بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} الآية 245 سورة البقرة .
عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) قال أبو الدحداح : يا رسول الله أو أن الله يريد منا القرض؟ قال : نعم يا أبا الدحداح، قال أرني يدك، قال: فناوله، قال: فأني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة.
وفي رواية لزيد بن أسلم قال أبو الدحداح فداك أبي وأمي يا رسول الله: أن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال نعم يريد إن يدخلكم الجنة به قال: فأني أن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي معي الجنة؟ قال: نعم، قال ناولني يدك، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: أن لي حديقتين أحدهما بالسافلة والأخرى بالعالية والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله تعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجعل إحداهما لله والاخرى معيشة لك ولعيالك. قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط: أي بستان: فيه ستمائة نخلة. قال ك إذاً أيجزيك الله به الجنة زفأنطلق ابو الدحدوح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فناداها قائلا: خذي أولادك وأخرجي من البستان فقد اقرضته ربي فأنشأ يقول: هداك ربو السبيل الرشاد إلى سبيل الخير والسداد بيتي من الحائط بالوداد فقد مضى قرضا إلى التناد أقرضته الله على أعتماد بالطوع لا من ولا أرتداد إلا رجاء الضعف في المعاد فأرتحلي بالنفس والاولاد والبر لا شك فخير زاد قدمه المرئ على المعاد فقالت له ربح بيعك بارك الله لك فيما أشتريت.
ثم أجابته وأنشأت تقول بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح قد متع الله عيالي ومنح بالعجزة السوداء والزهور والبلح والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح ثم اقبلت ام الحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في اكمامهم حتى افضت إلى الحائط الاخر فقال صلى الله عليه وسلم: كم من عزق رداح وداد فياح لأبي الدحداح، إن المال لا يذهب بالانفاق، أنما هو قرض حسن لله مضمون عنه يضاعفه أضعافاً كثيرة يضاعفه في الدنيا مالاً وبركه وسعادة وراحة، ويضاعفة في الاخرة نعيما ومتاعا ورضاً وقربى من الله ذلك لأن مرد الغني والفقير إلى الله لا إلى الحرص والبخل ولا الى البذل والانفاق وأذن فلا فزع من الموت ولا خوف من الفقر ولا مفر من الرجوع إلى الله وهو الذي يرث الارض ومن عليها واليه المرجع والمآب.
ولما نزلت هذه الآية أنقسم الناس إزاءها ثلاثة أقسام فريق وهم اليهود قالوا: إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء فسمع بعضهم أبو بكر فلطمه على وجه فشكاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى قوله: {لقد سمع الله قول الذين قالوا أن الله فقير ونحن الأغنياء سنكتب ما قالوا}. وسلى المؤمنين بقوله سبحانه: {ليبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا أو تنفقوا فأن ذلك من عزم الامور}.
والفرقة الثانية هي التي أثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسير ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار. وأما الفرقة الثالثة فحين سمعت الدعوة إلى الأنفاق بادر المجنون منهم بالمسارعة لبذل المال كأبي الدحداح وغيره وهؤلاء كثير لأنهم علموا أن ما عندهم ينفد وما عند الله باق وتأكدوا بأن من في الدنيا ضيف وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي أنفق كل ماله ثلاث مرات وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله في كل مرة ما ذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر فكان جوابه: أبقيت لهم الله ورسوله .
ومن هنا قال فيه صلى الله عليه وسلم: وما نفعني مال أحد قدر ما نفعني مال أبو بكر وما لأحد عندنا يد إلا كافأناه عليها إلا أبو بكر فأن له عندنا يد تسأل الله تعالى أن يكافأه عليها وحين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول من يأخذ كتابه بيمينه يوم القيامة عمر بن الخطاب تعجب الصحابة وقالوا وأين أبو بكر يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن أبا بكر ليس له كتاب وأنه سيدخل الجنة بغير حساب لأنه أعطى الله تعالى بلا حساب .
وهذا هو عمر في يوم الحسرة يقدم نصف ماله لتجهيز جيش العسرة ويتابعهما عبد الرحمن بن عوف وكان من التجار الميمونين القنوعين الذين يرى الله لهم في تجارتهم وكان كثير الصدقات وقد تصدق بماله كله أكثر من مرة وكان يكتب قائمة بتوزيع ما عنده من ثياب ومتاع على أخوانه المحتاجين قبل أن ينام ثم ينفذ ذلك إذا أصبح عليه الصباح ثم ينزل الى السوق وليس لديه الا الثوب الذي عليه.
ولقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه من هؤلاء النفر الذين باعوا الدنيا وأشتروا الاخرة وقد كان من الأسخياء والأغنياء وقد بلغت نفقاته في يوم العسرة أن قام بتجهيز ثلث الجيش وحده وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرة ذهب حتى قال صلى الله عليه وسلم عنه وهو يقلب فيها ما ضر أبن عفان ما صنع بعد اليوم اللهم أرض عن عثمان فأني عنه راض.
وقد حدث في خلافة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن أصاب الناس قحط فلما أشتد بهم الامر ذهبوا إلى الخليفة وقالوا يا خليفة رسول الله أن السماء لم تمطر والأرض لم تنبت وقد توقع الناس الهلاك فماذا نصنع ؟ فقال لهم اصبروا فانى أرجوا الامور حتى يفرج الله عنكم فلما كان آخر النهار وردت الأنباء بأن بعيراً لعثمان أبن عفان قد قدمت من الشام وتصبح بالمدينة فلما جاءت خرج الناس يتلقونها فإذا هي ألف بعير محملة بُرًّ وزيتا وزبيبا فأناخت بباب عثمان فلما جعل أحمالها في داره جاءه التجار.
فقال لهم ماذا تريدون؟ فقالوا أنك لتعلم ما نريد بعنا من هذا الذي وصل أليك فأنك تعلم حاجة الناس إليه فقال عثمان كم تربحونني على شرائي؟ قالوا: الدرهم درهمين. قال أعطيت زيادة على هذا، قالوا أربعة قال أعطيت اكثر قالوا نربحك حمسة قال أعطيت أكثر فقالوا: ما في المدينة من تجار غيرنا ما سبقنا أحد أليك فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطينا؟ قال أن الله اعطاني بكل درهم عشرة فهل عندكم زيادة؟ قالوا لا.
قال: فإني اشهد الله أني جعلت ما حملت هذه البعير صدقة لله تعالى على المساكين والفقراء ثم أخذ يوزع بضاعته فما بقى من فقراء المسلمين أحد إلا أخذ ما يكفيه واهله، ذلك لأنه وأمثاله آمنوا بقول الله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبه والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم والله هادي سواء السبيل.