PDA

View Full Version : حكم الإقامة في دار الكــفـر


ماجدالمسفر
09-08-2001, 03:46 PM
بـسـم الله الرحمن الرحيم

السـلام عليكم ورحمة اللهوبركاته وبـعـد

لا خلاف بين أهل العلم على أن الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام واجبة متى كان المسلم مضطهداً، غير قادر على إظهار دينه، يخاف الفتنة فيه على نفسه، أو على أسرته، فيجب عليه الهجرة في هذه الحال متى استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال -تعالى-:" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " النساء 97-99

ووجه الاستدلال : أن الله -جل وعلا- أوجب على كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين يفتتن في دينه، ويستضعف من أجله أن يهاجر إلى حيث يأمن على نفسه، ولا يفتن في دينه، واستثنى من ذلك العاجز عن الخروج الذي لا يستطيع التخلص من المشركين، ولو استطاع ما اهتدى إلى سلوك طريق النجاة منهم ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى نارهما " رواه أبو داود، والترمذي، ورجح البخاري وغيره إرساله . والقول بوجوب الهجرة يراعى فيه توفر حرية الانتقال والدار التي ينتقل إليها المسلم، ويفر بدينه، وهذا الشرط قد يتعذر على البعض لأسباب كثيرة، منها: عدم قبول الكثير من الدول لرعايا دول أخرى لا تحمل جنسية الدول المراد الانتقال إليها، ومنها: عدم حصول الأمن في هذه الدول، وغير ذلك كثير...

ويترتب على من وجبت عليه الهجرة - وهو قادر - ولم يهاجر : أنه يرتكب إثماً قد يؤدي إلى الردة والكفر ؛ لأن الإقامة على هذه الحال، وترك الدين مع التزام إجابتهم إلى الكفر المقام عليه، وارتكاب المحرمات، وترك الفرائض والواجبات ، وفعل المحظورات والمنكرات، وهو قادر على هجرانها فظاهر حاله المصير إلى الكفر الحقيقي ، والانسلاخ من الدين الحنفي، والانخراط في سلك الملحدين، فالواجب وقتئذ الفرار من تلك الدار التي غلب عليها أهل الشرك والخسران إلى دارالأمن والأمان(1)

وأما إذا تمكن المسلمون في دار الشرك من إظهار شعائر دينهم ، فالجمهور لا يوجب عليهم حينها الخروج إلى دار الإسلام باعتبار قدرتهم على إقامة دينهم ، وإنما يستحبون لهم الخروج منها ، لاعتبار عدم تكثير سواد المشركين ، وأما المالكية فيوجبون الهجرة في كل حال ، حتى لا يخضع المسلم لأحكام الشرك، وهو قادر على الخضوع لأحكام الإسلام .

وقبل أن أبين الراجح في هذه المسألة ،أود استعراض الأدلة الواردة ، والنظر فيها ،ومحاولة التوفيق بينها بعون الله -تعالى- ،ونبدأ أولاً بأدلة المبيحين للإقامة في دار الكفر .

أدلة الإباحة :
1-أخرج البخاري، ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن أعرابياً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسأله عن الهجرة، فقال :" ويحك إن الهجرة شأنها شديد ، فهل لك من إبل ؟ قال: نعم ، قال: فتعطي صدقتها ؟ قال: نعم ، قال : فهل تمنح منها ؟ قال: نعم ،قال: فتحلبها يوم ورودها ؟ قال : نعم، قال: فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً." (2)
فهذا الأعرابي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الهجرة إلى المدينة ، فخاف عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يقوى لها، ولا يقوم بحقوقها ، فبين له أن شأن الهجرة شديد ، وأرشده إلى البقاء في وطنه، وأن يعمل الخير فيه، فهو ينفعه، ولا ينقص الله منه شيئاً .
والشاهد من هذا الحديث أن الهجرة لو كانت واجبة لما صرفه النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها(3).
2-وأخرج البخاري عن عطاء بن أبي رباح، قال : زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي، فسألناها عن الهجرة ، فقالت :" لا هجرة اليوم ، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله -تعالى-، وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- مخافة أن يفتن عليه ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية."(4)
قال الحافظ بن حجر -رحمه الله- :" أشارت عائشة -رضي الله عنها- إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته ، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق، لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت."(5)
3-وأخرج مسلم عن بريدة -رضي الله عنه- قال : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميراً على جيش، أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ، ثم قال : " اغزوا باسم اللــه في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً ، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم وكفّ عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ."(6)
وفي هذا الحديث دليل على إباحة المقام في غير دار الهجرة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصى جيوشه بتخيير من أسلم بين الهجرة والبقاء في أوطانهم ، وليس يخيرهم في أمر لا يرضاه الله ورسوله .
4-روى عبد الله بن عمرو، قال : جاء رجل أعرابي جاف جريء، فقال: يا رسول الله أين الهجرة ؟ إليك حيثما كنت، أم إلى أرض معلومة ، أم لقوم خاصة ، أم إذا مت انقطعت ؟ قال فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساعة، ثم قال: أين السائل عن الهجرة ؟ قال : ها أنا ذا يا رسول الله ، قال : إذا أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، فأنت مهاجر ، وإن مت بالحضرمي، قال: يعني أرضاً باليمامة- . وفي رواية الهجرة: أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، فأنت مهاجر ؟(7)
5-معلوم أن الحبشة كانت دار كفر، وبقيت كذلك بعد إسلام النجاشي ، إذ لم يلتزم أهلها أحكام الشريعة ، وكان النجاشي نفسه كاتماً لإسلامه ،وقد أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بالهجرة من مكة إلى الحبشة، لما رأى ما هم فيه من البلاء، حتى يجعل الله لهم فرجاً ومخرجاً مما هم فيه.(8) وهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وسبقه إليها أصحابه، وعاشوا يستظلون بأحكام الشريعة فيها ، وبقي المهاجرون إلى الحبشة فيها، فمنهم من بكر بالقدوم إلى المدينة، ومنهم من تأخر حتى قدم في السنة السابعة من الهجرة، ومن هؤلاء جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-.(9)
وذكر ابن إسحاق -رحمه الله- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري ليحمل المهاجرين إليه فحملهم في سفينتين، فقدم بهم عليه، وهو بخيبر بعد الحديبية(10).
والشاهد من هذا أن بعض الصحابة أقاموا بدار الشرك بعد قيام كيان إسلامي في المدينة ، وذلك بعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومع هذا لم ينكر عليهم ؛ لأنهم كانوا آمنين على دينهم في الحبشة .
أدلة التحريم :
من القرآن :
قال الله -تعالى- : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " النساء (96) . فهؤلاء قوم من المسلمين توعدهم الله -تعالى- بالعذاب بسبب تركهم الهجرة . وقال تعالى : "والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا" . الأنفال (72)
قطع الله الولاية في هذه الآية بين المهاجرين وغيرهم ، فدل على وجوب الهجرة .
من السنة :
1-ما روى الترمذي، وأبو داود عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود ، فأسرع فيهم القتل ، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا : يا رسول الله ولم ؟ قال :" لا تراءى ناراهما."(11).
2-وروى أبو داود عن سمرة بن جندب، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :" من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله."(12)
3-وروى النسائي، وابن ماجة، وأحمد من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعاً :" لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين."(13)
4-وأخرج النسائي أيضاً، وأحمد عن جرير -رضي الله عنه- قال :" بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم وعلى فراق المشرك."(14)
" يتبع في الحلقة السادسة "

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ




1- انظر فقه الأقليات المسلمة ص 125
2- أخرجه البخاري في (مناقب الأنصار) باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة ( 7/257)، وفي (الأدب) باب ما جاء في قول الرجل ويلك ( 10/553)، وأخرجه مسلم في (الإمارة) ( 13/9) .
3- لكن قد يقال إن الحديث لا دلالة فيه‘ إذ ليس فيه أن الأعرابي كان بدار شرك .
4-أخرجه البخاري ( 7/226) . لكن قد يقال: إن الحديث لا دلالة فيه إذ ليس فيه أن الأعرابي كان بدار شرك .
5- الفتح ( 7/229).
6- هذا الحديث أخرجه مسلم في أول الجهاد ( 37-38/12من شرح النووي )
7- رواه أحمد، والبزار، وقال الهيثمي: " أحد إسنادي أحمد حسن " مجمع الزوائد (5/252)
8- انظر السيرة لابن هشام (231/2) ، مؤسسة علوم القرآن ، والسيرة لابن كثير (4/2) ، دار الفكر .
9- أخرجه البخاري في (مناقب الأنصار) باب هجرة الحبشة (188/7)
10- انظر سيرة ابن هشام ( 953/3)
11- أخرجه الترمذي في (السير) باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين ( 155/4)، وأخرجه أبو داود في( الجهاد) باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود (104-105/3)، قال الترمذي : وأكثر أصحاب إسماعيل عن قيس بن أبي حازم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث سرية ولم يذكوا فيه عن جرير ، وقال: وسمعت محمداً- يعني البخاري - يقول الصحيح حديث قيس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسل، وصحح إرساله أيضاً أبو حاتم، وأبو داود، والدر قطني، كما في نيل الأوطار (176/8) للشوكاني ، دار الجيل ببيروت . وصحح هذا الحديث الألباني دون الأمر بنصف العقل ، صحيح الترمذي ( 119/2) ، الناشر : مكتب التربية العربي لدول الخليج ، الرياض .
12- أخرجه أبو داود في آخر الجهاد ( 224/3) ، وقال الشوكاني في النيل (176/8) : حديث سمرة قال الذهبي : إسناده مظلم لا تقوم بمثله حجة . وصححه الألباني في صحيح أبي داود (536/2) ، مكتب التربية العربي .
13- أخرجه النسائي في الزكاة باب من سأل بوجه الله عز وجل (83/5) وابن ماجة في الحدود باب المرتد عن دينه (848/2) وأحمد (4/5) وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (78/2) ، مكتب التربية العربي .وصححه الحاكم (600/4) ووافقه الذهبي
14- أخرجه النسائي في البيعة على فراق المشرك (148/7) وأحمد (365/4) وصححه الألباني في صحيح النسائي (875/3) ، مكتب التربية العربي .