التفكير
27-01-2001, 12:11 AM
كانت صحيفة الوطن قد تطرقت لأوضاع مكة المكرمة عدة مرات ، من خلال مقالات مهمة كتبهاعابد خزندار، كذلك خصص بعضا من مقالاته الجريئة لقضايا أساسية شاملة ، لكن جرى منعه من الكتابة ، ومن بين مقالاته المهمة مايلي : -
( 1 ) - مقال بعنوان : " ماذا يراد بمكة المكرمة ؟ " :-
بتشكيلها يعتبر نقلة نوعية في العمل على تطوير منطقة مكة وحل مشاكلها القائمة وخاصة ما يتعلق منها بالمنطقة المحيطة بالمسجد الحرام، ولكن يبدو أن الذين شرعوا في عملية التطوير مع بدايات توسعة المسجد الحرام والذين أتوا بعدهم لم يأخذوا في اعتبارهم سكان مكة أنفسهم والعواقب التي ستحل بهم نتيجة لعملية التطوير خاصة وأن التاريخ قد علمنا أن كل تغيير يطرأ على مكة المكرمة يؤدي إلى تهجير أهلها وتغريبهم بل وحتى تهجير العلم نفسه ونزوح العلماء إلى الأمصار العربية حتى قال شاعرها:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وأبدلنا ربي بها دار غربة
بها الذئب يعوي والعدو المخامر
وقال الآخر:
أنكرتها بعض أعوام مضين لها
لا الدار دارا ولا الجيران جيرانا
واليوم حين تبحث عن الأسر التي كانت تعيش في مكة المكرمة قبل مئة عام لن تجد أية بقية من خلفهم فقد هاجر البعض إلى الرياض والبعض الآخر إلى جدة وإلى مصر، ومع هجرة السكان هاجر العلم والأدب منها، وقبل خمسين عاما كان لدينا شيوخ وعلماء من أمثال عمر حمدان وعبدالله حمدوه وعيسى رواس وعرابي سجيني وعلي مالكي وعلوي مالكي ومحمد أمين كتبي وكان لدينا أدباء وشعراء مثل حمزة شحاته ومحمد عمر عرب وحسين نظيف ومحمد سعيد عبدالمقصود خوجة وعبدالوهاب آشى ومحمد سعيد العامودي وأحمد عبدالغفور عطار وحسين سرحان وأحمد السباعي وعبدالعزيز الرفاعي والكثير ممن لا تحضرني أسماؤهم، والقليل الذين بقوا من مجايليهم هاجروا من مكة مثل الأستاذ عبدالله عبدالجبار والشاعر محمد حسن فقي وعبدالله بلخير وحسن كتبي، والآن هناك إرهاصات بهجرة جديدة وتغريب جديد لسكان مكة، فالمنطقة التي تحيط بالمسجد الحرام ستتحول إلى ساحات وأبراج ضخمة تناطح السحاب، وحتى الجبال مثل جبل عمر وجبل الكعبة وجبل أجياد ستصبح كثيبا مهيلا سرعان ما يصبح هو الآخر أبراجا من الأسمنت والزجاج، وهذا كله سيكون على حساب سكان مكة المكرمة وخاصة الملاك الذين يملكون دورا قريبة من الحرم بعضها أدركه الخراب ولا يصلح لسكنى الحجاج وسيشتريه الموسرون ويحولونه إلى أبراج، والآخر بعيد عن الحرم ولن يجد من يسكنه من الحجاج مع وجود الأبراج التي ستتسع لمئات الآلاف، والنتيجة أن أصحاب هذه الدور سيحرمون من مورد رزقهم الوحيد وهو تأجير هذه الدور في موسم الحج والعمرة، ومع الأسف لا توجد موارد رزق أخرى لسكان مكة المكرمة بعد أن تحولت الطوافة إلى مؤسسات ستتطور مع الزمن إلى شركات سياحية كالشركات والمؤسسات التي تؤسس الآن للعمرة، ولهذا لن يجد السكان الحاليون مناصا من الهجرة إلى مدن أخرى تضيق بأهلها الآن مثل جدة والرياض، أما العلماء والأدباء فلم يعد لهم كما قلت قبل قليل أي وجود، فهل يراد لمكة المكرمة أن تصبح مجرد أبراج من الزجاج والأسمنت يقوم على خدمتها عمال مستقدمون، ويقطنها سكان موسميون، وينتهي بها الأمر إلى أن تصبح مدينة لا تنبض بالحياة الحقيقية، ويصبح بيت الله مكانا غير معمور، مكاناً لا يتردد فيه صوت العلم والعلماء، اللهم هذا بيتك فاعمره واجعله مثابة للناس وأمنا وملاذا للعلماء ومنبعا للإشعاع والهداية والنور، واللهم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك.
عابد خزندار
( 2 ) - مقال بعنوان : " وبعد الإزالة.. هل تدفع التعويضات؟ " :-
وسيزال المزيد من المباني القديمة التي تحيط بالمسجد الحرام، وسيحل محلها مدينة استوردت من شيكاغو أو نيويورك أو سنغافورة، مدينة من أبراج الأسمنت والزجاج، مدينة غير معمورة يسكنها سكان موسميون هم الحجاج والمعتمرون ويقوم على خدمتها جيش من الوافدين، ولهذا تبقى خالية وخاوية لا تنبض فيها الحياة الحقيقية ولا يذكر فيها اسم الله في معظم أيام السنة، وسيشرد أهلها كما شردوا في الماضي ويغربون وسيكون العلم أول المغربين، والآن وقد حدث ما حدث وهو ما لا نستطيع أن ندفعه: هل يعوض ملاك الأراضي التي أزيلت في الحال؟ أم ستتأخر التعويضات كما حدث في الماضي ويكتب على أهل مكة المكرمة كما كتب عليهم من قبل أن يعيشوا سنين طويلة في الفاقة والعوز؟ والسؤال بعد توقف مبلغ الإيجار السنوي الذي كانت الأملاك تدره عليهم، هذا فضلا عن التسكع في مكاتب الدولة والتردد على المحاكم، وأنا لا أبالغ، فثمة ملاك لم يستلموا تعويضات عن مبانيهم أو أراضيهم بعد الإزالة الأخيرة التي تمت قبل عشرين عاما، وأعرف أسرا ألجأتها الحاجة إلى مكاتب الضمان الاجتماعي فقيل لهم: "أنتم ملاك والنظام لا يسمح بإعطاء أي ضمان لكم" ومما يزيد مشكلة هؤلاء المساكين تعقيدا وضغثا على إبالة أن أملاكهم موقوفة، ولهذا فإن المبالغ التي تصرف لتعويضهم، وهذا إن دفعت في وقتها، تدفع للمحاكم ولا يتم صرفها إلا مقابل شراء عين بمبلغ مماثل، وبالطبع بعد موافقة القاضي أو اللجنة التي يشكلها لتثمين المبنى المراد شراؤه، وهي عملية محفوفة بالمماطلة والتسويف وغير ذلك مما يمنعني نظام المطبوعات من قوله. وأنا بالطبع لا أتهم أحدا بعينه، وهذا إن وجدت العين المراد شراؤها، وهو المستحيل ذاته، إذ إن هذه العين يجب أن تقع في منطقة الحرم التي لا توجد به أرض خالية، أما المباني فإن سعرها يرتفع ارتفاعا فلكيا عند كل إزالة، وينتهي الأمر بأن يعجز الشخص الذي عوض عن عينه المزالة عن العثور على مبنى أو عين يشتريها بالمبلغ الذي دفع له ولا يبقى له إلا الضياع وقبض الريح وانتظار الذي لا يأتي، وقد تحدث تعقيدات أخرى في المحاكم يستحيل معها صرف أي تعويض على الإطلاق، هذا مع افتراض أن جميع الملاك لديهم صكوك صحيحة لا غبار عليها، وهو افتراض ينفيه واقع الحال في معظم الأحيان، ولهذا يحرم هؤلاء الملاك من أي تعويض على الإطلاق، ومن هذه التعقيدات مسائل تعجز الجن العماليق عن حلها، فقد بعث لي ثلاث من الولايا أو الأرامل برسالة (وطلبن مني ألا أنشر أسماءهن، ولست أدري ما الذي يخشونه وقد ضاع كل ما يملكونه في هذه الحياة الفانية أصلا) يقلن فيها: إن عينهن أزيلت قبل عشرين عاما ولم تصرف لهن المحكمة أي تعويض لأن من بيده الأمر في المحكمة طلب إعادة تمتير الأرض، وهو بالطبع ما يستحيل تنفيذه لأن الأرض دخلت في توسعة المسجد الحرام وضاعت حدودها ومعالمها، ثم ماذا؟ لا أدري: "ففي القلب أشياء وفيك فطانة".. والأمر يحتاج إلى تدخل حاسم وسريع من وليّ الأمر كما حدث مع ملاك أراضي العابدية التي تقع في منطقة مشاعر مكة المكرمة والذين صدر الأمر السامي بتعويضهم عنها بعد عشرين عاما من اليأس المطبق والتسليم المطلق بالأمر الواقع، فعسى أن يتم شيء من هذا الأمر.
عابد خزندار
( 3 ) - مقال بعنوان : " سارق الرغيف " :-
أتابع ما تنشره صحفنا من حين لآخر من بيانات وزارة الداخلية التي تتضمن الأحكام التي تصدر بشأن المزورين والمرتشين، ومعظم- إن لم يكن كل- هؤلاء الأشخاص من البؤساء الذين يمثلهم بطل رواية بهذا الاسم ألفها فكتور هوجو، اسمه جان فالجان الذي سرق رغيفا مما أدى إلى سجنه وفراره من السجن ومطاردته طيلة حياته، والرواية ترجمت إلى العربية وتحولت أيضا إلى فلم عربي مثله فريد شوقي ولهذا لا داعي للحديث عنها بشيء من التفصيل، ويكفي أن أقول إن هذه الشخصية ما زالت تعيش على أرض الواقع، وما زال سارق الرغيف يلقى الجزاء الوبيل وسارق الملايين ينعم برفاهية العيش وبلهنيته فضلا عن احترام المجتمع وتقديره، وإليكم عينة من هذه البيانات التي نشرتها صحيفة المدينة في عددها الصادر في 10 شوال 1421هـ الموافق 5 يناير 2001م.
- أقدم عادل مطلوب شيخ الصارفي يمني الجنسية، المنشورة صورته، على جريمة عرض رشوة وأسفر التحقيق معه عن إدانته بما نسب إليه وبإحالته إلى ديوان المظالم صدر الحكم رقم 163/د/ج14 لعام 1420هـ المتضمن إدانته بما نسب إليه وتعزيره عن ذلك بسجنه خمسة أشهر مع مصادرة المبلغ محل الرشوة وبلغت الجهة المختصة بإنفاذه.
- أقدم كل من سالم علي محمد سعودي الجنسية ونور الإسلام فورو محمد بنجلاديشي الجنسية على جريمة الرشوة وأسفر التحقيق معهما عن إدانتهما بما نسب إليهما وبإحالتهما إلى ديوان المظالم صدر الحكم رقم 15/د/ج 7 لعام 1421هـ المتضمن إدانتهما وتعزيرهما عن ذلك بسجن كل واحد منهما ستة أشهر مع مصادرة المبلغ محل الجريمة وبلغت الجهة المختصة بإنفاذه... إلى أخر هذه الأحكام ومع أن المبلغ لم يذكر إلا أنني متأكد أنه لا يتجاوز ألف ريال بآية حال من الأحوال، وليت الجهة المختصة تنفي ذلك أو تؤكده، ومهما يكن فإن واقع الحال يشهد بذلك فما مقدار الرشوة التي يمكن أن يقدمها يمني أو بنجلاديشي أو سعودي بائس، كما يؤكد أنهم دفعوها مرغمين ومضطرين لقضاء حاجة لم يكن ثمة سبيل إلى قضائها بغير ذلك، ولأن المبلغ تافه فقد أقدم الموظف الشهم النزيه على فضحهما وإبلاغ السلطات عنهما، ولا شك أن موقفه سيختلف لو كان المبلغ المقدم مليون ريال، ولهذا فإننا لا نسمع البتة كما لا نقرأ مطلقا في البيانات التي تصدر من وزارة الداخلية عن مقدمي رشوة من كبار رجال الأعمال أو عن مرتشين من كبار الموظفين، ولا يمكن بالطبع - كما قلت غير مرة - أن يخلو مجتمعنا منهم، بل إننا نرى من حولنا ظواهر ومظاهر تدل على أن الرشوة هي الطريق الوحيد الذي أفضى إلى ثراء الكثيرين من الموظفين السابقين، وإلا كيف نفسر قيام موظف سابق - وهذا على سبيل المثال - ببيع أرض له بمبلغ مائة مليون ريال وامتلاك موظف آخر لمدينة في أبحر وامتلاك موظف آخر أيضا لأبراج في شارع من أهم شوارع جدة..إلخ ولا أعتقد أن القراء بحاجة إلى أن أعدد لهم الأمثلة بل إنني أحسب أنهم أكثر خبرة واطلاعاً مني في هذا الموضوع، وهذا كله في ظل وجود نظام صدر منذ أربعين عاما بعنوان "من أين لك هذا" وهو نظام يطالب الموظف عند تعيينه بتقديم إقرار عن ثروته وممتلكاته، وقد قمت أنا شخصيا بتوقيع مثل هذا الإقرار عندما تعينت في وزارة الزراعة، والمفروض أن يقدم الموظف إقرارا مماثلا عندما ينسق أو يحال إلى التقاعد ويصادر أي مبلغ لا يستطيع أن يثبت مصدره المشروع، وهذا ما كان يفعله الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد حاسب واحداً من كبار الصحابة وهو سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه حين وهب الشاعر الأشعث بن قيس عشرة آلاف درهم فأرسل إلى أبي عبيدة رضي الله عنه ليحاسبه قائلا: "فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقرّ بالخيانة وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف".
عابد خزندار
( 4 ) ومقال كان بعنوان : " وهل تغني النذر؟ " :-
وما زال مسلسل الجرائم والانتحارات في بلدنا مستمرا وآخر حلقة في هذا المسلسل ما نشرته صحيفة "الوطن" في عددها الصادر يوم الأحد الثاني عشر من شوال عام 1421هـ الموافق 7 يناير 2001م عن إقدام سعودي على قتل طفليه والشروع في الانتحار بعد ذلك، وفي العدد نفسه خبر عن انتحار فتاة في بريدة.
- وفي صحيفة الرياض العدد الصادر في اليوم نفسه الآنف الذكر تصريح لمدير الأمن العام الفريق الفريح استنكر فيه "التصرفات المتهورة الخاطئة من بعض الشباب "المراهقين" تجاه رجال الأمن وأفراد المجتمع ككل".
- ويوم السبت نشرت صحيفة الاقتصادية أي بتاريخ 11 شوال 1421هـ هذا الخبر: "شكلت إمارة منطقة مكة المكرمة لجنة سرية لمتابعة ظاهرة معاكسات وتسكع الشباب أمام مدارس وكليات البنات في جدة وأوصت اللجنة فور تشكيلها بمعاقبة الشباب الذين تثبت معاكستهم بـ30 جلدة في المرة الأولى والجلد والسجن في حال تكرار المخالفة.
- وفي العدد نفسه المار الذكر من صحيفة الاقتصادية خبر يقول: "قدم عدد من المجمعات التجارية في محافظة جدة في خطوة غير مسبوقة إيجارات مجانية تمتد إلى ثلاثة أعوام لوكلاء العلامات العالمية، في هذه الأثناء كشف بحث ميداني أجراه عبدالعزيز الشريف المحاضر في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة أن أكثر من 30% من أسواق جدة ومراكزها تواجه مشكلة تغطية النفقات على حساب المصروفات وحجم الاستهلاك.
- وفي العدد نفسه من صحيفة الاقتصادية يشكو أحد المواطنين من تعثر الشركات الزراعية ويقول: "نتابع يوميا حركة أسهم هذه الشركات ونرى التدني الذي تعيشه حيث لا أرباح ولا نشاطات تكفل النجاح، وقد تدنى سعر السهم في هذه الشركات إلى أقل من العشر".
- ونشرت صحيفة dawn الإلكترونية خبرا في عددها الصادر في 4 يناير 2001م أن عدد المسجلين في القائمة السوداء التي تصدرها بنوك المملكة تحت إشراف مؤسسة النقد السعودي قد بلغ 106.000 عميل، وذلك بسبب عجزهم عن تسديد القروض التي أخذوها من البنوك وبعضها ناشئ عن استخدام بطاقات الائتمان.
فهل تغني هذه النذر وتجعلنا نتحقق من أننا نعيش في ظل أزمة اقتصادية مزمنة لعل السبب الرئيسي فيها يعود إلى أننا نتيجة لسياسات خاطئة عجزنا أثناء الطفرة عن إنشاء قطاع خاص يتحمل عبء التنمية ويقلل من الاعتماد على الدولة في خلق فرص العمل وإيجاد الوظائف للخريجين والداخلين إلى سوق العمل والذين يتزايد عددهم عاما بعد عام، ولكن ما الحل وما العمل؟ المفروض أن نجد الجواب عند المجلس الاقتصادي الأعلى والهيئة العليا للاستثمار والهيئة العليا للسياحة، ولكن لنكن صريحين ونقولها مغلغلة أننا لا نجد حتى الآن بوادر اتخذتها هذه الهيئات تدل على أننا سنخرج من عنق الزجاجة ونتجاوز الوضع الراهن إلا إذا كان لدى المسؤولين رأي آخر، وفي هذه الحالة نتمنى أن نسمعه.
عابد خزندار
__________________
تمهل عزيزي القاريء إن سرّك قولي هذه المرة فقد لا يسرّك المرة القادمة، ،
وإن أغضبك الآن فقد يرضيك مستقبلا ،،
( 1 ) - مقال بعنوان : " ماذا يراد بمكة المكرمة ؟ " :-
بتشكيلها يعتبر نقلة نوعية في العمل على تطوير منطقة مكة وحل مشاكلها القائمة وخاصة ما يتعلق منها بالمنطقة المحيطة بالمسجد الحرام، ولكن يبدو أن الذين شرعوا في عملية التطوير مع بدايات توسعة المسجد الحرام والذين أتوا بعدهم لم يأخذوا في اعتبارهم سكان مكة أنفسهم والعواقب التي ستحل بهم نتيجة لعملية التطوير خاصة وأن التاريخ قد علمنا أن كل تغيير يطرأ على مكة المكرمة يؤدي إلى تهجير أهلها وتغريبهم بل وحتى تهجير العلم نفسه ونزوح العلماء إلى الأمصار العربية حتى قال شاعرها:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وأبدلنا ربي بها دار غربة
بها الذئب يعوي والعدو المخامر
وقال الآخر:
أنكرتها بعض أعوام مضين لها
لا الدار دارا ولا الجيران جيرانا
واليوم حين تبحث عن الأسر التي كانت تعيش في مكة المكرمة قبل مئة عام لن تجد أية بقية من خلفهم فقد هاجر البعض إلى الرياض والبعض الآخر إلى جدة وإلى مصر، ومع هجرة السكان هاجر العلم والأدب منها، وقبل خمسين عاما كان لدينا شيوخ وعلماء من أمثال عمر حمدان وعبدالله حمدوه وعيسى رواس وعرابي سجيني وعلي مالكي وعلوي مالكي ومحمد أمين كتبي وكان لدينا أدباء وشعراء مثل حمزة شحاته ومحمد عمر عرب وحسين نظيف ومحمد سعيد عبدالمقصود خوجة وعبدالوهاب آشى ومحمد سعيد العامودي وأحمد عبدالغفور عطار وحسين سرحان وأحمد السباعي وعبدالعزيز الرفاعي والكثير ممن لا تحضرني أسماؤهم، والقليل الذين بقوا من مجايليهم هاجروا من مكة مثل الأستاذ عبدالله عبدالجبار والشاعر محمد حسن فقي وعبدالله بلخير وحسن كتبي، والآن هناك إرهاصات بهجرة جديدة وتغريب جديد لسكان مكة، فالمنطقة التي تحيط بالمسجد الحرام ستتحول إلى ساحات وأبراج ضخمة تناطح السحاب، وحتى الجبال مثل جبل عمر وجبل الكعبة وجبل أجياد ستصبح كثيبا مهيلا سرعان ما يصبح هو الآخر أبراجا من الأسمنت والزجاج، وهذا كله سيكون على حساب سكان مكة المكرمة وخاصة الملاك الذين يملكون دورا قريبة من الحرم بعضها أدركه الخراب ولا يصلح لسكنى الحجاج وسيشتريه الموسرون ويحولونه إلى أبراج، والآخر بعيد عن الحرم ولن يجد من يسكنه من الحجاج مع وجود الأبراج التي ستتسع لمئات الآلاف، والنتيجة أن أصحاب هذه الدور سيحرمون من مورد رزقهم الوحيد وهو تأجير هذه الدور في موسم الحج والعمرة، ومع الأسف لا توجد موارد رزق أخرى لسكان مكة المكرمة بعد أن تحولت الطوافة إلى مؤسسات ستتطور مع الزمن إلى شركات سياحية كالشركات والمؤسسات التي تؤسس الآن للعمرة، ولهذا لن يجد السكان الحاليون مناصا من الهجرة إلى مدن أخرى تضيق بأهلها الآن مثل جدة والرياض، أما العلماء والأدباء فلم يعد لهم كما قلت قبل قليل أي وجود، فهل يراد لمكة المكرمة أن تصبح مجرد أبراج من الزجاج والأسمنت يقوم على خدمتها عمال مستقدمون، ويقطنها سكان موسميون، وينتهي بها الأمر إلى أن تصبح مدينة لا تنبض بالحياة الحقيقية، ويصبح بيت الله مكانا غير معمور، مكاناً لا يتردد فيه صوت العلم والعلماء، اللهم هذا بيتك فاعمره واجعله مثابة للناس وأمنا وملاذا للعلماء ومنبعا للإشعاع والهداية والنور، واللهم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك.
عابد خزندار
( 2 ) - مقال بعنوان : " وبعد الإزالة.. هل تدفع التعويضات؟ " :-
وسيزال المزيد من المباني القديمة التي تحيط بالمسجد الحرام، وسيحل محلها مدينة استوردت من شيكاغو أو نيويورك أو سنغافورة، مدينة من أبراج الأسمنت والزجاج، مدينة غير معمورة يسكنها سكان موسميون هم الحجاج والمعتمرون ويقوم على خدمتها جيش من الوافدين، ولهذا تبقى خالية وخاوية لا تنبض فيها الحياة الحقيقية ولا يذكر فيها اسم الله في معظم أيام السنة، وسيشرد أهلها كما شردوا في الماضي ويغربون وسيكون العلم أول المغربين، والآن وقد حدث ما حدث وهو ما لا نستطيع أن ندفعه: هل يعوض ملاك الأراضي التي أزيلت في الحال؟ أم ستتأخر التعويضات كما حدث في الماضي ويكتب على أهل مكة المكرمة كما كتب عليهم من قبل أن يعيشوا سنين طويلة في الفاقة والعوز؟ والسؤال بعد توقف مبلغ الإيجار السنوي الذي كانت الأملاك تدره عليهم، هذا فضلا عن التسكع في مكاتب الدولة والتردد على المحاكم، وأنا لا أبالغ، فثمة ملاك لم يستلموا تعويضات عن مبانيهم أو أراضيهم بعد الإزالة الأخيرة التي تمت قبل عشرين عاما، وأعرف أسرا ألجأتها الحاجة إلى مكاتب الضمان الاجتماعي فقيل لهم: "أنتم ملاك والنظام لا يسمح بإعطاء أي ضمان لكم" ومما يزيد مشكلة هؤلاء المساكين تعقيدا وضغثا على إبالة أن أملاكهم موقوفة، ولهذا فإن المبالغ التي تصرف لتعويضهم، وهذا إن دفعت في وقتها، تدفع للمحاكم ولا يتم صرفها إلا مقابل شراء عين بمبلغ مماثل، وبالطبع بعد موافقة القاضي أو اللجنة التي يشكلها لتثمين المبنى المراد شراؤه، وهي عملية محفوفة بالمماطلة والتسويف وغير ذلك مما يمنعني نظام المطبوعات من قوله. وأنا بالطبع لا أتهم أحدا بعينه، وهذا إن وجدت العين المراد شراؤها، وهو المستحيل ذاته، إذ إن هذه العين يجب أن تقع في منطقة الحرم التي لا توجد به أرض خالية، أما المباني فإن سعرها يرتفع ارتفاعا فلكيا عند كل إزالة، وينتهي الأمر بأن يعجز الشخص الذي عوض عن عينه المزالة عن العثور على مبنى أو عين يشتريها بالمبلغ الذي دفع له ولا يبقى له إلا الضياع وقبض الريح وانتظار الذي لا يأتي، وقد تحدث تعقيدات أخرى في المحاكم يستحيل معها صرف أي تعويض على الإطلاق، هذا مع افتراض أن جميع الملاك لديهم صكوك صحيحة لا غبار عليها، وهو افتراض ينفيه واقع الحال في معظم الأحيان، ولهذا يحرم هؤلاء الملاك من أي تعويض على الإطلاق، ومن هذه التعقيدات مسائل تعجز الجن العماليق عن حلها، فقد بعث لي ثلاث من الولايا أو الأرامل برسالة (وطلبن مني ألا أنشر أسماءهن، ولست أدري ما الذي يخشونه وقد ضاع كل ما يملكونه في هذه الحياة الفانية أصلا) يقلن فيها: إن عينهن أزيلت قبل عشرين عاما ولم تصرف لهن المحكمة أي تعويض لأن من بيده الأمر في المحكمة طلب إعادة تمتير الأرض، وهو بالطبع ما يستحيل تنفيذه لأن الأرض دخلت في توسعة المسجد الحرام وضاعت حدودها ومعالمها، ثم ماذا؟ لا أدري: "ففي القلب أشياء وفيك فطانة".. والأمر يحتاج إلى تدخل حاسم وسريع من وليّ الأمر كما حدث مع ملاك أراضي العابدية التي تقع في منطقة مشاعر مكة المكرمة والذين صدر الأمر السامي بتعويضهم عنها بعد عشرين عاما من اليأس المطبق والتسليم المطلق بالأمر الواقع، فعسى أن يتم شيء من هذا الأمر.
عابد خزندار
( 3 ) - مقال بعنوان : " سارق الرغيف " :-
أتابع ما تنشره صحفنا من حين لآخر من بيانات وزارة الداخلية التي تتضمن الأحكام التي تصدر بشأن المزورين والمرتشين، ومعظم- إن لم يكن كل- هؤلاء الأشخاص من البؤساء الذين يمثلهم بطل رواية بهذا الاسم ألفها فكتور هوجو، اسمه جان فالجان الذي سرق رغيفا مما أدى إلى سجنه وفراره من السجن ومطاردته طيلة حياته، والرواية ترجمت إلى العربية وتحولت أيضا إلى فلم عربي مثله فريد شوقي ولهذا لا داعي للحديث عنها بشيء من التفصيل، ويكفي أن أقول إن هذه الشخصية ما زالت تعيش على أرض الواقع، وما زال سارق الرغيف يلقى الجزاء الوبيل وسارق الملايين ينعم برفاهية العيش وبلهنيته فضلا عن احترام المجتمع وتقديره، وإليكم عينة من هذه البيانات التي نشرتها صحيفة المدينة في عددها الصادر في 10 شوال 1421هـ الموافق 5 يناير 2001م.
- أقدم عادل مطلوب شيخ الصارفي يمني الجنسية، المنشورة صورته، على جريمة عرض رشوة وأسفر التحقيق معه عن إدانته بما نسب إليه وبإحالته إلى ديوان المظالم صدر الحكم رقم 163/د/ج14 لعام 1420هـ المتضمن إدانته بما نسب إليه وتعزيره عن ذلك بسجنه خمسة أشهر مع مصادرة المبلغ محل الرشوة وبلغت الجهة المختصة بإنفاذه.
- أقدم كل من سالم علي محمد سعودي الجنسية ونور الإسلام فورو محمد بنجلاديشي الجنسية على جريمة الرشوة وأسفر التحقيق معهما عن إدانتهما بما نسب إليهما وبإحالتهما إلى ديوان المظالم صدر الحكم رقم 15/د/ج 7 لعام 1421هـ المتضمن إدانتهما وتعزيرهما عن ذلك بسجن كل واحد منهما ستة أشهر مع مصادرة المبلغ محل الجريمة وبلغت الجهة المختصة بإنفاذه... إلى أخر هذه الأحكام ومع أن المبلغ لم يذكر إلا أنني متأكد أنه لا يتجاوز ألف ريال بآية حال من الأحوال، وليت الجهة المختصة تنفي ذلك أو تؤكده، ومهما يكن فإن واقع الحال يشهد بذلك فما مقدار الرشوة التي يمكن أن يقدمها يمني أو بنجلاديشي أو سعودي بائس، كما يؤكد أنهم دفعوها مرغمين ومضطرين لقضاء حاجة لم يكن ثمة سبيل إلى قضائها بغير ذلك، ولأن المبلغ تافه فقد أقدم الموظف الشهم النزيه على فضحهما وإبلاغ السلطات عنهما، ولا شك أن موقفه سيختلف لو كان المبلغ المقدم مليون ريال، ولهذا فإننا لا نسمع البتة كما لا نقرأ مطلقا في البيانات التي تصدر من وزارة الداخلية عن مقدمي رشوة من كبار رجال الأعمال أو عن مرتشين من كبار الموظفين، ولا يمكن بالطبع - كما قلت غير مرة - أن يخلو مجتمعنا منهم، بل إننا نرى من حولنا ظواهر ومظاهر تدل على أن الرشوة هي الطريق الوحيد الذي أفضى إلى ثراء الكثيرين من الموظفين السابقين، وإلا كيف نفسر قيام موظف سابق - وهذا على سبيل المثال - ببيع أرض له بمبلغ مائة مليون ريال وامتلاك موظف آخر لمدينة في أبحر وامتلاك موظف آخر أيضا لأبراج في شارع من أهم شوارع جدة..إلخ ولا أعتقد أن القراء بحاجة إلى أن أعدد لهم الأمثلة بل إنني أحسب أنهم أكثر خبرة واطلاعاً مني في هذا الموضوع، وهذا كله في ظل وجود نظام صدر منذ أربعين عاما بعنوان "من أين لك هذا" وهو نظام يطالب الموظف عند تعيينه بتقديم إقرار عن ثروته وممتلكاته، وقد قمت أنا شخصيا بتوقيع مثل هذا الإقرار عندما تعينت في وزارة الزراعة، والمفروض أن يقدم الموظف إقرارا مماثلا عندما ينسق أو يحال إلى التقاعد ويصادر أي مبلغ لا يستطيع أن يثبت مصدره المشروع، وهذا ما كان يفعله الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد حاسب واحداً من كبار الصحابة وهو سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه حين وهب الشاعر الأشعث بن قيس عشرة آلاف درهم فأرسل إلى أبي عبيدة رضي الله عنه ليحاسبه قائلا: "فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقرّ بالخيانة وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف".
عابد خزندار
( 4 ) ومقال كان بعنوان : " وهل تغني النذر؟ " :-
وما زال مسلسل الجرائم والانتحارات في بلدنا مستمرا وآخر حلقة في هذا المسلسل ما نشرته صحيفة "الوطن" في عددها الصادر يوم الأحد الثاني عشر من شوال عام 1421هـ الموافق 7 يناير 2001م عن إقدام سعودي على قتل طفليه والشروع في الانتحار بعد ذلك، وفي العدد نفسه خبر عن انتحار فتاة في بريدة.
- وفي صحيفة الرياض العدد الصادر في اليوم نفسه الآنف الذكر تصريح لمدير الأمن العام الفريق الفريح استنكر فيه "التصرفات المتهورة الخاطئة من بعض الشباب "المراهقين" تجاه رجال الأمن وأفراد المجتمع ككل".
- ويوم السبت نشرت صحيفة الاقتصادية أي بتاريخ 11 شوال 1421هـ هذا الخبر: "شكلت إمارة منطقة مكة المكرمة لجنة سرية لمتابعة ظاهرة معاكسات وتسكع الشباب أمام مدارس وكليات البنات في جدة وأوصت اللجنة فور تشكيلها بمعاقبة الشباب الذين تثبت معاكستهم بـ30 جلدة في المرة الأولى والجلد والسجن في حال تكرار المخالفة.
- وفي العدد نفسه المار الذكر من صحيفة الاقتصادية خبر يقول: "قدم عدد من المجمعات التجارية في محافظة جدة في خطوة غير مسبوقة إيجارات مجانية تمتد إلى ثلاثة أعوام لوكلاء العلامات العالمية، في هذه الأثناء كشف بحث ميداني أجراه عبدالعزيز الشريف المحاضر في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة أن أكثر من 30% من أسواق جدة ومراكزها تواجه مشكلة تغطية النفقات على حساب المصروفات وحجم الاستهلاك.
- وفي العدد نفسه من صحيفة الاقتصادية يشكو أحد المواطنين من تعثر الشركات الزراعية ويقول: "نتابع يوميا حركة أسهم هذه الشركات ونرى التدني الذي تعيشه حيث لا أرباح ولا نشاطات تكفل النجاح، وقد تدنى سعر السهم في هذه الشركات إلى أقل من العشر".
- ونشرت صحيفة dawn الإلكترونية خبرا في عددها الصادر في 4 يناير 2001م أن عدد المسجلين في القائمة السوداء التي تصدرها بنوك المملكة تحت إشراف مؤسسة النقد السعودي قد بلغ 106.000 عميل، وذلك بسبب عجزهم عن تسديد القروض التي أخذوها من البنوك وبعضها ناشئ عن استخدام بطاقات الائتمان.
فهل تغني هذه النذر وتجعلنا نتحقق من أننا نعيش في ظل أزمة اقتصادية مزمنة لعل السبب الرئيسي فيها يعود إلى أننا نتيجة لسياسات خاطئة عجزنا أثناء الطفرة عن إنشاء قطاع خاص يتحمل عبء التنمية ويقلل من الاعتماد على الدولة في خلق فرص العمل وإيجاد الوظائف للخريجين والداخلين إلى سوق العمل والذين يتزايد عددهم عاما بعد عام، ولكن ما الحل وما العمل؟ المفروض أن نجد الجواب عند المجلس الاقتصادي الأعلى والهيئة العليا للاستثمار والهيئة العليا للسياحة، ولكن لنكن صريحين ونقولها مغلغلة أننا لا نجد حتى الآن بوادر اتخذتها هذه الهيئات تدل على أننا سنخرج من عنق الزجاجة ونتجاوز الوضع الراهن إلا إذا كان لدى المسؤولين رأي آخر، وفي هذه الحالة نتمنى أن نسمعه.
عابد خزندار
__________________
تمهل عزيزي القاريء إن سرّك قولي هذه المرة فقد لا يسرّك المرة القادمة، ،
وإن أغضبك الآن فقد يرضيك مستقبلا ،،