PDA

View Full Version : هل تستطيع رسوم كاريكاتورية أن تهدّد ديناً؟الاصوليات أمام مبضع النقد التاريخي


أبو يحى
22-02-2006, 06:05 PM
هل تستطيع رسوم كاريكاتورية أن تهدّد ديناً؟الاصوليات أمام مبضع النقد التاريخي - هاشم صالح

يحتج معظم المسؤولين والمثقفين الاوروبيين بحرية الصحافة والتعبير من اجل تبرير الرسوم الكاريكاتورية في الصحافة الدانماركية وسواها. لكنهم، وفي مقدمهم جاك شيراك ونيكولا ساركوزي ودومينيك دو فيلبان ورئيس وزراء الدانمارك، يعترفون بأنه لا ينبغي جرح مشاعر المؤمنين بشكل مجاني او زائد على اللزوم. فما هي حقيقة الامر يا ترى؟ هل حرية الصحافة مطلقة لا حدود لها؟ ام ان لها حدوداً ينبغي ان تتوقف عندها ولا تتجاوزها؟

اذا ألقينا نظرة على تاريخ اوروبا وجدنا انها كانت تعاقب المجدّفين الذين يعتدون على المقدسات وذلك حتى أمد قريب. وما عدا بلدين اثنين، هما فرنسا وبلجيكا، فان جميع بلدان اوروبا تمتلك تشريعات لقمع اي هجوم على الاديان والمقدسات المسيحية، لكنها لم تعد تنفذها ما عدا في بلد واحد هو اليونان. والسبب ان شعب اليونان اكثر تمسكاً بعقيدته المسيحية على المذهب الارثوذكسي من بقية شعوب اوروبا الغربية المغرقة في علمانيتها او دنيويتها. انه اقرب من هذه الناحية الى شعوب المشرق منه الى شعوب الغرب.

فمثلاً حاولت المانيا الغربية عام 1986 ان تعاقب بعض الكتّاب الملاحدة الذين هاجموا المسيح والعقائد الدينية بعدما اشتكت عليهم الكنيسة الكاثوليكية. لكنها تراجعت عن تنفيذ العقوبة في نهاية المطاف في اعتبار ان ذلك من خصائص العصور الوسطى ومحاكم التفتيش وانه يعود الى عصور مضت وانقضت. وتالياً فأي عقوبة من هذا النوع لم تعد تليق بالعصور الحديثة.

اما في انكلترا فقد سنّوا عام 1838 اي في الثلث الاول من القرن التاسع عشر قانوناً يعاقب كل من يهاجم المقدسات المسيحية. وكان الهدف منه حماية الكنيسة الانغليكانية بعدما تزايد الالحاد في المجتمع بسبب الثورة الصناعية وانتشار الافكار العلمية والفلسفية على نطاق واسع. وفي عام 1922 دين شخص يدعى جون وليام غوت بالاشغال الشاقة لمدة تسعة اشهر بسبب تشبيهه المسيح بالمهرج او البهلوان. وهذا يعني ان معاقبة الهجوم على المقدسات كانت سارية المفعول في انكلترا حتى بدايات القرن العشرين.

لكن في العصور السابقة كان مثل هذا الشخص يُقتل او يُقطع لسانه، كما حصل للفيلسوف جيوردانو برينو الذي أنكر عذرية مريم وبعض العقائد الاخرى في المسيحية. وهذا يعني انه حصل تطور بين كلا العصرين. فبرينو قتل عام 1600 بالضبط، اي في بداية القرن السابع عشر.

اما بعد عصر التنوير الكبير فلم يعد ممكناً قتل الناس بسبب آرائهم الدينية وانما كانوا يكتفون بسجنهم او معاقبتهم مادياً. وهذا هو معنى التطور والتقدم.

وفي فرنسا لاحظنا ان المتعصبين الكاثوليكيين أحرقوا داراً للسينما في حي سان ميشال في قلب العاصمة الفرنسية، احتجاجاً على عرض فيلم "الغواية الاخيرة للمسيح" للمخرج الاميركي الشهير مارتن سكورسيزي وقد حصل ذلك قبل فترة ليست ببعيدة، اي عام 1988 وفي بلد علماني جداً هو فرنسا. ولحسن الحظ فلم يكن احد في السينما عندما تم حرقها، او كان فيها بعضهم لكن اصابتهم جاءت طفيفة.

فلماذا فعل المتعصبون المسيحيون ذلك يا ترى؟ هل لانهم رأوا الفيلم او قرأوا الرواية التي استخرج منها؟ بالطبع لا. لكنهم سمعوا ان الفيلم يتحدث عن المسيح ولأنه انسان كبقية البشر وليس إلهاً. وهذا ما يتعارض كلياً مع العقيدة المسيحية. وهذا ما لا يستطيع ان يتحمله الاصوليون المتزمتون. لكن لحسن الحظ فان عددهم قليل جداً في فرنسا. فالمسيحيون الليبيراليون او العقلانيون هم الاكثر عدداً بكثير. وهؤلاء يعيشون ايمانهم بكل هدوء ويتقبلون النقد برحابة صدر.

في الواقع ان سكورسيزي أزعج كثيراً المتزمتين لانه لمّح الى بعض الاغراءات التي قد يكون المسيح او قل يسوع الناصري تعرض لها في حياته، ومن بينها إغراءات الجنس مثلاً. يضاف الى ذلك ان المخرج ركّز على العبارة الاخيرة التي لفظها المسيح وهو يتفطّر ألماً على الصليب: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟! واستنتج منها ان المسيح راح يشك في حقيقة دعوته في آخر لحظة ويتمنى لو انه لم يفعل ما فعله ويصل الى هذه النتيجة المأسوية.

بالطبع فان المؤمنين المتشددين لا يستطيعون القبول بمثل هذه التساؤلات المشينة التي تهدد اعتقادهم. ولذلك لاحقوا الفيلم الذي كان يُعرض في سبع عشرة صالة باريسية. وبسبب تهديدهم لدور السينما هذه، سحبته كلها من العرض ما عدا صالتين شجاعتين اكثر من اللزوم. والواقع ان حرق السينما أرعب الجميع.

هل يحقّ له؟

فهل يحق للمخرج ان يشكك في المسيح الى مثل هذا الحد؟ هل يحق له ان يعامله كبشر، او كانسان يشعر بالشهوة الجنسية؟ وهل يجوز له ان يوحي، مجرد إيحاء، انه ندم على ما فعل في آخر لحظة لان الله تخلى عنه ولم ينقذه من الصلب والتعذيب الرهيب؟

المثقفون العلمانيون يقولون لك: نعم. المتدينون العقلانيون يقولون: لم لا؟ ولكن هذا لا يهمنا ولا يزعزع ايماننا او عقيدتنا. وحدهم الاصوليون المتزمتون يستشيطون غضباً ويفكرون في الرد المباشر والانتقام. هكذا نلاحظ ان ردود الفعل ليست متطابقة في كل الاحوال. وعموماً فإن الجمهور الاوروبي لم تعد تثيره مثل هذه القصص لان طريقة ارتباطه بالدين لم تعد كما كانت عليه ابان القرون الوسطى. هنا حصلت قطيعة ابستمولوجية حقيقية. بمعنى ان الحساسية الدينية في اوروبا لم تعد حساسية قروسطية تُستَفز في كل لحظة وتتهيّج بسرعة. لكن هذه القطيعة لم تصب جميع الناس. فقد ظلت هناك أقلية متعصبة تستعصي عليها. والدليل على ذلك انها حاولت منع عرض الفيلم بأي شكل او حصلت تظاهرات ضده وأطلق رجال الشرطة في باريس القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين، الخ. بل وحصلت عملية حرق السينما. صحيح انه لم يسقط اي قتيل بسبب ذلك لكن اصيب حوالى العشرة اشخاص بجروح. وراحت اذاعة الاصوليين تشجع "المؤمنين" الكاثوليكيين على تمزيق مقاعد السينما، اما اليمين الفرنسي المتطرف التابع لجان ماري لوبن فقد هدّد هو الآخر ايضاً بتدمير "بكرات" الفيلم المذكور لكيلا يعرض مرة اخرى.

صحيح انه لم تحصل تظاهرات ضخمة كما حصل في دمشق وبيروت، ولم يعتد احد على السفارة الاميركية، اي سفارة البلد الذي ينتمي اليه مخرج الفيلم، لكن حصلت تهديدات واضحة للصالات التي تعرضه، فتشويه صورة المسيح من طريق القول انه عرف الاغراءات الجنسية او التشكيك بمدى صلابة اقتناعه برسالته أمر يصعب تحمله بالنسبة الى الاصوليين. فالصورة الشائعة عن المسيح انه يتعالى على كل ذلك، هي انه اسمى واكبر وأعظم من كل ذلك.

الخطأ الكبير

يبقى السؤال المطروح هو الآتي: هل يحق للكاتب او رسام الكاريكاتور او المخرج السينمائي ان يعتدي على الاقتناعات الراسخة للمؤمنين؟ بالطبع لا. فتصوير شخصية النبي الأكرم على هذا النحو الكاريكاتوري المخجل أمر مشين وتنبغي إدانته. والخطأ الاكبر الذي ارتكبه رسامو الدانمارك انهم اعتقدوا ان الجمهور الاسلامي يعيش الحالة التاريخية المتقدمة او المرفهة نفسها للجمهور الاوروبي او الدانماركي. لم يقيسوا حجم التفاوت التاريخي الذي يفصل بين وعي كلا الجمهورين. فالجمهور الاوروبي ليبيرالي في غالبيته ويستطيع ان يأخذ هذه الامور بفلسفة او بنوع من الدعابة والفكاهة ليس الا. اما الجمهور الاسلامي فلا يمتلك كل هذا الترف. والواقع ان المسيح لم يتأثر كثيراً - ولا قليلاً - بفيلم سكورسيزي، كما ان نبي الاسلام لن يتأثر اطلاقاً بهذه الصور الكاريكاتورية البشعة. فكلاهما من العظمة بحيث ان مثل هذه السخافات لا يمكن ان تنال منهما، او تصل اليهما.

ولو ان النبي العربي كان سيتأثر بشيء او تنخفض قيمته الكبرى لكان تأثر بالهجوم الهائل الذي تعرض له إبان العصور الوسطى. لكن هذا لم يحصل فظلت حقيقة الاسلام ساطعة وصامدة تتحدى الزمن والمشوشين المعادين. اسوأ طريقة للدفاع عن نبي الاسلام هي تلك الطريقة التي اتبعوها في دمشق وبيروت عندما هاجموا ليس فقط السفارات الاجنبية وانما ايضا الحي المسيحي العربي اللبناني في الاشرفية!

هنا يوجد خط أحمر ما كان ينبغي ان يتجاوزوه بأي شكل، لان المسيحيين العرب يقعون بين فكي كماشة ولانهم ضحايا التاريخ مرتين لا مرة واحدة. وقد كفاهم ما تعرضوا له من عذاب وحصار اثناء الحرب الاهلية السوداء. فاليمين المتطرف الاسرائيلي والغربي يهاجمهم بسبب وفائهم لأصولهم العربية وانغماسهم فيها حتى النخاع، ويهاجمهم اليمين المتطرف العربي والاصولية الاسلامية بسبب انفتاحهم على الحضارة الحديثة والنزعة الانسانية الكونية. وتالياً فقد ارتكب منظمو تظاهرة بيروت خطيئة كبرى عندما سمحوا للعناصر الغوغائية ان تهجم على كنيسة مار مارون وحي الاشرفية وترتكب عدوانها البشع الذي يذكّرنا بالعصور الوسطى وظلاميتها المرعبة.

لكن لحسن الحظ فان الشخصيات المستنيرة في الجهة الاسلامية سواء داخل الحكومة ام خارجها، ورد فعل المثقفين ورجال الدين المسؤولين، واجتماع العماد عون مع السيد حسن نصرالله في كنيسة مسيحية، ذلك كله ساهم في تطويق الفتنة ومنعها من الاستفحال والنجاح. هذا لا يعني بالطبع ان الامور انتهت. فالمشكلة لن تحل جذرياً بالتمنيات الطيبة والكلام المعسول وانما من طريق حركة تنويرية واسعة تشمل العالم العربي كله من اقصاه الى أقصاه. وهذا أبعد ما يكون عن التحقق حالياً. فالتظاهرات العنيفة التي تحصل تحت انظارنا في معظم البلدان الاسلامية تدل على ان الجماهير لم تستنر بعد. لقد تسببت لنفسي بمتاعب كثيرة في السابق عندما قلت هذا الكلام ورفضت مقارنة الجمهور الاوروبي بالجمهور العربي الاسلامي وخصوصاً في ما يتعلق بالقضايا الدينية الحساسة. فالاول يستطيع ان يمزح على رجال الدين والبابا والقديسين من دون ان يثير ذلك أي مشكلة، لماذا؟ لان الاوروبيين حلوا مشكلتهم مع أصوليتهم ولم تعد الحساسية القروسطية او العدوانية للتدين تسيطر عليهم. يضاف الى ذلك انهم شبعوا مادياً ومروا بالمرحلة النقدية للعقائد الدينية واستطاعوا ان يقيموا مسافة معينة بينهم وبينها. بمعنى آخر، لقد توصلوا الى التدين الليبيرالي او العقلاني الحر بعدما خاضوا معارك هائلة ضد أنفسهم ورواسبهم التاريخية. وهذا الشيء لم يحصل حتى الان في العالم الاسلامي، عربياً أكان ام فارسياً، ام تركيا ام افغانياً ام باكستانيا، الخ. لهذا السبب فان الجماهير تهيج فوراً ما ان يمسّ احد بعقائدها الدينية حتى ولو على سبيل المزاح والكاريكاتور! وهذا وضع تاريخي يتجاوزنا جميعاً ولا حيلة لنا فيه. ولا نستطيع ان نطالب جماهيرنا شبه الجائعة والجاهلة بان تكون موضوعية او حضارية في ردود أفعالها كالجماهير الاوروبية! هذا مستحيل. ولا أقول ذلك تبريراً لما حصل، وانما أقوله من اجل فهم ما يجري تبعاً لمقولة سبينوزا: الأمر لا يتعلق بالضحك او البكاء، بالاشادة او بالادانة والشجب. الأمر يتعلق اولا بالفهم، فهم ما يجري ولماذا يجري بهذه الطريقة لا بتلك. وأخيراً سوف أقول ما يأتي: رب ضارة نافعة. وربما كان المغزى العميق لما يحصل حالياً يكمن في مكان آخر، مكان عميق جداً لا أحد ينتبه اليه في زحمة الصراعات والضجيج والضوضاء، ربما كان مكر التاريخ الذي تحدث عن هيغل كثيرا يفعل فعله الآن في العالم الاسلامي من طريق هذه الاستفزازات المزعجة والمدانة كقصة سلمان رشدي سابقا والصور الكاريكاتورية حاليا وسوى ذلك. ربما دفع ذلك المسلمين يوماً ما الى طرح أسئلة جوهرية على طريقة فهمهم للعقائد الدينية. فالتاريخ لا يتقدم احياناً الا من أسوأ أبوابه او حتى من أبوابه الخلفية. وعلى أي حال، فانه لا يتقدم خطوة واحدة الى الامام الا من طريق الفضيحة والصراع والعراك والانفجارات. وبالتالي فان كل ذلك سوف يؤدي عاجلا او آجلا الى تسليط أنوار العلم التاريخي على الأصول الاسلامية المقدسة، تماما كا سُلّطت في اوروبا على الاصول المسيحية المقدسة. وهذا هو معنى التنوير أصلا: انه يعني انبثاق الصورة التاريخية للتراث من تحت ركام الصورة الاسطورية التي تهيمن علينا اليوم ومنذ الف سنة على الاقل. انه انبثاق يشبه إطلالة الشمس التي طال انتظارها.

المغزى الحقيقي

لكي أوضح المأزق الذي وقع فيه العالم الاسلامي اليوم سوف اقول ما يأتي: في عام 1766 قتل المتعصبون المسيحيون في فرنسا الفارس دولابار شر قتلة لأنه رفض ان يكشف رأسه اثناء مرور موكب ديني أمامه، او لانه كسر تمثالا صغيراً مصنوعاً من خشب للمسيح وهو على الصليب. وقد فوجىء الناس بحجم العقوبة التي تعرض لها هذا الشاب المراهق الذي لم يكن يتجاوز العشرين ربيعاً الا قليلا. فالجنحة التي ارتكبها لا تتناسب اطلاقاً مع حجم العقوبة الرهيبة المتمثلة في قطع لسانه وتقسيم أضلاعه إرباً إرباً. وزاد من خطورة وضعه او تفاقم حاله انهم وجدوا كتب فولتير في بيته عندما "كبسوا" عليه لكي يفتشوه. وجدوا "القاموس الفلسفي" بالذات واعتبروا ذلك دليلاً على كفر هذا الشخص الذي يدعى الفارس دولابار (او فرنسوا دولابار). والآن يحصل في العالم ا لاسلامي شيء مشابه تماماً. فالدانمارك، هذا البلد الصغير الذي يعتبر من أرقى بلدان العالم، يتعرض لهجوم رهيب لم يسبق له مثيل في التاريخ. وذلك كله بسبب بعض الرسوم الكاريكاتورية التافهة التي نشرتها صحيفة لا تعبّر الا عن نفسها. وتالياً فالعقوبة أضخم بكثير من حجم "الجريمة" المرتكبة. والضجة العالمية التي أثارتها هذه القضية قد تجعل الأجيال المقبلة تضحك منا وتسخر. فهل تستطيع مجموعة رسوم كاريكاتورية ان تهدد ديناً بأسره؟! وهل وصل انعدام ثقة المسلمين بأنفسهم وعقيدتهم الى مثل هذا الحد؟ ونبيّ الاسلام الذي أسس احد الاديان الكونية للبشرية ووصل عدد أتباعه الى مليار ونصف مليار تقريباً، هل يمكن الرسم الكاريكاتوري المشين ان يهدد سمعته او يفقده هيبته وصدقيته، هل هذا معقول؟ للاجابة عن هذه الاسئلة ينبغي القول ان المغزى الحقيقي لما يحصل الآن يكمن في مكان آخر لا يخطر على البال. في الواقع ان المسلمين يخشون ان يحصل للاسلام ما حصل للمسيحية في اوروبا: اي ان تنكشف تاريخيته! ولهذا السبب يحاولون بكل الوسائل ان يمنعوا هذا التطور الخطير الذي سيحصل يوماً ما لا محالة. فالاصلاح الديني مقبل في الاسلام، وكذلك التنوير. والمسلمون الاصوليون يريدون منع ذلك او تأجيل لحظة حصوله الى أطول فترة ممكنة من طريق التهديد والوعيد. فتارة يهددون سلمان رشدي بالقتل، وطوراً يقتلون المخرج السينمائي الهولندي تيو فان غوغ، حفيد الرسام الشهير، وتارة اخرى يتظاهرون بكل عنف ضد الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت في بلد يقع في أقاصي الارض، فهل يشعرون بشكل لا واع بأن مبضع النقد التاريخي قد بدأ يقترب من تراثهم وسوف يعرّيه على حقيقته يوماً ما، كما حصل للمسيحية الاوروبية؟ أنظر دراسات اللاهوتي الالماني رودولف بولتمان عن المسيح التاريخي والمسيح الاسطوري وعن ضرورة نزع هالة الأسطرة التقديسية عن فترة المسيحية الاولى لكي تنكشف على حقيقتها. هذا لا يعني تشويه المسيحية او النيل منها. على العكس، فإن الصورة التاريخية لعيسى بن مريم قد تجعله يبدو اكثر انسانية واكثر عظمة من الصورة الاسطورية او التبجيلية التي رسختها اجيال المؤمنين المتلاحقة على مر القرون. وقل الأمر نفسه عن محمد والقرآن. فالصورة التاريخية لنبي الاسلام مطموسة حتى الآن تحت أنقاض الصورة الاسطورية التي رسختها كتب السيرة النبوية بدءاً من ابن اسحاق وابن هشام. وتالياً ليس من السهل ان نتوصل الى "محمد التاريخي"، ولن تجعلنا جحافل الاصوليين نفعل ذلك بسهولة. من هنا حجم المعركة الضارية التي تدور الآن حول الرسوم الكاريكاتورية او حول اي شيء آخر قد يحصل مستقبلا. الشيء نفسه يمكن ان يقال عن القرآن. فالصورة التاريخية لكيفية تشكله في القرون الاولى سوف تنبثق يوماً ما لا محالة. وهذا ما يخشاه الاصوليون أشد الخشية ويتمنون ان يموتوا قبل ان تحين هذه اللحظة. ولذلك فانهم يَقتلون ويُقتَلون وتهيج هائجتهم عندما يسمعون ان البحث التاريخي أخذ يقترب من منطقة الحقائق المقدسة: اي الحقائق الساخنة جداً والمحروسة بأسلاك شائكة. انظر حملتهم الشعواء على المستشرقين الكبار. على هذا المستوى من العمق ينبغي ان نموضع الامور لكي نفهم الرهان الأعظم لما يحدث حاليا. فتحت الركام ما تحته ووراء الأكمة ما وراءها. وكل التراث العربي الاسلامي سوف يُغربَل يوما ما ويُمحّّص تمحيصاً صارماً لا هوادة فيه لكي نتخلص من الايمان الاصولي الاغلاقي ونتوصل الى الايمان الحر والعقلاني. وتالياً بدأ المسلمون يقتربون من لحظة الاستحقاقات التاريخية الكبرى. وكلما اقتربوا منها اكثر زاد قلقهم وهيجانهم. وهذا أمر طبيعي ولا ينبغي ان يدهشنا او يصدمنا كثيرا. فالانسان المصاب بعقدة نفسية معينة لا يحب ان تنكشف له حقيقته لانه بنى كل حياته على طمسها.

وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة. فالمسلمون التقليديون لا يريدون ان يعود أحد الى الاصول لكي نعرف كيف تشكلت تاريخياً لاول مرة ومتى تشكلت وعلى يد من وضمن اي ظروف تاريخية وسياسية وصراعية. وانما يريدون ان يعيشوا الى أبد الدهر على تلك الصورة الاسطورية العذبة التي شكلوها عن أنفسهم وتراثهم منذ أقدم العصور وحتى اليوم. والانسان لا يحب ان ينحسر ضباب الاوهام والخرافات عن طفولته الأولى وآبائه وأجداده. انه يشكل صورة مثالية عن نفسه بقدر ما يشكل صورة شيطانية عن الآخرين. أنظر كيف يرى الاصولي الاسلامي الى أتباع الاديان الأخرى من يهود او مسيحيين. ويمكن ان نقول الشيء نفسه عن الاصولي اليهودي او المسيحي. كل واحد منهم سجين يقينيات إطلاقية تستعصي على كل مراجعة او نقد او تفكيك. لكننا نعلم ان هذه اليقينيات القروسطية اصبحت عالة على المسلمين أنفسهم بقدر ما اصبحت عالة على الآخرين لانها تصطدم بشكل مروع بمنطق العصر وبكل الحضارات الاخرى بدون استثناء. ولذلك قال احدهم: ليس المطلوب ان يتغير العالم كله لكي يتأقلم مع الاسلام وانما ان يتغير الاسلام نفسه لكي يتأقلم مع العالم. وهذا يعني ان الاصلاح الديني مقبل لا محالة، وسوف يفرض نفسه على الاسلام سواء أشاء المحافظون العتاة أم أبوا! ولكن كم من الارواح سوف تٌزهق، وكم من المثقفين سوف يتساقطون على الطريق قبل ان يتبلور هذا الاصلاح الديني الكبير ويصبح حقيقة واقعة؟ لقد دخل الاسلام في أزمة عصابية مع نفسه، وسوف يهتز الكون كله قبل ان تنحلّ.

أخيراً، هل يعقل الاّ ينزل مسلم واحد الى الشارع للتظاهر ضد تفجيرات نيويورك، وبالي، ومدريد، ولندن، وشرم الشيخ، وعمان...؟ هل يعقل الا ينزل مسلم واحد الى الشارع للتظاهر ضد خطف الصحافيين والصحافيات في العراق وذبحهم من الوريد الى الوريد باسم الدين والاسلام أمام كاميرات العالم أجمع؟ ماذا سيكون موقف العالم منا ومن ديننا بعد كل ذلك؟ وما هي الصورة التي سيشكلها عنا؟ أترك للقارىء وحده حرية الجواب...