تسجيل الدخول

View Full Version : مائة عام على وفاة الشيخ محمد عبده - الاصلاح الديني طريق الى الخلاص


أبو يحى
19-01-2006, 01:38 AM
مــــــئـــة عــــــام عــــلـى وفـــــــاة مـــحــــــمــــد عـــــــبـــده
الاصلاح الـديـني طريق الى الخلاص

تزامن في شهر كانون الاول عام 2005 حدثان: الاول، مرور قرن على وفاة أحد رواد النهضة العربية الاسلامية الشيخ محمد عبده، والثاني: انعقاد القمة الاسلامية في مكة. رغم مرور مئة عام بين الحدثين، الا انهما يتشابهان في العناوين التي يطرحانهما. دعا محمد عبده الى اصلاح ديني اجتماعي علمي تربوي، وركز على التجديد في الدين واستخدام العقل في مواجهة الخرافات، وناهض الاستبداد وقال بحرية الاعتقاد والتفكير والتعبير. في المقابل شددت القمة الاسلامية على ادانة التطرف الاسلامي لانه لا يتفق والقيم الاسلامية، ودعت الى معالجة جذوره السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر الفكر والاقناع والموعظة الحسنة، واكدت ضرورة ايجاد رؤية اسلامية واضحة وجديدة تنشر الافكار الوسطية التي تعبّر عن المفاهيم الحقيقية للاسلام.

تلتقي الدعوتان بالتشديد على اولوية الاصلاح. هدفت دعوة محمد عبده الى معالجة اسباب تأخر المسلمين عن الغرب، فدعت الى ايجاد الوسائل المساعدة للحاق بالتطور والتقدم. كما اختارت القمة الاسلامية الاصلاح طريقاً لمواجهة التطرف والارهاب اللذين تمارسهما المنظمات والحركات الاسلامية الاصولية التي شوهت صورة الاسلام وجعلت منه عنواناً للعنف. لكن المضمر الفعلي الذي يختفي وراء الدعوتين هو الحاجة الى الاصلاح الديني في معناه الشامل.

لا يعيب العالم العربي وصفه المشابه لمرحلة شهدتها، اوروبا في القرون الوسطى عشية الاصلاح الديني الذي اطلقه مارتن لوثر. ورغم مظاهر التحديث والتمدن السائدة، الا ان هوّة سحيقة لا تزال تفصل بين البنى العقلية والفكرية المهيمنة، والبنى العلمية والفكرية التي كانت وراء مظاهر التحديث في العالم العربي. يشكل الفكر الديني السائد، والطريقة التي يتم فيها توظيف الدين في السياسة، عقبات اساسية في وجه التطور المنشود وعلى جميع المستويات. لذلك يشكل الاصلاح الديني حلقة مركزية وشرطاً ضرورياً لنجاح الاصلاحات السياسية والاجتماعية والتربوية. يتطلب هذا الاصلاح معالجة عدد من القضايا المفتاحية والموروثة والمهيمنة بشكل واسع على البنية الفكرية العربية والاسلامية.



اعادة تحديد

يحتاج الاصلاح الديني الى اعادة تحديد لمفهوم الدين. على امتداد التاريخ العربي الاسلامي جرى المزج بين الدين كمفهوم وقيم من جهة والطقوس والشرائع من جهة ثانية، بحيث بات تعريف الدين يتم من خلال انتسابه الى هذه القضايا التطبيقية من الطقوس. يحتاج الامر الى الفصل بين جوهر الدين ومتطلبات ممارسته في الحياة اليومية. يستدعي ذلك اعادة الاعتبار الى الدين في صفته الروحية والانسانية، وفي علاقة الانسان بربه. مما لا شك فيه ان الانسان يعيش توتراً روحياً داخلياً وحنيناً للخلود والابدية، مما يجعله في حاجة دائمة الى تجاوز وقائع حياته المادية ليعانق هذا البعد الروحي. تفتح هذه الاستعادة للبعد الروحي، المجال مباشرة على رؤية للدين في وصفه قيماً انسانية تتجاوز حقاً الزمان والمكان. وهي قيم يسود فيها الحب والعدالة والمعاملة الحسنة والمساواة واحترام كرامة الانسان والعمل الصالح، وغيرها. كما تتصل هذه الرؤيا بمسألة لا تزال جدالية تتعلق بما اذا كان الدين قد وُجد لخدمة الانسان، ام إن الانسان خُلق ليخدم الدين. ان النظرة القائلة بأن الدين قد وجد لهداية الانسان وتهذيب سلوكه وحسن تعامله مع اخيه الانسان، تعطي الدين دوراً ايجابياً ومهماً في المجتمع. في هذا المعنى يصبح الدين حاجة بشرية واجتماعية واخلاقية.

في موازاة ابدية القيم الروحية والانسانية للدين، يحتاج الاصلاح الديني الى اعادة قراءة الطقوس والشعائر وما ترتب عليها من مفاهيم وعادات ودور في الممارسة الدينية. يحتاج الدين، كل دين من دون استثناء، الى ترجمة مبادئه بشكل ملموس. تشكل الطقوس تجليات مادية تقرّب المواطن من فهم المسائل الدينية التي يتسم الكثير منها بالرمزية والمجاز، وبالروحانية تالياً. على مدار التاريخ تحولت هذه الطقوس والشعائر الى التماهي مع المبادئ الدينية، بل وحتى الى بديل منها. تحتل اعادة الفصل بين الدين، جوهراً وقيماً، والطقوس والشعائر، اهمية فائقة في تخليص الدين من الشوائب التي ألحقت به ولا تزال، والتي وصلت الى حد تقديس مسائل حياتية مبتذلة، وذلك من طريق اضفاء الصفة الدينية عليها. وهذا موضوع دخل في الصراعات السياسية والايديولوجية، وشكّل مادة للتكفير والنبذ من القوى الدينية المتزمتة.

تمثل قراءة النص الديني، القرآن، احدى أهم الحلقات المركزية في الاصلاح الديني المنشود. يحتل النص القرآني اولوية لدى المرجعية الاسلامية في صفته دستور المسلمين في كل مكان وزمان. يجري تصنيفه في صفته كتاباً الهياً منزلاً يحوي كل الاجوبة الفكرية والدينية والعلمية والاجتماعية وحتى الاقتصادية. يحوي القرآن بالتأكيد اموراً كثيرة تتصل بالمسائل الروحية والانسانية والاجتماعية، لكنه في المقابل يحوي ايضاً قضايا تتسم بالرمزية والتشبيه تبدو اقرب الى الخيالات والاساطير البعيدة عن المنطق. يحتاج النص الديني الى قراءة تتسم بوجهين مترابطين: الاول، استخدام العقل والمنطق في تفسير الآيات، بما يتيح الوصول الى فهم علمي للنصوص غير العقلانية الواردة. والثاني، يتصل باستخدام المنهجية التاريخية في قراءة النص. بشّر القرآن برسالة دينية، وصارع المفاهيم السائدة زمن الجاهلية، وأكد قيماً روحية وانسانية هادية للبشر.

خاطب النص بيئة اجتماعية محددة في الجزيرة العربية، لها قيمها وقوانينها وعاداتها وتقاليدها. كما واجه قوى سياسية واجتماعية حاربت الدعوة الاسلامية وسعت الى منع انتشارها. نجم عن ذلك هذا الخليط من النص على مبادئ دينية وعلى تشريعات اجتماعية تستجيب الواقع والمكان الذي تعمل فيه الدعوة. مما يعني النظر الى هذه التشريعات في صفتها تعبيراً عن حاجة في ظرف تاريخي محدد، يستحيل سحبها على باقي مراحل التاريخ اللاحق وصولاً الى زمننا الراهن. ترتبط هذه المسألة مباشرة بقضية ألوهية النص ومنع الاجتهاد في شأنه. تستحيل ملامسة الاصلاح الديني من دون النقاش في ألوهية النص واعادته الى موقعه في وصفه نصاً له تاريخ وزمان محددان. ان امتناع المؤسسة الدينية الاسلامية عن الخوض في نقاش هذا الموضوع، يعطي قوى التطرف الاسلامي حجة في اضفاء الشرعية الدينية على اعمالها الارهابية. يحوي القرآن في غالبيته آيات تحض على التزام القيم الانسانية والدعوة الى التسامح والحب بين البشر، لكنه يحوي ايضاً آيات تشرّع قتل الكفّار والمرتدين عن الاسلام، وهي آيات نزلت في ظروف محددة تتصل بنشر الدعوة الاسلامية ومحاربة مناهضيها. يؤدي الاصرار على ألوهية النص وعدم اسقاط آيات العنف منه، الى اعطاء المشروعية للفكر الاصولي المتطرف بأن ممارساته هي الجهاد الذي نص عليه كتاب الله ودعا الى تطبيقه.

ينسحب الامر نفسه على التراث وكيفية قراءته والتعامل معه. شكّل تقديس التراث احدى العقبات في وجه الاصلاح الديني. اختزل الهوية العربية الاسلامية واستخدم متراساً في وجه التفاعل الحضاري مع الثقافات الاخرى. استحضر دائماً كفزاعة لتأكيد خصوصية العرب وتفوقهم الحضاري وعدم حاجتهم الى الافادة من منجزات الغرب. تشكل القراءة التاريخية لهذا التراث وفرز قضاياه والأخذ بما يتوافق مع العصر والتخلي عما تجاوزه الزمن، حاجة لا بد منها من اجل انخراط العرب في العالم وسعيهم الى التطور والتقدم.

تحتل مسألة استخدام الدين في السياسة اهمية كبرى، اذ ليس صحيحاً ان الاسلام دين ودولة. الاسلام دين اولاً واخيراً. باستثناء مرحلة الرسالة التي كان على الرسول ان يجيب عن حاجات تتصل بالواقع الملموس، لم يعرف التاريخ الاسلامي حالاً مشابهة، وهذا شأن طبيعي. اتسم التاريخ العربي الاسلامي منذ الساعات الاولى لوفاة الرسول بالصراع على السلطة بين المكونات السياسية القبلية والعائلية السائدة. لم تكن الطوائف والمذاهب التي نشأت لاحقاً سوى التعبير عن هذا الصراع وما ولّده من انقسامات. تؤكد وقائع التاريخ استخدام السلطة السياسية للدين من اجل اسباغ المشروعية عليها وتوظيف المؤسسة الدينية في اعطاء الفتاوى الشرعية للقرارات السياسية. لا يشير التاريخ الى مراحل سادت فيها المؤسسة الدينية وفرضت مبادئها، باستثناء بعض حالات من تمرد رجال دين ورفضهم تشريع ممارسات السلطة السياسية، وهو رفض كان رجال الدين المتمردون يدفعون ثمنه اضطهاداً وقهراً. من هنا، تشكل الدعوة الى فصل الدين عن الدولة مسألة مركزية في الاصلاح الديني. يحتاج الدين الى ان يعود الى مجاله الروحي والانساني المبشر بهداية البشر، فيما على السلطة السياسية ان تستمد مشروعيتها من الشعب، انطلاقاً من قوانين موضوعية تستجيب حاجاته.

هل يستقيم الاصلاح الديني بمعزل عن الاصلاح السياسي في العالم العربي؟ يكتسب السؤال مشروعيته من النظر الى الحقبة التاريخية التي مضت على محاولة محمد عبده، ومن طبيعة الانظمة التي اجتمعت قياداتها في قمة مكة حديثاً وقالت بالاصلاح. اجهضت دعوة محمد عبده لعدم توافر الاطر السياسية والاجتماعية القابلة لحمل الدعوة والسير بها على غرار ما عرفته اوروبا مع دعوة لوثر الاصلاحية. اما دعوات قمة مكة فليست أكثر من اصدار مراسيم ودعاوى اصلاحية تفتقر الى الحد الادنى من الموجبات التي تتطلبها هذه الدعوات الى الاصلاح.

يصعب تحقيق الاصلاح الديني في العالم العربي راهناً من دون توافر شروط سياسية واجتماعية يمكن اختزالها في تحقق الديموقراطية. يشكل الاعتراف بحرية الرأي وحمايته، والنقاش الفكري حول القضايا الدينية الخلافية، والسماح بحق الاجتهاد ومخالفة الرأي السائد شروطاً ضرورية. كما تحتاج هذه الموجبات الى سلطة تمنع التكفير واهدار دم المجتهدين والمخالفين للرأي. كما يحتاج هذا الاصلاح ايضاً الى سياسات اجتماعية ووطنية واقتصادية تستجيب حاجات المواطن وتقدمه وتطوره.

تضطلع المؤسسة الدينية بدور مهم في نجاح الاصلاح الديني. اعتمدت محاولات الاصلاح الاولى اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين على مبادرات رجال دين من امثال جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق. يستطيع رجال الدين الاصلاحيون خفض معركة الاصلاح داخل المؤسسة الدينية بفاعلية اكبر بكثير من العلمانيين ومن قوى لا تنتسب الى المؤسسة. بل ان معركة الاصلاح الديني محكومة بأن يكون ميدانها الاول المؤسسة الدينية نفسها.

يحق للعالم العربي ولمؤسساته السياسية والمدنية ولسلطاته الحاكمة ان ترى في التطرف الاصولي مصدراً لارهاب يطاول الدولة والمجتمع، ويهدد بتدمير منجزات التحديث واعادة الشعوب العربية الى مراحل الانحطاط. لكن مواجهة هذا الارهاب تستدعي تكوّن ثقافة مناهضة، دعامتها حرية العقيدة والرأي والاجتهاد وحق التعبير والعمل، والاعتراف بالآخر، وهي قضايا لا يزال العالم العربي بعيداً عن العمل بها. اما الاصلاح الديني المقترن بالاصلاح السياسي فهو احد الطرق الموصلة الى الخلاص