|
عضو فائق النشاط
|
|
المشاركات: 548
|
#3
|
قراءة في حياة ( القصيمي )
سليمان بن علي الضحيان
27/7/1423 - 14/10/2001
( الإلحاد ) كلمة تستفز شعور المؤمن ، وتبعث الرعب في وجدانه. وقراءة سير الملحدين تدفعه إلى الخوف من استلاب الإيمان فيزداد تعلقه بالله ، وتفويض أموره إليه ، وتدفعه -أيضاً- إلى حمد الله والثناء عليه؛ بما أنعم عليه من نعمة الإيمان . ولهذين السببين نحب أن نقف عند سيرة الملحد المشهور ( عبد الله القصيمي ) حيث يمثل في إعلانه الإلحاد ، ودعوته إليه ، وشن حملات على الدين والتدين - حالةً تكاد تكون فردية في صراحتها وشدتها ، واستخفافها بكل القيم ، والعقائد في تاريخ العرب الحديث. وقد عاش حياة طويلة حافلة بالتقلبات الفكرية، والمعارك الصاخبة ، وترك مؤلفات عديدة بلغت عشرين مؤلفاً في أكثر من عشرة آلاف صفحة. وقد أحدثت بعض تلك المؤلفات في حينها دوياً كبيراً ، وقد كتب عن القصيمي الكثير، من ذلك : ( دراسة عن القصيمي ) لصلاح الدين المنجد ، ورسالة دكتوارة لأحمد السباعي بعنوان ( فكر القصيمي ) وكتب أيضاً الكثير من الدراسات والردود حول كتبه ، إلا أن مسيرته لم تَحْظَ بالدراسة الشاملة، سوى لمحات في كتاب المنجد ، وفصلٍ واحدٍ من رسالة السباعي للدكتوراة. ونشرت مقالات تتحدث عنه بعد وفاته لسيد القمني ، وفوزية رشيد وجاسر الجاسر .
وفي هذه السَّنة سنة ( 2000م ) ترجم محمود كبيو رسالة الدكتوراة التي قام بها الألماني يورغن فازلا عن القصيمي بعنوان ( من أصولي إلي ملحد ؛ قصة انشقاق عبد الله القصيمي ) وتقع في ( 250 صفحة ) ، وهي أشمل وأهم دراسة كتبت عن القصيمي ، وتميزت بميزات لا توجد في غيرها من الدراسات التي كتبت عنه، من ذلك :
أولاً : إن هذه الدراسة شاملة لحياة القصيمي منذ ولادته إلى قبيل وفاته .
ثانياً : إنها صورت تصويراً رائعاً الواقع الفكري لكل مرحلة فكرية من مراحل القصيمي ، وهذا مما يعين الباحث على فهم الظروف الشخصية ، والخارجية لإطروحات القصيمي .
ثالثاً : أن المؤلف "فازلا" اتصل بالقصيمي وربطته صداقة به، فهو يقول : (( وعند ما تمكنت عام 1993 م بعد بحث طويل في مصر استمر عدة أشهر من العثور على مكان إقامة القصيمي ، رفض رفضاً قاطعاً التحدث معي .. ، وبقي الأمر كذلك ، حتى نجحت في إقامة اتصالات مع أشخاص من الدائرة الضيقة المحيطة به، وحصلت بذلك على إمكانية حضور حلقة النقاش التي كانت تقام بانتظام في منزله في القاهرة، وهكذا نشأت بيننا خلال فترة تزيد على عامين علاقة من الثقة ، جعلت الكاتب يبدي استعداداً متزايداً لإعطائي معلومات عن حياته وأعماله )) .
رابعاً:إن الدراسة قدمت فكرة مختصرة عن أهم كتبه و مقالاته في جميع مراحله الفكرية.
خامساً : إن الدراسة قامت بمسح بيلوجرافي لكل ما كتب عن القصيمي في الصحف العربية والغربية ، ولكل كتب القصيمي ومقالاته .
سادساً : يُعد الدكتور يورغن فازلا متخصصاً في حياة القصيمي وفكره ، فرسالته للماجستير بعنوان ( هذي هي الأغلال – النقد الذاتي الإسلامي لعبد الله القصيمي ) وهذه الرسالة عن القصيمي ( من أصولي إلي ملحد ) قدمها لنيل شهادة الدكتوراة.
فلهذه الميزات وغيرها أجد أن الدراسة جديرة بإلقاء الضوء عليها.
قسم المؤلف أطروحته إلى خمسة فصول ، وإذا استثنينا الفصل الأول ، وهو في الحديث عن نشأته وسيرته التعليمية ، فإن بقية الفصول الأربعة قسمت تبعاً لتحولاته الفكرية ، وأثر كتاباته في الواقع الفكري في العالم العربي ، ويمكنني قراءة الفصول بتقسيم حياة القصيمي إلى فترتين :
* الفترة الأولى : نشأته وسيرته التعليمية : يقول فالترموشغ : ( إن السيرة الأولى لأي كاتب بصفتها عملاً تاريخياً يجب اعتبارها دوماً وعاء لجمع الوثائق ، يستنبط منه الباحثون اللاحقون الخلاصات المعقدة ) ولا شك أن طفولة الإنسان ذات أثر عميق في تشكيل فكره ورؤيته للحياة ، ولفهم تحولاته الفكرية ، ومنهجيته في التعامل مع الواقع الفكري ، ومن هنا يحسن بنا الوقوف على بعض المحطات التي أوردها د / فازلا عن نشأة القصيمي .
حرمان وترحال
- المحطة الأولى : لم يسجل تاريخ ولادة القصيمي ، وكان هو نفسه لا يعرفه حسب رواية فازلا عنه ، ويرجح أن يكون 1907 م ، وقد أكد القصصيمممي نفسه أنه ينحدر من قرية صغيرة أسماها ( خب الحلوة ) تقع قريباً من مدينة بريدة في القصيم ، ويبقى أصل أسرته محل خلاف بين الدارسين ، فصلاح المنجد يرى أن أجداده من بقايا الجنود المصريين الذين جاؤوا مع حملة إبراهيم باشا على نجد وهم من أصول صعيدية ، وأما القصيمي فيروي عنه فازلا بأنه أفاد: بأنه على علم بما يقال عنه إن أجداده جاؤوا من مصر ، إلا أنه لا يستطيع تأكيد ذلك ، أو قد تكون هذه الأقوال – حسب رأيه – مجرد رواية ، وهناك رواية أخرى متداولة أيضاً تقول: إن أجداده هم من أصل تركي .
وحينما بلغ الرابعة انفصل أبواه عن بعضهما ، فغادر أبوه إلى الشارقة وتزوجت أمه في قرية أخرى ،أما هو فقد بقي عند جده لأمه.. يقول القصيمي : (( كل ما أعيه من الأيام الأولى لهذه الطفولة ، أنني وجدت مع جدي لأمي الذي كان القحط الإنساني ، والقحط الطبيعي ، وكوارث أخرى قد امتصت منه كل شيء ، أي أن كلمة ( فقر ) لا بد أن تكون مظلومة لوقلت: إنه كان فقيراً جداً .. ، أجرت نفسي بلا أجر ، نعم بلا أجر ))
وفي العاشرة هرب من جده وبدأ بالبحث عن أبيه ، وقاده البحث إلى الاستقرار في مخيم للمهاجرين في مدينة الرياض ، واتفق أن قدم وفد دبلوماسي من الشارقة إلى الرياض ، وكان رئيس الوفد صديقاً لأبي القصيمي فأرتحل معهم إلى الشارقة .
- المحطة الثانية : وصل إلى الشارقة ولما يتجاوز الحادية عشرة، وكان أبوه متديناً ، ويعمل في التجارة ويمارس الوعظ في المساجد، ويتسم بالورع والتقشف. فكيف وجد القصيمي أباه بعد غيبة تتجاوز السبع سنوات ؟ يقول عن لقائه بأبيه : (( وصلت إلى حيث يقيم والدي ، ولأول مرة رأيت ولقيت وجربت الأبوة ، كانت صدمة قاسية لأكثر وأبعد من كل حساب .. ، ومنذ بداية تلاقينا راح يقسو عليَّ قسوة يصعب وصفها ، بل يهاب ويرهب وصفها ؛ بزعم أنه يريد أن يجمع كل العلوم التي يعرفها أو يتصورها أو يسمع بها ، وكل أخلاق السلوك المهذب الذي يراه ، كل الكمال أن يجمع ذلك كله في لقمة واحدة لا بتلعها مرةً واحدة بلا تذوق ولا مضغ ، لقد بدا وكأنه يرى العذاب والآلام التي قاسيت قبل لقائه ، أقل وأرحم مما يجب أن أقاسي )) .
- المحطة الثالثة : توفي أبوه بعد لقائه به بسنتين حوالي عام 1922 م ، ومن ثم أصبحت المدرسة الداخلية التي يتعلم فيها هي كل حياته .
بعد ذلك رافق القصيمي ابن راشد الذي يكبره بعدة سنوات في جولة علمية بدأت بالعراق حيث درسا في مدرسة محمد أمين الشنقيطي ، وبعد بضعة شهور غادرا إلى الهند فمكثا هناك سنتين يدرسان في ( المدرسة الرحمانية ) ثم عاد إلى العراق ثم إلى سوريا ، ومن هناك سافر القصيمي برفقة ابن راشد ، وعبد الله بن يابس إلى القاهرة ، والتحقوا بالأزهر وكان عمر القصيمي تسعة عشر عاماً.
سلفي ... علماني ... ملحد
* الفترة الثانية : حياته الفكرية:مرت حياته الفكرية بثلاث مراحل : المرحلة السلفية ، والمرحلة العلمانية ومرحلة الإلحاد .
المرحلة الأولى : المرحلة السلفية
ولعله من نافلة القول أن تكون ( السلفية ) هي مرحلته الفكرية الأولى ، فهو قد ولد في وسط سلفي ،وتعلم على أيدي مشائخ سلفيين، وقد امتدت مرحلة عطائه السلفي حوالي أربعة عشر عاماً ، فقد وصل إلى القاهرة عام 1922م وألف كتابه ( هذي هي الأغلال ) عام 1946 م ولعل أبرز محطات مرحلته السلفية ثلاث محطات :
- المحطة السلفية الأولى (الصراع مع الصوفية) : حينما انتقل القصيمي إلى القاهرة ودخل الأزهر ، وجد عالماً يزخر بالتنوع الفكري حيث وجد هناك التوجه العلماني الليبرالي ممثلاً بلطفي السيد ومحمد حسين هيكل، والتوجه السلفي ويمثله رشيد رضا ، والتوجه الإسلامي التقليدي الأشعري ويمثله الأزهر ، والتوجه الصوفي ويمثله الفرق الصوفية ، وفي تحليل فازلا لواقع الأزهر آنذاك يشير إلى أنه كان موطن صراع بين التوجهات الفكرية ، والقوى السياسية ، فكل توجه فكري وكل قوة سياسية كانت تناضل لتعيين عميد مؤيد لتوجهاتها .
وفي سنة 1930 م تولى الشيخ الظواهري عماده جامعة الأزهر، فأخذت الجامعة تتبنى خطاً ودياً تجاه التصوف ؛ مما لقي انتقاداً عنيفاً لدى الحركة السلفية حول رشيد رضا ، وكانت المعارك الصحفية تنشب بين ( المنار ) صوت السلفيين ، ومجلة الأزهر ( نور الإسلام ) صوت الأزهريين المؤيدين للتصوف ، وكان بين العلماء البارزين في الأزهر آنذاك يوسف الدجوي الذي لمع بشكل خاص في دفاعه عن التصوف والتوسل بالأولياء ، فألف القصيمي في الرد عليه كتابه الشهير" البروق النجدية في اكتساح الظلومات الدجوية " عام 1931م وهاجم فيه بعنف طقوس الصوفية ، وتقديس الأضرحة والتوسل بها، بعد ذلك أدى هذا الكتاب إلى رد فعل قاس لدى قيادة الأزهر، حيث فصلت القصيمي عام 1931م من الجامعة.
ركز القصيمي في الأعوام اللاحقة انتقاده على علاقة أزهريين قياديين بالصوفية ، والتدين العامي ، وكتب كتابين طوَّر فيهما هجومه السابق على العلماء الأزهريين ، وهذان الكتابان هما ( شيوخ الأزهر والزيارة في الإسلام ) عام 1931م – 1932م ، وكتاب ( الفصل الحاسم بين الوهابيين وخصومهم ) 1934م .
- المحطة السلفية الثانية (الصراع مع العلمانيين) : بعد عزل الظواهري من منصب عميد جامعة الأزهر ، وتعيين المراغي توقف القصيمي عن نقد الأزهر ورجاله ، واتجه في نقده إلى العلمانيين فقد نشر أشهر ممثلي الليبرالية العلمانية آنذاك محمد حسين هيكل عام 1935م كتابه المشهور ( حياة محمد ) وقد سعى هيكل في كتابه لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم -إلى تفسير السيرة بمنظار عقلي من خلال دعم القيم العلمية الوضعية عن طريق عقلنة الإسلام ، وتبعاً لذلك نظر إلى عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم- بمنظار يسمح له بتفسير جميع النصوص القرآنية بطريقة العلوم الحديثة في عصره .
فألف القصيمي نقداً لهذا الكتاب مؤلفاً سماه ( نقد كتاب حياة محمد لهيكل ) عام 1935م – 1354هـ ، ويتضمن الجزء الأكبر من كتابه نقداً لتفسير هيكل للمعجزات النبوية ، وكان أشد الانتقاد موجها للمثالين الذين اختارهما هيكل نفسه لإيضاح موقفه من الظواهر الإعجازية وهما : الإسراء والمعراج ، ومعجزة شق الصدر .
إلا أن نقد القصيمي لهيكل لم يجد التجاوب من الدوائر السلفية في مصر آنذاك؛ فقد اعتبرت تلك الدوائر أن هذا المؤلف لهيكل يعد تحولاً من العلمانية إلى الإسلام ؛ ولهذا نصح رشيد رضا الخصم اللدود لهيكل سابقاً قُرَّاءه بقراءة كتاب ( حياة محمد ) وهيأ له الملك عبد العزيز استقبالاً حافلاً عند أدائه فريضة الحج عام 1936 م .
- المحطة السلفية الثالثة (الصراع مع الشيعة): في عام 1927م نشر الكاتب الشيعي محسن الأمين العاملي كتابه الخصامي ( كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب ) ، ولم يسمع القصيمي بالكتاب إلا متأخراً نسبياً ، وذلك حينما أرسله العالم السعودي محمد نصيف عام 1935م مع رجاء الرد عليه ، فألف القصيمي كتابه الشهير ( الصراع بين الإسلام والوثنية ) عام 1937م – 1357هـ ، وفي هذا الكتاب ينفي القصيمي انتماء الشيعة إلى الإسلام ، ويساوي بينهم وبين عبدة الأوثان ، ويرى أنهم ينتمون إلى تقليد فكري هدفه إفساد عقائد المسلمين ، وأرجع الشيعة إلى أصول يهودية تعود إلى اليهودي عبد الله بن سبأ ، وبصدور هذا الكتاب أصبح القصيمي مدافعاً قوياً عن السلفية معترفاً به على نطاق واسع ، وذكر القصيمي نفسه في حديث له مع فازلا عام 1993م أن الكتاب لقي قبولاً حماسياً في السعودية وقدم للملك عبد العزيز بالقول : (( إن مؤلف هذا الكتاب استحق مهر الجنة)) .
المرحلة الثانية : مرحلة العلمانية
منذ منتصف الثلاثينات بدأت ظاهرة النقد الذاتي في الخطاب العربي ، وبنهاية الثلاثينيات صارت هذه الظاهرة منتشرة على نطاق واسع ، وشارك فيها ممثلو السلفية ، ولعل أبرز مثال عن مشاركة الإسلاميين بالنقد الذاتي آنذاك كتاب شكيب أرسلان ( لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ؟ ) وقد أعرب القصيمي عن موافقته لأرسلان ، وشارك هو بدوره في النقد فألف كتاب ( لماذا ذل المسلمون؟) عام 1940 م ووجه نقداً حاداً لمظاهر التخلف لدى المسلمين ثم أتبعه سنة 1946م كتابه الضخم الذائع الصيت ( هذي هي الأغلال ) ، وقد اختلفت الأقوال في تقييم القصيمي من خلال طرحه في هذا الكتاب فذهب د/ فازلا إلى أنه (( لا يشكل – كما يزعم المنجد وكما في المراجع الغربية – قطيعة كاملة مع مواقفه السابقة بل إن في كتابي القصيمي ( كيف ذل المسلمون ) و( هذي هي الأغلال ) هما خط الوصل الفكري بين إيديلوجيا القصيمي والوهابية ، وهجومه اللاحق على كل ما هو ديني))" ص68". وقد أطال د/ فازلا في تحليل هذا الكتاب فاستغرق أربعين صفحة من أطروحته ، ويخلص إلى أن القصيمي حاول دوماً في ذلك الكتاب بناء انتقاداته لظروف تخلف العالم الإسلامي على أسس دينية، وتدعيمها ببراهين من الكتاب والسنة ، هذا هو رأي د/ فازلا في الكتاب. فما هي آراء المعاصرين للقصيمي كما أوردها د/ فازلا ؟
أثار الكتاب ردود فعل واسعة ففي أوساط الكتاب ذوي الاتجاهات العلمانية لقي القصيمي تأييداً كبيراً وكانت مجلة ( المقتطف ) الليبرالية أول الجهات التي وقفت بكل صراحة ووضوح إلى جانب كتاب ( هذي هي الأغلال ) حيث نشرت عنه دراسة نقدية بقلم إسماعيل مظهر ، ومِمَّن أيد هذا الكتاب عباس محمود العقاد في مجلة الرسالة عدد ( 695 ) ولعل أبرز تأييد لقيه الكتاب تأييد شيخ الأزهر حسين القياتي حيث نشر مقالاً في ( المقتطف ) بعنوان وضع القصيمي بين المصلحين الكبار ومما قال:( شكل ابن خلدون رائد الاشتراكيين طليعة الإصلاح في الشرق ، وشكل الأفغاني وتلميذه محمد عبده والكواكبي جوانبه ، أما القصيمي فهو قلبه ) ص 109 ، وكذلك أيده الشيخ محمود شلتوت وأعرب عن أسفه من أن جامعة الأزهر لم تتمكن خلال تاريخها الطويل الذي امتد إلى ألف عام من وضع كتاب بمستوى ( هذي هي الأغلال ) .
وبالمقابل انتقد الكتاب الشيخ عبد الرحمن السعدي ورد عليه بمؤلف أسماه ( تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله ) وذلك عام 1947م ، حيث يرى السعدي أن القصيمي تعمد تزوير مبادئ الإسلام وتفسيرها تفسيراً خاطئاً ، وهناك رد آخر على القصيمي ، يلفت النظر بضخامته وهو ( بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال ) ويقع في 1200 صفحة ، ويرى صاحبه أن القصيمي يعتبر كل تفسير أو حديث لا يناسب آراءه فهو بكل بساطة باطل وغير مقبول ، وهو ينتقد الجماعات الإسلامية والسلفية فقط ليفسح الطريق أمام الزندقة والكفر ، وبينما يعتبر خطبة الجمعة مخدرة ومثبطة للهمم يسكت عن انتشار السلوك المخالف للدين كالرقص والبغاء وغير ذلك ، وممن انتقده المفكر الكبير سيد قطب حيث يصف كتاب القصيمي بأنه هجوم على القيم الجوهرية للدين الإسلامي ، وينزعج بشكل خاص من المقابلة التي يضعها القصيمي بين الدين والنجاح المادي ، ويقول إن أقواله عن هذا الموضوع لا يمكن فهمها إلا أنها دعوة للابتعاد عن الدين وهو عندما يستشهد بكلمات غوستاف لوبون الذي يقول ( إن البشرية لم تتمكن من تحقيق تقدُّم قوي إلا في مراحل الوثنية ) يوضح بكل جلاء نياته الحقيقية ، وهي حض قُرّائِهِ على التخلي عن الإسلام ، ولكن كلما برزت هذه الروح التي تطغى على الكتاب بكامله يحاول القصيمي الاختباء بدافع الجبن وراء غطاءات دينية لأفكاره . هذه أبرز الآراء المختلفة التي أوردها د/ فازلا ، ولعل هذا الاختلاف الكبير حول تقييم الكتاب إنما هو نتيجة أسلوب القصيمي في الكتاب ، فهو كثيراً ما يؤكد إيمانه بالله ورسوله ، وأنه إنما يريد الدعوة إلى التخلص من الأغلال التي علقت بالدين، لكنه أحياناً يسترسل إلى نقد الدين نفسه ، ونقد العلماء من السلف والخلف والدعوة إلى الكفر بهم وإسقاطهم ، وقد حاول أن يؤصل أن الدين لا علاقة له بالحضارة ، ودعا إلى الفصل بين الدين والسياسة ، وكل هذه الآراء والموقف تجعله يبدو ممثلاً للتيار العلماني الليبرالي ، وبعيداً عن التيار الإسلامي . ولعله أدرك ذلك من نفسه ولهذا ختم الكتاب بمدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب وضربه أنموذجاً للمسلم الحق في محاولة لتغطية ما بث في كتابه من دعوة صريحة إلى العلمانية .
بعد الضجة التي أثارها كتابه ( هذي هي الأغلال ) انسحب القصيمي من الحياة واقتصر الظهور العام له على حلقة نقاش تجري في أوقات دورية في مقهى تحت القلعة اسمه ( كافتريا العمدة ) وكان يشترك في هذه الندوة عبد الحميد الغرابلي ، والعالم السعودي محمد نصيف ، والكاتب خالد محمد خالد ، ثم بدأ يعقد لقاءات مع الطلبة اليمنيين المبتعثين إلى القاهرة ، مما دفع حكومة الإمام في اليمن للمطالبة بطرده من مصر ، وهذا ما حصل بالفعل حيث طرد عام 1954م وذهب إلى بيروت ، وفيها تلقى دعماً من المثقفين العلمانيين ومن أبرزهم سهيل إدريس حيث أتاح له الكتابة في مجلته ( الآداب ) ، وقدري قلعجي الذي أعطى القصيمي في وقت لاحق زاوية خاصة في مجلته ( الحرية ) التي صدرت عام 1956م ، وبدأ الكتابة أيضاً في صحيفة ( الجريدة ) وفي عام 1956م ، ألغت الحكومة المصرية أمر إبعاد القصيمي وسمحت له بالعودة إلى أسرته في القاهرة ، وبدت كتاباته في تلك الفترة تتميز باليأس ؛ فقد كتب مقالاً بعنوان ( الكاتب لا يغير المجتمع ) .
المرحلة الثالثة والأخيرة : مرحلة الإلحاد
بعد نشر القصيمي كتابة ( هذي هي الأغلال ) عام 1946م ، وما لقيه من هجوم واسع ، انسحب من الحياة العامة كما مرَّ سابقاً ، ويفسر الدكتور فازلا هذا الانسحاب بأنه يشير إلى أن الرفض الذي لقيه آنذاك هز صورته عن العالم هزاً عنيفاً ، دعاه إلى تغييرها، ولذلك يتحدث أحمد السباعي عن أزمة الشك التي مَرّ بها الكاتب في هذه المرحلة من تطوره ثم ازدادت حدة هذه الأزمة الداخلية لديه بإبعاده عن مصر في الخمسينيات ، وعيشه في المنفى السياسي ؛ مما أدى في النهاية إلى رفضه الجذري لكل ما كان ذا معنى بالنسبة له في السابق ، وقد مرت مرحلة إلحاده بمحطتين :
- المحطة الأولى (الإنتاج الفكري والشهرة) : بداية من عام 1963م ، شرع القصيمي بطرح كتبه الإلحادية الشهيرة وتعد هذه الفترة أغزر فترات عمره تأليفاً ، فقد ألف في السنة المذكورة كتابه ( العالم ليس عقلاً ) وهو كتاب لم يلق صدى يذكر في الأوساط الثقافية العلمانية والإسلامية ، وبعد ثلاثة أعوام وفي عام 1966 م ، أصدر كتابين ( هذا الكون ما ضميره ؟ ) وكتاب ( كبرياء التاريخ في مأزق ) وبعد صدورهما مباشرة نشرت مقتطفات في ( العلوم ) وفي الملحق الأدبي لجريدة ( النهار ) وفي الوقت نفسه نشرت عدة دراسات عن الكتابين .
بين عام 1967وعام 1972م بلغ القصيمي قمة شهرته وهي تعد أكثر مراحل حياته إنتاجاً وشعبية ، والسبب في هذا حدثان وقعا نقلاه إلى مركز الضوء ، أحدهما طرده إلى لبنان ، ولم تعرف الظروف الدقيقة لهذا الإبعاد . هذا الطرد أحدث تضامن المثقفين العلمانيين في لبنان معه ونشرت بعض الصحف اللبنانية تطالب برفع الحظر عن دخوله إلى لبنان ، والحدث الثاني هزيمة حزيران عام 1967م ، فقد أحدثت هذه الهزيمة زلزلة فكرية لدى جمهرة المثقفين وأطلقت موجة من النقد الذاتي عمت العالم العربي بأسره ، وظهر لدى كثير من المثقفين العرب ميل إلى القطيعة التامة مع الماضي ، ففي مثل هذا المناخ الثقافي يمكن أن تجد فلسفة تحطيم الصور والمفاهيم الدينية والسياسية التي تدعو إليها كتب القصيمي أرضاً خصبة للازدهار والانتشار، ولهذا أعيد طباعة كتابه ( العالم ليس عقلاً ) في ثلاثة أجزاء ثم تبعها عام 1971م تأليف كتاب ( أيها العار إن المجد لك ) وكتاب(فرعون يكتب سفر الخروج ) وكتاب ( الإنسان يعصي لهذا يضع الحضارات ) إلى جانب ذلك نشر القصيمي عدداً من المقالات في المجالات الأدبية في بيروت ومن الممكن القول بأن القصيمي كان بين 1967م وعام 1972م فيلسوف المرحلة الذي تنوقلت أفكاره على نطاق واسع نظراً لحالة الضياع والصدمة التي يعيشها المثقفون العرب جراء هزيمة 1967م .
مع نشوب الحرب الأهلية في لبنان عام 1975م انقطع النشاط الثقافي في لبنان وبهذا فقد القصيمي مكان النشر لكتبه ، فنشر كتابه ( العرب ظاهرة صوتية ) عام 1977 م في باريس ، وكان هذا الكتاب آخر كتاب للقصيمي يلقى في العالم العربي صدى قوياً نسبياً ، إلا أن جميع النقاد أعطوا الكتاب تقييماً سلبياً جداً ورافضاً.وفي تعليق للكاتب اللبناني يوسف الخال على كتاب القصيمي هذا وصف القصيمي وإنتاجه الفكري بأنه ( ظاهرة كلامية ) .
وفي الثمانينيات أصدر القصيمي كتابين ( الكون يحاكم الإله ) 1981م و ( يا كل العالم لماذا أتيت ) 1986م ، فلم يلقيا أي اهتمام وحتى الرد العاصف الذي واجهه كتاب( العرب ظاهرة صوتية ) عام 1977م ، ظل غائباً كلياً هذه المرة ، يقول فازلا : فحسب علمي لم تنشر أي قراءة نقدية لهذين الكتابين ، وكانت ظاهرة التجاهل الكامل هذه توصف في الوسط الشخصي المحيط بالقصيمي بأنها ستار الصمت الذي أسدل أمام الكاتب منذ عام 1980م تقريباً .
يبقى تساؤل حول مؤلفاته الإلحادية والموضوعات التي تحدث فيها عنها : يقول د / فازلا : (( مؤلفاته بعيدة كل البعد عن أن تكون نظاماً فلسفياً مترابطاً ومحكماً ، فهو لا يتبع في أي كتاب من كتبه خطاً منهجياً متتابعاً ومحكم الحجة ، بل إن مؤلفاته الأخيرة هي أقرب إلى طائفة من الحكم والمقولات المركزة التي تتناول موضوعات متنوعة ، تتبدل وتتكرر دائماً ويدور الحديث حولها بالمعنى الحرفي للكلمة ، ولذلك لا يجد نقاد القصيمي صعوبة في اتهامه بأنه كان من الأفضل لو أسقط فصولاً كاملة من كتبه ؛ لأنها ليست سوى تكرار لنفس الأفكار وشرح مستفيض لنفس الموضوعات يصل إلى حد الإطناب ...، وما نلاحظه في كتابات القصيمي من لف ودوران على صعيد الموضوع والمضمون ينطبق أيضاً على الأسلوب اللغوي ، فهو لا يكتفي بإيجاد الكلمات المناسبة بشكل خاص للتعبير عن مسألة معينة ، وإنما يصُفُّ جميع المترادفات المتوفرة لمفهوم معين خلف بعضها ..، والنتيجة التي تسفر عنها هذه الطريقة في الكتابة هي جمل هائلة حقاً تملأ فيها )) ص 145.
أما مضمون كتبه الإلحادية الأخيرة فهو التمحور حول ثلاثة موضوعات :
الأول : تفسير الدين والتدين والوحي ، والموضوع الثاني : الحديث عن الله - جل وعلا- في الديانات السماوية ، والثالث : الموقف من العرب وبالأخص من القومية العربية ، أما الموضوعان الأوليان فقد كررهما كثيراً في كتبه معبراً عن رأيه فيهما بطريقة استفزازية ، وبصراحة وقحة ، واستخفاف بمشاعر القارئ المؤمن ، فهو يرى أن الدين تعبير حياتي يعود إلى طبيعة النفس البشرية وحاجاتها وكل شعائر الأديان تعبيرات يختلقها الإنسان ؛ لإشباع حاجات نفسية، ثم يضفي عليها طابع التقديس لحاجته النفسية إلى الأمن والطمأنينة . أما حديثه عن الوحي فيبين عن مدى الارتكاس الإلحادي الذي وصل إليه القصيمي، فهو يرى أن الوحي شكل مرضي من أشكال رد الموحى إليه على المشاكل الاجتماعية والنفسية التي يتعرض له ، ويرى أن النبوة هي تعبير عن الألم النفسي والقنوط الدنيوي اللذين يؤثران على التصورات الدينية التي يتسببان في نشوئها .
أما الله ( جل جلاله ) فهو يرى أنه مرآة للإنسان والمجتمع فهو يكتسب صفاته تبعاً لثقافة المجتمع (سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ) وكان يتفادى بادئ الأمر التكلم عن ( الله الواحد الأحد ) ويستعمل بدلاً من ذلك تعبير ( الإله ) وكثيراً ما يأتي بصيغة الجمع ( الآلهة ) أو يستعمل كلمة ( الألوهية ) أما في كتاباته المتأخرة في الثمانينيات فقد سقطت هذه المحظورات ، وأخذ يستعمل بصورة متزايدة كلمة (الله) مباشرة في جُرأة إلحادية وقحة ، تبين عن مدى إصراره على الإلحاد ورفض الدين .
وأما الموضوع الثالث في كتبه المتأخرة ، وهو الموقف من العرب ، فيعبر عنه كتابه ( العرب ظاهرة صوتية ) فقد شن هجوماً على جميع العرب وصل إلى حد التحقير العنصري ، فهو يصف الطابع العربي بأنه وضيع إنسانياً ، ويصف العرب بأنهم ظاهرة صوتية ، وبلغ في تصويره العنصري للعرب في كتابه ( يا كل العالم لماذا أتيت ؟) بأن قال : ( إن المرأة العربية الإسلامية لا تلد إلا كائنات أقل شأناً من الأطفال الآخرين فيما يتعلق بمستواهم الذهني والنفسي وبقدرتهم على الإبداع ) وفي مقال له يصل إلى حد اعتبار العروبة نقيضاً للحضارة .
يقول فازلا : (( في جميع كتاباته بعد عام 1963م يصف القصيمي العرب وتاريخهم بعبارات ( التخلف ) و ( الرجعية ) و ( الضعف ) إضافة إلى ذلك يستعمل التعبير بين المتضادين اللذين وضعهما المؤرخ المغربي ابن خلدون وهما ( البداوة ) و ( الحضارة ) لكي يصف جميع صفات العرب بأنها غير حضارية)).
- المحطة الثانية ( الانسحاب النهائي) : كان كتاب القصيمي ( العرب ظاهرة صوتية) 1977م آخر كتاب له يلقى صدى في العالم العربي ، أما الكتابان الأخيران له( الكون يحاكم الإله ) 1981م و ( يا كل العالم لماذا أتيت ؟) 1986م ، فلم يلقيا أي اهتمام وكانت ظاهرة التجاهل الكامل هذه توصف في الوسط المحيط بالقصيمي بأنها (ستار الصمت) الذي أسدل أمام الكاتب منذ عام 1980م تقريباً ، وآنذاك بدأ القصيمي مرحلة الانسحاب إلى الحياة الخاصة ،وتركز كامل نشاطه ودائرة تأثيره خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية على محيطه الشخصي ، وكانت الزاوية الخاصة الأخيرة التي ينشط فيها ندوة أسبوعيه تنعقد في منزله في غرفة الجلوس ، ومنذ توفيت زوجته عام 1990م لم يغادر مسكنه في القاهرة إلا نادراً جداً ، حتى توفي في 9/يناير 1996م .
خاتمة الكتاب
لخص المؤلف فازلا رؤيته عن القصيمي وأُطروحاته في خاتمة الكتاب في سبع صفحات ومن أبرز النقاط التي أوردها :
- تتسم أعمال القصيمي في كل مراحله الفكرية بالقطع الراديكالي الحاسم .
- لا يمكن معرفة الأسباب القطعية التي دفعت القصيمي للتراجع عن معظم مواقفه السابقة ، فلم يكن من الممكن كشفها كاملة حتى ولا في الأحاديث الشخصية التي أجريتها معه ، فقد كان يرفض الحديث عن المواقف والآراء التي تبناها قبل الستينيات ؛ ولذلك كان يمنع أي سؤال عن أسباب تراجعه عن قناعاته الدينية السابقة .
- مما يلفت الانتباه في مضمون كتبه كلها هو أنها تتميز بثبات كبير في الموضوعات التي تتناولها ، وفي الأشياء التي تنتقدها ، وتظهر الاستمرارية في الهجوم المتكرر على الظواهر الدينية التي لا يقتنع بها ففي كتبه الأولى كان هجومه على التصوف وتمجيد الأولياء ، وفي الأربعينيات وسع هجومه في ( هذي هي الأغلال ) ليشمل تصرفات العلماء وآراء السلف ، ثم جاءت كتبه الأخيرة فزادت مساحة نقده لتشمل الدين نفسه ، ولتمزق جميع المحرمات والمقدسات .
- في القراءات النقدية لكتبه يبدو القصيمي وحيداً إلى أبعد الحدود فهو لم يؤسس مدرسة فكرية ، ولا يمكن نسبته إلى أي مدرسة من المدارس الفكرية المعروفة،وليس له أتباع ، ويعود ذلك في المقام الأول إلى الصيغة التي يعرض بها القصيمي بناءه الفكري ؛ إذ طريقة العرض غير المنهجية ، والأسلوب الشديد، والإطناب والتكرار لنفس الأشياء ، والطابع الحكمي لكتاباته ، كل ذلك يجعل من الصعب على القارئ فهم ما يقرأ ، أو ينفره من التعمق في دراسة مضمون مؤلفاته .
- لم يحاول القصيمي أبداً طول حياته إلحاق نقده الراديكالي باقتراحات إصلاحية ملموسة ، فهو لم يضع بدائل لتحليلاته المتشائمة للأوضاع القائمة، وبصورة عامة فإن القصيمي يتميز فقط بهدمه للتصورات الدينية .
- تشير الضجة التي أثارها نشر ( هذي هي الأغلال ) عام 1946م إلى أن اهتمام الرأي العام الإسلامي بالقصيمي نابع من وضعه كمرتد ومنحرف ولذلك فأهميته تعود بالدرجة الأولى إلى دوره كمنتهك للمحرمات الدينية . *****
هذه أبرز مرئيات فازلا عن فكر القصيمي وشخصيته ، ونختم بقوله تعالى :[ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ، ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ].
[url]http://www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?catid=33&artid=77[/url]
|
|
09-09-2003 , 11:51 PM
|
|