الحمدلله العزيز الحميد ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، الحمد لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله مقدر الأقدار، ومسبب الأسباب، ومكور الليل على النهار ، الحمد لله الذي لايخلف وعده ، ولا يهزم جنده ،الحكيم العزيز ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، والرسول العظيم ، خير من صبر وظفر ، ومن تمكن وحلم وغفر ، وعلى آله الأبرار ،لصابرين على الأذى ما تعاقب الليل والنهار،وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم تشخص فيه الأبصار أما بعد :
أيها المؤمنون : إن اشتداد المحن ، وتوالي الفتن ، في آخر الزمن ، تُحزن القلب ، وتُدمع العين ، وتذوب النفس لما يحدث حسرات ، فيا لعظم المصاب ، وقلة الحيلة والجواب ، أرواح تزهق ، وأعراض تنتهك ، ودين يشكك ، وكافر يمكَّن ، فالحمد لله على كل حال فاللهم ألهمنا الصبر على أقدارك ، واليقين بوعدك ولقاءك .
أيها المؤمنون : : من تأمل في النور المبين بين أيدينا ، ذلكم القرآن العظيم ، خرج منه بأعظم العبر والدروس، وخاصة حين تظهر الأيام وجهها العبوس ، ويصطلي المؤمنون بحر الموت ويذوقون منه الكؤوس ، المؤمن عنده الدليل المرشد ،والهادي المُسْعِد، فيرجع إليه معظماً مصدقاً ،ومؤمناً موقناً ، فيطمئنَّ قلبه ، وينشرحَ صدره ،ويحمدَ ربَّه لعظيم النعمة التي بين يديه .
ولنا وقفة مع آية من كتاب ربنا تُزيل الغمة ،وتكشفُ الكربة عن الأمة ، ألا وهي قول الله عزوجل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( لايغرَّنَّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد)، ولها مثيلاتها في كتاب الله عزوجل وجل ،قال سبحانه : ( فلا يغررك تقلبهم في البلاد ) ، وقال أيضاً : (نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ )،ومن هذه الوقفات مع هذه الآيات الكريمات:
الوقفة الأولى : : في الآية تسليةٌ للمؤمنين ؛حين يشتد بهم الأذى، وتطول المعاناة ، تسليةٌ للقلوب المكلومة ، والنفوسِ الجريحةِ المحزونة ، تسليةٌ وأي تسلية .
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي عند تفسيره لهذه الآية : "وهذه الآية المقصود منها التسليةُ عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا وتنعمِهم فيها ، وتقلبِهم في البلاد ، بأنواع التجارات والمكاسب واللذات ، وأنواعِ العزِّ والغلبةِ في بعض الأوقات ، فإن هذا كلَّه متاعٌ قليلٌ ليس له ثبوتٌ ولا بقاء ، بل يتمتعون به قليلاً ، ويعذبون عليه طويلاً هذه أعلى حالةٍ تكون للكافر ، وقد رأيتَ ما تؤول إليه "أ.هـ
الوقفة الثانية : في الآية إزالةٌ للشكوك والتشكيك التي تصدر من الشيطان وجندِه، إزالةٌ لما قد يَحِيكُ في قلوب المؤمنين ، وهم يعانون الشظفَ والحرمان ، ويعانون الأذى والقهر والطغيان ، ويعانون المطاردةَ والجهادَ في وضح النهار وأمامَ العيان ، وكلُّها مشقاتٌ وأهوال ، بينما أصحابُ الباطلِ يَنْعمون ويستمتعون بظاهر من الحياة الدنيا ،وما كتب عليه الزوال، بل يحيك هذا الخاطر وذلكم الهاجس في قلوب الجماهير الغافلة ،وهي ترى ما يؤلِمُها من تسلط الأعداء ،بل يحيك في قلوب الكفرة المعتدين الظالمين فيزيدهم غياً وظلماً وطعياناً وإفساداً، وهنا..وهنا تأتي اللمسة الحانية ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد )، فيا لله ما أعظمها من لمسة لامست القلوب المجروحة والنفوس المتألمة فهدأت القلوب بعد انزعاجها ، واطمأنت النفوس بعد غليانها ، تسلية بأن ما عندَ الكفار من متاع، هو قليلٌ زائل غير ثابت وماعند الله خير للأبرار، من الجنات والنعيم المقيم، والعزِّ والتمكين إن عاجلا أو آجلا ، ولا يدخل مؤمنٌ الشكَّ في أن ما عند الله خير وأبقى .
أيها المؤمنون: يا من تقرأون كتابَ ربكم ،يامن امتلاءت قلوبُكم بحبِّ الله وتعظيمِه والإيمانِ واليقينِ بوعده ، اعلموا أن من صفات المؤمنين الإيمانَ بالغيب، واليقينَ والتصديق بوعد الله ووعيده وأنه حق، فالمنافقون قالوا يوم الأحزاب (ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)، والمؤمنون لما رأوا جموعَ الكفر وهيلمانه قالوا: (هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً)،المؤمنون أهلُ الحق ،والكافرون أهل الباطل، فاثبت أيها المؤمن على إيمانك ولا تضيعَ شيئاً من أجرك بكلمة تقولها وقت حزنٍ و غضب أو همٍّ ونصب ولتصبر وتتجلد وقل بخشوع وخضوع (إنا لله وإنا إليه راجعون ) ،قل (أمنت بالله وبوعد الله ) ،و(استعذ بالله من الشيطان الرجيم ).
الوقفة الثالثة : فيه توجيه للمؤمنين الصادقين بالتأني وتركِ العجلة ، وعدمِ التسرُّعِ في الحكم على الحال من واقعةٍ واحدة في زمنٍ محدود فالأيامُ دول، والدنيا لم تنتهي، والأقدارُ تُخَبِّأُ الكثير، وسنةُ الله لو أخذ بها المؤمنون لوجدوا أن الأمور في صالِحِهم ، والميزانَ رجح بكفتِهم ، فأين نحن من غزوة أحد لما هزم المسلمون؟، وقتل بين يدي رسوله سبعون من أصحابه، هل ترك الجهاد؟، هل ترك الدين والعبادة؟، بل صبر وصابر وأخذ العبرة وجاءت بعدها غزوات حتى فتح الله على يديه، ومكنه من أعدائه وشانئيه، وإن لنا في التاريخ لعبرة فبغداد وما أدراك ما بغداد؟ مركزُ خلافة المسلمين ، ومنطلقُ جيوش المجاهدين ،ما ذا حصل لها سنة ستمائة وست وخمسين؟ لقد سقطت الخلافة الإسلامية وقتل أكثرَ من مليونِ مسلم ، وتحول نهرُ دجلةَ إلى اللون الأزرق ؛لكثرة ما ألقي فيه من كتب العلم ، وتحول ماؤه إلى اللون الأحمر لكثرة ما أريق من دماء المسلمين ، وتعفنت الجثث ،وانتشر الوباء وانتهكت أعراض النساء فهل انتهت الدنيا؟هل أفل نجم المسلمين؟ هل انقطعت انتصاراتهم ؟ بعدها بسنوات قليلةكانت الغلبة والتمكين للمؤمنين وهزم التتار شر هزيمة وطردوا من بلاد المسلمين فلا تنظروا إلى يومِكم ولكن استشرفوا المستقبل وتفاءلوا ،وهذه القدس السليبة وما أدراك ما القدس؟ ماذا حصل للمسلمين يوم أن استولى عليها النصارى في نهاية القرن الخامس وظلت تحت حكمهم أكثر من تسعين سنة ما يقارب مائة سنة وبعدها رجعت عزيزة بأيدي المؤمنين وأذل الله النصارى على يد القائد المجاهد صلاحِ الدين الأيوبي، فيا أيها المؤمنون أبشروا وأملوا فوالله أني لأرى بصيصَ النور في هذه الظلمة الحالكة، و عسى الله أن يأتيَ بالفتح أو أمر من عنده .
الوقفة الرابعة : : فيه توجيه للمؤمنين أن يعبدوا الله ويجاهدوا ويبذلوا كل غال ونفيس في سبيل الله وفي سبيل نصرة دين الله وإعلاء كلمة الله ولا ينتظروا شيئاً من الدنيا حتى النصر والتمكين على العدو قد لايحصل لهم حتى تصفوا نياتهم وتصل إلى درجات عالية من الإخلاص والصدق والتجرد وهنا يأتي النصر ، (قال عبدالله بن رواحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة –ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه على الهجرة إليهم قال له : اشترط لربك ونفسك ما شئت ، فقال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ، قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : (الجنة) ، قالوا ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل ) ، نعم الجنة فقط ولا شيء من حطام الدنيا ، لم يقل جزاؤكم النصرُ والتمكين وإقامةُ الدولة المسلمة ،ولكن ربَّاهم على الإخلاصِ والتجردِ في أبهى وأعلى وأجلى صوره حتى من الأمور الدنيوية التي فيها مصالح شرعية ،فلما صفت النفوس وخلصت قامت دولتهم ،ومكن الله لهم وثبتهم عند لقاء عدوهم.
الوقفة الخامسة : : في الآية إشارة إلى قرب النصر (ألا إن نصر الله قريب ) ، فعندما تتدبر قوله ( لايغرنك ) أي لا تخدع ببهرجة كلامه ونصرهم الزائف المزيف فهو تقلب وليس بثابت ولا حقيقي ،و لكن العجلةَ سمةٌ من سمات البشر فجاءت الآيات لتعالج قلوب المؤمنين حتى يكونوا أكثرَ أناةً، وأعمقَ نظرة للأحداث ، وأن طريقَ النصر طويل، وليس بهذه السهولة، طريقٌ فيه أشلاء ودماء ،ولابد من معرفة هذه الحقيقة ، فبقدر التضحية وعظمِها يكون النصر، ولو كان النصرُ تمراً يؤكل لأعطيه أفضلُ الخلق وأحبُّهم إلى الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
الوقفة السادسة : أن ما قدمه المؤمنون من أعمال صالحة، وجهادٍ وبذل، ودعاء صادق ،فلن يذهب سدى ، والله لايضيع أجر من أحسن عملاً فقد قال سبحانه عقب هذه الآية (والله عنده حسن الثواب) فقد لا تحصِّل نصرا ولا عزا في الدنيا ،ولكن يُدَّخر لك أجرا ورفعةً ومنزلةً في جنة عرضها السموات والأرض .والدعاء له ثلاث مراتب فقد يمن الله عليك وتحوز أعلاها (فأدناها وأقلَّها أن يحقق الله لك ما تتطلبه ، وأوسطَها أن يدفع الله عنك من البلاء ماهو أعظم ، وأعلاها أن يدخرَه لك أجراً عنده في الآخرة ) فأنت لن تعدو هذه الخيرات والفضائل تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
الوقفة السابعة والأخيرة : :في آخر الآيات يذكرنا الله بجامعِ الخير كله، وبقاعدةِ النصر التي لا تغيب ولا تتخلف ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).فالصبرُ على شهوات النفس وحظوظها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من طول الطريق وكثرة الأعباء ، الصبرُ على شهوات الناس ونقصهم وجهلهم وسوءِ تصورِهم ، وضيقِ أفقِهم ، وانحرافِ طباعهم ، وغرورِهم ، واستعجالِهم ،الصبر على انتفاخة الباطل ، ووقاحةِ الطغيان ، وانتفاشِ الشر ، وغلبةِ الشهوات ، وتصعيرِ الخدود، والغرور والخيلاء ، الصبرُ على قلةِ الناصر، وضعفِ اليقين، وطولِ الطريق، ووساوسِ الشيطان في ساعات الكرب والضيق ، الصبرُ على مرارةِ الجهاد لهذا كله ، الصبرُ بعد ذلك كلِّه على ضبطِ النفس في ساعة القدرة والانتصار، واستقبالِ الرخاء في تواضع وشكر ، والبقاءِ في الضراء على صلة بالله مع الصبر، ورد الأمر كله إليه في طمأنينة وخشوع.
وقوله (وصابروا) المصابرة : أي الاستمرار على الصبرِ وعدمِ الانقطاع ،فلا بد من مقابلةِ صبرِ العدو وجَلَدِهِ وتجلُّدِهِ بصبرٍ أقوى وأدوم ، فإذا كان الباطل يُصِرُّ ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشدَّ إصراراً وأعظمَ صبراً .
(واتقوا الله لعلكم تفلحون): فالتقوى تصاحب هذا كلَّه ، فهي الحارس اليقظ في الضمير ، يحرسه أن يضعف ، يحرسه أن يعتدي ، يحرسه أن يحيد عن الطريق ، ولا يدرك الحاجة إلى التقوى -ذلكم الحارس اليقظ- إلا من يعاني مشاقَّ هذا الطريق ، ويعالجُ الانفعالات المتناقضة والمتكاثرة مع تكاثر الأحداث وتكاثر الأعداء وتكاثر المغريات في كل لحظة وفي كل حركة.فاللهم ارزقنا الصبر واليقين ، والثبات على الإيمان والدين.
http://www.raddadi.com/islamadvtmnt/kafaro.htm