الغرضون
11-04-2001, 05:11 AM
زار بابا الفاتيكان- أعلى مرجع كاثوليكي في العالم - مصر، وهى المرة الأولى التي يزور فيها (أسقف روما، خليفة القديس بطرس، نائب يسوع المسيح، أمير الرسل، الحبر الأعظم للكنيسة العالمية، بطريرك الغرب، كبير أساقفة إيطاليا، رئيس أساقفة المقاطعة الرومية،عاهل دولة مدينة الفاتيكان) - كما تصفه موسوعات ومراجع الدين والفلسفة في الغرب – يزور فيها مصر في إطار ما وصفه هو نفسه بأنه حج للأراضي التي شهدت وصايا الـلـه - سبحانه وتعالى - لموسى - عليه السلام - ثم هي الأراضي التي شهدت رحلة العائلة المقدسة إلى مصر والبقاء بـها أكثر من ثلاث سنوات ونصف، أي أن زيارة البابا لمصر تأتي في إطار عمل ديني كاثوليكي ألا وهو الحج لما يعتبره أراضي مقدسة بالنسبة للنصارى واليهود معاً.
ويأتي هذا الحج في إطار أشواقٍ قديمةٍ - تلبست البابا منذ كان كاردينالاً في بولندا - لزيارة مصر، حيث يقتفي الآثار التي كونت في النهاية العهدين القديم والجديد، أي اليهودية والنصرانية، وهما في الواقع الأساس الثقافي للحضارة الغربية المعاصرة، ويأتي حج البابا لمصر في إطار احتفاله بالألفية الجديدة لميلاد المسيح عليه السلام.
وكما هو معلوم فإن الاحتفال بالألفية بداية هذا القرن كان تدشيناً لما يمكن أن نطلق عليه "العولمة الدينية"، بمعنى فرض حدث معين على العالم كله في لحظة واحدة يمارس فيه الجميع نفس الطقوس والسلوك والمشاعر والمشاهد والممارسات. وليس القصد هو المشاركة في الممارسة على المستوى الكوني أو العالمي، وإنما القصد هو نقل القيم والأخلاق والمبادئ التعليمية إلى أولئك الذين يعيشون الحدث الكوني، خاصة ما تصفهم أدبيات الفاتيكان "بغير المسيحيين"، وكما حدث مع عولمة الاحتفال بالألفية، فإن البابا أراد أن يجعل من حجه لمصر حدثاً ذا طابعٍ عالمي وكوني، إذ صحبه وفدٌ كبيرٌ من رجال الدين الكاثوليك وخمسون صحفياً في إطار تدشين ما أطلقنا عليه "العولمة الدينية"، وهذه العولمة تدخل في إطار التبشير للكاثوليكية الغربية على وجه الخصوص، باعتبارها الصيغة التي يجب أن تجمع كل النصارى والكنائس أولاً، ثم تقوم بعد ذلك بتنصير غير النصارى وعلى رأسهم الوثنيون؛ حتى لا يسبق الإسلام إلى هناك فيجذبـهم إليه.
وقائع الزيارة:استغرقت زيارة البابا لمصر ثلاثة أيام بدأت يوم الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي، وفي اليوم الأول زار بطريرك الأقباط الأرثوذكس الذي رفض أن يكون في استقباله بمطار القاهرة مع جوقة المستقبلين والذين كان على رأسهم حسني مبارك ومن بينهم شيخ الأزهر، كما زار الأزهر الشريف حيث تلقاه شيخ الأزهر على الباب مع وفدٍ من علماء الأزهر الذين جلسوا إلى جوار رجال الدين الكاثوليك مختلطين - كل شيخ إلى جواره كاردينال، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الإسلام الذي يدخل إلى الأزهر الشريف بابا الفاتيكان؛وفي اليوم الثاني الذي وافق يوم الجمعة – وهو يوم عيد للمسلمين وجماعتهم – بدأت العولمة الدينية ذات الطابع التنصيري حيث أقام البابا قداساً في الصالة المغطاة بملعب القاهرة الدولي، وذلك في الساعة الثامنة وخمس وأربعين دقيقة، حيث أُعدت منصة خشبية كبيرة بُني عليها مذبح وتم الاحتفال بالقداس في حضور ثلاثين ألفاً من الكاثوليك، وحضر الصلاة الكاثوليكية مع البابا أربعة كرادلة وخمسة بطاركة وأربعون مطراناً وأكثر من ثلاثمائة من القساوسة وهذه هي الصلاة الكاثوليكية الأولى في مصر التي يتقدمها البابا بمثل هذا العدد الضخم من الشهود والتي تم بثها مباشرة إلى العالم كله بسبع لغات مختلفة، واستقبل الحضور البابا بقولهم: "نحن نحبك" باللغة الإنكليزية، وكانت الأعلام الكاثوليكية بمختلف الألوان تنطلق عليها صورة البابا، وفي مساء اليوم نفسه دشن البابا أكبر وأحدث كنيسة كاثوليكية في مصر، وأقام بـها قداساً مشتركاً مع بطريرك الأقباط الأرثوذكس، حيث يقول من حضروا الحفل إن رجال الدين الأرثوذكس والكاثوليك التفوا حول بابا الفاتيكان والكنيسة الأرثوذكسية وأقاموا قداساً مشتركاً حيث قالوا عبارة "قبِّلوا بعضكم بعضاً"، وتصافح بابا الكاثوليك والأرثوذكس؛ لإنـهاء ما وُصف في تاريخ العلاقة بينهما بأنه "تاريخ الشقاق"؛وفـي اليوم الأخير من الزيارة المعولمة قام البابا بزيارة دير سانت كاترين بسيناء، حيث ألقى موعظة خارج الدير بحدائق الزيتون حضرها أربعمائة شخصية نصرانية، ثم عاد إلى القاهرة حيث غادرها إلى الفاتيكان استعداداً لزيارة فلسطين المحتلة في الأسبوع الأخير من شهر مارس الجاري.
تنازع الهيمنة:الشيء المؤكد أن وقائع الزيارة - بما صاحبها من حملة إعلامية - كانت عملاً تنصيرياً أخذ طابع الاعتساف والهيمنة لإظهار البابا كزعامة كاثوليكية تسعى لفرض ما تريده على الدين الإسلامي في عمق دياره وقلبها وهي مصر، فالهدف إضفاء الطابع النصراني عليها يوم عيدها، فلم يكن لائقاً ولا مناسباً إقامة أكبر قداس كاثوليكي في المنطقة يوم الجمعة بأكبر بلد إسلامي في العالم العربي، وتكفي الإشارة إلى أن اليهود يرفضون بشدة أن توافق زيارة البابا القادم إلى الكيان الصهيوني يوم السبت يوم عطلتهم ؛والدلالة الرمزية هنا هي إبداء الهيمنة الكاثوليكية وممارسة التنصير في عيد المسلمين، ولأن الإسلام لا بواكي له في مصر، فإن أحداً لم يعترض. وللإشارة إلى أهمية الأبعاد الرمزية والتنصيرية في زيارة البابا، فإن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية المصرية لم يقابل بابا الفاتيكان في المطار؛ لإبداء أن رأسه برأس البابا القادم من الغرب، أي أن هناك نوعاً من تنازع الهيمنة بين المذهبين، كما لم تسمح طائفة الروم الأرثوذكس التي تمتلك دير "سانت كاترين" لبابا الفاتيكان بإقامة قداس – يترأسه هو – داخل الدير؛ حتى لا يفهم أن الدير يدخل في تبعيته الكاثوليكية ؛ولذا فإن بابا "الفاتيكان" صلى خارج الدير بحدائق الزيتون المجاورة ولم يصلِّ داخل دير سانت كاترين، ويبدو أن الصراع على الدير أججته زيارة البابا، حيث اقتحم الأنبا "مكاري" بناية مجاورة للدير أشبه بفندق، وادعى أنـها كنيسة للأرثوذكس كجزء من محاولة للاستيلاء على الدير كله والذي تملكه طائفة الروم الأرثوذكس التي لا تتبع الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان ولا الكنيسة الأرثوذكسية في حي العباسية بالقاهرة ،والبابا في زياراته وتحركاته يضع نصب عينيه أن يكون مَثَار اهتمام الكاثوليك في العالم وأن هذا جزء مما يُطلق عليه "ديبلوماسية البابوية"، حيث يعتمد السفر والترحال وضخامة الاستقبالات وإقامة القداس وتقديم العظات، باعتبارها وسائل للإحياء الروحي للكاثوليكية في العالم، كما أنـها جزء من حملات التنصير في البلدان التي تستقبله، وتكفي الإشارة إلى أن البابا "يوحنا بولس الثاني" قد زار 125 دولة في 92 رحلة خارج إيطاليا منذ توليه البابوية عام 1987، وحين اُتـهم بالإفراط في رحلاته إلى الخارج قال: "إن المسيح لم يقل لنا اجلسوا في الفاتيكان ولكنه قال اذهبوا إلى كل مكان في العالم".
الفاتيكان ... الغرب:الفاتيكان هي أصغر مدينة في العالم من حيث مساحتها وحجم سكانـها، إذ تبلغ مساحتها 44 كم2 تقريباً، بينما لا يتعدى تعداد سكانـها الألف نسمة، ومن ثم فهي في الواقع كنيسة كبيرة داخل إيطاليا، بيد أنـها دولة لها استقلالها الكامل وفق اتفاقية "اللاتيران" التي أعطت للفاتيكان حق التمثيل الديبلوماسي في حوالي 126 دولة في العالم،ويتميز سفراء الفاتيكان لدى الدول الأخرى والذين يطلق عليهم "مبعوثو الكرسي الرسولي" بصفة مزدوجة، حيث يمثلون الفاتيكان لدى الدول والحكومات المضيفة، كما يمثلونه أيضاً لدى الكنائس الكاثوليكية التي تنخرط تحت عبارة الولاء للزعامة الروحية للبابا، ومن ثم فإن الفاتيكان يتمتع في الواقع بالسيطرة على أكبر تنظيم عالمي منتشر في كل بقاع العالم، هذا التنظيم هو الكنائس الكاثوليكية التي تخضع للفاتيكان، وكما هو معلوم فإن الكنائس لم تعد مجرد أبنية لممارسة الشعائر التعبدية والدينية، وإنما صار لها دورٌ هائل يشمل تأدية الخدمات الاجتماعية والثقافية، والانخراط في الكفاح الوطني والقضايا السياسية ،وتظهر تلك الأهداف بوضوح بالنظر إلى الكنائس الكاثوليكية في أمريكا الوسطى ومنطقة الكاريبي. وقد ساعد هذا التنظيم الكنسي الكاثوليكي في الواقع على مقاومة الشيوعية بل وإسقاطها والتعاون في ذلك مع أجهزة الاستخبارات الغربية والأمريكية خاصة المخابرات الأمريكية،فسقوط النظام الشيوعي في بولندا كان جزءاً من رحلة دشنها البابا إليها عام 1979، حيث هبطت طائرته في مطار "وارسو" ودقت الأجراس الكنسية في أوروبا الشرقية والوسطى، أي في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وألمانيا الشرقية وليتوانيا، وحضر القداس الذي أقامه في بولندا ثلاثمائة ألف شخص، وألقى البابا عظته التي أشعلت حماس المواطنين وكانت البداية لاهتمام رونالد ريغان والاستخبارات الأمريكية بالتعاون مع الفاتيكان لإسقاط هذه الأنظمة الشيوعية، ونظم بابا الفاتيكان حركة تضامن ومولها ودعمها بتعاونٍ كامل مع الاستخبارات الغربية والأمريكية، وقال "جورباتشوف" عن دور الفاتيكان في إسقاط هذه الأنظمة: "يمكن للمرء أن يقول إن ما حدث في أوروبا الشرقية في السنوات الأخيرة كان مستحيلاً بدون جهود البابا والدور الهائل الذي قام به من خلال الدور السياسي الذي لعبه على الساحة العالمية". وفي الواقع فإن الفاتيكان بمحاولته فرض العولمة الكاثوليكية التنصيرية يستند في ذلك إلى التكامل مع العولمة الثقافية الأمريكية والغربية، والتي تسعى إلى فرض النموذج الحضاري الغربي على العالم، وهو نموذج يَسْتلْهِمُ ويستبطن الكاثوليكية واليهودية. إن الوجه السياسي للعولمة والذي تعبر عنه الدول المنتصرة بعد نـهاية الحرب الباردة – خاصة أمريكا – قد يدفع الناس للتردد في قبوله أو التخوف منه؛ لما يمثله من هيمنةٍ ثقافية وسيطرةٍ سياسية، وهنا يأتي الوجه الديني للفاتيكان الذي يلبَس القفازات الناعمة ليضرب ويؤثر حيث لا يمكن للدول أو الساسة أن يقوموا بـهذا فالبابا يؤمن بالتحررية ويسعى إلى العمل على إسقاط الشيوعية، ومن هنا كان اعترافه بتبرئة اليهود من دم المسيح (لأنـهم يؤمنون بصلب المسيح) في مجمع الفاتيكان المسكوني الثاني (1962-1965)، وكان هذا الاعتراف اعترافاً سياسياً بـهدف تكوين جبهة في مواجهة الشيوعية من ناحية ومحاصرة الإسلام والإجهاز عليه من ناحية أخرى عن طريق إقرار مبدأ الحوار مع الديانات غير النصرانية. ولا بد من التذكير بأن اليهودية سعت في السابق إلى اختراق النصرانية عبر مرقص الذي وضع أسسها الوثنية، وتسعى الآن إلى اختراق المؤسسات الدينية النصرانية وعلى رأسها الفاتيكان. كما أن البروتستانتية ليست إلا قراءة نصرانية للتوراة، وتعد وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح وكذا الاعتذار عن موقف الفاتيكان من ممارسة النازية ضد اليهود - تعد دليلاً على هيمنة واختراق الصهيونية للمؤسسات الكنسية الغربية ومؤشراً على زيادة النفوذ اليهودي في السياسة العالمية الغربية، حيث يتصاعد تيار الأصولية الإنجيلية؛فالفاتيكان هو الوجه الديني للعولمة، والتي تـهدف في النهاية إلى فرض النموذج الحضاري الغربي على بقية دول العالم. ويتكامل دور الفاتيكان هذا مع دوره القديم في الحروب الصليبية، ثم التنصير الذي تعانق مع الاستعمار الغربي للعالم العربي والإسلامي ولإفريقية ولآسيا، ثم الدور الاستشراقي الذي لا يزال مستمراً، ولكن الفاتيكان يغير أساليبه لتتواءم مع طبيعة العالم المعاصر، ويعتمد مبدأً خطيراً اسمه "الحوار مع الأديان غير النصرانية"، ويأتي على رأسها الإسلام، وليس الحوار سوى جزء من ممارسة التنصير والدعوة إلى النصرانية، لذا تطلق بعض المراجع على الكنيسة عبارة "الشريك الكامل للإمبريالية الغربية"، وكان البابا قد ألغى زيارته لمنطقة "أور" بالعراق؛ بسبب الضغوط الأمريكية التي تمارسها من أجل استمرار الحصار الأمريكي الغربي المفروض على العراق.
خطاب البابا والتنصير:قال البابا في زيارته لمصر: "إنه في الوقت الذي يحتفل فيه المسيحيون بمرور ألفي عام على ميلاد المسيح، كان من الواجب القيام بالحج للأماكن التي شهدت بداية تاريخ الخروج من العبودية وتاريخ علاقة المحبة بين الرب والبشر"، وقال: "إن حباً بلا حدود وبلا أغراض يجسد التزام الكنيسة الكاثوليكية تجاه الشعب المصري في مجالات التربية والصحة والأعمال الخيرية"، وقال في زيارته لدير سانت كاترين: "لا يوجد خارج الوصايا العشر مستقبل مشرق أو سلام للأشخاص والمجتمعات والأمم"، وقال أيضاً: "إن حجي يأتي اليوم بي إلى مصر وأنا أتوجه حيث أظهر الـلـه اسمه إلى موسى كعلامة لكرمه وطيبته نحو خلقه"، وبتحليل هذا الخطاب "البابوي" نجده يتضمن استبطاناً واضحاً للتنصير؛ لأن الديبلوماسية البابوية في خطابـها تتعمد الغموض، بل وتسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية لحساسية الحقل الذي تعمل فيه، وهو مجال يتصل بالهوية والعقيدة والثقافة، فهو يرى أن النصرانية تجديد لليهودية، ويرى أن "يسوع" – بتعبيرهم - هو موسى جديد، وأن الوصايا العشر هي أساس النظم الحضارية التي لا يجوز الخروج عليها فأين الإسلام إذن في حديث البابا؟ إن مستقبل البشرية لا يوجد خارج إطار النصرانية بوصاياها العشر، أي أن الإسلام - في رأي البابا - لا يمثل مستقبلاً له وهو دعوة للتنصير. وبينما يسعى البابا إلى توحيد الكنائس المختلفة وإذابة الخلافات المذهبية بينها، فإنه يقدم "الحوار" مع المسلمين كوسيلة للتنصير، أي أن توحيد الكنائس هو جزء من الاستيعاب الكاثوليكي للمذاهب والكنائس الأخرى في إطار المواجهة مع الإسلام، والحوار هو جزء من تخدير مؤقت للمسلمين؛ لكي يمكن للكنيسة الكاثوليكية أن تقوم بتنصير العالم، وكما يقول أوليفيه كليمون: "إن الحوار - التبشير عبارة عن عملية تغليف مُذَهَّبَة عصرية لحياة قديمة كانوا يفرضونـها قهراً على الشعوب في الماضي".ويتحدث البابا عن تجاوز الخلافات، وتجاوز الخلافات ليس في صالح المسلمين، لأننا نعترف بعيسى عليه السلام وبأمه مريم العذراء البتول، ونؤمن بأنه بشر وعبد لله. فتجاوز الخلافات معناها القبول بالوثنية النصرانية من ناحية وعدم الاعتراف بمحمد عليه السلام من جانب النصرانية من ناحية أخرى، وهذا هو معنى التسامح والمودة والمحبة التي تكثر في حديث البابا وعظاته. والبابا يوحنا بولس الثاني يقول في خطابه "روعة الحقيقة": "إن الحوار بين الديانات يشكل جزءاً من رسالة الكنيسة التبشيرية، فهو باعتباره طريقة ووسيلة لمعرفةٍ وإغناءٍ متبادلين لا يتعارض مع الرسالة إلى الأمم – التبشير. إنه بالعكس مرتبط بـها بنوعٍ خاص وهو تعبيرٌ عنها"، ويؤكد أن الخلاص يأتي من المسيح وأن الحوار لا يعفي من التبشير بالإنجيل، ولا ترى الكنيسة أي تناقض بين البشارة بالمسيح والحوار بين الديانات.
الفاتيكان والواقع:فإذا انتقلنا من الحوار والعظات إلى الواقع وجدنا مواقف الفاتيكان ضد الإسلام والمسلمين، فالفاتيكان أقام علاقات مع الكيان الصهيوني عام 1993، ولا يزال على الرغم من اتفاقه في فبراير الماضي مع السلطة الوطنية الفلسطينية يرى القدس والأماكن المقدسة بـها – وعلى رأسها المسجد الأقصى – ملكاً للديانات الثلاث على حد قوله، ذلك على الرغم من أنـها ملك للإسلام والمسلمين منذ فتحها عمر بن الخطاب رضي الـلـه عنه ؛وحين أراد المسلمون في مدينة الناصرة بناء مسجد لهم على أرض وقفٍ إسلامي مقابلة لكنيسة البشارة وجه الفاتيكان تحذيراً إلى السلطات الصهيونية، وقال الرسول - السفير الفاتيكاني - لدى الكيان الصهيوني: " إن المسيحيين في العالم كافة يعارضون بناء هذا المسجد، وبناؤه قد يسيء إلى الاحتفالات المقررة عام 2000"، وأغلقت الكنائس النصرانية في الناصرة - أكبر مدن فلسطين المحتلة قبل عام 1948 - أبوابـها يومين احتجاجاً على بناء المسجد، واعتبر الفاتيكان أن بناء المسجد في مواجهة الكنيسة يزعج الحجاج المسيحيين. لقد كان الفاتيكان وراء تدعيم انفصال تيمور الشرقية عن أندونيسيا، بينما لم يتحرك البابا إزاء مذابح المسلمين التي يقوم بـها الروس منذ خمسة أشهر ضد أهل الشيشان، وأنشأت الكنيسة الكاثوليكية ما أطلقت عليه "الأمانة العامة لشئون الديانات غير المسيحية"، وهي الأمانة التي أُسست للحوار مع المسلمين بشكل أساسي، كما أنشأت الكنيسة الكاثوليكية "مجلس الكنائس العالمي"، وهو مركز التخطيط والتمويل والتنفيذ لفرض النصرانية على العالم وتعقد الكنيسة مؤتمرات لرؤساء كنائس الشرق الأوسط لتعزيز الوجود النصراني في العالم العربي والإسلامي. وفي مؤتمر البطاركة والأساقفة الكاثوليكي الذي عقد في بيروت في مايو 1999 - طالب المؤتمرون بعدم الهجرة وعدم التقوقع والانطواء وعدم العيش جزراً منعزلة حتى لا تضيع الهوية الكنسية، واعتبر الهجرة نزيفاً يهدد الجماعات النصرانية ويعرِّضها للضياع والذوبان.إن تعاظم الدور العالمي للدين وللثقافة وللهوية - بعد انتهاء الحرب الباردة - يعظم دور الفاتيكان في فرض العولمة الدينية التنصيرية لتسهيل فرض العولمة الغربية في المجالات الأخرى.
ويأتي هذا الحج في إطار أشواقٍ قديمةٍ - تلبست البابا منذ كان كاردينالاً في بولندا - لزيارة مصر، حيث يقتفي الآثار التي كونت في النهاية العهدين القديم والجديد، أي اليهودية والنصرانية، وهما في الواقع الأساس الثقافي للحضارة الغربية المعاصرة، ويأتي حج البابا لمصر في إطار احتفاله بالألفية الجديدة لميلاد المسيح عليه السلام.
وكما هو معلوم فإن الاحتفال بالألفية بداية هذا القرن كان تدشيناً لما يمكن أن نطلق عليه "العولمة الدينية"، بمعنى فرض حدث معين على العالم كله في لحظة واحدة يمارس فيه الجميع نفس الطقوس والسلوك والمشاعر والمشاهد والممارسات. وليس القصد هو المشاركة في الممارسة على المستوى الكوني أو العالمي، وإنما القصد هو نقل القيم والأخلاق والمبادئ التعليمية إلى أولئك الذين يعيشون الحدث الكوني، خاصة ما تصفهم أدبيات الفاتيكان "بغير المسيحيين"، وكما حدث مع عولمة الاحتفال بالألفية، فإن البابا أراد أن يجعل من حجه لمصر حدثاً ذا طابعٍ عالمي وكوني، إذ صحبه وفدٌ كبيرٌ من رجال الدين الكاثوليك وخمسون صحفياً في إطار تدشين ما أطلقنا عليه "العولمة الدينية"، وهذه العولمة تدخل في إطار التبشير للكاثوليكية الغربية على وجه الخصوص، باعتبارها الصيغة التي يجب أن تجمع كل النصارى والكنائس أولاً، ثم تقوم بعد ذلك بتنصير غير النصارى وعلى رأسهم الوثنيون؛ حتى لا يسبق الإسلام إلى هناك فيجذبـهم إليه.
وقائع الزيارة:استغرقت زيارة البابا لمصر ثلاثة أيام بدأت يوم الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي، وفي اليوم الأول زار بطريرك الأقباط الأرثوذكس الذي رفض أن يكون في استقباله بمطار القاهرة مع جوقة المستقبلين والذين كان على رأسهم حسني مبارك ومن بينهم شيخ الأزهر، كما زار الأزهر الشريف حيث تلقاه شيخ الأزهر على الباب مع وفدٍ من علماء الأزهر الذين جلسوا إلى جوار رجال الدين الكاثوليك مختلطين - كل شيخ إلى جواره كاردينال، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الإسلام الذي يدخل إلى الأزهر الشريف بابا الفاتيكان؛وفي اليوم الثاني الذي وافق يوم الجمعة – وهو يوم عيد للمسلمين وجماعتهم – بدأت العولمة الدينية ذات الطابع التنصيري حيث أقام البابا قداساً في الصالة المغطاة بملعب القاهرة الدولي، وذلك في الساعة الثامنة وخمس وأربعين دقيقة، حيث أُعدت منصة خشبية كبيرة بُني عليها مذبح وتم الاحتفال بالقداس في حضور ثلاثين ألفاً من الكاثوليك، وحضر الصلاة الكاثوليكية مع البابا أربعة كرادلة وخمسة بطاركة وأربعون مطراناً وأكثر من ثلاثمائة من القساوسة وهذه هي الصلاة الكاثوليكية الأولى في مصر التي يتقدمها البابا بمثل هذا العدد الضخم من الشهود والتي تم بثها مباشرة إلى العالم كله بسبع لغات مختلفة، واستقبل الحضور البابا بقولهم: "نحن نحبك" باللغة الإنكليزية، وكانت الأعلام الكاثوليكية بمختلف الألوان تنطلق عليها صورة البابا، وفي مساء اليوم نفسه دشن البابا أكبر وأحدث كنيسة كاثوليكية في مصر، وأقام بـها قداساً مشتركاً مع بطريرك الأقباط الأرثوذكس، حيث يقول من حضروا الحفل إن رجال الدين الأرثوذكس والكاثوليك التفوا حول بابا الفاتيكان والكنيسة الأرثوذكسية وأقاموا قداساً مشتركاً حيث قالوا عبارة "قبِّلوا بعضكم بعضاً"، وتصافح بابا الكاثوليك والأرثوذكس؛ لإنـهاء ما وُصف في تاريخ العلاقة بينهما بأنه "تاريخ الشقاق"؛وفـي اليوم الأخير من الزيارة المعولمة قام البابا بزيارة دير سانت كاترين بسيناء، حيث ألقى موعظة خارج الدير بحدائق الزيتون حضرها أربعمائة شخصية نصرانية، ثم عاد إلى القاهرة حيث غادرها إلى الفاتيكان استعداداً لزيارة فلسطين المحتلة في الأسبوع الأخير من شهر مارس الجاري.
تنازع الهيمنة:الشيء المؤكد أن وقائع الزيارة - بما صاحبها من حملة إعلامية - كانت عملاً تنصيرياً أخذ طابع الاعتساف والهيمنة لإظهار البابا كزعامة كاثوليكية تسعى لفرض ما تريده على الدين الإسلامي في عمق دياره وقلبها وهي مصر، فالهدف إضفاء الطابع النصراني عليها يوم عيدها، فلم يكن لائقاً ولا مناسباً إقامة أكبر قداس كاثوليكي في المنطقة يوم الجمعة بأكبر بلد إسلامي في العالم العربي، وتكفي الإشارة إلى أن اليهود يرفضون بشدة أن توافق زيارة البابا القادم إلى الكيان الصهيوني يوم السبت يوم عطلتهم ؛والدلالة الرمزية هنا هي إبداء الهيمنة الكاثوليكية وممارسة التنصير في عيد المسلمين، ولأن الإسلام لا بواكي له في مصر، فإن أحداً لم يعترض. وللإشارة إلى أهمية الأبعاد الرمزية والتنصيرية في زيارة البابا، فإن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية المصرية لم يقابل بابا الفاتيكان في المطار؛ لإبداء أن رأسه برأس البابا القادم من الغرب، أي أن هناك نوعاً من تنازع الهيمنة بين المذهبين، كما لم تسمح طائفة الروم الأرثوذكس التي تمتلك دير "سانت كاترين" لبابا الفاتيكان بإقامة قداس – يترأسه هو – داخل الدير؛ حتى لا يفهم أن الدير يدخل في تبعيته الكاثوليكية ؛ولذا فإن بابا "الفاتيكان" صلى خارج الدير بحدائق الزيتون المجاورة ولم يصلِّ داخل دير سانت كاترين، ويبدو أن الصراع على الدير أججته زيارة البابا، حيث اقتحم الأنبا "مكاري" بناية مجاورة للدير أشبه بفندق، وادعى أنـها كنيسة للأرثوذكس كجزء من محاولة للاستيلاء على الدير كله والذي تملكه طائفة الروم الأرثوذكس التي لا تتبع الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان ولا الكنيسة الأرثوذكسية في حي العباسية بالقاهرة ،والبابا في زياراته وتحركاته يضع نصب عينيه أن يكون مَثَار اهتمام الكاثوليك في العالم وأن هذا جزء مما يُطلق عليه "ديبلوماسية البابوية"، حيث يعتمد السفر والترحال وضخامة الاستقبالات وإقامة القداس وتقديم العظات، باعتبارها وسائل للإحياء الروحي للكاثوليكية في العالم، كما أنـها جزء من حملات التنصير في البلدان التي تستقبله، وتكفي الإشارة إلى أن البابا "يوحنا بولس الثاني" قد زار 125 دولة في 92 رحلة خارج إيطاليا منذ توليه البابوية عام 1987، وحين اُتـهم بالإفراط في رحلاته إلى الخارج قال: "إن المسيح لم يقل لنا اجلسوا في الفاتيكان ولكنه قال اذهبوا إلى كل مكان في العالم".
الفاتيكان ... الغرب:الفاتيكان هي أصغر مدينة في العالم من حيث مساحتها وحجم سكانـها، إذ تبلغ مساحتها 44 كم2 تقريباً، بينما لا يتعدى تعداد سكانـها الألف نسمة، ومن ثم فهي في الواقع كنيسة كبيرة داخل إيطاليا، بيد أنـها دولة لها استقلالها الكامل وفق اتفاقية "اللاتيران" التي أعطت للفاتيكان حق التمثيل الديبلوماسي في حوالي 126 دولة في العالم،ويتميز سفراء الفاتيكان لدى الدول الأخرى والذين يطلق عليهم "مبعوثو الكرسي الرسولي" بصفة مزدوجة، حيث يمثلون الفاتيكان لدى الدول والحكومات المضيفة، كما يمثلونه أيضاً لدى الكنائس الكاثوليكية التي تنخرط تحت عبارة الولاء للزعامة الروحية للبابا، ومن ثم فإن الفاتيكان يتمتع في الواقع بالسيطرة على أكبر تنظيم عالمي منتشر في كل بقاع العالم، هذا التنظيم هو الكنائس الكاثوليكية التي تخضع للفاتيكان، وكما هو معلوم فإن الكنائس لم تعد مجرد أبنية لممارسة الشعائر التعبدية والدينية، وإنما صار لها دورٌ هائل يشمل تأدية الخدمات الاجتماعية والثقافية، والانخراط في الكفاح الوطني والقضايا السياسية ،وتظهر تلك الأهداف بوضوح بالنظر إلى الكنائس الكاثوليكية في أمريكا الوسطى ومنطقة الكاريبي. وقد ساعد هذا التنظيم الكنسي الكاثوليكي في الواقع على مقاومة الشيوعية بل وإسقاطها والتعاون في ذلك مع أجهزة الاستخبارات الغربية والأمريكية خاصة المخابرات الأمريكية،فسقوط النظام الشيوعي في بولندا كان جزءاً من رحلة دشنها البابا إليها عام 1979، حيث هبطت طائرته في مطار "وارسو" ودقت الأجراس الكنسية في أوروبا الشرقية والوسطى، أي في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وألمانيا الشرقية وليتوانيا، وحضر القداس الذي أقامه في بولندا ثلاثمائة ألف شخص، وألقى البابا عظته التي أشعلت حماس المواطنين وكانت البداية لاهتمام رونالد ريغان والاستخبارات الأمريكية بالتعاون مع الفاتيكان لإسقاط هذه الأنظمة الشيوعية، ونظم بابا الفاتيكان حركة تضامن ومولها ودعمها بتعاونٍ كامل مع الاستخبارات الغربية والأمريكية، وقال "جورباتشوف" عن دور الفاتيكان في إسقاط هذه الأنظمة: "يمكن للمرء أن يقول إن ما حدث في أوروبا الشرقية في السنوات الأخيرة كان مستحيلاً بدون جهود البابا والدور الهائل الذي قام به من خلال الدور السياسي الذي لعبه على الساحة العالمية". وفي الواقع فإن الفاتيكان بمحاولته فرض العولمة الكاثوليكية التنصيرية يستند في ذلك إلى التكامل مع العولمة الثقافية الأمريكية والغربية، والتي تسعى إلى فرض النموذج الحضاري الغربي على العالم، وهو نموذج يَسْتلْهِمُ ويستبطن الكاثوليكية واليهودية. إن الوجه السياسي للعولمة والذي تعبر عنه الدول المنتصرة بعد نـهاية الحرب الباردة – خاصة أمريكا – قد يدفع الناس للتردد في قبوله أو التخوف منه؛ لما يمثله من هيمنةٍ ثقافية وسيطرةٍ سياسية، وهنا يأتي الوجه الديني للفاتيكان الذي يلبَس القفازات الناعمة ليضرب ويؤثر حيث لا يمكن للدول أو الساسة أن يقوموا بـهذا فالبابا يؤمن بالتحررية ويسعى إلى العمل على إسقاط الشيوعية، ومن هنا كان اعترافه بتبرئة اليهود من دم المسيح (لأنـهم يؤمنون بصلب المسيح) في مجمع الفاتيكان المسكوني الثاني (1962-1965)، وكان هذا الاعتراف اعترافاً سياسياً بـهدف تكوين جبهة في مواجهة الشيوعية من ناحية ومحاصرة الإسلام والإجهاز عليه من ناحية أخرى عن طريق إقرار مبدأ الحوار مع الديانات غير النصرانية. ولا بد من التذكير بأن اليهودية سعت في السابق إلى اختراق النصرانية عبر مرقص الذي وضع أسسها الوثنية، وتسعى الآن إلى اختراق المؤسسات الدينية النصرانية وعلى رأسها الفاتيكان. كما أن البروتستانتية ليست إلا قراءة نصرانية للتوراة، وتعد وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح وكذا الاعتذار عن موقف الفاتيكان من ممارسة النازية ضد اليهود - تعد دليلاً على هيمنة واختراق الصهيونية للمؤسسات الكنسية الغربية ومؤشراً على زيادة النفوذ اليهودي في السياسة العالمية الغربية، حيث يتصاعد تيار الأصولية الإنجيلية؛فالفاتيكان هو الوجه الديني للعولمة، والتي تـهدف في النهاية إلى فرض النموذج الحضاري الغربي على بقية دول العالم. ويتكامل دور الفاتيكان هذا مع دوره القديم في الحروب الصليبية، ثم التنصير الذي تعانق مع الاستعمار الغربي للعالم العربي والإسلامي ولإفريقية ولآسيا، ثم الدور الاستشراقي الذي لا يزال مستمراً، ولكن الفاتيكان يغير أساليبه لتتواءم مع طبيعة العالم المعاصر، ويعتمد مبدأً خطيراً اسمه "الحوار مع الأديان غير النصرانية"، ويأتي على رأسها الإسلام، وليس الحوار سوى جزء من ممارسة التنصير والدعوة إلى النصرانية، لذا تطلق بعض المراجع على الكنيسة عبارة "الشريك الكامل للإمبريالية الغربية"، وكان البابا قد ألغى زيارته لمنطقة "أور" بالعراق؛ بسبب الضغوط الأمريكية التي تمارسها من أجل استمرار الحصار الأمريكي الغربي المفروض على العراق.
خطاب البابا والتنصير:قال البابا في زيارته لمصر: "إنه في الوقت الذي يحتفل فيه المسيحيون بمرور ألفي عام على ميلاد المسيح، كان من الواجب القيام بالحج للأماكن التي شهدت بداية تاريخ الخروج من العبودية وتاريخ علاقة المحبة بين الرب والبشر"، وقال: "إن حباً بلا حدود وبلا أغراض يجسد التزام الكنيسة الكاثوليكية تجاه الشعب المصري في مجالات التربية والصحة والأعمال الخيرية"، وقال في زيارته لدير سانت كاترين: "لا يوجد خارج الوصايا العشر مستقبل مشرق أو سلام للأشخاص والمجتمعات والأمم"، وقال أيضاً: "إن حجي يأتي اليوم بي إلى مصر وأنا أتوجه حيث أظهر الـلـه اسمه إلى موسى كعلامة لكرمه وطيبته نحو خلقه"، وبتحليل هذا الخطاب "البابوي" نجده يتضمن استبطاناً واضحاً للتنصير؛ لأن الديبلوماسية البابوية في خطابـها تتعمد الغموض، بل وتسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية لحساسية الحقل الذي تعمل فيه، وهو مجال يتصل بالهوية والعقيدة والثقافة، فهو يرى أن النصرانية تجديد لليهودية، ويرى أن "يسوع" – بتعبيرهم - هو موسى جديد، وأن الوصايا العشر هي أساس النظم الحضارية التي لا يجوز الخروج عليها فأين الإسلام إذن في حديث البابا؟ إن مستقبل البشرية لا يوجد خارج إطار النصرانية بوصاياها العشر، أي أن الإسلام - في رأي البابا - لا يمثل مستقبلاً له وهو دعوة للتنصير. وبينما يسعى البابا إلى توحيد الكنائس المختلفة وإذابة الخلافات المذهبية بينها، فإنه يقدم "الحوار" مع المسلمين كوسيلة للتنصير، أي أن توحيد الكنائس هو جزء من الاستيعاب الكاثوليكي للمذاهب والكنائس الأخرى في إطار المواجهة مع الإسلام، والحوار هو جزء من تخدير مؤقت للمسلمين؛ لكي يمكن للكنيسة الكاثوليكية أن تقوم بتنصير العالم، وكما يقول أوليفيه كليمون: "إن الحوار - التبشير عبارة عن عملية تغليف مُذَهَّبَة عصرية لحياة قديمة كانوا يفرضونـها قهراً على الشعوب في الماضي".ويتحدث البابا عن تجاوز الخلافات، وتجاوز الخلافات ليس في صالح المسلمين، لأننا نعترف بعيسى عليه السلام وبأمه مريم العذراء البتول، ونؤمن بأنه بشر وعبد لله. فتجاوز الخلافات معناها القبول بالوثنية النصرانية من ناحية وعدم الاعتراف بمحمد عليه السلام من جانب النصرانية من ناحية أخرى، وهذا هو معنى التسامح والمودة والمحبة التي تكثر في حديث البابا وعظاته. والبابا يوحنا بولس الثاني يقول في خطابه "روعة الحقيقة": "إن الحوار بين الديانات يشكل جزءاً من رسالة الكنيسة التبشيرية، فهو باعتباره طريقة ووسيلة لمعرفةٍ وإغناءٍ متبادلين لا يتعارض مع الرسالة إلى الأمم – التبشير. إنه بالعكس مرتبط بـها بنوعٍ خاص وهو تعبيرٌ عنها"، ويؤكد أن الخلاص يأتي من المسيح وأن الحوار لا يعفي من التبشير بالإنجيل، ولا ترى الكنيسة أي تناقض بين البشارة بالمسيح والحوار بين الديانات.
الفاتيكان والواقع:فإذا انتقلنا من الحوار والعظات إلى الواقع وجدنا مواقف الفاتيكان ضد الإسلام والمسلمين، فالفاتيكان أقام علاقات مع الكيان الصهيوني عام 1993، ولا يزال على الرغم من اتفاقه في فبراير الماضي مع السلطة الوطنية الفلسطينية يرى القدس والأماكن المقدسة بـها – وعلى رأسها المسجد الأقصى – ملكاً للديانات الثلاث على حد قوله، ذلك على الرغم من أنـها ملك للإسلام والمسلمين منذ فتحها عمر بن الخطاب رضي الـلـه عنه ؛وحين أراد المسلمون في مدينة الناصرة بناء مسجد لهم على أرض وقفٍ إسلامي مقابلة لكنيسة البشارة وجه الفاتيكان تحذيراً إلى السلطات الصهيونية، وقال الرسول - السفير الفاتيكاني - لدى الكيان الصهيوني: " إن المسيحيين في العالم كافة يعارضون بناء هذا المسجد، وبناؤه قد يسيء إلى الاحتفالات المقررة عام 2000"، وأغلقت الكنائس النصرانية في الناصرة - أكبر مدن فلسطين المحتلة قبل عام 1948 - أبوابـها يومين احتجاجاً على بناء المسجد، واعتبر الفاتيكان أن بناء المسجد في مواجهة الكنيسة يزعج الحجاج المسيحيين. لقد كان الفاتيكان وراء تدعيم انفصال تيمور الشرقية عن أندونيسيا، بينما لم يتحرك البابا إزاء مذابح المسلمين التي يقوم بـها الروس منذ خمسة أشهر ضد أهل الشيشان، وأنشأت الكنيسة الكاثوليكية ما أطلقت عليه "الأمانة العامة لشئون الديانات غير المسيحية"، وهي الأمانة التي أُسست للحوار مع المسلمين بشكل أساسي، كما أنشأت الكنيسة الكاثوليكية "مجلس الكنائس العالمي"، وهو مركز التخطيط والتمويل والتنفيذ لفرض النصرانية على العالم وتعقد الكنيسة مؤتمرات لرؤساء كنائس الشرق الأوسط لتعزيز الوجود النصراني في العالم العربي والإسلامي. وفي مؤتمر البطاركة والأساقفة الكاثوليكي الذي عقد في بيروت في مايو 1999 - طالب المؤتمرون بعدم الهجرة وعدم التقوقع والانطواء وعدم العيش جزراً منعزلة حتى لا تضيع الهوية الكنسية، واعتبر الهجرة نزيفاً يهدد الجماعات النصرانية ويعرِّضها للضياع والذوبان.إن تعاظم الدور العالمي للدين وللثقافة وللهوية - بعد انتهاء الحرب الباردة - يعظم دور الفاتيكان في فرض العولمة الدينية التنصيرية لتسهيل فرض العولمة الغربية في المجالات الأخرى.