مشية السرطان" جديد امبرتو إيكو
التــاريــخ يعــــود الى الــوراء حـــذار الــوقــــوع فـي الـفـــخـــاخ
بادوا من ماسيمو خيرالله: "مشية السرطان"، عنوان الكتاب الأخير الذي أصدره أمبرتو إيكو، في شباط من هذه السنة. مجموعة مقالات كان نشرها في الصحف والمجلات، وخطب ألقاها ثم دوِّنت لاحقا، في الفترة ما بين عام 2000 و2005. لا يخفى على أحد أن امبرتو إيكو هو المفكر الايطالي الأكثر شهرة في ايطاليا، بل في العالم، وأن كتاباته وآراءه تثير دائما من الجدال والمناقشة، سواء في صفوف معجبيه او منتقديه، ما يكون في بعض الأحيان شديد اللهجة لدى الطرف الموالي للسلطة. ذلك أن إيكو اتخذ منذ البداية موقفا واضحا ومتشدداً من حكومة سيلفيو برلوسكوني، الذي لم يسلم من توبيخاته اللاذعة وسخريته الحادة. حتى أنه خصص في هذا الكتاب فصلا كاملا لما يسمّى "البرلوسكونية" وتداعياتها وتأثيراتها الكارثية على ايطاليا، منذ خوض رجل المال المعركة السياسية لثلاثة عشر عاما خلت. يتطرق هذا الكتاب، بشكل رئيسي، الى سرب من الحوادث السياسية والإعلامية البارزة وتشابكاتها منذ بداية القرن الجديد. لكن لماذا "السرطان" و"مشيته"، ولماذا اختار إيكو هذا العنوان بالذات؟ الجواب يكمن في مجاز الصورة التي يحملها، والتي توحي الرجوع الى الوراء. فمشية السرطان هي كناية عن بداية هذا القرن التي تتسم بالعودة الى الوراء، أي بالتقهقر. يريد إيكو تنبيهنا الى ان التاريخ يعيد نفسه ويكرر المآسي التي نتجت منه، وأن البشرية لا تريد استخلاص الدروس والعبر من هذا التاريخ. وهو يريد أن يحذرنا من أن الانجازات التكنولوجية والابتكارات التقنية لا تعني في الضرورة التقدم العلمي والفكري، لأنها من ظواهر العلم فحسب، وليستا العلم كله. يقول إيكو في مقدمته إن الجغرافيا السياسية الاوروبية تغيرت بعد انهيار جدار برلين، الى حد ان ناشري كتب الخرائط اضطروا للرجوع الى خرائط ما قبل عام 1914، زمن وجود صربيا ودول البلطيق، وأن العالم انتقل كذلك من الحروب "الباردة" الى الحروب "الساخنة" في العراق وافغانستان، والى عهد جديد من دعاة الحروب الصليبية والمواجهة بين "الغرب" و"الإسلام". ويلفت الى أن الأصوليات المسيحية عادت تظهر من جديد، على غرار تلك المنادية بالطعن في نظرية داروين، فضلا عن عودة شبح الخطر الصيني، كاشفاً أن أحد لاعبي كرة القدم في إيطاليا ألقى التحية الفاشية على الجمهور المتهافت، كما كان يحدث قبل ستين عاماً، وأن أحد احزاب الائتلاف الحاكم دعا علنا الى تجزئة البلد والعودة الى ما قبل الوحدة الوطنية أيام غاريبالدي. على المستوى الإعلامي، ينتقد إيكو بشدة مركزية التلفزيون الذي يهيمن على بانوراما وسائل الإعلام، ويشير الى دوره الخطير في تكوين الرأي العام وفي نمو الأجيال الشابة، وينتقد النوعية الدنيئة والرديئة لعمليتي "الثقافة" و"التثقيف" على شاشته. الأمثلة على ذلك كثيرة في العالم كله، لكن تركيز إيكو ينصبّ على ما يحدث في ايطاليا، لأن ظاهرة برلوسكوني فريدة من نوعها، وهي فريدة ايضا من حيث درجة خطورتها على آليات الديموقراطية السليمة. فسيطرته على معظم القنوات التلفزيونية الوطنية، بطريقة مباشرة او غير مباشرة، منحته فرصة التحكم بالمعلومات والتلاعب بها، بحيث يقرر هو هل يريدها ان تصل او أن لا تصل بتاتا الى الجماهير. ويوضح إيكو، في مقالة عنوانها "الدهمائية الإعلامية"، كيف استطاع برلوسكوني أن ينقل العملية السياسية من مؤسساتها الفعلية الى شاشات التلفزيون، من طريق "تكنيك البيّاع". فالبيّاع همّه الوحيد إقناعك بجودة منتجه، بكل الوسائل المتاحة، فهو يغمرك بكلام لا ينقطع كأنه "وابل من الرصاص"، محاولا تحريك مشاعرك وغرائزك، باذلا كل الجهود ليمنعك من التفكير والاعتراض، غير مكترث لواقع ان حديثه قد يبدو متناقضا. برلوسكوني يفعل هذا بشكل مبرمج ومدروس إستراتيجيا، خالقا كل يوم "ضربة مسرحية" من أجل أن تحتل أخباره الصفحات الاولى للجرائد واللحظات الأولى على الشاشات، ولو كان ذلك يعني المهزلة أمام العالم أجمع. عندما يسافر إيكو الى الخارج ويحاولون استفزازه بسؤاله عن آخر استعراض قدّمه برلوسكوني، يجيب أن ايطاليا كانت في الماضي مختبرا سياسيا لما حدث لاحقا في اوروبا، مثلما حصل مع هتلر الذي اتخذ موسوليني نموذجا له: اي ان ايكو يحذر من تكاثر نموذج برلوسكوني وانتشاره في اوروبا كلها. اما على مستوى الإعلام العالمي فيرى إيكو أن أبرز ما حدث في هذا المجال هو تلفزة الحروب، فيعرض بتحليل عميق كيفية تغيّر مفاهيم الحرب وطبائعها عبر العصور الى مفهوم "الحرب الجديدة"، وهو مصطلح يبادر الى اطلاقه على غرار مصطلح "المحافظين الجدد". في خلاصته عن اولى هذه الحروب، حرب "عاصفة الصحراء" عام 1991، يقول ايكو: "لقد اصبحت الحرب الجديدة منتجا إعلاميا الى درجة أن بودريار قال، كنوع من المفارقة، إن الحرب لم تحدث فعليا انما حدثت على شاشات التلفزيون فقط". ثمة ظاهرة إعلامية أخرى هي الانتشار العالمي لـ"الازمة المؤامرة"، التي تتحدث عن مكيدة يهودية للاستحواذ على العالم، واتخاذها كمبرر لمعاداة السامية. من جهة اخرى هناك ما طرحه ابرز ممثلي "مشروع القرن الاميركي الجديد" عام 1998 في رسالة موجهة الى الرئيس كلينتون آنذاك، رسالة دعا فيها صراحة الى إطاحة صدام حسين لأن بامكانه صنع اسلحة دمار شامل. في موضوعات لا علاقة لها بالسياسة والإعلام، يكتب إيكو أيضا عن رأيه في دور المفكر قائلا: "المفكر لا يحل الأزمات بل يخلقها. المفكر يقوم بدوره النقدي وخصوصا عندما يعرف أن يتكلم ضد الجهة التي ينتمي اليها. المفكر المجاهد عليه قبل كل شيء أن يثير الريبة والشك في الذين يجاهد الى جانبهم". عن التكنولوجيا يقول: "للأسف إن ما يظهر من العلم عبر وسائل الإعلام هو جانبه "السحري" فقط، وهذا يحدث عندما يعد العلم بمعجزات. آنذاك يصبح من الصعب إعلام الجمهور بأن البحث العلمي قائم على أساس الفرضيات والتجارب والإختبارات التأكيدية". ويروي ايكو في هذا الصدد: "نشرت عام 2002 نتائج دراسة تفيد بأن الشفاء العاجل بعد تعاطي الدواء لا يعني في الضرورة فاعلية الدواء نفسه، اذ هناك احتمالان آخران: الاول أن يكون سبب الشفاء طبيعيا، وفي هذه الحال كان للدواء فقط تأثير الغفل (الـ"بلاسيبو")، والثاني أن الشفاء كان سابقا لتعاطي الدواء، وبالتالي جل ما أدى اليه العلاج هو تأخير الشفاء فحسب. الآن جرّبوا تفسير ذلك للجماهير. ردود الفعل ستكون عدم التصديق والجحود لأن "العقلية السحرية" تستوعب شرحا واحدا، الا هو تلك "الدائرة القصيرة" بين سبب مفترض ونتيجة مرجوة". "مشية السرطان" ليس بالكتاب المحدود الصفحات، فهو في 350 صفحة تقريبا. لكن الأسلوب الواضح والتهكم اللاذع والذكي وعدم التكلف، كلها عوامل تجعل قراءته يسيرة وسلسة، وتالياً سريعة وممتعة. ختاما، لا شك في ان قراءة امبرتو إيكو تجعلنا دائما نغلق الكتاب ونحن أغنى قليلا. |
الساعة الآن » 02:35 AM. |
Powered by: vBulletin Version 3.0.16
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.