العرب والبحث العلمي.. سؤال بلا إجابة ( بقلم رأفت رضوان )
أكدت الأبحاث العلمية علي الأثر القوي للتعليم علي الانتاج وعلي التطور الاقتصادي والتقدم التقني, فخلف كل مظاهر التقدم التقني والاقتصادي تكمن جهود العلماء الباحثين في مختبراتهم, فمؤسسات البحث العلمي تلعب دورا مهما في تطوير المجتمعات, وضمان نجاح الخطط الاقتصادية وتصحيحها وتقييمها. كما تؤدي البحوث إلي حدوث اكتشافات علمية تؤثر في طبيعة فهم الانسان ونظرته إلي العالم وفي كشف مناطق جديدة من المعلومات والاحتمالات التطبيقية التي تتحول إلي وسائل وأدوات تكنولوجية للانتاج والتقدم.
فالبحث العلمي ليس رفاهة أو وجاهة في إطار العلم للعلم ولكنه عمل دءوب من أجل استنباط المعرفة, وتطوير المنتجات أو الخدمات في كل القطاعات, وتخلف البحث العلمي يحول دون تطوير تلك القطاعات والتغلب علي مشاكلها, وبالتالي فإنه لا يمكن مع هذا التخلف تطوير تكنولوجيات أو تحسين مستويات تقدم أي من القطاعات ذات الأثر في تحقيق التنمية ولا النهوض بها ولا انتاج الثروات.
إن الاستقلالية التكنولوجية, وانتاج المعارف وتطويرها رهن بالبحث العلمي في مراكز البحوث, والجامعات بما توفره من طاقات للبحث تزيد حتي عن تلك المتاحة في المراكز, وورش التجريب وحتي مدرجات التدريس.
يلاحظ بعض الباحثين أن جامعاتنا العربية بصورة عامة لا تتبني سياسات للبحث العلمي, ولا تحدد أهدافا استراتيجية علي المدي القصير ولا علي المدي الطويل ولا المتوسط, ولا تضم البرامج السنوية للجامعات برامج بحوث بالمفهوم العالمي إلا نادرا, وغالبا ما تكون مشاريع البحوث المنجزة عبارة عن مبادرة فردية لأحد الأساتذة أو مجموعات بحث صغيرة.
فهذه الجامعات لم تضع ضمن اهتماماتها الحقيقية مجالا للبحث العلمي, فقد انهمكت منذ بداية عملها في إعداد أفواج من الأطباء والمهندسين والحقوقيين والمدرسين ورجال الإدارة, ليشغلوا وظائف داخل الجهاز الإداري ودون طلب مجتمعي لزي أبحاث أو دراسات ترتبط بالتنمية أو حل أي مشاكل.
علي الجانب الأخر فالبلاد العربية تعاني نقصا في الموارد البشرية العاملة في حقل البحث العلمي, فمعدل العلماء الباحثين ضعيف بالنسبة لعدد السكان( أقل من300 لكل مليون من السكان), وهو يقل كثيرا عن المعدلات العالمية التي قد تصل في البلاد المتقدمة إلي3000 باحث لكل مليون من السكان. إضافة إلي عدم توفير شروط البحث العلمي التي منها علي سبيل المثال غياب الحرية الأكاديمية وعدم تفرغ الباحثين وانشغالهم بأعمال إدارية أو تنفيذية بل وما زاد الطين بله انغماس عدد كبير من هؤلاء العلماء في العمل السياسي. إن الحرية الأكاديمية يجب أن تتاح للمؤسسات العلمية وللعلماء حتي يكونوا قادرين علي بلورة أفكارهم وصياغة أبحاثهم وعرض نتائج ما توصلوا إليه في حدود القيم والمباديء العلمية.
كما يجب منح العلماء الحرية في اختر ميادين بحوثهم, وإتاحة الفرصة لهم لتحقيق مشاريعهم البحثية بتوفير الشروط المادية وتشريعات العمل التي تسمح لهم بالتفرغ طيلة مدة إجراء البحث.
وأوضحت دراسات متعددة تزايد عزلة العلماء وغياب وجود قنوات اتصال بينهم, فعلي مستوي المؤسسات يلاحظ بعض الباحثين أن نظام التعليم العالي بالمغرب بتوزع إلي جامعة ومدارس عليا ومعاهد تتولي إعداد خريجين وفقا معايير تربوية متباينة ووسائل اعداد مختلفة بصورة جذرية ضمن إرث النظام عن فرنسا, فالمدارس العليا للمهندسين موروث عن فرنسا لا تعمل به باقي دول العالم المتقدم, والمدارس العليا للتربية تعيش أزمة هوية, وكليات العلوم والتقنيات تتمتع بحق إعطاء شهادة مهندس, لكنها تحاول أن تتحول إلي مدرسة للمهندسين, وتفرز كلية الطب خريجين يصعب عليهم التواصل مع باحثي كلية العلوم, ولا يشارك الطبيب مع الصيدلي في أمور كثيرة, وهذه بعض الأمثلة عن صور التشتت العلمي, وغياب التواصل والبرامج المشتركة والتعاون المثمر.
ويزداد هذا العائق قوة بفعل قلة وسائل الاتصال بين العلماء والباحثين, ونقص تبادل المعلومات بسبب الافتقار إلي أنظمة تبادل المعلومات والنشرات المهنية والمجلات, وللعلم فإن التقدم العلمي يزدهر بالاتصال بين العلماء وذوي الاختصاص علي جميع الأصعدة الإقليمية والوطنية والدولية والقارية, لمقارنة نتائج أبحاثهم ومناقشتها, والاطلاع علي ما توصل إليه أندادهم, وهذا التقدم يعاق بسبب غياب أنظمة الاتصال بين العلماء, فلا تتاح لهم فرص إثراء بحوثهم وتنميتها وتعميق الخبرة, ويضاف إلي هذا العامل قلة فرص التدريب المتاحة لهم, وغياب حلقات التكوين المستمر ودوراته سواء داخل البلاد أو خارجها, بدعوي قلة الاعتمادات المالية المرصودة.
إن الانتاجية العلمية والبحثية للجامعات ومعاهد البحث العربي أقل بكثير مما يمكن أن تقدمه بالقياس إلي الطاقات والكفاءات التي تملكها, ومقارنة الانتاجية العلمية والبحثية العربية مع الانتاج الإسرائيلي البحثي يثير القلق والأسي, برغم أن الفارق الكبير في الامكانيات البشرية والمالية هو لصالح الأمة العربية, فإنتاج العلماء العرب مجتمعين في وقتنا الراهن يقل عن انتاج الفئة نفسها في إسرائيل قبل عقود من الزمن, والأدهي من ذلك هو أن إنتاجية الباحث العربي تعادل10%( من المعدل العادي لغيره من العلماء).
يجب إذن عند التفكير في تطوير الجامعة والنهوض بالبحث العلمي الالتفات إلي الموارد البشرية الكثيرة كما والقليلة نوعا, وضمان الرفع من مستواها بتكوين أساسي شامل يجعل الناس قادرين علي التفاعل والتواصل فيما بينهم ويزيد من قابليتهم علي التعلم ويقوي الطلب الاجتماعي علي العلم والتكنولوجيا والمعلومات, ويضمن ايجاد سوق لترويج المعلومات وضمان استهلاكها, ومما يسهم في تحقيق ذلك, تنظيم المعارض العلمية واللقاءات الدراسية المنفتحة علي مكونات المجتمع وهيئاته وطبقاته, من جمعيات واتحادات ونقابات ونساء وشيوخ وغيرهم, وإحداث قنوات تلفزيونية تعني ببث البرامج العلمية والأفلام الوثائقية والاستطلاعات, واعتماد اللغة العربية في تواصل العلماء والهيئات العلمية مع المواطنين, وفي نشر الأعمال والأبحاث, وإحداث المواقع العلمية العربية علي شبكة الانترنت, وغير ذلك كثير مما يمكن إحداثه, وإقرار برامج ومشاريع التعاون بين الجامعات ومراكز البحث العربية, وبين المؤسسات الانتاجية وغيرها.
علينا أن نحلم بمؤسسات بحثية متطورة قادرة علي انتاج المعرفة وتوظيفها لخدمة التنمية والارتقاء بمستويات العيشة في كل أنحاء الوطن العربي ولكن هذا الحلم مقترن بمقدار ما سوف تتيحه الدول من موارد.. هل يحق لنا أن نحلم؟
|