ابن الرومي
25-03-2001, 10:42 PM
يقول أبو محمد عبد الله بن قتيبة الدينوري:
((تدَّبرت الشعر فوجدته أربعة اضرب، ضربٌ منه حسن لفظه وجاد معناه كقول الفرزدق في مدح علي بن الحسين رضي الله عنه:
في كـــفِّه خيزرانٌ ريـــحُهُ عـبِقٌ
...من كفِّ أرْوعَ في عرنِينهِ شمَـــمُ
يُغضي حياءً ويُغْضَى من مهابَتِه
...فـــــمايُكَلَّــــمُ إلا حــــين يــــبتَسِمُ
لم يُقَل في الهيبةِ شئٌ أحسن منه، وكقول أوس بن حجر:
أيَّتُها النفسُ اجملي جَزَعا
...إنَّ الــــذي تحذرين قدْ وقعا
لم يبتدئ أحد مرثية بأحسن من هذا، وكقول أبي ذؤيب الهذلي:
والنفسُ راغِبةٌ إذا رغَّبْتها
...وإذا تُرَدُّ إلـــى قــليلٍ تَقْنعُ
حدَّثني الرِّياشي عن الأطمعي قال هذا أبدع بيتٍ قالته العرب، وكقول حميد بن ثور:
أرى بصري قدْ رابَني بعدَ صِحَةٍ
...وحسْبُكَ داءً أنْ تَـــصِحَّ وتسلما
ولم يقل في الكبر شئٌ أحسن منه.
وضربٌ منه حسن لفظه وحلا فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدةً في المعنى، كقول الشريف الرضي:
ولمَّا قضينا مـــن مِنىً كـــلَّ حاجةٍ
...ومَسَّحَ بالأركانِ منْ هو مــــاسِحُ
وشُدَّتْ على حُدْبِ المهاري رِحالُنا
...ولا ينظرُ الغادي الذي هو رائــــحُ
أخــذنا بأطـــرافِ الأحـــاديـثِ بيننا
...وسالتْ بأعناقِ المَطِيِّ الأباطِــــحُ
هذا الشعر كما ترى أحسن شئ مخارج ومطالع وإن نظرت الى معناه وجدته يقول، ولما قطعنا أيام منى واستلمانا الأركان واعتلينا ابلنا الهزيلة ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح ابتدأنافي الحديث وسارت بنا المطي في الأبطح، وهذا الصنف كثيرٌ في الشعر.
وضربٌ منه جاد معناه وقصرت ألفاظه كقول لبيد بن ربيعة:
ما عاتبَ المرءُ الكــريمُ كنَفْسهِ
... والمرءُ يُصْلِحهُ الجليسُ الصالِحُ
هذا وإنْ كان جيد المعنى والسبك، فإنه قليل الماء والرونق.
وضربٌ منه تأَخر معناه ولفظه، كقول الأعشى:
وفــوها كأقـــاحِيَّ...غَذَاهُ دائــمُ الهَطْلِ
كما شِيبَ براحٍ بــاردٍ من عسلِ النحلِ
فإنه سخيف اللفظ والمعنى)).
والشعر الجيد قد يفسده الكلمة الشوهاء فقد كان جرير ينشد أحد خلفاء بني أميه قصيدته التي أولها:
بانَ الخليطُ برامتينِ فودَّعوا...أو كُلَّما جدُّوا لبينٍ تجزعُ
وكان الخليفة يتحفز ويزحف من حسن الشعر حتى بلغ قوله:
وتقولُ بَوْزَعُ قدْ دبَبْتَ على العصا...هلاَّ هزِئْتِ بغيرنا يا بوزَعُ
فقال له ما بوزع قال اسم امرأة فقال أفسدت شعرك بهذا الأسم وفتر.
وكان الناس يستجيدون للأعشى قوله في صفة الخمر:
وكأْسٍ شرِبتُ على لذَّةٍ...وأُخرى تداويتُ منها بها
حتى قال أبو نواس:
دعْ عنكَ لومي فإنَّ اللومَ إغراءُ
...وداوني بالــتي كانتْ هيَ الـــدَّاءُ
فسلخه وزاد فيه معنىً آخر اجتمع له به الحسن في صدره وعجزه فللأعشى فضلُ السبقِ الى هذا المعنى ولأبي نواس فضل الزيادةِ فيه.
والشعراء منهم المطبوع ومنهم المتكلف، فالمتكلف هو الذي يقوِّم شعره وينقحه بطول التفتيش وإعادة النظر فيه وعلماء الرواية والأدب في القديم وإن كانوا يفضلون الشعر المطبوع على غيره لما له من سلاسة الطبع وصدق الإحساس فإنهم لم يكونوا يعيبون الشعر المنقح، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحوليّ المنقح المحكك، وكان زهير يسمي كبرى قصائده بالحوليات.
ويتبين التكلف في الشعر بأن ترى البيت فيه مقروناً الى غير جاره ومضموماًالى غير قرينه، قال عمر بن لجألبعض الشعراء: أنا أشعر منك. قال: وبم ذلك؟ فقال: لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه.
والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي واراكَ في صدرِ بيتهِ عجزه وفي فاتحته قافيته وتبينت في شعره رونق الطبع ووشي الغريزة وإذا أُمتُحِن لمْ يتعثَّر ولم يتلعثم.
والشعراء أيضاً في الطبع مختلفون منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل.
فهذا ذو الرِّمة احسن الناس تشبيهاً، واجودهم تشبيباً، وأوصفهم لرملِ وهاجرة وفلاةِ وماء، فإذا صار الى المديح والهجاء خانه الطبع وهذا مما أخره عن فحول الشعراء، وكان الفرزدق زير نساء وصاحب غزل وكان مع ذلك لا يجيد التشبيب، وكان جرير عفيفاًعن النساء ومع ذلك فهو من أغزل الناس، ولذلك كان الفرزدق يقول: ما أحوجه مع عِفَّته الى صلابةِ شعري وما أحوجني الى رِقَّة شعره لما ترون.
أصدق بيت قالته العرب:
ألا كُلُّ شئٍ ما خلا اللهُ باطِلُ
...وكلُّ نـــعيمٍ لا مــحالةَ زائِلُ
...((لبيد بن ربيعة)).
أقسى بيت قالته العرب:
يُبكى علينا ولا نبكي على أحدٍ
...لنحنُ أغلظُ أكباداً مـــن الإبــلِ
أنْصفُ بيتٍ قالته العرب:
لما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
هجَوتَ محمداً فأَجبتُ عنهُ
...وعندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ
قال عليه السلام: جزاؤك الجنة يا حسان.
فلما انتهى الى قوله:
فإنَّ أبي ووالدهُ وعِرضي
...لعِرْضِ محمدٍ منكمْ وِقاءُ
قال عليه السلام: وقاك الله حرَّ النار.
فلما قال:
أتَهْجوهُ ولستَ لهُ بكُفءٍ
...فشَرُّكُما لخَيْرِكُما الفِداءُ
قال من حضر: هذا أنصف بيتٍ قالته العرب.
قال عمرو بن سعيد القُطْرُبلي: ليس من بيتٍ إلا وفيه لطاعنٍ مطعن، إلا قول الحطيئة:
منْ يفْعلِ الخيرَ لا يُعدمْ جوازيه
...لا يذهب العُرفُ بين اللهِ والناسِ
وقول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهِلاً
...ويأتيكَ بالأخـــبارِ منْ لـــمْ تُزَوِّدِ
وقول على بن زيد:
عنِ المرءِ لا تسلْ وسلْ عن قرينهِ
...فـــــكُلُّ قرينٍ بالــــمقارنِ يـــقتدي
قال قتيبة بن مسلم لأبي عياش المنتوف، وقد دخل عليه وبين يديه سلة زعفران: أنشدني بيتاً لا يصارف ولا يكذب وهي لك، فأنشده ما ليس لطاعنٍ فيه مطعن:
فما حمَلتْ منْ ناقةٍ فوقَ كورها
...أبَـــرُّ وأوفــى ذِمَّــــةً منْ محمدِ
"
"
"
"
"
"
"
همسات عابرة:
لا تَذْكُرَنَّ الهوى والشوقَ لو فُجِعَتْ
...بالشوقِ نَفْسُكَ لمْ تَصْبِر على البُعُدِ
.....((....)).
((تدَّبرت الشعر فوجدته أربعة اضرب، ضربٌ منه حسن لفظه وجاد معناه كقول الفرزدق في مدح علي بن الحسين رضي الله عنه:
في كـــفِّه خيزرانٌ ريـــحُهُ عـبِقٌ
...من كفِّ أرْوعَ في عرنِينهِ شمَـــمُ
يُغضي حياءً ويُغْضَى من مهابَتِه
...فـــــمايُكَلَّــــمُ إلا حــــين يــــبتَسِمُ
لم يُقَل في الهيبةِ شئٌ أحسن منه، وكقول أوس بن حجر:
أيَّتُها النفسُ اجملي جَزَعا
...إنَّ الــــذي تحذرين قدْ وقعا
لم يبتدئ أحد مرثية بأحسن من هذا، وكقول أبي ذؤيب الهذلي:
والنفسُ راغِبةٌ إذا رغَّبْتها
...وإذا تُرَدُّ إلـــى قــليلٍ تَقْنعُ
حدَّثني الرِّياشي عن الأطمعي قال هذا أبدع بيتٍ قالته العرب، وكقول حميد بن ثور:
أرى بصري قدْ رابَني بعدَ صِحَةٍ
...وحسْبُكَ داءً أنْ تَـــصِحَّ وتسلما
ولم يقل في الكبر شئٌ أحسن منه.
وضربٌ منه حسن لفظه وحلا فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدةً في المعنى، كقول الشريف الرضي:
ولمَّا قضينا مـــن مِنىً كـــلَّ حاجةٍ
...ومَسَّحَ بالأركانِ منْ هو مــــاسِحُ
وشُدَّتْ على حُدْبِ المهاري رِحالُنا
...ولا ينظرُ الغادي الذي هو رائــــحُ
أخــذنا بأطـــرافِ الأحـــاديـثِ بيننا
...وسالتْ بأعناقِ المَطِيِّ الأباطِــــحُ
هذا الشعر كما ترى أحسن شئ مخارج ومطالع وإن نظرت الى معناه وجدته يقول، ولما قطعنا أيام منى واستلمانا الأركان واعتلينا ابلنا الهزيلة ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح ابتدأنافي الحديث وسارت بنا المطي في الأبطح، وهذا الصنف كثيرٌ في الشعر.
وضربٌ منه جاد معناه وقصرت ألفاظه كقول لبيد بن ربيعة:
ما عاتبَ المرءُ الكــريمُ كنَفْسهِ
... والمرءُ يُصْلِحهُ الجليسُ الصالِحُ
هذا وإنْ كان جيد المعنى والسبك، فإنه قليل الماء والرونق.
وضربٌ منه تأَخر معناه ولفظه، كقول الأعشى:
وفــوها كأقـــاحِيَّ...غَذَاهُ دائــمُ الهَطْلِ
كما شِيبَ براحٍ بــاردٍ من عسلِ النحلِ
فإنه سخيف اللفظ والمعنى)).
والشعر الجيد قد يفسده الكلمة الشوهاء فقد كان جرير ينشد أحد خلفاء بني أميه قصيدته التي أولها:
بانَ الخليطُ برامتينِ فودَّعوا...أو كُلَّما جدُّوا لبينٍ تجزعُ
وكان الخليفة يتحفز ويزحف من حسن الشعر حتى بلغ قوله:
وتقولُ بَوْزَعُ قدْ دبَبْتَ على العصا...هلاَّ هزِئْتِ بغيرنا يا بوزَعُ
فقال له ما بوزع قال اسم امرأة فقال أفسدت شعرك بهذا الأسم وفتر.
وكان الناس يستجيدون للأعشى قوله في صفة الخمر:
وكأْسٍ شرِبتُ على لذَّةٍ...وأُخرى تداويتُ منها بها
حتى قال أبو نواس:
دعْ عنكَ لومي فإنَّ اللومَ إغراءُ
...وداوني بالــتي كانتْ هيَ الـــدَّاءُ
فسلخه وزاد فيه معنىً آخر اجتمع له به الحسن في صدره وعجزه فللأعشى فضلُ السبقِ الى هذا المعنى ولأبي نواس فضل الزيادةِ فيه.
والشعراء منهم المطبوع ومنهم المتكلف، فالمتكلف هو الذي يقوِّم شعره وينقحه بطول التفتيش وإعادة النظر فيه وعلماء الرواية والأدب في القديم وإن كانوا يفضلون الشعر المطبوع على غيره لما له من سلاسة الطبع وصدق الإحساس فإنهم لم يكونوا يعيبون الشعر المنقح، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحوليّ المنقح المحكك، وكان زهير يسمي كبرى قصائده بالحوليات.
ويتبين التكلف في الشعر بأن ترى البيت فيه مقروناً الى غير جاره ومضموماًالى غير قرينه، قال عمر بن لجألبعض الشعراء: أنا أشعر منك. قال: وبم ذلك؟ فقال: لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه.
والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي واراكَ في صدرِ بيتهِ عجزه وفي فاتحته قافيته وتبينت في شعره رونق الطبع ووشي الغريزة وإذا أُمتُحِن لمْ يتعثَّر ولم يتلعثم.
والشعراء أيضاً في الطبع مختلفون منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل.
فهذا ذو الرِّمة احسن الناس تشبيهاً، واجودهم تشبيباً، وأوصفهم لرملِ وهاجرة وفلاةِ وماء، فإذا صار الى المديح والهجاء خانه الطبع وهذا مما أخره عن فحول الشعراء، وكان الفرزدق زير نساء وصاحب غزل وكان مع ذلك لا يجيد التشبيب، وكان جرير عفيفاًعن النساء ومع ذلك فهو من أغزل الناس، ولذلك كان الفرزدق يقول: ما أحوجه مع عِفَّته الى صلابةِ شعري وما أحوجني الى رِقَّة شعره لما ترون.
أصدق بيت قالته العرب:
ألا كُلُّ شئٍ ما خلا اللهُ باطِلُ
...وكلُّ نـــعيمٍ لا مــحالةَ زائِلُ
...((لبيد بن ربيعة)).
أقسى بيت قالته العرب:
يُبكى علينا ولا نبكي على أحدٍ
...لنحنُ أغلظُ أكباداً مـــن الإبــلِ
أنْصفُ بيتٍ قالته العرب:
لما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
هجَوتَ محمداً فأَجبتُ عنهُ
...وعندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ
قال عليه السلام: جزاؤك الجنة يا حسان.
فلما انتهى الى قوله:
فإنَّ أبي ووالدهُ وعِرضي
...لعِرْضِ محمدٍ منكمْ وِقاءُ
قال عليه السلام: وقاك الله حرَّ النار.
فلما قال:
أتَهْجوهُ ولستَ لهُ بكُفءٍ
...فشَرُّكُما لخَيْرِكُما الفِداءُ
قال من حضر: هذا أنصف بيتٍ قالته العرب.
قال عمرو بن سعيد القُطْرُبلي: ليس من بيتٍ إلا وفيه لطاعنٍ مطعن، إلا قول الحطيئة:
منْ يفْعلِ الخيرَ لا يُعدمْ جوازيه
...لا يذهب العُرفُ بين اللهِ والناسِ
وقول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهِلاً
...ويأتيكَ بالأخـــبارِ منْ لـــمْ تُزَوِّدِ
وقول على بن زيد:
عنِ المرءِ لا تسلْ وسلْ عن قرينهِ
...فـــــكُلُّ قرينٍ بالــــمقارنِ يـــقتدي
قال قتيبة بن مسلم لأبي عياش المنتوف، وقد دخل عليه وبين يديه سلة زعفران: أنشدني بيتاً لا يصارف ولا يكذب وهي لك، فأنشده ما ليس لطاعنٍ فيه مطعن:
فما حمَلتْ منْ ناقةٍ فوقَ كورها
...أبَـــرُّ وأوفــى ذِمَّــــةً منْ محمدِ
"
"
"
"
"
"
"
همسات عابرة:
لا تَذْكُرَنَّ الهوى والشوقَ لو فُجِعَتْ
...بالشوقِ نَفْسُكَ لمْ تَصْبِر على البُعُدِ
.....((....)).