة- تدل على وجود هذه العلاقة والتنسيق بل أن الجنجويد في نظر مواطني دارفور الوليد الشرعي لحكومة الإنقاذ والتي استفادت من حرب قبلية بسيطة كان يمكن حلها إلى إنشاء كيان عسكري أدى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي لسكان دارفور ورغم أن الجنجويد يتكون في الغالب من القبائل العربية إلا أن القبائل العربية الكبرى بجنوب دارفور مثل الرزيقات والبنى هلبة والهبانية والتعايشة والمعاليا لم تشارك فيها حيث أن اغلب المشاركين من القبائل العربية بشمال وغرب دارفور من رعاة الإبل والذين فقدوا مواشيهم بسبب الجفاف والتصحر وانضمت إليهم المجموعات المهاجرة من تشاد والتي لها أطماع استيطانية في دارفور بسبب فقدانها أراضيها في تشاد.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الصراع في دارفور وعمليات الجنجويد صراعا بين الرعاة والمزارعين بسبب شح الموارد الطبيعية لعامل الجفاف والتصحر لأن هذه العمليات وإن كانت تتم برعاية الحكومة إلا أن لها أهداف خفية تتمثل في طرد القبائل الأفريقية المستقرة من أراضيها وسلبها مواشيها وممتلكاتها ورغم إصرار الحكومة على نفى ذلك إلا أن الدلائل تدحض ذلك حيث أنه يصعب تصنيف القبائل طبقا لادعاءات الحكومة من حيث الرعاة والمزارعون.
ذلك أن الزغاوة التي تقاتلها الحكومة ومليشيات الجنجويد، قبيلة رعوية ولا تمارس الزراعة إلا في حدود ضيقة وهى أغنى قبيلة من حيث تربية الإبل والضأن على مستوى دارفور. كما أن قبيلة الميدوب أيضا تعد من القبائل الرعوية ودخلت في صراع مع الجنجويد والحكومة فيما لا تملك بعض القبائل العربية التي انضممت للجنجويد أي أنواع من الماشية بل حرفتها الأساسية هي الزراعة ولها أراض ومستقرة فيها منذ القدم.
وأصبحت دارفور بسبب التمرد وعمليات الجنجويد منطقة طاردة للسكان وقد تركت هذه العمليات أوضاعا سلبية علي الوضع الاقتصادي وهجر المواطنون المدن ومن أشهرها مدينة مليط التجارية الحدودية مع ليبيا والتي أصبحت تعاني أوضاعا مأساوية بسبب إغلاق الطريق البري فهاجر أغلب سكانها للخرطوم وجنوب دارفور.
وهناك اتهامات موجهة ضد الحكومة بعدم الجدية في القضايا المتعلقة بالمنطقة خاصة وأنها لم تنفذ في السابق مقررات وتوصيات أكثر من 15 مؤتمرا أمنيا وقبليا ناقشت وأوصت بمعالجة قضايا دارفور. ويري البعض أن تكليف الشرطة للقيام بمهام نزع أسلحة الجنجويد محاولة للتهرب من الواقع باعتبار الشرطة كانت قد فشلت في السابق في التعامل مع قضية النهب المسلح فكيف لها أن تتعامل مع مليشيات عسكرية مدربة تملك سلاحا أقوي من سلاحها؟
ويرى العديد من أبناء دارفور أن ما يجري في المنطقة حاليا يمثل نتاجا طبيعيا لسياسة الشمال تجاه الغرب الكبير "دارفور وكردفان" وهى سياسة تقوم على عدم الاستقرار في المنطقة بجعل القبائل المختلفة تقاتل بعضها بعضا حتى لا يتحد سكان المنطقة والذين يبلغ عددهم أكثر من نصف عدد سكان السودان الشمالي إذا تم استثناء الشرق والجنوب وجنوب النيل الأزرق. ويرى هؤلاء أن الإنقاذ بدأت في تنفيذ هذه السياسة بعدما وقف أبناء غرب السودان مع الشفيع أحمد محمد الأمين العام الأسبق للمؤتمر الوطني الذي ترشح ضد الدكتور غازي صلاح الدين عام 1996 لتولى منصب الأمانة فيما وقف جميع أبناء الشمال والوسط معه وكان هذا بداية الشرارة في بروز عدم الثقة من جديد بين أبناء الغرب وخاصة أبناء دارفور وأبناء الشمال والوسط حيث بدأت الحكومة في محاربتهم اقتصاديا وبدا الحديث يدور عن سيطرة أبناء الغرب وخاصة الزغاوة اقتصاديا على السودان من خلال سيطرتهم على أشهر سوق شعبي في العاصمة السودانية " سوق ليبيا" بأم درمان.
أيضا هناك آراء أخرى تقول أن حكومة الإنقاذ تريد من عملياتها هذه معاقبة الدار فوريين بسبب موقفهم من الجبهة الإسلامية القومية عام 1985 عندما كانت تعول عليهم كثيرا في الانتخابات البرلمانية ووضعت كل ثقلها في دارفور إلا أنها لم تتحصل سوى على نائبين من بين 38 نائبا تحصل عليه حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي وحتى النائبان انشقا عليها وانضما للحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة محمد عثمان الميرغني ويعزز هذا الموقف انشقاق يحيى داود بولاد والذي كان رئيسا للجبهة بجنوب دارفور وانضمامه للحركة الشعبية لتحرير السودان.
ويشكو العديد من مواطني غرب السودان عموما ودارفور على وجه الخصوص من تعرضهم للتمييز السلبي من سكان وسط وشمال السودان وذلك رغم اشتراكهم في الإسلام كما أن هناك توتر في العلاقات وعدم ثقة بين الطرفين بسبب مظاهرا لتعالى العرقي والثقافي حيث أن اغلب سكان الشمال والوسط ينظرون بالدونية لسكان الغرب وسكان دارفور على وجه الخصوص.
وتقليديا يعد إقليم دارفور مواليا لحزب الأمة وذلك لانتماء الغالبية من أهله لطائفة الأنصار التي تقودها أسرة المهدي. وقد كان الإقليم يمثل منطقة مغلقة لنفوذ ذلك الحزب حتى الآن رغم محاولات اختراقه من القوى الحديثة المحلية والأحزاب العقائدية خاصة الجبهة الإسلامية القومية التي ركزت في دعايتها على إهمال الحكومات المركزية وقيادة حزب الأمة لقضايا تطوير الإقليم ونجحت الحركة الإسلامية في تحقيق اختراقات واضحة خاصة وسط الشباب والمتعلمين من خريجي الجامعات حيث يلاحظ أن اغلب رؤساء الاتحادات الطلابية بالجامعات على مدى السنوات من دارفور ولكن انشقاق الحركة الإسلامية السودانية إلى فريقين بقيادة الدكتور حسن الترابي والفريق عمر البشير اثر تأثيرا كبيرا على أبناء دارفور حيث انضم اغلبهم إلى الترابي واستغلت الحكومة ذلك واتهمت المتمردين خاصة حركة العدالة والمساواة بأنها موالية للمؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي بعد الانشقاق واتهم الشعبي بدعم المتمردين وحتى أن إعادة اعتقال الدكتور الترابي مؤخرا جاء في إطار هذه الاتهامات.
ماذا بعد ؟
ونتيجة لتطورات الأوضاع وتفاقهما بعد لجوء أكثر من 200 ألف سوداني إلى تشاد اضطرت الحكومة تحت الضغط العالمي خاصة من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية إلى الاعتراف بحجم المشكلة وطالبت المجتمع الدولي بتقديم الدعم الإغاثي للاجئين والنازحين ولكنها لم تعترف بأسباب نزوحهم وأصبحت دارفور محط أنظار العالم حيث زارها أكثر من 21 وفدا دوليا خلال فترة قصيرة
على رأسهم وزير الخارجية الأمريكي كولن باول والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ورغم الضغوط الدولية والتهديد بفرض عقوبات على الحكومة إلا أنه لا يلوح في الأفق ما يشير إلى نهاية قربيه لمأساة النازحين واللاجئين في دارفور وان الوضع المنى وتخوف النازحين واللاجئين من العودة لقراهم المحترقة والمسلوبة لا يزال يشكل تهديدا وان محادثات السلام بين الحكومة وحركتا التمرد لا تزال متعثرة وان فداحة المأساة واضحة والأكثر أهمية للمجتمع الدولي الآن هو توفير الغذاء والدواء للنازحين والذي يتطلب توفير التمويل كما يتطلب توفر الأمن الذي يكمن في وقف ناشط الجنجويد والذي لا يتم إلا بممارسة المزيد من الضغط على الحكومة السودانية.
رغم التهديد من قبل الدول الغربية بالتدخل في السودان إلا أن ذلك غير وارد حاليا وأن أي تدخل خارجي سيكون أفريقيا في المرحلة الأولى وان الدور الغربي يبقى فقط في توفير التمويل للقوات التي يرسلها الاتحاد الأفريقي للمنطقة وان هناك أحاديث لم تتبلور بعد حول مشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق بقوات لحفظ السلام في المنطقة وان الدول الغربية قد تكون لديها خطط مستقبلية إذا فشل الاتحاد الأفريقي تقوم على إنشاء مناطق آمنة يمنع فيها وجود عسكري حكومي لحماية النازحين.
وتقود واشنطن الضغوط الدولية ضد الحكومة السودانية ونجحت في نقل الملف السوداني إلى مجلس الأمن وتدخل واشنطن في قضية دارفور ليس جديد حيث أنها تدخلت مرتين من قبل عام 1973 و1985 لإغاثة آلاف الجوعى من المجاعة بالمنطقة عبر جسور جوية مباشرة لنقل الغذاء و حتى بات المواطن العادي في دارفور يعرف عن أمريكا وأياديها البيضاء أكثر مما يعرف عن حكوماته المختلفة التي تخلت عنه إبان المحنتين و الجديد في التدخل الأمريكي هو طرح شعارات حماية المواطنين من حكومتهم التي استخدمت مليشيات الجنجويد ضدهم ولذلك كان اللجوء لمجلس الأمن لإصدار قرار دولي ضد الخرطوم.
ويري العديد من المراقبين أن التهديدات الأمريكية الموجهة ضد السودان بشأن أزمة دارفور جدية وان وراءها أهدافا أخري تتمثل في أن واشنطن التي سعت ونجحت في تحقيق انفراج في قضية جنوب السودان لا وجود لملف آخر يهدد بنسف الاستقرار في السودان خاصة وأنها حددت موعدا لتوقيع الاتفاق النهائي بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان قبل الانتخابات الرئاسية وان وجود مشكلة دارفور تعرقل هذه المساعي وتبدد فرص الرئيس الذي يسعي للنجاح في السودان من خلال قضية الجنوب.
كما أن واشنطن أيضا تشعر بعقدة ذنب من مجزرة رواندا وأنها لا تريد تكرارها في السودان وان الإدارة الأمريكية تنظر للسودان باعتبارها من الدول المارقة والتي يجب محاسبتها و ذلك لا تزال تفرض عليه العقوبات وتضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب.ويأتي التهديد أيضا في ظل الإستراتيجية الأمريكية لمنطقة شرق أفريقيا والذي يمثل السودان جزءا منها حيث تسعي واشنطن لخلق بؤرة استقرار أمني في المنطقة من خلال تشكيل قيادة عسكرية لمراقبة الإرهابيين كما أن واشنطن لها أهداف أخري تتمثل في وجود النفط في السودان وتشاد والذي يتطلب الاستقرار لدخول الشركات الأمريكية ولكل هذه الأسباب فإن التهديدات الأمريكية جدية ويجب للحكومة السودانية أن تواجهها بمزيد من الإجراءات لكسب الثقة خاصة وان واشنطن وضعت قائمة من المسئولين الحكوميين تطالب بمحاكمتهم بتهمة دعم الإرهاب وان قائمتها الخاصة بقادة الجنجويد جزء من توجه أمريكي عام تجاه الحكومة السودانية وان المجتمع الدولي لن يستطيع منع التوجه الأمريكي والذي يتم عبر مجلس الأمن.
لقد تدخل الأفارقة في القضية بتبني الوساطة التشادية والتي تصر الحكومة السودانية على اعتبارها الأساس لعدة اعتبارات منها أنها تستطيع الضغط على تشاد باعتبار أن التهديد المنى للحكومة التشادية دائما يؤتى من السودان عبر دارفور وان تشاد تعتمد اقتصاديا على السودان عبر بوابة بور تسودان لنقل وارداتها و لقد استغل المتمردون ضعف الموقف التشادي كذريعة لعدم حضور المفاوضات . وقد أدى الموقف من قضية دارفور إلي تمرد داخلي في صفوف النخبة الحاكمة بتشاد وإخماد محاولة انقلاب ضد إدريس دبي قالت بعض أجهزة المخابرات الغربية أن اثنين من إخوته غير الأشقاء متورطان فيها وهما تيمان دبي ذا النفوذ الديني الواسع ودوسة دبي باعتبار أن الحكومة التشادية تخلت عن الزغاوة.وقالت بعض التقارير الغربية أن أكثر من 150 من ضباط الجيش التشادي قد التحقوا بأقربائهم المتمردين في السودان كما أن الجيش التشادي يمد المتمردين بانتظام بالسلاح والمؤن.
والأمر بالنسبة للحكومة السودانية هو السباق مع الزمن لتأكيد فرض هيبتها علي دارفور وتفادى العقوبات الدولية وفقا لقرار مجلس الأمن الذي أمهلها شهرا لإثبات جديتها وان ذلك لا يتم إلا من خلال التواجد العسكري الرسمي المكثف في جميع المناطق لطمأنة المواطنين المحليين الذين نزحوا من مناطقهم مع العلم بأن تنفيذ هذه الالتزامات مرتبط أيضا بتحالفاتها مع الجنجويد ومن الصعب عليها التخلي عنهم ولذلك لجأت الحكومة إلي خيار دمجهم في الشرطة أو القوات النظامية الأخرى رغم معارضة منظمات حقوق الإنسان والمواطنين. و أنها بدلا من السعي الجاد لحل القضية لجأت لأسلوب التعبئة والاستنفار واتهام الغرب وإسرائيل باستهداف السودان والإسلام من خلال التدخل في دارفور.
وخلاصة القول أن الأمم المتحدة لا تريد تكرار مأساة رواندا من جديد في دارفور وان الضغوط علي الحكومة السودانية ستزداد ضراوة خلال الفترة القادمة بعد تصعيد القضية من قبل واشنطن في مجلس الأمن الأمر الذي سيؤدي حتما لإرسال قوات دولية وان طلائع القوات الأفريقية التي قرر الاتحاد الإفريقي إرسالها لدارفور ستكون نواة لهذه القوات إذا لم تلتزم الحكومة السودانية بتنفيذ التزاماتها وفقا لمطالب المجلس والدول الغربية المانحة للعون وبالتالي ستكون دارفور بوابة للتدخل في الشأن السوداني بتفريط حكومي.
_______________
كاتب وصحفي سوداني
المصدر:darfor.net
بقلم:حامد ابراهيم حامد