أبو لـُجين ابراهيم
15-12-2005, 02:41 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد دعوتك بالأمس إلى فتح التلفاز لتشاهد نشرة الأخبار وتنظر إلى مآسي المسلمين ، ولكن الليلة أدعوك إلى إغلاق التلفاز لأني أريدك عشرة دقائق فقط لا تزيد دقيقة واحدة ، وسوف أستقطع هذا الوقت من وقتك الثمين والذي أكاد أجزم أنك ستخرج بفائدة كبيرة عندما تقرأ الأسطر التي كتبتها ونقلتها لك ، ولك الحق أن توافقني فيما نقلته لك واقتنعت بما جاء فيه أو تعترض وتبدي رأياً مخالفاً وستجد مني كل الاحترام والتقدير .
لقد قرأت هذا الموضوع القيم وأسطره الذهبية في افتتاحية شهر ذو القعدة لمجلة سأذكر لكم اسمها في آخر المقال طمعاً أن تقرئوا الموضوع كاملاً ، وكم كنت أتمنى أن أجد هذه الافتتاحية في صحفنا السعودية المحلية ولكن يبدو أني أخطأت النجعة وذهبت بعيدا وحلمت كثيرا !!
لقد بحثت عن هذه الأسطر الذهبية في موقع المجلة على الانترنت ولكن لم أجدها حيث أن موقعهم يقوم بإنزال عدد شوال في شهر ذو العقدة ويقوم بإنزال عدد ذو القعدة في شهر ذو الحجة ، وقلت إذا كان الأمر كذلك فإني لن أحرم أخوتي وأحبتي كتابة هذه الأسطر القيمة ، ورغم أن الدنيا قد أخذت مني ومن الكثير نصيبا نسأل الله أن يعفو ويغفر إلا أني رغبت أن يشاركني إخوتي الكرام في أخذ نصيبهم من هذا المقال ولهذا حاولت الاجتهاد قدر استطاعتي فقمت بكتابة الموضوع في جلسة اسأل الله أن لا يحرمني وإياكم أجرها .
وهذا هو الموضوع أمامكم وإني أرجوكم أن تقبلوا دعوتي وتقرئوا الموضوع حتى النهاية طمعاً في إزالة بعض الإشكال وتصحيح لبعض المفاهيم ثم لك الحق أن تبدي رأيك بكل صراحة .
عذرا على الإطالة وإن زاد الوقت عن العشر دقائق فأرجوا منكم المعذرة والسموحة
--------------------------------------------------------------------------------
اللهم أرنا الحق حقا .. !
فعندما نكبت الأمة منذ نحو ربع قرن بغزو الروس الشيوعيين لأرض أفغانستان المسلمة تداعى المسلمون في أنحاء العالم الإسلامي بكل شرائحه وطوائفه لنجدة الشعب الأفغاني والوقوف معه بالمستطاع من الجهد والمال والرجال حتى يستطيع أن يرد ذلك الاجتياح الذي كان – على ما ظهر – مقدمة لاجتياحات إمبراطورية أخرى كان يتطلع من خلالها الروس أن يصلوا إلى نفط الشرق الأوسط ومن ثم سبق الولايات المتحدة إليه .
وللحقيقة فان الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في تسعير ذلك الحرب ضد غريمها العنيد – الاتحاد السوفيتي السابق – لا لمشروعية هذه الحرب وبسالتها ضد العدوان بل كان ذلك استغلالا وانتهازية لفرصة تاريخية يمكن للولايات المتحدة أن تتمكن فيها من صد عدوها من وراء أرواح ودماء وأموال المسلمين .
وقد حدث ما حدث من انكسار العدو الروسي وانتصار الجهاد الأفغاني الذي اجمع علماء الأمة وقتها على مشروعيته ووجوبه مع اختلاف فقط في كون ذلك الوجوب وجوبا عينيا أم كفائيا ، وقد علم من قوتها أن الحرب ضد الروس في أفغانستان والتي نزلت فيه الولايات المتحدة بثقلها بطرق مباشرة وغيرة مباشرة تمكنت أمريكا فيها من حشد حلفائها من الدول لتأييدها في قهر روسيا ، وقد سهل هذا كثيرا من مهمة المجاهدين في ذلك الوقت إذ كان كيدا من الله لأوليائه ضد أعدائه ( إنهم يكيدون كيدا . وأكيد كيداً . فمهل الكافرين أمهلم رويدا ) " الطارق : 15-17 .
واليوم تتبدل الأحوال وتتغير الظروف ويجد المسلمون أنفسهم في مواجهة أخرى مفروضة ضد الولايات المتحدة وحلفائها في عدد من بلدان العالم الإسلامي لأطماع إمبراطورية أخطر من الأطماع الروسية السابقة .
وكانت أفغانستان نفسها ثم العراق أولى محطات هذه المواجهة مع ما يدبر الآن من وراء الجدران لكل من سوريا ولبنان والسودان وغيرها من البلدان ولكن المشهد اليوم اعترته اختلافات ومفارقات عجيبة وغريبة عن مشهد الأمس فالبلدان التي تعرضت للعدوان الذي لا شك في وجوب صده ورده قامت فيها هبات جريئة من مجموعة مخلصة حاولت أن تقوم بمثل ما قام به المجاهدون الأفغان أيام الحرب في أفغانستان ولكنها وجدت نفسها في بيئة دولية مغايرة وإقليمية متنافرة ومحلية متناقضة مما أثمر صدوداً شبه عام عن قبول هذا الجهاد رسمياً فضلاً عن دعمه وزاد الأمر شدة أن الإسلاميين أنفسهم بدعاتهم وعلمائهم مختلفون حول الكثير من مسائل هذا الجهاد وقضاياه لاسباب علمية أو سياسية أو حزبية أو حتى عنصرية وما كان لهم أن يختلفوا وهو ما أوقع مسيرة هذا الجهاد في ورطات متعددة وبخاصة في العراق .
ومع هذا نقول : أن الغزو الأمريكي الحاصل اليوم في العراق اخطر بمراحل من غزو الروس لأفغانستان لاعتبارات كثيرة :
هذا الانصراف الواضح عن التصدي له إقليميا وعالمياً رسميا وشعبياً بسبب أن الولايات المتحدة هي طرفه الرئيس ولهذا لم تجرؤ الكثير من الأنظمة على الاعتراض عليه بل أن الولايات المتحدة نفسها وجدت من الأنصار ضد المقاومة من العراق عالميا وإقليميا ومحليا ما كاد يشعرها ويصورها على أنها هي الضحية المجني عليها مما زادها غطرسة وجرأة في المضي في خططها التي جاءت من اجلها .
ومنها أن غزو العراق – ومن قبله أفغانستان – إنما جاء وفق خطط اسبق من التهديدات الوهمية لصدام وتداعيات مبالغ فيها لأحداث سبتمبر ، والأخطار المضخمة لما تسميه أمريكا بالإرهاب ، أنها الخطط التي يتوالى الكشف عنها والتي تستهدف ضمان تفرد أمريكا بالسيطرة على زعامة العالم طيلة القرن القادم .
ومنها أن غزو العراق – ومن قبله أفغانستان – إنما جاء في أكثر ظروف العرب والمسلمين ضعفا وتشتتاً وفي اشد الأوقات تعرضا لتداعي الأمم حيث نجح الأعداء في تحويل اهتمامات الشعوب إلى الداخل لتنكفئ كل دولة على همومها ومشكلاتها غير عابئة بالحريق المجاور لها الذي يوشك أن يطالها فيلتهمها .
ومنها أن شرائح كبرى من الإسلاميين في العالم وعلى عكس ما كان منطقياً وطبيعيا في زمان تداعي الأمم عليهم قد تغيرت اهتماماتهم وبردت حميتهم وانصرف بعضهم إلى الهموم الصغرى بل التحق بعضهم بالخنادق المعادية في وقت لا تزال النيران مفتوحة على الأمة من هنا وهناك
ومنها : أن العلمانية في العالم الإسلامي التي أضاعت الأعمار في أقوال بلا أفعال وأفكار بلا ثمار تنتقل الآن بأقوالها وأفعالها وأفكارها إلى الحصون المعادية والمعادية للامة والأوكار المحادة للدين تاركة الشعوب تلقى مصيرها الواحد بعد الأخر .
ومنها أن العراق أصبح ساحة لتصفية الحسابات والأخذ بالثارات القديمة والحديثة من الإيرانيين مرة ومن اليهود مرة ومن بعض دول الجوار مرات وهو ما جعل المقاومة في العراق تواجه أصنافاً من الأعداء الظاهرين والباطنين إلى جانب العدو الرئيسي المتمثل في الاحتلال ؟.
ولهذا نؤكد :
أن قلوب الغيورين في سائر الأمة تحترق وأكبادهم تكتوي كلما رأوا تعثرا يعرقل مسيرة هذه المقاومة أو تشوها يشوبها أو وهنا يدخل عليها فينفذ إلى سائر الجسد الذي يتداعى لها ولهذا فان هناك أموراً لا نرى مناصاً من المناصحة فيها ودواعي قلق لا يسوغ السكوت عنها ومن أهمها :
أولا : إننا أمة دعوة فعقيدتنا دعوة وجوهر عبادتنا وشريعتنا دعوة بل نحن في محبتنا وعدواتنا حملة دعوة بل حتى جهادنا وقتالنا دعوة بل هو ذرو ة سنام الدعوة .
ودعوة الجهاد وشرعته لها هيبتها ووضاءتها وسماحتها التي عرفنا بها في العالم المنصف عبر التاريخ ودخل الناس بسببها في دين الله أفواجا وواجبنا أن نحافظ على هذا السمت وتلك السمعة وهذه السيرة حتى لا نضر بأصل دعوتنا .
دعوة التوحيد هي التي يحملها منا العالم في مجلسه والداعية على منبره والمقاتل في ميدانه وكل مختص في مجال تخصصه فهي ليست حكراً على احد ونصرها ونشرها ليس مسئولية أحد دون أحد .
ثانيا : إذا كان تكثير الأنصار لنصرة الدين أمراً محموداً مطلوبا فان تكثير الأعداء وزيادة الجبهات يعد أمراً مذموماً مرفوضاً وإن من أولى مبادئ علم الإستراتيجية العسكرية مبدأ ( لا تكثر أعداءك ) فما بال أقوام أعداؤهم اكثر من أصدقائهم وأنصارهم ومع ذلك يبحثون بحثاً عن مزيد من الأعداء لا بل ينقبون عن مسارات يخسرون بها العديد من المؤيدين والمتعاطفين .
ترى في هذا الشأن خطراً جسيماً على مستقبل الجهاد لا في العراق فحسب بل في أماكن أخرى ساخنة من العالم الإسلامي ولقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينازل قوما من أعدائه ويترك ولو مرحليا منازلة قوم ، وكان ينشغل بأناس من المحاربين ويتشاغل عن أناس منهم ، وأحيان كان يتألف ويعالج قلوب فريق بينما يعاجل بالحرب والضرب فريقا آخرين ونحو ذلك مما تعج به سيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء والأتباع السائرين على هديه فما كان صلى الله عليه وسلم ينازل الجميع ولو كانوا جميعا من المحاربين في ظرف واحد ولا كان حريصاً على فتح جميع الجبهات في كل الأوقات شفقة منه وحكمه ورحمة لأنه أمين على مصلحة المسلمين حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم .
ولهذا ينبغي ألا ينقل المقاومون للمحتل الغاصب معركتهم خارج مكانها الصحيح كما حدث للأسف في أكثر من ساحة حتى لا تضيع الأهداف وتفسد الثمرات
ثالثا : الخطاب الإعلامي من اخطر المؤثرات في توجيه مسار المعركة وخطورة هذا الخطاب لا تأتى من سرعته وصدقه ومواكبته للأحداث فحسب بل من لهجته وطبيعته ومفرداته المراعية لكل من يتوجه إليه من صديق أو عدو من عالم أو جاهل وعندما يكون هذا الخطاب الإعلامي قاصراً فانه يضر بالمعركة على الأرض ويشيع الوهن والإحباط لدى المراقبين لها وبخاصة إذا تجاهل المشاعر وتغافل عن الحساسيات وضرب عرض الحائط بتعارض المصالح والمفاسد واختلاف الطباع وتباين الانتماءات والولاءات وان من اشد أضرار الخطاب الإعلامي غير المتزن الإخلال بوحدة الأمة واجتماع قلوبها على قضاياها الكبرى فالجهاد إذا توجه إلى غير ساحاته أو تجاوز غير استحقاقاته من أفراد أو منشات أو مصالح فانه قد يثير حفيظة شعب على شعب وينكأ جراح جماعة على جماعة بل وقد يحدث الانشقاقات في الصف الواحد على الجبهة الواحدة ومن عجيب الأمر أن هذا الخطاب أحيانا ما يتجاهل مستوى وعي الناس فيفترض انهم جميعا على مستوى فهم دقائق الأحكام الفقهية والاختلافات العقدية التي ينطلق منها ( هذا إن كانت صحيحة في كل الأحوال فالحاصل أن الغالبية العامة لا تفهم إلا الظواهر الواضحة ولا تعي ما تخبنه العقول وتستره القلوب : فالقاتل عند الناس قاتل والمقتول عندهم مقتول وللدماء بشاعتها وللحرائق رهبتها وكل هذه البشاعة تحتاج إلى تفسير إلى مزيد من التسعير ولنعترف بان توجه آلة الإعلام عالميا وإقليميا ليست لصالح المسلمين ولا هي في حيز قدراتهم على التحوير والتأويل فلا ينبغي إعانة الأعداء على الأمة بتقديم خدمات مجانية إعلامية تستغلها آلة شيطانية لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة . .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن تكون سمعة المسلمين حسنة والصورة لا تكون حسنة إلا إذا كان الأصل حسنا وصورة الحدث ينبغي أن تعكس حقيقة الحدث دون حاجة للتعسف في تفسيرها أو التكلف في تأويلها ولما أشير عليه صلى الله عليه وسلم بقتل من يستحق القتل من أعدائه المنافقين قال لا يتحدث أن محمداً يقتل أصحابه .
نعم ونحن لا نريد أن يتحدث الناس أن الجهاد في العراق أو في غيره من الساحات المشروعة فقد بوصلته أو حاد عن سبيله أو أن المجاهدين قد فقدوا الإنسانية أو خرجوا عن الضوابط الشرعية والقيم الإسلامية .
رابعا : اختيار ميدان الشهادة مسؤولية جسيمة فهو ليس مجرد قرار بدخول أعلى درجات الجنة في أسرع وقت من اقصر طريق .. لا فالشهادة منزلة سامقة تستهدف بذل الروح بعد إراقة الدم بغية دخول الجنة بلا سابقة حساب ولا عذاب وهذا أعلى درجات قدرة الإنسان على الفعل ولكن هناك أفعالاً لابد أن تسبق هذا الفعل حتى يتوج بغايته ويصل المرء به إلى بغيته وأعلى هذه الأفعال إخلاص النية والاجتهاد في إصابة الصواب ، أما النية فظننا أن أكثر من يوفق إلى هذا المستوى من الرغبة في البذل وراءه نية صافية صادقة ولكن نية الصادق لا تكفيه حتى يضم إليها الفعل الصائب المنضبط بضوابط الشريعة ومع علمنا بأن الحرب حرب يحدث فيها ما لم يكن وارداً أو مراداً من الأخطاء والأخطار إلا أن الأصل العام أن الجهاد ليس مجرد حرب وضرب فليس كل القتال جهادا وليس كل الجهاد معصوما بل ليس كل من مات مقتولا كان شهيدا مقبولا فدون كل ذلك تصحيح النوايا وتصويب الأعمال ولهذا فان التغرير بالنفس لدفعها لميدان الشهادة لا ينبغي أن يتحول بهذه النفس من قمام المقاتل في سبيل الله إلى مقام القاتل لعباد الله ولا ينبغي أيضا أن يتحول عن جبر كسور لأمة إلى كسر قلبها وإدخال الحزن عليها ولا ينبغي كذلك أن يصير فرحاً وشماتة عند الأعداء بدلاً من كونه نكاية بهم وأضعافا لصفهم فكم سمعنا عن أعمال فرح بها الأعداد المحاربون وشرق بها المسلمون المشفقون .
خامسا: ذلك التساهل المخيف في الدماء أمر مستهجن وبخاصة دماء المسلمين لان شان سفك الدم بغير حق مما جاءت شريعتنا وكل الشرائع قبلها باستنكاره وتجريمه وهل هناك اعظم من قول الله تعالى المسطور في الكتب السابقة والمنقول إلى الكتاب الخاتم ( انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما احيا الناس جميعا ) " المائدة : 32 " ووصية الله تعالى في قوله ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون ) " الانعام : 151 "
ولذلك جاء حرص الشريعة على التحرز في أمر الدماء حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم " لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن ، اكبهم الله في النار " ولنلحظ هنا التعبير بـ ( مسلم ) أي : مسلم واحد فما بالكم أن كان عشرة أو عشرين أو مائة لقد بلغ شان التحرز من الدماء المعصومة أن قال الله – سبحانه وتعالى – ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً اليماً ) " الفتح : 25 "
أي : ولولا أن بين المشركين في مكة قبل الفتح من يكتم إيمانه ويخفيه لسلط الله المسلمين عليهم فلقتلوا المشركين وابادوا خضراءهم ولكن بين إفنائهم من المؤمنين أقوام لا تعرفونهم حالة القتال ولهذا أخر الله عقوبة المشركين حتى يخلص من بين أظهرهم المؤمنين .
فهذا إن وطئوهم وتسببوا في قتلهم بغير علم حيث لم يعلموهم فكيف إذا كانوا يعلمون وكيف أن كانوا يتقصدون ؟ أن المعرة أي الإثم والغم والغرم والشدة لابد أن تلحق بالمسلمين بسبب هذا القتل قال الشيخ ابن عاشور " فتصيبك منهم معرة : أي ما تكرهونة من ضر أو غرم أو سوء قاله ومن إثم يلحق القائلين إذا لم تثبتوا فيمن يقتلونه . ومن قاله يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينج أهل دينهم من ضربهم ليكرهوا الناس في الإسلام وأهله ، والمعرة لابد أن تصيب المؤمنين عندما يرون قتيلا لا يدري فيم قتل أو قاتلا لا يدري فيما قتل وقد اشتد وعيد الكتاب الحميد على ذنب الوقوع في الدماء حتى انه لم يأت وعيد في القران بعد الشرك أعظم من الوعيد بقتل المؤمن : ( ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما)" النساء: 93 " ومن اجل هذا الوعيد الشديد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يزال المرء في فسحه من دينه ما لم يصب دماً حرماً "
فالتحريم الشديد في أمر الدماء وتحاشى إزهاق الأرواح بغير حق أهم واخطر وأوجب من وضع الخطط وحشد الأنصار لانه مسالة جنة أو نار " لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم يسفك بغير حق " وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من أفعال من لا يتحرز في الدماء ولا يتحاشى في شان الأرواح بين ظهراني المسلمين فقال : " ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه .
سادسا : ما يقال في التسرع في الدماء فيقال في التسرع في الأحكام من تكفير أو تبديع أو تحليل أو تحريم فما تسرع متسرع في الدماء إلا بعد التسرع في الأحكام والأحكام في المسائل الكبرى من الشريعة والعقيدة لها أهلها ومتخصصوها الراسخون في العالم ولا ينبغي تجاوزهم أو الافتتات عليهم وبخاصة ممن يستمطرون السباب النصر ويبحثون عن أسباب التوفيق فلا ينبغي الخلط بين فعل المجاهدين للدين والمجتهدين في الدين فالاجتهاد شان أخر غير الجهاد فهذا ميدان وذلك ميدان ولهذا رجاله ولذلك رجاله ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر كل نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) " التوبة :122 " .
سابعا : ضعف التأصيل الشرعي والتسرع في تنفيذ الخطط قبل اخذ حقها وحظها الوافي من الدراسة الميدانية والتقنية والشرعية هما من مظنة الوقوع في إراقة الدماء الحرام .
وقد لوحظ انه في الآونة الأخيرة المبادرة إلى استهداف أماكن غير مشروعة مثل الفنادق والمقاهي والسفارات والمدارس والأتفاق والشواطئ ....نحو ذلك من الأماكن التي لا يؤمن أبدا خلوها من أصحاب الدماء المعصومة ..........
وهؤلاء لا يحل قصدهم بحال مسلمين أو غير مسلمين ما داموا غير محاربين ولا يمكن الاحتجاج بان الأعداء يتترسون بالمسلم منهم فهذا ما لم يحدث أبدا في كل ما جرى تنفيذه في بلدان متفرقة من العالم وحتى صاحب النفس المعصومة لو تترس به الأعداء فان جمهور الفقهاء على انه لا يقتل إلا بشروط مغلظة تراجع في مظانها ولهذا فان المسلمين الصادقين وغرتهم من المجاهدين ينبغي ان يكونوا على ذكر دائم بان التهاون في الدماء عظيم وخطر جسيم وما يقال عن الدماء المعصومة للمسلمين يقال عنها في غير المسلمين وهم من قال الله فيهم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين ) " الممتحنة : 8 "
فاللهم أرنا وإخواننا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
مصدر الموضوع : مجلة البيان عدد رقم 219 ذو القعدة 1426هـ
لقد دعوتك بالأمس إلى فتح التلفاز لتشاهد نشرة الأخبار وتنظر إلى مآسي المسلمين ، ولكن الليلة أدعوك إلى إغلاق التلفاز لأني أريدك عشرة دقائق فقط لا تزيد دقيقة واحدة ، وسوف أستقطع هذا الوقت من وقتك الثمين والذي أكاد أجزم أنك ستخرج بفائدة كبيرة عندما تقرأ الأسطر التي كتبتها ونقلتها لك ، ولك الحق أن توافقني فيما نقلته لك واقتنعت بما جاء فيه أو تعترض وتبدي رأياً مخالفاً وستجد مني كل الاحترام والتقدير .
لقد قرأت هذا الموضوع القيم وأسطره الذهبية في افتتاحية شهر ذو القعدة لمجلة سأذكر لكم اسمها في آخر المقال طمعاً أن تقرئوا الموضوع كاملاً ، وكم كنت أتمنى أن أجد هذه الافتتاحية في صحفنا السعودية المحلية ولكن يبدو أني أخطأت النجعة وذهبت بعيدا وحلمت كثيرا !!
لقد بحثت عن هذه الأسطر الذهبية في موقع المجلة على الانترنت ولكن لم أجدها حيث أن موقعهم يقوم بإنزال عدد شوال في شهر ذو العقدة ويقوم بإنزال عدد ذو القعدة في شهر ذو الحجة ، وقلت إذا كان الأمر كذلك فإني لن أحرم أخوتي وأحبتي كتابة هذه الأسطر القيمة ، ورغم أن الدنيا قد أخذت مني ومن الكثير نصيبا نسأل الله أن يعفو ويغفر إلا أني رغبت أن يشاركني إخوتي الكرام في أخذ نصيبهم من هذا المقال ولهذا حاولت الاجتهاد قدر استطاعتي فقمت بكتابة الموضوع في جلسة اسأل الله أن لا يحرمني وإياكم أجرها .
وهذا هو الموضوع أمامكم وإني أرجوكم أن تقبلوا دعوتي وتقرئوا الموضوع حتى النهاية طمعاً في إزالة بعض الإشكال وتصحيح لبعض المفاهيم ثم لك الحق أن تبدي رأيك بكل صراحة .
عذرا على الإطالة وإن زاد الوقت عن العشر دقائق فأرجوا منكم المعذرة والسموحة
--------------------------------------------------------------------------------
اللهم أرنا الحق حقا .. !
فعندما نكبت الأمة منذ نحو ربع قرن بغزو الروس الشيوعيين لأرض أفغانستان المسلمة تداعى المسلمون في أنحاء العالم الإسلامي بكل شرائحه وطوائفه لنجدة الشعب الأفغاني والوقوف معه بالمستطاع من الجهد والمال والرجال حتى يستطيع أن يرد ذلك الاجتياح الذي كان – على ما ظهر – مقدمة لاجتياحات إمبراطورية أخرى كان يتطلع من خلالها الروس أن يصلوا إلى نفط الشرق الأوسط ومن ثم سبق الولايات المتحدة إليه .
وللحقيقة فان الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في تسعير ذلك الحرب ضد غريمها العنيد – الاتحاد السوفيتي السابق – لا لمشروعية هذه الحرب وبسالتها ضد العدوان بل كان ذلك استغلالا وانتهازية لفرصة تاريخية يمكن للولايات المتحدة أن تتمكن فيها من صد عدوها من وراء أرواح ودماء وأموال المسلمين .
وقد حدث ما حدث من انكسار العدو الروسي وانتصار الجهاد الأفغاني الذي اجمع علماء الأمة وقتها على مشروعيته ووجوبه مع اختلاف فقط في كون ذلك الوجوب وجوبا عينيا أم كفائيا ، وقد علم من قوتها أن الحرب ضد الروس في أفغانستان والتي نزلت فيه الولايات المتحدة بثقلها بطرق مباشرة وغيرة مباشرة تمكنت أمريكا فيها من حشد حلفائها من الدول لتأييدها في قهر روسيا ، وقد سهل هذا كثيرا من مهمة المجاهدين في ذلك الوقت إذ كان كيدا من الله لأوليائه ضد أعدائه ( إنهم يكيدون كيدا . وأكيد كيداً . فمهل الكافرين أمهلم رويدا ) " الطارق : 15-17 .
واليوم تتبدل الأحوال وتتغير الظروف ويجد المسلمون أنفسهم في مواجهة أخرى مفروضة ضد الولايات المتحدة وحلفائها في عدد من بلدان العالم الإسلامي لأطماع إمبراطورية أخطر من الأطماع الروسية السابقة .
وكانت أفغانستان نفسها ثم العراق أولى محطات هذه المواجهة مع ما يدبر الآن من وراء الجدران لكل من سوريا ولبنان والسودان وغيرها من البلدان ولكن المشهد اليوم اعترته اختلافات ومفارقات عجيبة وغريبة عن مشهد الأمس فالبلدان التي تعرضت للعدوان الذي لا شك في وجوب صده ورده قامت فيها هبات جريئة من مجموعة مخلصة حاولت أن تقوم بمثل ما قام به المجاهدون الأفغان أيام الحرب في أفغانستان ولكنها وجدت نفسها في بيئة دولية مغايرة وإقليمية متنافرة ومحلية متناقضة مما أثمر صدوداً شبه عام عن قبول هذا الجهاد رسمياً فضلاً عن دعمه وزاد الأمر شدة أن الإسلاميين أنفسهم بدعاتهم وعلمائهم مختلفون حول الكثير من مسائل هذا الجهاد وقضاياه لاسباب علمية أو سياسية أو حزبية أو حتى عنصرية وما كان لهم أن يختلفوا وهو ما أوقع مسيرة هذا الجهاد في ورطات متعددة وبخاصة في العراق .
ومع هذا نقول : أن الغزو الأمريكي الحاصل اليوم في العراق اخطر بمراحل من غزو الروس لأفغانستان لاعتبارات كثيرة :
هذا الانصراف الواضح عن التصدي له إقليميا وعالمياً رسميا وشعبياً بسبب أن الولايات المتحدة هي طرفه الرئيس ولهذا لم تجرؤ الكثير من الأنظمة على الاعتراض عليه بل أن الولايات المتحدة نفسها وجدت من الأنصار ضد المقاومة من العراق عالميا وإقليميا ومحليا ما كاد يشعرها ويصورها على أنها هي الضحية المجني عليها مما زادها غطرسة وجرأة في المضي في خططها التي جاءت من اجلها .
ومنها أن غزو العراق – ومن قبله أفغانستان – إنما جاء وفق خطط اسبق من التهديدات الوهمية لصدام وتداعيات مبالغ فيها لأحداث سبتمبر ، والأخطار المضخمة لما تسميه أمريكا بالإرهاب ، أنها الخطط التي يتوالى الكشف عنها والتي تستهدف ضمان تفرد أمريكا بالسيطرة على زعامة العالم طيلة القرن القادم .
ومنها أن غزو العراق – ومن قبله أفغانستان – إنما جاء في أكثر ظروف العرب والمسلمين ضعفا وتشتتاً وفي اشد الأوقات تعرضا لتداعي الأمم حيث نجح الأعداء في تحويل اهتمامات الشعوب إلى الداخل لتنكفئ كل دولة على همومها ومشكلاتها غير عابئة بالحريق المجاور لها الذي يوشك أن يطالها فيلتهمها .
ومنها أن شرائح كبرى من الإسلاميين في العالم وعلى عكس ما كان منطقياً وطبيعيا في زمان تداعي الأمم عليهم قد تغيرت اهتماماتهم وبردت حميتهم وانصرف بعضهم إلى الهموم الصغرى بل التحق بعضهم بالخنادق المعادية في وقت لا تزال النيران مفتوحة على الأمة من هنا وهناك
ومنها : أن العلمانية في العالم الإسلامي التي أضاعت الأعمار في أقوال بلا أفعال وأفكار بلا ثمار تنتقل الآن بأقوالها وأفعالها وأفكارها إلى الحصون المعادية والمعادية للامة والأوكار المحادة للدين تاركة الشعوب تلقى مصيرها الواحد بعد الأخر .
ومنها أن العراق أصبح ساحة لتصفية الحسابات والأخذ بالثارات القديمة والحديثة من الإيرانيين مرة ومن اليهود مرة ومن بعض دول الجوار مرات وهو ما جعل المقاومة في العراق تواجه أصنافاً من الأعداء الظاهرين والباطنين إلى جانب العدو الرئيسي المتمثل في الاحتلال ؟.
ولهذا نؤكد :
أن قلوب الغيورين في سائر الأمة تحترق وأكبادهم تكتوي كلما رأوا تعثرا يعرقل مسيرة هذه المقاومة أو تشوها يشوبها أو وهنا يدخل عليها فينفذ إلى سائر الجسد الذي يتداعى لها ولهذا فان هناك أموراً لا نرى مناصاً من المناصحة فيها ودواعي قلق لا يسوغ السكوت عنها ومن أهمها :
أولا : إننا أمة دعوة فعقيدتنا دعوة وجوهر عبادتنا وشريعتنا دعوة بل نحن في محبتنا وعدواتنا حملة دعوة بل حتى جهادنا وقتالنا دعوة بل هو ذرو ة سنام الدعوة .
ودعوة الجهاد وشرعته لها هيبتها ووضاءتها وسماحتها التي عرفنا بها في العالم المنصف عبر التاريخ ودخل الناس بسببها في دين الله أفواجا وواجبنا أن نحافظ على هذا السمت وتلك السمعة وهذه السيرة حتى لا نضر بأصل دعوتنا .
دعوة التوحيد هي التي يحملها منا العالم في مجلسه والداعية على منبره والمقاتل في ميدانه وكل مختص في مجال تخصصه فهي ليست حكراً على احد ونصرها ونشرها ليس مسئولية أحد دون أحد .
ثانيا : إذا كان تكثير الأنصار لنصرة الدين أمراً محموداً مطلوبا فان تكثير الأعداء وزيادة الجبهات يعد أمراً مذموماً مرفوضاً وإن من أولى مبادئ علم الإستراتيجية العسكرية مبدأ ( لا تكثر أعداءك ) فما بال أقوام أعداؤهم اكثر من أصدقائهم وأنصارهم ومع ذلك يبحثون بحثاً عن مزيد من الأعداء لا بل ينقبون عن مسارات يخسرون بها العديد من المؤيدين والمتعاطفين .
ترى في هذا الشأن خطراً جسيماً على مستقبل الجهاد لا في العراق فحسب بل في أماكن أخرى ساخنة من العالم الإسلامي ولقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينازل قوما من أعدائه ويترك ولو مرحليا منازلة قوم ، وكان ينشغل بأناس من المحاربين ويتشاغل عن أناس منهم ، وأحيان كان يتألف ويعالج قلوب فريق بينما يعاجل بالحرب والضرب فريقا آخرين ونحو ذلك مما تعج به سيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء والأتباع السائرين على هديه فما كان صلى الله عليه وسلم ينازل الجميع ولو كانوا جميعا من المحاربين في ظرف واحد ولا كان حريصاً على فتح جميع الجبهات في كل الأوقات شفقة منه وحكمه ورحمة لأنه أمين على مصلحة المسلمين حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم .
ولهذا ينبغي ألا ينقل المقاومون للمحتل الغاصب معركتهم خارج مكانها الصحيح كما حدث للأسف في أكثر من ساحة حتى لا تضيع الأهداف وتفسد الثمرات
ثالثا : الخطاب الإعلامي من اخطر المؤثرات في توجيه مسار المعركة وخطورة هذا الخطاب لا تأتى من سرعته وصدقه ومواكبته للأحداث فحسب بل من لهجته وطبيعته ومفرداته المراعية لكل من يتوجه إليه من صديق أو عدو من عالم أو جاهل وعندما يكون هذا الخطاب الإعلامي قاصراً فانه يضر بالمعركة على الأرض ويشيع الوهن والإحباط لدى المراقبين لها وبخاصة إذا تجاهل المشاعر وتغافل عن الحساسيات وضرب عرض الحائط بتعارض المصالح والمفاسد واختلاف الطباع وتباين الانتماءات والولاءات وان من اشد أضرار الخطاب الإعلامي غير المتزن الإخلال بوحدة الأمة واجتماع قلوبها على قضاياها الكبرى فالجهاد إذا توجه إلى غير ساحاته أو تجاوز غير استحقاقاته من أفراد أو منشات أو مصالح فانه قد يثير حفيظة شعب على شعب وينكأ جراح جماعة على جماعة بل وقد يحدث الانشقاقات في الصف الواحد على الجبهة الواحدة ومن عجيب الأمر أن هذا الخطاب أحيانا ما يتجاهل مستوى وعي الناس فيفترض انهم جميعا على مستوى فهم دقائق الأحكام الفقهية والاختلافات العقدية التي ينطلق منها ( هذا إن كانت صحيحة في كل الأحوال فالحاصل أن الغالبية العامة لا تفهم إلا الظواهر الواضحة ولا تعي ما تخبنه العقول وتستره القلوب : فالقاتل عند الناس قاتل والمقتول عندهم مقتول وللدماء بشاعتها وللحرائق رهبتها وكل هذه البشاعة تحتاج إلى تفسير إلى مزيد من التسعير ولنعترف بان توجه آلة الإعلام عالميا وإقليميا ليست لصالح المسلمين ولا هي في حيز قدراتهم على التحوير والتأويل فلا ينبغي إعانة الأعداء على الأمة بتقديم خدمات مجانية إعلامية تستغلها آلة شيطانية لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة . .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن تكون سمعة المسلمين حسنة والصورة لا تكون حسنة إلا إذا كان الأصل حسنا وصورة الحدث ينبغي أن تعكس حقيقة الحدث دون حاجة للتعسف في تفسيرها أو التكلف في تأويلها ولما أشير عليه صلى الله عليه وسلم بقتل من يستحق القتل من أعدائه المنافقين قال لا يتحدث أن محمداً يقتل أصحابه .
نعم ونحن لا نريد أن يتحدث الناس أن الجهاد في العراق أو في غيره من الساحات المشروعة فقد بوصلته أو حاد عن سبيله أو أن المجاهدين قد فقدوا الإنسانية أو خرجوا عن الضوابط الشرعية والقيم الإسلامية .
رابعا : اختيار ميدان الشهادة مسؤولية جسيمة فهو ليس مجرد قرار بدخول أعلى درجات الجنة في أسرع وقت من اقصر طريق .. لا فالشهادة منزلة سامقة تستهدف بذل الروح بعد إراقة الدم بغية دخول الجنة بلا سابقة حساب ولا عذاب وهذا أعلى درجات قدرة الإنسان على الفعل ولكن هناك أفعالاً لابد أن تسبق هذا الفعل حتى يتوج بغايته ويصل المرء به إلى بغيته وأعلى هذه الأفعال إخلاص النية والاجتهاد في إصابة الصواب ، أما النية فظننا أن أكثر من يوفق إلى هذا المستوى من الرغبة في البذل وراءه نية صافية صادقة ولكن نية الصادق لا تكفيه حتى يضم إليها الفعل الصائب المنضبط بضوابط الشريعة ومع علمنا بأن الحرب حرب يحدث فيها ما لم يكن وارداً أو مراداً من الأخطاء والأخطار إلا أن الأصل العام أن الجهاد ليس مجرد حرب وضرب فليس كل القتال جهادا وليس كل الجهاد معصوما بل ليس كل من مات مقتولا كان شهيدا مقبولا فدون كل ذلك تصحيح النوايا وتصويب الأعمال ولهذا فان التغرير بالنفس لدفعها لميدان الشهادة لا ينبغي أن يتحول بهذه النفس من قمام المقاتل في سبيل الله إلى مقام القاتل لعباد الله ولا ينبغي أيضا أن يتحول عن جبر كسور لأمة إلى كسر قلبها وإدخال الحزن عليها ولا ينبغي كذلك أن يصير فرحاً وشماتة عند الأعداء بدلاً من كونه نكاية بهم وأضعافا لصفهم فكم سمعنا عن أعمال فرح بها الأعداد المحاربون وشرق بها المسلمون المشفقون .
خامسا: ذلك التساهل المخيف في الدماء أمر مستهجن وبخاصة دماء المسلمين لان شان سفك الدم بغير حق مما جاءت شريعتنا وكل الشرائع قبلها باستنكاره وتجريمه وهل هناك اعظم من قول الله تعالى المسطور في الكتب السابقة والمنقول إلى الكتاب الخاتم ( انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما احيا الناس جميعا ) " المائدة : 32 " ووصية الله تعالى في قوله ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون ) " الانعام : 151 "
ولذلك جاء حرص الشريعة على التحرز في أمر الدماء حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم " لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن ، اكبهم الله في النار " ولنلحظ هنا التعبير بـ ( مسلم ) أي : مسلم واحد فما بالكم أن كان عشرة أو عشرين أو مائة لقد بلغ شان التحرز من الدماء المعصومة أن قال الله – سبحانه وتعالى – ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً اليماً ) " الفتح : 25 "
أي : ولولا أن بين المشركين في مكة قبل الفتح من يكتم إيمانه ويخفيه لسلط الله المسلمين عليهم فلقتلوا المشركين وابادوا خضراءهم ولكن بين إفنائهم من المؤمنين أقوام لا تعرفونهم حالة القتال ولهذا أخر الله عقوبة المشركين حتى يخلص من بين أظهرهم المؤمنين .
فهذا إن وطئوهم وتسببوا في قتلهم بغير علم حيث لم يعلموهم فكيف إذا كانوا يعلمون وكيف أن كانوا يتقصدون ؟ أن المعرة أي الإثم والغم والغرم والشدة لابد أن تلحق بالمسلمين بسبب هذا القتل قال الشيخ ابن عاشور " فتصيبك منهم معرة : أي ما تكرهونة من ضر أو غرم أو سوء قاله ومن إثم يلحق القائلين إذا لم تثبتوا فيمن يقتلونه . ومن قاله يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينج أهل دينهم من ضربهم ليكرهوا الناس في الإسلام وأهله ، والمعرة لابد أن تصيب المؤمنين عندما يرون قتيلا لا يدري فيم قتل أو قاتلا لا يدري فيما قتل وقد اشتد وعيد الكتاب الحميد على ذنب الوقوع في الدماء حتى انه لم يأت وعيد في القران بعد الشرك أعظم من الوعيد بقتل المؤمن : ( ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما)" النساء: 93 " ومن اجل هذا الوعيد الشديد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يزال المرء في فسحه من دينه ما لم يصب دماً حرماً "
فالتحريم الشديد في أمر الدماء وتحاشى إزهاق الأرواح بغير حق أهم واخطر وأوجب من وضع الخطط وحشد الأنصار لانه مسالة جنة أو نار " لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم يسفك بغير حق " وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من أفعال من لا يتحرز في الدماء ولا يتحاشى في شان الأرواح بين ظهراني المسلمين فقال : " ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه .
سادسا : ما يقال في التسرع في الدماء فيقال في التسرع في الأحكام من تكفير أو تبديع أو تحليل أو تحريم فما تسرع متسرع في الدماء إلا بعد التسرع في الأحكام والأحكام في المسائل الكبرى من الشريعة والعقيدة لها أهلها ومتخصصوها الراسخون في العالم ولا ينبغي تجاوزهم أو الافتتات عليهم وبخاصة ممن يستمطرون السباب النصر ويبحثون عن أسباب التوفيق فلا ينبغي الخلط بين فعل المجاهدين للدين والمجتهدين في الدين فالاجتهاد شان أخر غير الجهاد فهذا ميدان وذلك ميدان ولهذا رجاله ولذلك رجاله ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر كل نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) " التوبة :122 " .
سابعا : ضعف التأصيل الشرعي والتسرع في تنفيذ الخطط قبل اخذ حقها وحظها الوافي من الدراسة الميدانية والتقنية والشرعية هما من مظنة الوقوع في إراقة الدماء الحرام .
وقد لوحظ انه في الآونة الأخيرة المبادرة إلى استهداف أماكن غير مشروعة مثل الفنادق والمقاهي والسفارات والمدارس والأتفاق والشواطئ ....نحو ذلك من الأماكن التي لا يؤمن أبدا خلوها من أصحاب الدماء المعصومة ..........
وهؤلاء لا يحل قصدهم بحال مسلمين أو غير مسلمين ما داموا غير محاربين ولا يمكن الاحتجاج بان الأعداء يتترسون بالمسلم منهم فهذا ما لم يحدث أبدا في كل ما جرى تنفيذه في بلدان متفرقة من العالم وحتى صاحب النفس المعصومة لو تترس به الأعداء فان جمهور الفقهاء على انه لا يقتل إلا بشروط مغلظة تراجع في مظانها ولهذا فان المسلمين الصادقين وغرتهم من المجاهدين ينبغي ان يكونوا على ذكر دائم بان التهاون في الدماء عظيم وخطر جسيم وما يقال عن الدماء المعصومة للمسلمين يقال عنها في غير المسلمين وهم من قال الله فيهم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين ) " الممتحنة : 8 "
فاللهم أرنا وإخواننا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
مصدر الموضوع : مجلة البيان عدد رقم 219 ذو القعدة 1426هـ