الأستاذ محمد عادل التريكي
18-08-2000, 10:54 PM
مفهوم العولمة :
وأول مانقف عنده قضية المصطلح ..فلاأشعر بالحرج من استعمال مصطلح " العولمة " ومن تأصيله في اللغة العربية.إذ إن الوزن الصرفي "فوعل " -فعلا وإسما-هومن أبنية الموازين الصرفية ومن الشواهد على ذلك ، حوقل الرجل :ضعف، ومصدره السماعي حيقال .أما مصدره القياسي فحوقلةوقالوا :كوكبة في الإسم ومماجاءفي وزن فوعل:الفولف:كل شيء يغطي شيئا،وفوقل: للحجل وشوشب:إسم للعقرب.ولولب:لولب الماء.والنورج والنورجة، ومن كلام المحدثين : قولبة وبلورة وحوسبة ..وماجرى على كلام العرب فهو من كلام العرب.
" فالعولمة "شأنها شأن "الهوية" و " الحداثة أو الحداثية " و "الديمقراطية "و "حقوق الإنسان " و " الخوصصة " أو " الخصخصة أو التخاصية "و" النظام العالمي الجديد " وبعض المصطلحات والألفاظ الأخرى الشائعة منذ سنوات التي لاتزال يكتنفها الغموض،والتي يذهب بعض النقاد والمبدعين والمحللين الإجتماعيين مذاهب مختلفة في فهمها وتعريفها وتفسيرها،ولذلك تأتي أحكامهم أحيانا غامضة ومتباعدة بسبب غموض منطلقاتهم واختلافهم هذه المنطلقات، حتى أصبح الباحثون في هذا الموضوع والمتحدثون عنه يتساءلون هل من الأفضل أن تترك هذه الألفاظ والمصطلحات وأمثالها دون تحديد ( ربما لأنها بطبيعتها غير قابلة للتّحديد ).وأن يُتحدّث عن بعض مظاهرها ونتائجها وعلاقتها بغيرها،إعتماداً على وُجود قدر مشترك من الفهم بين المتحدٌثين عن هذه الألفاظ والمصطلحات،يُتيح توصيل الآراء والتحليلات إلى الآخرين مهما اختلفوا فى التفصيلات والفروع.
" العولمة "ترجمة لكلمة " MONDIALISATION " الفرنسية التي تعني جعل الشيئ على مستوى عالمي،أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي يَنأى عن كل مراقبة.و المحدود هنا هو أساساً الدولة القومية التي تتميز بحدودٍ جغرافيةٍ وبمراقبةٍ صارمةٍ على مستوى الجمارك : تَنقُّل البضائع والسِّلع ، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطرٍ أو تدخُّلٍ خارجيٍ ، سواءٌ تعلق الأمر بالإقتصاد أو بالسياسة أ, بالثقافة . أما اللاَّمحدود فالمقصود به " العالم "، أي الكرة الأرضية.
فالعولمة إذن..تتضمن معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الإقتصادي ( المالي والتجاري ) وترك الأمور تتحرك في هذا المجال عبر العلم وداخل فضاءٍ يشمل الكرة الأرضية جميعها.ومن هنا يُطرح مصير الدولة القومية ،الدولة /الأمة،في زمن تسوده العولمة بهذا المعنى .
على أن الكلمة الفرنسية المذكورة إنما هي ترجمة لكلمة " GLOBALIZATION " الإنجليزية التي ظهرت أول ماظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية.وهي تفيد معنى تعميم الشئ وتوسيع دائرته ليشمل الكل، الشئ الذي وجدتُه حينما بحثت عن المصطلح في معجم [ ويبسترز-WEBSTER ‘S ] الذى يقول العولمة هي إكساب الشيء طابع العالمية وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالميا .
ولكني ألفيت أن هذا المعنى شديد البراءة بالغ الحيدة ،لاينسجم فى عمقه مع دلالة اللفظ ومفهوم المصطلح كما يشاع في العالم اليوم .
وهنا لابد من وقفة نستقبل فيها ماصدر من تصورات عن العولمة .اوتعريفات توذن بها،وإن لم تبلغ الصحة والدقة المطلوبتين في الحدود بحكم أن العولمة أمر أنف غامض، أوغائم لم يتم تشكله تشكلا نهائيا بعد .
يعتقد الدكتور محمد عابد الجابري أنها نظام أونسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الإقتصاد ، وأنها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبادلات والإتصال ،كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والأديولوجيات .
وقد يماشي هذا التصور الى حدما القول بأن العولمة عبارة عن القولبة الكلية للأحادية الأكثر إتساعا وشمولية تنجرف إليها الأوضاع الدولية مدفوعة نحوها بالثورتين الإقتصادية والمعلوماتية المذهلة .
وجاءت بعض التصورات ناظرة في استمداد حقيقة العولمة إلىالعلاقة التي يفترض أن تقوم بين المتقدم والنامي من الدول .وبين الغني والفقير منها .فهي تعني في إطلاق الأستاذ علي أحمدسليمان-أستاذ علم الإقتصاد-تحقيق إندماج البلدان النامية دول العالم الثالث بدرجة أكبر وفقا له في الأسواق العالمية .ولايقف هذا الإندماج في الأسواق العالمية عندتصدير السلع فقط، ولكنه يتجاوزذلك فيشمل الخدمات ورؤوس الأموال .
ويختلف عن هذه التصورات القول بأن العولمة موجة جديدة إقتصادية تلي الثورة الزراعية
والثورة الصناعية وأنها أعلى مراحل الرأسمالية الجديدة التي أفرزتها الثورة المعلوماتية ومايرافقها من تطور في مجالي الإتصال والإعلام.
وتؤكد تصورات أخرى أن القصد من العولمة توسيع النموذج الأمريكي وفسح المجال له
ليشمل العالم كله.فهي بذلك ترادف الأمركة .ويشددفريدمان علىهذه الحقيقة حــين
يصرح في إعتداد وزهوٍ :" نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة،العولمة هي الأمركـة
والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورة خطيرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق، إن
صندوق النقد الدولي قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة، في الماضي كان الكبيريأكل البطيء."
والمتأمل في هذه التصورات يجدهاكلها متطابقة في الجملة من حيث الموضــوع،وإن
ظهرت مع ذلك متفاوتة بماامتدت إليه من إهتمامات عند محاولة التعريف بالحقيقة الواحدة
ولعل السبيل إلى وضع حد كامل سيتجلى لنا بعد من خلال المؤسسات القائمة لإنجـاز
العولمة، ومن الإتفاقيات الصادرة عنها هنا وهناك بين الدول في العالم،مشاركة منها في بناء
النظام الإقتصادي الشامل الجديد، وإشاعة له في أطراف المعمورةرغم ترددها في الإنتماء
إليه والإسهـام فيه بدعوى أن العولمة عندها ليست في واقع الأمر شيئا اخر سوى ربط
الوطن، خارج التاريخ.
والعولمة في أصلها إقتصادية،قائمة على إزالة الحواجز والحدود أمام حركة التجارة،لإتاحة
حرية تنقل السلع ورأس المال.ومع أن الإقتصاد والتجارة مقصودان لذاتهما في العولمة،إلا
أنها لاتقتصرعليهماوحدهما وإنماتتجاوزهماإلى الحياة الثقافية والحياة الإجتماعيةبماتتضمنانه
من أنماط سلوكية ومذاهب فكرية و مواقف نفسية، وكل ذلك هوالذي يصوغ هويــة
الشعوب والأمم والأفراد.
وإذن.. فإن أولَ مظاهر العولمة هو تركيز النشاط الإقتصادي على الصعيد العالمي في يد
مجموعة قليلة العدد وبالتالي تهميش الباقي وإقصاؤه بالمرة .ومن هنا ظاهرة " التفاوت "
- علىحد قول الدكتور محمد عابد الجابري – الملازمة لظاهرة التركيز التي من هذاالنوع،التفاوت بين الدول ..والتفاوت داخل الدولة الواحدة ومن الأمثلة التي يوردها الإختصاصيون في هذا المجال لتوضيح هذه الظاهرة نقتبس مايلي:
إن خمس دول هي: الولايات المتحدة الأمريكية ..واليابان.. وفرنسا.. وألمانيا..
وبريطانيا.. تتوزع فيما بينها 172 شركة من أصل200 من أكبر الشركات العالمية.وهذه
الشركات المائتان العملاقة هي التي تسيطر عمليا على الإقتصاد العالمي،وهي ماضية في
إحكام سيطرتها عليه، إذ ارتفعت إستثماراتها في جميع أنحاء العالم وفي المدة مابين 1983-
1992 بوتائر سريعة جدا :أربع مرات في مجال الإنتاج، وثلاث مرات في مجال المبادلات
العالمية.وفي تقرير للأمم المتحدة أن 358 شخصا من كبار الأثرياء في العالم يساوي حجم
مصادر ثروتهم النقدية حجم المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاثمائة مليون شخص من
فقراء العالم ..وبعبارة أخرى..إن عشرين في المائة من كبار أغنياء العالم يقتسمون فيما
بينهم ثمانين في المائة من الإنتاج الداخلي الخام علىالعالمي، وأن الغنى والثروة إرتفعا بنسبة
ستين بالمئة في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1975-1995غير أن المستفدين من هذا
الإرتفاع الكبير في الغنى والثروة لا يتجاوز عددهم نسبة واحد بالمئة من الشعب الأمريكي
ونفس الظاهرة تستشري اليوم، وبسرعة في أوربا حيث يفرض نظام العولمة عليها ، بما
يقتضيه من منافسة حادة،التخفيض من التعويضات والخدمات الإجتماعية بصورة رهيبة،
وهي فوارق قائمة أصلا وبشكل واسع.
وإذن..فمن النتائج المباشرة للعولمة تعميم الفقر، وهو نتيجة حتمية لتعميق التفاوت .إن
القاعدة الإقتصادية التي تحكم إقتصاد العولمة هي: "إنتاج أكثر ما يمكن من الســـلع
والمصنوعات بأقل مايمكن من العمل ". إنه منطق المنافسة في إطار العولمة، ومن هنا نلاحظ
أن الظاهرة الملازمة للعولمة وربيبتها الخوصصة هي تسريخ العمال والموظفين.
والنتيجة التي يستخلصها الباحثون والمختصون في هذا المجال هي التالية:إذا كان النمـو
الإقتصادي في الماضي يخلق مناصب الشغل. فإن النمو الإقتصادي في إطار العولمة والليبرالية
المتوحشة يؤدي-ويتوقف على-تخفيض مناصب الشغل. إن بعض القطاعات في مجــال
الإلكترونيـات والإعلاميـات والإتصـال، وهي من القطاعات الأكثر رواجا في العالم،
لاتحتـاج إلا إلى عدد قليل من العمـال. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمـة
والخوصصة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما إلى أزمات سياسية.
وليس من هدفنا هنا تفصيلُ الحديث في الجوانب الإقتصادية للعولمة-مع أنها هي الأساسية
فيها-وسنقتصر حديثنا على نتائج هذه العولمة وما يترتب عليها بالضرورة ؛وهي الجوانب
الثقافية والحضارية لآتصالها بالهوية ( موضوع هذه المحاضرة ) بعد أ ن نجيب عــــن
الأسئلةالتي طرحناها في البداية حتى نُلمَّ بالعولمة من أطرافها .
وأول مانقف عنده قضية المصطلح ..فلاأشعر بالحرج من استعمال مصطلح " العولمة " ومن تأصيله في اللغة العربية.إذ إن الوزن الصرفي "فوعل " -فعلا وإسما-هومن أبنية الموازين الصرفية ومن الشواهد على ذلك ، حوقل الرجل :ضعف، ومصدره السماعي حيقال .أما مصدره القياسي فحوقلةوقالوا :كوكبة في الإسم ومماجاءفي وزن فوعل:الفولف:كل شيء يغطي شيئا،وفوقل: للحجل وشوشب:إسم للعقرب.ولولب:لولب الماء.والنورج والنورجة، ومن كلام المحدثين : قولبة وبلورة وحوسبة ..وماجرى على كلام العرب فهو من كلام العرب.
" فالعولمة "شأنها شأن "الهوية" و " الحداثة أو الحداثية " و "الديمقراطية "و "حقوق الإنسان " و " الخوصصة " أو " الخصخصة أو التخاصية "و" النظام العالمي الجديد " وبعض المصطلحات والألفاظ الأخرى الشائعة منذ سنوات التي لاتزال يكتنفها الغموض،والتي يذهب بعض النقاد والمبدعين والمحللين الإجتماعيين مذاهب مختلفة في فهمها وتعريفها وتفسيرها،ولذلك تأتي أحكامهم أحيانا غامضة ومتباعدة بسبب غموض منطلقاتهم واختلافهم هذه المنطلقات، حتى أصبح الباحثون في هذا الموضوع والمتحدثون عنه يتساءلون هل من الأفضل أن تترك هذه الألفاظ والمصطلحات وأمثالها دون تحديد ( ربما لأنها بطبيعتها غير قابلة للتّحديد ).وأن يُتحدّث عن بعض مظاهرها ونتائجها وعلاقتها بغيرها،إعتماداً على وُجود قدر مشترك من الفهم بين المتحدٌثين عن هذه الألفاظ والمصطلحات،يُتيح توصيل الآراء والتحليلات إلى الآخرين مهما اختلفوا فى التفصيلات والفروع.
" العولمة "ترجمة لكلمة " MONDIALISATION " الفرنسية التي تعني جعل الشيئ على مستوى عالمي،أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي يَنأى عن كل مراقبة.و المحدود هنا هو أساساً الدولة القومية التي تتميز بحدودٍ جغرافيةٍ وبمراقبةٍ صارمةٍ على مستوى الجمارك : تَنقُّل البضائع والسِّلع ، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطرٍ أو تدخُّلٍ خارجيٍ ، سواءٌ تعلق الأمر بالإقتصاد أو بالسياسة أ, بالثقافة . أما اللاَّمحدود فالمقصود به " العالم "، أي الكرة الأرضية.
فالعولمة إذن..تتضمن معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الإقتصادي ( المالي والتجاري ) وترك الأمور تتحرك في هذا المجال عبر العلم وداخل فضاءٍ يشمل الكرة الأرضية جميعها.ومن هنا يُطرح مصير الدولة القومية ،الدولة /الأمة،في زمن تسوده العولمة بهذا المعنى .
على أن الكلمة الفرنسية المذكورة إنما هي ترجمة لكلمة " GLOBALIZATION " الإنجليزية التي ظهرت أول ماظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية.وهي تفيد معنى تعميم الشئ وتوسيع دائرته ليشمل الكل، الشئ الذي وجدتُه حينما بحثت عن المصطلح في معجم [ ويبسترز-WEBSTER ‘S ] الذى يقول العولمة هي إكساب الشيء طابع العالمية وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالميا .
ولكني ألفيت أن هذا المعنى شديد البراءة بالغ الحيدة ،لاينسجم فى عمقه مع دلالة اللفظ ومفهوم المصطلح كما يشاع في العالم اليوم .
وهنا لابد من وقفة نستقبل فيها ماصدر من تصورات عن العولمة .اوتعريفات توذن بها،وإن لم تبلغ الصحة والدقة المطلوبتين في الحدود بحكم أن العولمة أمر أنف غامض، أوغائم لم يتم تشكله تشكلا نهائيا بعد .
يعتقد الدكتور محمد عابد الجابري أنها نظام أونسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الإقتصاد ، وأنها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبادلات والإتصال ،كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والأديولوجيات .
وقد يماشي هذا التصور الى حدما القول بأن العولمة عبارة عن القولبة الكلية للأحادية الأكثر إتساعا وشمولية تنجرف إليها الأوضاع الدولية مدفوعة نحوها بالثورتين الإقتصادية والمعلوماتية المذهلة .
وجاءت بعض التصورات ناظرة في استمداد حقيقة العولمة إلىالعلاقة التي يفترض أن تقوم بين المتقدم والنامي من الدول .وبين الغني والفقير منها .فهي تعني في إطلاق الأستاذ علي أحمدسليمان-أستاذ علم الإقتصاد-تحقيق إندماج البلدان النامية دول العالم الثالث بدرجة أكبر وفقا له في الأسواق العالمية .ولايقف هذا الإندماج في الأسواق العالمية عندتصدير السلع فقط، ولكنه يتجاوزذلك فيشمل الخدمات ورؤوس الأموال .
ويختلف عن هذه التصورات القول بأن العولمة موجة جديدة إقتصادية تلي الثورة الزراعية
والثورة الصناعية وأنها أعلى مراحل الرأسمالية الجديدة التي أفرزتها الثورة المعلوماتية ومايرافقها من تطور في مجالي الإتصال والإعلام.
وتؤكد تصورات أخرى أن القصد من العولمة توسيع النموذج الأمريكي وفسح المجال له
ليشمل العالم كله.فهي بذلك ترادف الأمركة .ويشددفريدمان علىهذه الحقيقة حــين
يصرح في إعتداد وزهوٍ :" نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة،العولمة هي الأمركـة
والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورة خطيرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق، إن
صندوق النقد الدولي قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة، في الماضي كان الكبيريأكل البطيء."
والمتأمل في هذه التصورات يجدهاكلها متطابقة في الجملة من حيث الموضــوع،وإن
ظهرت مع ذلك متفاوتة بماامتدت إليه من إهتمامات عند محاولة التعريف بالحقيقة الواحدة
ولعل السبيل إلى وضع حد كامل سيتجلى لنا بعد من خلال المؤسسات القائمة لإنجـاز
العولمة، ومن الإتفاقيات الصادرة عنها هنا وهناك بين الدول في العالم،مشاركة منها في بناء
النظام الإقتصادي الشامل الجديد، وإشاعة له في أطراف المعمورةرغم ترددها في الإنتماء
إليه والإسهـام فيه بدعوى أن العولمة عندها ليست في واقع الأمر شيئا اخر سوى ربط
الوطن، خارج التاريخ.
والعولمة في أصلها إقتصادية،قائمة على إزالة الحواجز والحدود أمام حركة التجارة،لإتاحة
حرية تنقل السلع ورأس المال.ومع أن الإقتصاد والتجارة مقصودان لذاتهما في العولمة،إلا
أنها لاتقتصرعليهماوحدهما وإنماتتجاوزهماإلى الحياة الثقافية والحياة الإجتماعيةبماتتضمنانه
من أنماط سلوكية ومذاهب فكرية و مواقف نفسية، وكل ذلك هوالذي يصوغ هويــة
الشعوب والأمم والأفراد.
وإذن.. فإن أولَ مظاهر العولمة هو تركيز النشاط الإقتصادي على الصعيد العالمي في يد
مجموعة قليلة العدد وبالتالي تهميش الباقي وإقصاؤه بالمرة .ومن هنا ظاهرة " التفاوت "
- علىحد قول الدكتور محمد عابد الجابري – الملازمة لظاهرة التركيز التي من هذاالنوع،التفاوت بين الدول ..والتفاوت داخل الدولة الواحدة ومن الأمثلة التي يوردها الإختصاصيون في هذا المجال لتوضيح هذه الظاهرة نقتبس مايلي:
إن خمس دول هي: الولايات المتحدة الأمريكية ..واليابان.. وفرنسا.. وألمانيا..
وبريطانيا.. تتوزع فيما بينها 172 شركة من أصل200 من أكبر الشركات العالمية.وهذه
الشركات المائتان العملاقة هي التي تسيطر عمليا على الإقتصاد العالمي،وهي ماضية في
إحكام سيطرتها عليه، إذ ارتفعت إستثماراتها في جميع أنحاء العالم وفي المدة مابين 1983-
1992 بوتائر سريعة جدا :أربع مرات في مجال الإنتاج، وثلاث مرات في مجال المبادلات
العالمية.وفي تقرير للأمم المتحدة أن 358 شخصا من كبار الأثرياء في العالم يساوي حجم
مصادر ثروتهم النقدية حجم المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاثمائة مليون شخص من
فقراء العالم ..وبعبارة أخرى..إن عشرين في المائة من كبار أغنياء العالم يقتسمون فيما
بينهم ثمانين في المائة من الإنتاج الداخلي الخام علىالعالمي، وأن الغنى والثروة إرتفعا بنسبة
ستين بالمئة في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1975-1995غير أن المستفدين من هذا
الإرتفاع الكبير في الغنى والثروة لا يتجاوز عددهم نسبة واحد بالمئة من الشعب الأمريكي
ونفس الظاهرة تستشري اليوم، وبسرعة في أوربا حيث يفرض نظام العولمة عليها ، بما
يقتضيه من منافسة حادة،التخفيض من التعويضات والخدمات الإجتماعية بصورة رهيبة،
وهي فوارق قائمة أصلا وبشكل واسع.
وإذن..فمن النتائج المباشرة للعولمة تعميم الفقر، وهو نتيجة حتمية لتعميق التفاوت .إن
القاعدة الإقتصادية التي تحكم إقتصاد العولمة هي: "إنتاج أكثر ما يمكن من الســـلع
والمصنوعات بأقل مايمكن من العمل ". إنه منطق المنافسة في إطار العولمة، ومن هنا نلاحظ
أن الظاهرة الملازمة للعولمة وربيبتها الخوصصة هي تسريخ العمال والموظفين.
والنتيجة التي يستخلصها الباحثون والمختصون في هذا المجال هي التالية:إذا كان النمـو
الإقتصادي في الماضي يخلق مناصب الشغل. فإن النمو الإقتصادي في إطار العولمة والليبرالية
المتوحشة يؤدي-ويتوقف على-تخفيض مناصب الشغل. إن بعض القطاعات في مجــال
الإلكترونيـات والإعلاميـات والإتصـال، وهي من القطاعات الأكثر رواجا في العالم،
لاتحتـاج إلا إلى عدد قليل من العمـال. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمـة
والخوصصة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما إلى أزمات سياسية.
وليس من هدفنا هنا تفصيلُ الحديث في الجوانب الإقتصادية للعولمة-مع أنها هي الأساسية
فيها-وسنقتصر حديثنا على نتائج هذه العولمة وما يترتب عليها بالضرورة ؛وهي الجوانب
الثقافية والحضارية لآتصالها بالهوية ( موضوع هذه المحاضرة ) بعد أ ن نجيب عــــن
الأسئلةالتي طرحناها في البداية حتى نُلمَّ بالعولمة من أطرافها .