PDA

View Full Version : تعريف بسيرة عظماء مجهولين


أسد الدين شيركوه
17-02-2006, 11:55 AM
- - -
هناك رجال ينبغي أن نقرأ تاريخهم ونتعلم منهم، هؤلاء هم الرجال الذين بعثهم الله للإنقاذ والتحرير،
هؤلاء الرجال أمثال عماد الدين زنكي التركي وابنه نور الدين محمود الذي لقب بالشهيد ،
وتلميذه صلاح الدين يوسف بن أيوب ومن بعدهم الظاهر بيبرس البندقداري القائد المملوكي،
وغيرهم وغيرهم ....

لابد أن نتعلم من هؤلاء ماذا صنعوا ؟
وهذه مقتطفات من سيرة أحد عظماء هذه الأمة ..

نور الدين محمود بن زنكي
أيها الأخوة كثير من المسلمين يجهلونه ولا يعرفون قيمته في التاريخ،
يقول ابن الأثير رحمه الله في كتابه الكامل في التاريخ :
(لم يعرف بعد عمر بن عبد العزيز أمير كان مثل نور الدين محمود بن زنكي
في عدله وتقواه وزهده وشجاعته وحسن سيرته في الناس)

بعد عمر بن عبد العزيز لم يظهر مثله، هذا الرجل الذي ورث الملك عن أبيه، ورث حلب والموصل والشام وبلاد الجزيرة
وأراد بعد ذلك أن يضم إليها مصر لأن مصر مهمة إذا انضمت إلى هذه القوة يمكنها أن تفعل شيئاً في حرب الصليبيين،

كان هذا الرجل مثالاً للإنسان المسلم التقي العادل المجاهد، وكان يلقب بالملك العادل
وهو عادل فعلاً، أول شيء كانت علاقته بربه على أعظم ما يكون:
تعلم العلم وقرأ القرآن والحديث والفقه على المذهب الحنفي،
ولكنه لم يكن متعصباً لمذهبه، كان يكرم العلماء من كل المذاهب
وكان إذا دخل عليه الأمراء هابوه ووقفوا بين يديه قائمين حتى يأذن لهم بالجلوس،
ولكن إذا دخل عليه عالم أو فقيه أو رجل صالح من أفقر الناس قام له وهش له
وأجلسه بين يديه أو بجواره، هكذا كان هذا الرجل،
كان كثير القراءة للقرآن والتلاوة له، كان كثير القراءة للكتب الدينية،
أراد أن يفقه نفسه إلى تفقهه على مشايخ عصره وعلى علماء عصره،
كان من قوّام الليل، كان يقوم الليل ويتضرع إلى الله تبارك وتعالى في سجوده
أن يكتب له النصر ويسأله الشهادة، وإن لم يرزق هذه الشهادة، عاش طول عمره يتمنى الشهادة
ولكنه قال :
يبدو أني لست أهلاً لهذه الشهادة ولهذا لم يرزقني الله إياها،

ومن حبه للشهادة وسؤاله إياها ورغبته فيها لقبه الناس المسلمون نورالدين محمود الشهيد
وهو لم يستشهد ولكن لتعلقه بالشهادة سماه الناس الشهيد،
وقد جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" روى ذلك مسلم في صحيحه،
عاش نور الدين محمود وهو رجل خاشع لربه متضرع له خائف منه
قائماً لليل،صواماً للنهار وكان يقوم الليل هو وزوجته خاتون،
حتى أن امرأته أصبحت مرة فوجدها حزينة آسفة
فقال لها : ما بالك؟ قالت :غلب علي النوم فلم أقم لليل....!! ( انظروا حال نساءنا اليوم !!؟ )

فأمر أن تقام طبلخانة (مكان للطبل) تأتي قبل الفجر بنحو ساعة أو بنحو ذلك وتضرب الطبل لمن يريد أن يقوم الليل،
هذا ما كان يشغل هذا الرجل ويشغل أهل بيته،
كان يقرأ الحديث ويتعلمه على أيدي شيوخ الحديث في زمنه وقد أجيز بعلم الحديث،
ففي علم الحديث شيء اسمه الإجازة أن يعطيك عالم الحديث إجازة مثل شهادة بأن من حقك أن تروي الحديث،
وفي مرة من المرات روى حديثاً مسلسلاً بالابتسام، ما معنى مسلسل بالابتسام ؟
أي أن راوي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وتبسم، فالصحابي الذي يروي الحديث
حينما يروي الحديث يتبسم كما تبسم النبي صلى الله عليه وسلم، أي يروي الحديث قولاً وفعلاً،
والتابعي الذي يروي عن الصحابي يقول كذا وتبسم ثم يتبسم هو كما تبسم الصحابي الذي روى عنه،
وتابعي التابعي وكل واحد يروي الحديث يبتسم في نهاية الحديث ولما روى نور الدين محمود هذا الحديث لشيخه لم يتبسم .
فقال له : تبسم يا نور الدين حتى تكتمل الرواية قولاً وفعلاً .
فقال له : كيف لي أن أتبسم وثغر من ثغور المسلمين محاصر؟؟

كان الصليبيون يحاصرون دمياط فقال له من أين يأتيني الابتسام لا أجد الابتسام على شفتي وثغر من ثغور المسلمين محاصر،
انظروا إلى هذه النفسية التي لا تستطيع أن تتبسم في مثل هذا الموقف، لا يجد ابتسامة،
إنه مشغول بهموم هذه الأمة، هذا لون من الناس.

والحق أن نور الدين محمود كان شخصية فريدة :

علم نفسه فنون الفروسية، الرماية والقتال والرياضة، وكان يلعب الكرة بالجياد، يركب الجياد
ويأخذ الكرة وهي طائرة وأحيانا يلتقطها من الجو وقد لامه بعض العلماء في ذلك كأن هذا نوع من اللعب، فقال له :
إنما الأعمال بالنيات، نحن قوم مجاهدون ولا نريد أن ننسى الجهاد ولا أن تنسى خيلنا الحركة والمعاناة دائماً فنحن نمرن خيلنا ونمرن أنفسنا حتى لا ننسى، وإنما لكل امرئ ما نوى . ( انظروا نيته في الرياضة ، وقارنوها بنية الرياضيين اليوم !؟!
)
كان رجلاً شجاعاً لا يهاب الموت في سبيل الله
وكان رجلاً عادلاً، كان يعدل بين الناس، بين الصغير والكبير،
أقام مجلساً للعدل وللنظر في المظالم، فتح بابه للناس جميعاً، كل من عنده مظلمة عليه أن يتقدم إلى الأمير أو الملك العادل نورالدين،
يجلس مرتين في الأسبوع وقيل أربع وقيل خمس مرات في الأسبوع ليتلقى مظالم الناس على أي واحد من قواده أو أمرائه أو ولاته
وقد رأى أن بعضهم لم يصل إليه مظلمة من قبله وهو أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين،
لم يتقدم أحد يقول أنه ظلمه وذلك أن أسد الدين قال للناس :
من كان له مظلمة فليأتي إلي ولا يفضحني عند نورالدين لأرفع المظلمة عنه،
فلما سأل لماذا لم يتقدم أحد ضد أسد الدين ؟
قالوا له : أنه قال للناس كذا، فمن كان له مظلمة ذهب إلى أسد الدين فرفع عنه مظلمته..
فسجد لله شكراً وقال : الحمد لله الذي وفق ولاتي إلى هذا ..
كان رجلاً حريصاً على إقامة العدل وكان يراقب الله في كل صغيرة وكبيرة وينفذ شرعه ويقول نحن خدم محمد صلى الله عليه وسلم وخدم شرعه.

واقترح عليه بعض ولاته أو وزرائه أن يزيد في العقوبة عن الحد الشرعي وقالوا له :
أن هناك بعض العتاة من المجرمين لا تكفيهم الحدود الشرعية فلابد أن نؤدبهم بأكثر مما جاء في الحدود حتى يرتدعوا.
فكتب إليه يقول :
(سبحان الله كيف تقترح علي مثل هذا كأنك تقول أنني أعلم من الله عز وجل
وأن ما نقترحه من عند أنفسنا أعدل من شرع الله عز وجل والله لا أفعل ذلك ولا أتعدى حدود الله أبدا )

وبهذا رأى الرجل أن أي افتئات على الشرع بالزيادة أو النقصان إنما كأنما يفضل الإنسان عقله على علم الله تبارك وتعالى،
هذا الرجل العظيم قال له بعض العلماء مثل الشيخ قطب الدين في يوم من الأيام :
يا أمير المؤمنين لا تخاطر بنفسك، وقد كان يدخل في الجيش ويحارب ولا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه..
فقال له : لا تخاطر بنفسك فإنك إن قتلت فسد الحال وضاع المسلمون وضاع الدين إلى آخر ما قال..

فقال له: اسكت يا قطب الدين، لا تقل هذا الكلام، هذه إساءة أدب مع الله عز وجل،
من كان يحرس الدين ومن كان يحمي المسلمين قبل محمود بن زنكي ؟
إن الله عز وجل هو حامي الدين وهو المدافع عن المؤمنين فلو مت أو قتلت لبعث الله من يحمي هذا الدين ويدافع عنه ممن لا نعلم عنه .
انظروا إلى هذه الحساسية من هذا الرجل، يقول أنت تسيء الأدب إذا قلت أنك إذا هلكت أو قتلت
ضاعت الأمة وضاع الدين، لست أنا الذي أحمي الدين ولست أنا الذي أحمي الأمة، الله هو الحامي وهو المدافع عن الدين وعن الأمة،

وكان الخطباء يدعون له في المنابر بألقاب ضخمة :
(اللهم انصر عبدك نورالدين بن محمود بن زنكي، معز الدين وناصر الدولة ومجد الأمة وكذا وكذا )
فأمر بحذف هذا كله وقال قولوا :
(اللهم انصر عبدك ابن عبدك محمود بن زنكي وأصلح حاله ولا تزيدوا على ذلك)
وبعض العلماء اقترح عليه قالوا هل هناك مانع أن نقول :
(اللهم انصر عبد الخاضع لهيبتك الراجي لرحمتك المرابط في سبيلك المقاوم لأعداء دينك .. ومثل هذا الكلام)
فقال إذا لم يكن فيه كذب فلا باس أما المدائح الكاذبة والمبالغات الزائفة فلا تجوز

هكذا كان هذا الرجل العظيم، هذا الرجل قاوم الصليبيين وأسرهم، أسر منهم من أسر وقتل منهم من قتل،
وأسر بعض الملوك يوماً، ثم فاوضه هذا الملك أن يدفع له مبلغاً كبيراً من المال ويفديه
وشاور العلماء والوزراء والأمراء من حوله،
فبعضهم قال له اقتله وأرح المسلمين من شره،
وبعضهم قال له : نأخذ المال نتقوى به في الجهاد في سبيل الله،
ثم ترجح له أن يقبل الفداء منه ويأخذ المال ليتقوى به في الجهاد

وبعد أن أخذ كأنه لام نفسه،فلما ذهب هذا الملك إلى بلاده أدركه الموت وأخذه الله
وجاء الخبر إلى نور الدين فقال :
الحمد لله، كفانا الله شره وأخذنا منه الفدية لمصلحة الجهاد ومصلحة المسلمين.

كان هذا الرجل يعمل باستمرار على تنفيذ شرع الله وعلى رفع الظلم عن الناس،
هذا الفداء الذي أخذه من هذا الملك بنى به (بيماريستان) مستشفى خيرياً كبيراً
ومعروف في التاريخ (بيماريستان نورالدين محمود) في دمشق، لم يبن مثله قبله ولا بعده،

مستشفى للفقراء والمستضعفين من الناس، يدخل الإنسان فيه يعالج مجاناً

ويبقى فيه إلى أن يشفى ويخرج ،، ويهيأ له المأكل والمشرب والدواء وكل الرعاية المطلوبة

ولا يدخلها الأغنياء إلا بأجر إلا إذا كان الدواء الذي يحتاج إليه الأغنياء لا يوجد إلا في هذه
المستشفى فيسمح لهم بالتداوي به، هذا ما فعله هذا الرجل.

حينما أخذ الغنائم رفع المكوس عن المسلمين، الضرائب التي كانت تؤخذ من الناس،
وكان الناس يشكون منها، فرفع عنهم هذه المكوس الجائرة والمبالغة وأعفى الناس منها ..
فدعا الناس له في المشارق والمغارب وقال للعلماء قال لهم :
أحلوني من الناس، اطلبوا من الناس أن يحلوني وأن يعفوني مما حدث
ومما أخذت منهم قبل ذلك وقولوا لهم أن ما أخذناه منهم والله لم ننفقه إلا في الجهاد في سبيل الله
وفي الدفاع عنهم وعن بلادهم وعن أولادهم ونسائهم،
فكان العلماء يطلبون ذلك من الناس،
يريد الرجل أن يلقى الله وليس في عنقه مظلمة لأحد، وقد طلب من العلماء أن يفتوه بما يحل له من بيت المال،
فقالوا له : يحل لك كذا وكذا، فكان أحياناً يأخذ هذا القدر فلا يكفيه ..
فيقولون له زد، فيقول : والله لا أزيد عما أفتاني به العلماء درهماً ولا ديناراً

ويحاول أن يكفي نفسه بهذا القدر القليل ولذلك قالوا كان أقل الفقراء من الناس أعلى منه نفقة،
يكتفي بالقليل متقشفاً زاهداً في الدنيا وخزائنها بين الدنيا،
وكان له دكاكين اشتراها في حمص من ما يخصه من الغنائم فكان يأخذ منها وكانت تأتي بدخل قليل .وطلبته زوجه مرة أن نفقتها قليلة فليزد معاشها أو راتبها أو ما تأخذ، فقال لها :
من أين ؟ أتريدين أن أعطيك من بيت مال المسلمين ما لا يحل لك ؟،

مثل هؤلاء هم الذين تنتصر بهم الأمم، هم الذين تنتصر بهم الرسالات، هم الذين تتحقق بهم الغايات، هم الذين ينهزم بهم الأعداء
ولذلك كان ذكر نورالدين محمود أمام أعداءه يرعبهم ويقلقهم ويزعجهم
ويخافون من ملاقاته إذا لاقوه، لأنه رجل خاف الله فأخاف الله منه كل شيء،

كان هذا نور الدين محمود بن زنكي،الذي عاش طول عمره لله وللجهاد في سبيله وللقاء أعداءه
ولهذه المعركة التي كرس لها حياته ونذر لها نفسه ونذر لها كل قوته وقوة دولته،
هذا هو نور الدين محمود بن زنكي، وهو رجل ينبغي أن ندرس سيرته،
ما ذكرته هنا ملامح من سيرته ومقتطفات سريعة فقط ..
رحم الله نور الدين محمود ورفع منزلته في الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء

أسد الدين شيركوه
17-02-2006, 01:54 PM
وهذه بقية سيرة هذا الرجل العظيم رحمه الله
- - -- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما سيرة الرجل ( نور الدين محمود ) وما صنعه في الحياة الإسلامية:

فلقد بنى المدارس التي تعلم الناس، المدارس النورية في كل مكان
وخصوصاً في بلاد الشام، مدارس الحديث.... أول من بنى مدرسة للحديث هو نور الدين محمود،
بنى هذا لأنه لا يمكن أن تقيم الجهاد ، إلا إذا أصلحت الجبهة الداخلية،
إلا إذا أعددت الشعب بالتعليم، هو كان من ناحية يعد الناس للجهاد وينفخ في الشعب من روح الإيمان
وينشر العلم والثقافة وينشر العدل بين الناس حتى يكون الناس معك،
حتى يقول الناس جميعاً : اللهم انصر فلاناً.

إن كثيراً من حكامنا اليوم يتردد الناس إذا دخلوا معركة ، أيدعون الله أن ينصرهم أم يدعون الله
أن يأخذهم ويريح العباد والبلاد منهم،
تتردد ألسنتهم بين الخوف منهم والخوف على بلادهم،
أما نورالدين محمود فكان الناس يتمنون أن ينصره الله لأنه إذا انتصر انتصر معه الحق والعدل والخير

(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض :
أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).......

ظهر نور الدين محمود على مسرح الأحداث في النصف الأول من القرن السادس الهجري،
والناس في أشد الحاجة إلى مثله ليأخذ بيدهم من حلكة الظلام الدامس الذي اكتنف بلادهم،
منذ أن وطئتها أقدام الصليبيون، ودنست أرجلهم مدينة القدس،
ولم تلمع في الأفق بوادر الأمل وإشراقات الصباح؛ فالفوضى تعم بلاد الشام، والأمراء والحكام مشغولون بأنفسهم وأطماعهم،
والمحتل الوافد ترتفع قامته على خلافات المسلمين وتطاحنهم وتزداد قوته بتناحرهم وتنازعهم،
ولولا بقية من أمل ظلت تعمل في قلوب بعض المخلصين لحدث ما لا تحمد عقباه.

كان نور الدين مجاهدا مخلصا جياش العاطفة صادق الإيمان، ميالا إلى جمع كلمة المسلمين وإخراج الأعداء من ديار المسلمين،
مفطورا على الرقة ورهافة الشعور؛ وهو ما جذب الناس إليه، وحبب القلوب فيه.

وفي سنة (542هـ = 1147م) وصلت الحملة الصليبية الثانية على الشام بزعامة لويس السابع وكونراد الثالث،
لكنها فشلت في تحقيق أهدافها وتعرضت لخسائر هائلة، وعجزت عن احتلال دمشق،
ويرجع الفضل في ذلك لصبر المجاهدين واجتماع كلمة جيش المسلمين ووحدة صفهم،
وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي وأخيه نور الدين أكبر الأثر في فشل تلك الحملة،
واستغل نور الدين هذه النكبة التي حلّت بالصليبيين وضياع هيبتهم للهجوم على إنطاكية بعد أن ازداد نفوذه في الشام، فهاجمهم في سنة (544هـ=1149م) ...
... ونجح المسلمون في تحقيق النصر وأبادوا الصليبيين عن آخرهم،
وكان من جملة القتلى صاحب إنطاكية وغيره من قادة الفرنج وكان فرح المسلمون بهذا النصر عظيما.
آمن نور الدين بضرورة وحدة الصف، وانتظام القوى الإسلامية المبعثرة بين الفرات والنيل حتى تقف كالبنيان المرصوص أمام أطماع الصليبيين،

وكانت دمشق تقف حجرة عثرة في طريق تلك الوحدة، وكان معين الدين أنر صاحب السلطة الفعلية في دمشق
يرتبط بعلاقات ودية مع الصليبيين ومعاهدات وتحالفات، وبعد وفاته قام "مجير الدين أبق" بحكم دمشق،
وجرى على سياسة أنر في التعامل مع الصليبيين، بل أظهر ضعفا ومذلة في التعامل معهم، وأعرض عن وحدة الصف وجمع الكلمة،
وبلغ الهوان به أن وافق على أن يدفع أهل دمشق ضريبة سنوية للصليبيين مقابل حمايتهم،
وصار رسل الفرنجة يدخلون دمشق لجمع الجزية المفروضة دون أن يستشعر حاكمها خجلا أو هوانا.
ولم يسكت نور الدين على هذا الوضع المهين، واستثمر شعور الغضب الذي أبداه الدمشقيون،
ونجح بمساعدتهم في الإطاحة بمجير الدين أبق وضم دمشق إلى دولته في سنة (549هـ = 1154م)
وكانت هذه الخطوة حاسمة في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامة نور الدين:
من الرها شمالا حتى حوران جنوبا،
واتزنت الجبهة الإسلامية مع الجبهة الصليبية التي كانت تستغل حالة التشتت والتشرذم،
وتوجه ضرباتها إلى دولة الإسلام حتى إن نور الدين لم يستطع نجدة عسقلان عندما هاجمها الصليبيون
سنة (548هـ = 1153م) لأن دمشق كانت تقف حائلا دون تحقيق ذلك.

بعد نجاح نور الدين في تحقيق المرحلة الأولى من توحيد الجبهة الإسلامية لم يعد أمام الصليبيين
للغزو والتوسع سوى طريق الجنوب بعد أن أحكم نور الدين سيطرته على شمالي العراق والشام؛

ولذا تطلع الصليبيون إلى مصر باعتبارها الميدان الجديد لتوسعهم، وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية في مصر تعاني سكرات الموت فاستولوا على عسقلان،
وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر، مستغلين الفوضى في البلاد، وتحولت نياتهم إلى عزم
حيث قام "بلدوين الثالث" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (558هـ = 1163م) محتجا بعدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له، غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب.
وأثارت هذه الخطوة الجريئة مخاوف نور الدين، فأسرع بشن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الاستعداد لغزو مصر،
ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر، فأرسل عدة حملات إليها تحت قيادة "أسد الدين شيركوه"
وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، ابتدأت من سنة (559هـ = 1164م) واستمرت نحو خمس سنوات
حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة (564هـ = 1169م) و
تولى شيركوه الوزارة للخليفة "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي.

نجح صلاح الدين الأيوبي في إقامة الأمن واستتباب الأمور وتثبيت أقدامه في البلاد، وجاءت الفرصة المناسبة لإسقاط دولة الفاطميين؛
فقطع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي في أول جمعة من سنة (567هـ = سبتمبر 1171م).

وكان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوي هائل، لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله،
وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم، وتوجه لمصر ضربات قوية،
غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين في مصر.
وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية.

كان نور الدين مؤمنا بالإسلام وعظمته؛ وهو ما جعله يحقق ما عجز عنه غيره ممن كانوا أوسع منه
بلادا وأعظم مالا ونفقة، ولم يكن يحارب الصليبيين على أنهم نصارى بل على أنهم أجانب عن بلاد العرب والمسلمين جاءوا لاحتلال الأرض وتدنيس المقدسات؛
ولذا لم يمس نصارى بلاده بسوء، بل كانوا عنده مواطنين لهم حق الرعاية الكاملة، فلم يهدم كنيسة ولا آذى قسا أو راهبا.

ولم يشغله الجهاد وتوحيد الصف عن إقامة المدارس والمساجد حتى بلغت مدارسه ومساجده المئات،
لا يخلو منها بلد دخل تحت سلطانه، وكان إذا أنشأ مدرسة أوسع النفقة في بنائها،
واجتهد في اختيار شيوخها، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وكانت مدارسه تُعنى بالقرآن والحديث،
وكان له شغف بالحديث وسماعه من جلّة المحدثين، وأجازه بعضهم بالرواية.
وإلى جانب إنشاء المدارس توسع في إقامة البيمارستانات في كل بلدة تحت حكمه،
وجعلها للفقراء الذين لا تمكنهم دخولهم من الاستعانة بالأطباء والحصول على الدواء،
كما حرص على إقامة الخانات على الطرق لينزل بها المسافرون للراحة أو للمبيت، وجعل عليها من يحرصها ويحافظ على زائريها.

وكان نور الدين مؤمنا صادق الإيمان، ومجاهدا عظيما، وزاهدا متصوفا لا ينام إلا منتصف الليل
ثم ينهض فيتوضأ، ويقبل على الصلاة والدعاء، حتى يقبل الصباح فيصليه ثم يأخذ في شئون دولته.

وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر، فاجأته الحمى، واشتد به المرض
حتى لقي الله في (11 من شوال 569هـ = 15 من مايو 1174م) وهو في التاسعة والخمسين من عمره،
وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة، وعظم المصيبة التي حلت بهم.
رحمة الله عليك يا نور الدين محمود رحمة واسعة ...

زمردة
17-02-2006, 07:59 PM
ما أحوج الأمة إلى استذكار سير أولئك العظماء ..

وما أحوجهم إلى من يذكرهم بما ينير لهم دروب الخير ..


جزاك الله خيراً .. أخي أسد الدين شيركوه .

ليتك أخي الكريم ذكرت لنا المصدر الذي نقلت منه ..