العودة سوالف للجميع > سـوالـف الجمـيــــــــع > سـوالـف الـسـيـاسـيـة > علامات على أسوار الأقصى
المشاركة في الموضوع
دلال المغربي دلال المغربي غير متصل    
عضو جديد  
المشاركات: 69
#1  
علامات على أسوار الأقصى
جميلة هي أحجار هذا السور الأزلي ، جميلة وقوية ، لا تزول ولا تتبدل ، كانت وستبقى ، تبدل الزمان أو الوجوه ، وما البشر إلا نسمات خفيفة تلفح بضعفها هذه الأحجار لترتد متبددة دونما أثر.
- " أنت كما أنت يا أبا إبراهيم ، أربعون سنة مضت وأنت كما أنت ، عملك بيتك هيئتك ، حتى لحيتك تصبغها لتبقى كما أنت." قال أبو أحمد وهو ينظر إلى الداخلين إلى الحرم القدسي.
- " الحمد لله على الصحة ، الحمد لله على كل شيء." قال أبو إبراهيم وهو يرتب قوارير العطر الأثرية على رفوف دكانه والذي لم يكن سوى خزانة حديدية كبيرة مثبتة على الجدار الأثري.
جرّ كرسياً صغيراً وجلس قبالة إبي أحمد يراقبان زوار الأقصى ، لم تكن صلاة الجمعة قد أزفت بعد ، لكن المصلين كانوا يتوافدون سراعاً إلى المسجد.
- " ما هي أخبار المحروس إبنك ؟ أما زال يعمل في الكويت ؟" سأل أبو أحمد.
- " الله يرضى عليه أموره تمام ، إبنه صار شاباً طول المارد." رد قائلاً.
- " ما شاء الله . . ما شاء الله. " قال أبو أحمد " الله يحفظه لوالديه ، أليس لديه أبناء آخرين؟ "
- " لا يا أبا أحمد لكن الولد النبيه عن مئة ولد ، إبراهيم من قبله كان وحيداً ولكن كان عندي ببلد كاملة . مرضي والدين سهّل الله أمره."
- " رحم الله أيام زمان ، ما زلت أذكر ولدك إبراهيم وهو غلام صغير كان حيياً كفتاة صغيرة. عندما كنت آتي أحياناً من القرية وبرفقتي ولدي حمدان -فك الله أسره- كان يطلب منه أن يذهب معه لرؤية المسجد الأقصى إلا أنه كان يرفض أن يتحرك عن كرسيه في هذا الدكان."
- " نعم صحيح ، لقد ربيت ابني على الإلتزام والإتزان ، لذلك لم يسبب لي المشاكل ولو مرة واحدة مع اليهود. كل رفقاءه سجنوا ، أبعدوا ، أو شُرِّدوا ، إلا إبراهيم . كنت كل ليلة أضع رأسي على الوسادة وأنا موقن بأن ابني يبيت تحت نفس السقف."
صمت أبو إبراهيم قليلاً وأخذ يشارك زميله سهوته وهو يتأمل زوار المسجد من المصلين والذين أصبحوا الآن يتوافدون في مجموعات متتابعة ، ثم استأنف قائلاً :"بالمناسبة ما هي أخبار حمدان ، ولدك؟"
- " آه" قال أبو أحمد وأطلق معها زفرة طويلة ثم تابع " الله وحده يعلم أين هو الآن في سجن أنصار .. الجلمة .. تلمند .. المسكوبية .. عشرون سنة قضاها بين هذا السجن وذاك ، يخرج من إعتقال إداري ليدخل في آخر ، يخرج شهرين ليسجن سنتين ، وأحياناً يجدد له الإعتقال حتى قبل أن يغادر السجن. أولاده كثر ما شاء الله وكلهم معلقون برقبتي ورقاب اخوانه."
- " الله يخليهم." رد أبو إبراهيم.
في هذه الأثناء كانت بوابات الأقصى تكتظ بالداخلين رجالاً ونساءً شيباً وشباباً ، بهيئات مختلفة ، وجنود الإحتلال يكثفون وجودهم بملابسهم الخاكية الخضراء.
- " ملاعين الوالدين ، ألا يكفي بأنهم سرقوا أرضنا وسجنوا أبناءنا ، حتى مسجدنا يزاحموننا عليه." قال أبو أحمد مغضباً وهو يلعن جنود الإحتلال.
- " يا أبا أحمد ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها ؟ والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين." سكت أبو إبراهيم قليلاً ثم قال :" الله يطمئننا عليك يا إبراهيم." والتفت يريد أن يغلق الدكان ليذهب إلى الصلاة برفقة أبي أحمد عندما صرخ فجأة :" يلعن ... ، كل ما دق الكوز بالجرة يا أولاد الـ.... ؟"
- " ماذا حصل يا أبا إبراهيم ؟ خيراً إن شاء الله ؟ ما بالك تصيح ؟ "سأل أبو أحمد متفاجئاً.
نزع أبو إبراهيم كوفيته وعليها بقعة ماء صفراء كبيرة قد تفشّت في مسامات كوفيته البيضاء ، وعليها نقاط سود مبعثرة هنا وهناك.
- " فعلها الحمام مرة أخرى على رأسي . الملعون كأن أحداً يسلطه عليّ ليفعل ذلك." قال أبو إبراهيم منفعلاً.
مر أبو أحمد بعد مدة ليجد الدكان مغلقاً وقد عُلقت عليه يافطة كرتونية صغيرة كتب عليه "المحل مغلق بسبب وفاة ابن صاحب المحل . العزاء في منزل والد المرحوم في شارع ... "
بعد أيام كان أبو إبراهيم يجلس في دكانه يقف إلى جانبه فتى يافعاً طويل القامة .
- "جدي" قال الفتى.
- " ما الأمر يا بنيّ؟ "
- " أريد أن أرى المسجد الأقصى."
- " ليس الآن يا بني ليس الآن ، أنظر ها هو الميجور قادم ليشرب الشاي عندنا."
- " صباخ الخير أبو إبراهام ، كيف خالك ، أنت بخير؟ صخيخ إبنك أنت مات في كويت ، مرخوم .. مرخوم . مين الولد هذي أبو إبراهام ؟" قال الميجور متسائلاً.
- " هذا حفيدي وأسمه طارق." رد أبو إبراهيم بلهجة فيها شيء من الفخر.
- " إنت عمو ولد شاطر لا تعمل مشاكل. إنت إبقى في مخل لا تروخ مع مخربين كلاب. مفهوم ؟ " قال الميجور محاولاً التلطف. أشاح الفتى بوجهه إلى الإتجاه الآخر وهز رأسه بالموافقة.
مرت الأيام والضباط يجيئون ويروحون كما أعتادوا منذ سنين إلى دكان إبي إبراهيم يراقبون المسجد من هناك وخصوصاً في الأزمات والمظاهرات.
مرت الأيام والفتى يمني نفسه بزيارة المسجدالأقصى الذي طالما رأه على شاشة التلفزيون وفي اللوحات وفي المجلات والكتب المدرسيّة لكنه فشل إلى الآن بإقناع جده بالسماح له بدخول السور وهو الذي يقبع أكثر أيامه على بابه دون أن يلجه ولو لمرة واحدة.
- " جدي ! أرجوك أن تسمح لي برؤية المسجد الذي طالما حلمت بأن أراه منذ الصغر ." قال الفتى مستعطفاً.
- " يا بني الاوضاع متوترة ، وربما خرجت مظاهرات فقد تتعرض حياتك للخطر ." قال الجد.
- " لا تخف إن رأيت أن الوضع خطر فسأدخل إلى المسجد ولن أخرج منه حتى ينتهي كل شيء."
أخيراً وافق العجوز لكن اليوم التالي كان كأشد ما تكون المظاهرات عنفاً ، وأُطلق الرصاص ، وأُطلق الغاز المسيل للدموع ، وسقطت الضحايا تروي بدمها أرض المسجد الطهور . وفي نهاية اليوم عندما حضرت سيارات الإسعاف وجدوا الفتى في زاوية المسجد وقد فارق الحياة مختنقاً.
أظلمت سماء إبي إبراهيم وأرعدت واسودّت ، واستطالت الجبال وشمخت ، وأرتعد السور العظيم ، إرتعد ولم يطق سكوناً . لم تعد الدنيا دنيا ولا القدس قدس ولا الزمان زمان ، وتبدد الهواء حتى أن أبا إبراهيم حاول جاهداً أن يفتش عن نسمة هواء مهما صغرت فلم يكد يجد ما يكفي لنفس واحد.
لم يعرف النوم ولم يذق الطعام ، أهمل دكانه أياماً طوالاً . " لم يعد للحياة قيمة ، إبراهيم مات وأبنه طارق مات ، وأنا .. ماذا سأفعل وحدي ؟ هل سأكون كذرة رمل حملتها الريح لتضعها في هذا المكان ثم لتبددها دون معنى.آه لقد قضيت عمري أتجنب المشاكل ولكن … الآن أهلاً بالمشاكل ، مرحباً بالمشاكل ، لا عشت إن عاش يهودي ، لا عشت إن عاشوا . . ."
في اليوم التالي كان أبو إبراهيم قد صبغ لحيته مجدداً وفتح دكانه الذي تراكمت أمامه بعض النفايات ، وأحضر في جيبه شيئاً ما وانتظر . . . إنتظر أبو إبراهيم وطال إنتظاره ، كان الضباط يجيئون كعادتهم ليراقبوا من محله كما فعلوا طيلة السنوات الماضية ، ومرة أخرى اشتعلت المظاهرات مجدداً ، وصار الجنود يتراكضون من أمام دكان أبي إبراهيم كالحمر المستنفرة فاستل في زحمة الراكضين سكينه وأرسله ، إلا أن ضربته كانت كليلة ، إلتفت إليه الجندي متفاجئاً ثم أدار رأسه وواصل الهرب متراجعاً مع زملاءه بعيداً عن حجارة المتظاهرين.
كانت ليلة عصيبة تلك الليلة التي قضاها أبو إبراهيم عقب الحادث ، كان المعتقل يمثل أمام عينيه كخرم إبرة يضيق على عنقه حتى يخنقه . أسلاك شائكه ممتدة إلى مالا نهاية ووجوه مكفهرة تطلق آلاف من الأسئلة… "لماذا؟ … لماذا؟ . . . … لماذا ؟؟؟؟؟؟ "
تلمع أمامه صورة إبراهيم ، " لماذا يا أبتي ؟ لماذا ؟؟؟ " تلمع أمامه صورة حفيده طارق ، " لماذا يا جدي ؟ لماذا ؟؟؟؟؟ " وخلف الجميع يظهر الميجور متحفزاً ،" أبو أبراهام . . أبو أبراهـــام . . أنت مخرِّب أبو أبراهام " .
أناس يركضون وجنود أمامهم ، الأرض ترتج بأبي إبراهيم ، الجنود يركضون خلفه كسيل كاسح يدمر كل شيء وأناس كثيرون يتبعونهم رمياً بالحجارة ، وهو يركض ويركض ويركض محاولاً الوصول إلى بوابات الأقصى المفتوحة يريد الإعتصام به ، لكنه كلما ظنّ أنه صار قريباً إكتشف بأنه ما زال في بداية الطريق.
كانت الهواجس تقتله تقض مضجعه ، تخنقه ، تلاحقه ، تعكر تفكيره ، تمنعه الطعام والشراب ، طاحونة تدور في جمجمته ، تطحن ثم تطحن ثم تطحن دونما توقف .
وبعد ثلاثة أيام فتح دكانه مجدداً ، وقد عزم على أن يواجه الإعتقال ضريبة رخيصة لثأره ، فالنار ما زالت جذوتها تشتعل بشدة في قلبه.
أرتفعت الشمس في سماء يوم حزيراني صاف ، وجلس أبو إبراهيم أمام دكانه منتظراً ، مرت الساعات بطيئة كالسلحفاة ، وعندما نصّفت الشمس سماء ذلك اليوم نزل الميجور ضيفاً ثقيلاً وقال : " أبو أبراهام كيف خالك إنت ؟ في واخد ولد عسكري بيقول إنت يضربه في سكين. أنا قلت لا مش معقول ، أبو إبراهام صديق قديم صديق وفي ."
" آه . . . يا أبا إبراهيم حتى الثأر لم يطاوعك . أي الرجال أنت ؟ في أية خانة تُصنف ؟ أين تقف ؟ ما أنت ؟ أنت لا شيء ، أطفال صغار يدركون ثأرهم أما انت فلا تصلح لأن تكون مع البشر فضلاً عن الرجال ."
مرّ زوار الأقصى من أمام الدكان لأسابيع عدة دون أن يروا أبا إبراهيم ، مرت الأيام وتراكمت الأتربة والقاذورات على الدكان ثم جاء يوم تُقلع فيه الدكان من الجدار كما يقلع مسمار صدئ من حذوة حصان جامح .

اسم الكاتب : محمد مكرم بن عمر بلعاوي

دلال المغربي غير متصل قديم 15-03-2003 , 11:17 AM    الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


[عرض نسخة للطّباعة عرض نسخة للطّباعة | ارسل هذه الصفحة لصديق ارسل هذه الصفحة لصديق]

الانتقال السريع
   قوانين المشاركة :
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة لا بإمكانك إضافة مرفقات لا بإمكانك تعديل مشاركاتك
كود في بي vB متاح الإبتسامات متاح كود [IMG] متاح كود HTML متاح



لمراسلتنا - شبكة سوالف - الأرشيف

Powered by: vBulletin
Copyright © Jelsoft Enterprises Limited 2000.