عادي
19-09-2001, 05:54 PM
- "طـارق" .
- هاه؟!
- " طـارق " .
- نعم؟!
- " طـارق"؟.
- أوه "نـادر" .. كفاك سخفاً ما لذي تبغيه؟!
أنكمش الأخير في مقعده داخل السيارة وهو يهتف:-
- أنسى الموضوع.
- وهل هناك موضوع حتى أنساه؟
- بصراحة؟!
- كل الصراحة.
- أنا أحب .
- أعلم أنك تحبني .. قديمة .. ماذا لديك غير هذا؟
- أكرهك بشدة حين تتغابى .
- فرج الله عنا وعنكم الشدة وحولها إلى فتحه .. رازق يا كريم ( قالها ورفع يديه نحو السماء)
- كسرة تكسر عظامك.
- سكون يسكنك في مكانك.
- أوه .. "طارق" .. أنزلني من السيارة .. أنزلني...
قالها وهو يحرك يديه يميناً ويساراً ويضرب أرض السيارة بقدميه.
- كف عن تصرفات الأطفال هذه.
- أطفال؟! طيب .. لن أبقى معك دقيقة واحدة وسأنزل من هنا.
قالها وفتح الباب المجاور له بينما السيارة مستمرة في المشي .
- يا مجنون .
قالها "طارق" وهو ينحني حتى وصلت يده للباب فأغلقه .. ثم اعتدل ليغلقه بواسطة الزر .
- مجنون ولكنك تهواني.
- من خدعك بهذا؟
- أنت بجزعك عليّ.
- ومن قال أني جزعت عليك؟
- وماذا تسمي تصرفك؟
هز ردفيه : من الطبيعي أن يخاف المرء على سيارته ما دامت جديدة لم تنهِ الشهرين بعد .
- سيارتك أهم مني.
- سيارتي تخدمني وأنت ما لذي تقدم لي؟
- صداقتي.
- وأين تصرف هذه؟
- هكذا إذن؟! سأنزل هذه المرة ولا تحاول منعي فلن أرضخ لك أبدا.
وضع يديه على مفتاح الباب وأنتظر .. ثم أنتظر .. ثم أنتظر .. حتى مل فالتفت لصاحبه :
- قد أرضخ لك لو توسلت لي قليلاً .
هز رأسه نافياً كونه سيفعل هذا.
- ولو بكلمة؟
رفع حاجبيه مع هزه بسيطة .
- لِم؟
- ليست لدى المرء الشجاعة على فعلها .
استرخى في مقعده وهو يفكر في مقولة صاحبه .. قبل أن يقول :
- "طـارق"
- أي لعنةِ تلك التي صبت عليّ هذا المساء الأسود من حياتي حتى خرجت معك؟؟ أي وجهٍ سيئ هذا الذي استيقظت عليه؟!! نعم .
- لا تصف المساء بالأسود .. على العكس أنظر .. السماء جميلة .. والنجوم مضيئة .. والليلة هادئة .. والمدينة .. أنظر إلى الشوارع والسيارات تسير فيها كم تبدو رائعة .. والقمر .. أنظر إليه أليس جميلاً؟!
انحنى لينظر عبر ذات النافذة التي ينظر "نادر" منها .. بحثاُ عن هذا القمر الذي يتحدث عنه .. لكنه أعتدل وهو يهز رأسه أسى :-
- أي قمرٍ هذا الذي يظهر في آخر ليلة في الشهر؟!
- هاه؟
- أما سمعت ؟
- هاه؟!
- أين عقلك ؟؟؟
- هاه !!!
- لا .. ما رأيك في مستشفى (الشفـاء) ؟!
- لِم؟!
- فقدت عقلك وسأذهب بك لأعالجك.
- ومن ذا يرى القمر ولا يجن؟
- أنا من سأجن .
- سلامتك.
- وأين السلامة وأنت معي.
- على باب دارها .. وفي قلبها .
- استفحلت الحالة حتى بلغت وضعاً خطيراً .. أين المشفى صاحبي جن .
- تصحيح : أحب .
- ومن التعسة بنت التعساء التي أحبها؟
- "جمانة" .. زميلة " أنوار " أختي في المعهد .
توقف كل عضوٍ خارجي في جسده عن الحركة .. لم تتحرك يداه ولا قدماه .. ولا حتى عينه لم تطرف .. لم يبده عليه إي مظهرٍ للحياة .. مما جعل "نادر" يدفعه برأس سبابته فأرتطم بلباب .. لكنه قفز معتدلاً :-
- المشفـــى ... أينكِ يا مشفــى؟؟
- لِم ؟
- سأعالج أذني .
ابتسم : أنها سليمة .
- إذن عقلك هو المريض.
ابتسم : لأني أحببت؟
- يا للكارثة .. يا للمصيبة .. يا لليلة السوداء كال .. كال .. لا أجد تشبيهاً مناسباً .. هلا منحتني واحداً ؟!
اتسعت ابتسامته :
- كظلام القبر .
- نعم أعجبني هذا .. يا لليلة السوداء كظلام القبر .. يا غضب الله .. يا غضب الله .
- طارق !!!
- يا داهية الدواهي العظمى المسماة بالحب .. يا لل ..
لا أستطيع التفكير .. لا أستطيع .. أنتظر .. سنتوقف هنا .. سنتوقف ..
قالها وأوقف السيارة جانباً ونزل مسرعاً ليستنشق كمية كبيرة من الهواء شعر معها بدوارٍ في رأسه .. فاستند على مقدمة السيارة .. بينما خرج "نادر" منها .. واستند بكفية على الباب .. واسند ذقنه على كفيه .. وهتف :
- "طارق" .. أترى هذا البحر ألا متناهي؟ أحبها أكثر من هذا القدر .. بل بحجم العالم كله .. كلا .. أحبها حباً لا متناهياً .. ما إن رأيتها حتى شعرت أن الشمس أشرقت فجأة وكأنها غابت عن الأرض منذ الآلاف السنين .. أن الورود تفتحت ... والثمار أينعت .. والطيور .. الطيور أطلقت كل الأغاريد العذبة .
قفز "طارق " ليجلس فوق مقدمة السيارة :
- يا إلهي .. أدعوك وأتوسل إليك أن تفرج عنا هذه الأزمة.
رفع "نادر" كفيه إلى السماء :
- يا ربي لو كانت كل الأزمات من هذا النوع فلا تبخل عليّ بها .. يا ربِ أعطني الملايين من الأزمات التي تشبه هذه .
- جن صاحبي .. جن .. واستفحل جنونه ( استدار نحوه ) ..إيه .. غداً سأسمعك تولول وتنوح .. تشاجرت مع زوجتي لأنها طلبت الذهاب لبيت والدها .. أولادي أزعجوني .. ولم أنم طوال الليل بسبب صراخهم .. قدمي متعبة من التسوق معهم .. الدائنون يلاحقونني .. الخ .
ابتسم "نادر" :
- "طارق" .. أنت مثال لكل الشباب اللذين يستنكرون الزواج ويرفضون الحب الطاهر .. ويرددون كالببغاوات أن هذا ليس من ضمن اهتمامهم ولا يدخل في حيز تفكيرهم .. أن المرأة هي الشيطان الأكبر .. وأقسم صادقاً أنهم كلهم يبغون الحصول على شيطانٍ مثله .. غداً عندما تلتقي .. أو تسمع عن فتاةٍ توافق هواك فلن تتردد .. الآن فقط أصدق " أنوار" .. لكنها تقول أنها الأنثى الوحيدة التي كسرت القاعدة .. فهل ستكون أنت الشاب الوحيد الذي حطم هذه القاعدة؟!!!
لم يكُ يعلم أنه أصاب أعمق جرحٍ في قلب صاحبه وَ ضربه بكل قوة ليفتحه بقسوة لا مثيل لها .. الجرح الذي ما زالت آثاره مترسبة في نفس صاحبه .
نزل من مكانه على مقدمة السيارة .. ووضع يديه في جيب بنطاله وهو يسير على طول الشاطئ مطأطئ الرأس .. على وجهه تجمعت كل معاني الأسى والألم .
تأمل نادر صاحبه والتعجب يشوبه، كيف تبدلت حاله بهذه السرعة؟!
أغلق باب السيارة وأسرع يلحق بصاحبه حتى جاوره الخطى:
- "طـارق" .. أهناك شيء؟!
رفع رأسه وتنفس الصعداء وتطلع نحو البعيد .. البعيد :
- "نادر" يا عزيزي .. في حياة كل امرئ على وجه الخليقة .. منطقة محظورة .. محاطة بالأسلاك الشائكة .. يمنع التوغل داخلها لغيره ففيها الأسرار التي لا يجب أن يعرفها مخلوقٌ على وجه الأرض غيره .. يحرص بشدة ألا يعرفها أحد .. كاذب من قال لك أنه كالكتاب المفتوح أمام الناس .. ربما كان صادقاً في أنه كتاب ما بعد النشر .. كتابٌ قص المؤلف منه بعض الفقرات لتناسب القصة وكذا الناشر أنتزع بعض المقاطع حتى تناسب قوانين النشر .
صمت فلم يعرف كيف يكمل حديثه .. فقال "نادر" مستدرجاً إياه :
- معك حق .. ولكن ما دخل هذه المنطقة بما تحدثنا عنه ؟
- ما تراه أنت وكل الناس فيّ .. لقد نعتني بأني مثالُ لكل الشباب .. ومعك حق فماذا ترى غير "طارق" الشاب المستهتر الذي همه في الحياة هو الضحك!!! البحث عن مصادر التسلية .. "طارق" الفتى المرح المولع بالسخرية؟! "طارق" كتلة النشاط والحيوية .. "طارق" زعيم اتحاد مكافحة الإرهاب المسمى بالزواج .. والمسئول الأول عن مكافحة هذه الظاهرة.
- أني أرى غير هذا .
استدار "طارق" باهتمام .. فأردف الأول:
- أرى "طـارق" الإنسان .. الكائن البشري الذي يحس ويشعر .. يتألم ويسعد .. يضحك ويبكي.
حملت ملامحه السخرية :
- وهل عرفت "طارق" العاشق المخدوع؟! هل سبرت أغواري فرأيت ما أخفيه عن كل الأعين المتصفحة لوجهي؟ "طارق" الذي أحب حتى الثمالة .. بل حتى الغباء .. (مرر يديه على شعره بضيق ) .. لا أعلم كيف ظننت أنها أحبتني ولم أرَ أنها تتسلى بمشاعري فقط .. عشت مخدوعاً .. سحقتني الحقيرة .. وحطمت كل معنى للحياة داخلي .. حقيرة .. حقيرة.
أنتفض جسده بعنف .. وجحظت عيناه .. تأججت نيران غضبه .. أصبح إيقاع تنفس سريعاً ..
بينما "نادر" مصدوم .. لأول مرة يعرف هذه الحقيقة عن صاحبه .. لقد لازمه منذ الطفولة ولم يعرف أنه أحب يوماً ما .. متى ؟؟ وكيف ؟؟
صمتٌ كئيب بينهما .. لم يفكر أحدٌ منهما في قطعه لكن هاتف "نادر" المحمول فعلها .. التقطه من جيبه :
- ألو.
- "نادر" .. أين أنت ؟!
- أوه "أنوار" !!! أنا مع صاحبي على شاطئ البحر .
- ياللبال الرائق والمزاج الصافي .. أشخاصٌ على البحر يتمشون .. وآخرون .. غارقون حتى النخاع في مشكلةٍ عويصة لا يحلها سوى "نادر" .. أخي الحبيب.
- أكره هذه اللهجة المتوسلة .. ماذا تريدين؟
- الباص .
- أي باص؟؟
- باص المعهد الليلي الذي أدرس فيه.
- ما به ؟
- تعطل .. وسننتظر زمناً طويلاً قبل إحضار آخر لنا.. أو ترضى لأختك أن تنتظر ؟!
يا لمشيئة القدر .. ها هو القدر يمنحه فرصة ليلقي نظرةً على وجهه محبوبته .. كان الأجدر بها أن تسأله وهل تفوت عيناك فرصة الوقوع على شخص المحبوبة؟؟
- أنا آت .
- يا عجب الله .. أول مرة لا يستغرق إقناعك جهداً خرافياً مني .
- وكم "أنوار" في الدنيا لدي؟
- أعوذ بك يا ربِ من شر هذا المساء الأسود.
- سبحانه .. لقد وصف "طارق" هذا المساء بالأسود قبل دقائق ..
استدار لطارق : لديّ نسخة منك في المنزل يا "طارق" .
قالها وأغلق السماعة .. أراد أن يذهب .. لكن الواقع صدمه .. لقد أتى هنا بسيارة "طارق" .. ولو عاد إلى المنزل حتى يأخذ سيارته فربما تكون "جمانة" قد أحضرت أحد أهلها ليوصلها وغادرت .. ماذا يفعل؟؟ ماذا يفعل؟؟
أمممم .. أوه يا عقل .. فكر بسرعة .. بسرعة .. أوه ..
أنقذه "طارق" بقوله :
- إلى أين ستذهب؟
- أنها نسختك .. تود أن أوصلها إلى المنزل لأن الباص تعطل.
- نسختي؟
- أوه .. أختي "أنوار" ... عندما تتكلم أشعر كأنك تتحدث على لسانها.
ابتسم : دعني أقلك إليها .. وأقلكما أنتما الاثنان إلى المنزل إذ أني أشعر برغبة في العودة للمنزل على وجه السرعة .
- لا بأس .. هيا بنا.
*** *** ***
*** *** ***
توقفت السيارة عند المعهد .. وترجل "نادر" منها باحثاُ عن أخته بين جموع الفتيات اللواتي ينتظرن الباص أو أحداً ما ليقلهن .. و إن تحرينا الواقع في حديثنا كان يبحث عن "جمانة" .. أخيراً لمحها تودع أخته .. وظلت عينيه ترتكزان عليها حتى وصلت أخته إليه :
- "نادر" .. سيارة من هذه؟
لم يلتفت لها فهو غارقٌ في عالمٍ آخر .
هزته .. فأنتفض كمن لدغته حية .. لمح "طارق" الموقف فابتسم مرغماً .. يا لجنون الحب !!!!
أخذت مكانها في المقعد الخلفي .. بينما استقر "نادر" بجوار صاحبه .. همس "نادر":
- "أنوار" .. لِم لا تعرضين على زميلتكِ أن تركب معنا؟
سريعة البديهة هي المرأة في هذه المسائل .. فقالت بخبث:
- زميلة مصطلح عام ويعني كل من معي في المعهد .. لا شك أنك تقصد صديقة لي .. فأيهن تعني؟
- هاه؟!
- " طـارق " .
- نعم؟!
- " طـارق"؟.
- أوه "نـادر" .. كفاك سخفاً ما لذي تبغيه؟!
أنكمش الأخير في مقعده داخل السيارة وهو يهتف:-
- أنسى الموضوع.
- وهل هناك موضوع حتى أنساه؟
- بصراحة؟!
- كل الصراحة.
- أنا أحب .
- أعلم أنك تحبني .. قديمة .. ماذا لديك غير هذا؟
- أكرهك بشدة حين تتغابى .
- فرج الله عنا وعنكم الشدة وحولها إلى فتحه .. رازق يا كريم ( قالها ورفع يديه نحو السماء)
- كسرة تكسر عظامك.
- سكون يسكنك في مكانك.
- أوه .. "طارق" .. أنزلني من السيارة .. أنزلني...
قالها وهو يحرك يديه يميناً ويساراً ويضرب أرض السيارة بقدميه.
- كف عن تصرفات الأطفال هذه.
- أطفال؟! طيب .. لن أبقى معك دقيقة واحدة وسأنزل من هنا.
قالها وفتح الباب المجاور له بينما السيارة مستمرة في المشي .
- يا مجنون .
قالها "طارق" وهو ينحني حتى وصلت يده للباب فأغلقه .. ثم اعتدل ليغلقه بواسطة الزر .
- مجنون ولكنك تهواني.
- من خدعك بهذا؟
- أنت بجزعك عليّ.
- ومن قال أني جزعت عليك؟
- وماذا تسمي تصرفك؟
هز ردفيه : من الطبيعي أن يخاف المرء على سيارته ما دامت جديدة لم تنهِ الشهرين بعد .
- سيارتك أهم مني.
- سيارتي تخدمني وأنت ما لذي تقدم لي؟
- صداقتي.
- وأين تصرف هذه؟
- هكذا إذن؟! سأنزل هذه المرة ولا تحاول منعي فلن أرضخ لك أبدا.
وضع يديه على مفتاح الباب وأنتظر .. ثم أنتظر .. ثم أنتظر .. حتى مل فالتفت لصاحبه :
- قد أرضخ لك لو توسلت لي قليلاً .
هز رأسه نافياً كونه سيفعل هذا.
- ولو بكلمة؟
رفع حاجبيه مع هزه بسيطة .
- لِم؟
- ليست لدى المرء الشجاعة على فعلها .
استرخى في مقعده وهو يفكر في مقولة صاحبه .. قبل أن يقول :
- "طـارق"
- أي لعنةِ تلك التي صبت عليّ هذا المساء الأسود من حياتي حتى خرجت معك؟؟ أي وجهٍ سيئ هذا الذي استيقظت عليه؟!! نعم .
- لا تصف المساء بالأسود .. على العكس أنظر .. السماء جميلة .. والنجوم مضيئة .. والليلة هادئة .. والمدينة .. أنظر إلى الشوارع والسيارات تسير فيها كم تبدو رائعة .. والقمر .. أنظر إليه أليس جميلاً؟!
انحنى لينظر عبر ذات النافذة التي ينظر "نادر" منها .. بحثاُ عن هذا القمر الذي يتحدث عنه .. لكنه أعتدل وهو يهز رأسه أسى :-
- أي قمرٍ هذا الذي يظهر في آخر ليلة في الشهر؟!
- هاه؟
- أما سمعت ؟
- هاه؟!
- أين عقلك ؟؟؟
- هاه !!!
- لا .. ما رأيك في مستشفى (الشفـاء) ؟!
- لِم؟!
- فقدت عقلك وسأذهب بك لأعالجك.
- ومن ذا يرى القمر ولا يجن؟
- أنا من سأجن .
- سلامتك.
- وأين السلامة وأنت معي.
- على باب دارها .. وفي قلبها .
- استفحلت الحالة حتى بلغت وضعاً خطيراً .. أين المشفى صاحبي جن .
- تصحيح : أحب .
- ومن التعسة بنت التعساء التي أحبها؟
- "جمانة" .. زميلة " أنوار " أختي في المعهد .
توقف كل عضوٍ خارجي في جسده عن الحركة .. لم تتحرك يداه ولا قدماه .. ولا حتى عينه لم تطرف .. لم يبده عليه إي مظهرٍ للحياة .. مما جعل "نادر" يدفعه برأس سبابته فأرتطم بلباب .. لكنه قفز معتدلاً :-
- المشفـــى ... أينكِ يا مشفــى؟؟
- لِم ؟
- سأعالج أذني .
ابتسم : أنها سليمة .
- إذن عقلك هو المريض.
ابتسم : لأني أحببت؟
- يا للكارثة .. يا للمصيبة .. يا لليلة السوداء كال .. كال .. لا أجد تشبيهاً مناسباً .. هلا منحتني واحداً ؟!
اتسعت ابتسامته :
- كظلام القبر .
- نعم أعجبني هذا .. يا لليلة السوداء كظلام القبر .. يا غضب الله .. يا غضب الله .
- طارق !!!
- يا داهية الدواهي العظمى المسماة بالحب .. يا لل ..
لا أستطيع التفكير .. لا أستطيع .. أنتظر .. سنتوقف هنا .. سنتوقف ..
قالها وأوقف السيارة جانباً ونزل مسرعاً ليستنشق كمية كبيرة من الهواء شعر معها بدوارٍ في رأسه .. فاستند على مقدمة السيارة .. بينما خرج "نادر" منها .. واستند بكفية على الباب .. واسند ذقنه على كفيه .. وهتف :
- "طارق" .. أترى هذا البحر ألا متناهي؟ أحبها أكثر من هذا القدر .. بل بحجم العالم كله .. كلا .. أحبها حباً لا متناهياً .. ما إن رأيتها حتى شعرت أن الشمس أشرقت فجأة وكأنها غابت عن الأرض منذ الآلاف السنين .. أن الورود تفتحت ... والثمار أينعت .. والطيور .. الطيور أطلقت كل الأغاريد العذبة .
قفز "طارق " ليجلس فوق مقدمة السيارة :
- يا إلهي .. أدعوك وأتوسل إليك أن تفرج عنا هذه الأزمة.
رفع "نادر" كفيه إلى السماء :
- يا ربي لو كانت كل الأزمات من هذا النوع فلا تبخل عليّ بها .. يا ربِ أعطني الملايين من الأزمات التي تشبه هذه .
- جن صاحبي .. جن .. واستفحل جنونه ( استدار نحوه ) ..إيه .. غداً سأسمعك تولول وتنوح .. تشاجرت مع زوجتي لأنها طلبت الذهاب لبيت والدها .. أولادي أزعجوني .. ولم أنم طوال الليل بسبب صراخهم .. قدمي متعبة من التسوق معهم .. الدائنون يلاحقونني .. الخ .
ابتسم "نادر" :
- "طارق" .. أنت مثال لكل الشباب اللذين يستنكرون الزواج ويرفضون الحب الطاهر .. ويرددون كالببغاوات أن هذا ليس من ضمن اهتمامهم ولا يدخل في حيز تفكيرهم .. أن المرأة هي الشيطان الأكبر .. وأقسم صادقاً أنهم كلهم يبغون الحصول على شيطانٍ مثله .. غداً عندما تلتقي .. أو تسمع عن فتاةٍ توافق هواك فلن تتردد .. الآن فقط أصدق " أنوار" .. لكنها تقول أنها الأنثى الوحيدة التي كسرت القاعدة .. فهل ستكون أنت الشاب الوحيد الذي حطم هذه القاعدة؟!!!
لم يكُ يعلم أنه أصاب أعمق جرحٍ في قلب صاحبه وَ ضربه بكل قوة ليفتحه بقسوة لا مثيل لها .. الجرح الذي ما زالت آثاره مترسبة في نفس صاحبه .
نزل من مكانه على مقدمة السيارة .. ووضع يديه في جيب بنطاله وهو يسير على طول الشاطئ مطأطئ الرأس .. على وجهه تجمعت كل معاني الأسى والألم .
تأمل نادر صاحبه والتعجب يشوبه، كيف تبدلت حاله بهذه السرعة؟!
أغلق باب السيارة وأسرع يلحق بصاحبه حتى جاوره الخطى:
- "طـارق" .. أهناك شيء؟!
رفع رأسه وتنفس الصعداء وتطلع نحو البعيد .. البعيد :
- "نادر" يا عزيزي .. في حياة كل امرئ على وجه الخليقة .. منطقة محظورة .. محاطة بالأسلاك الشائكة .. يمنع التوغل داخلها لغيره ففيها الأسرار التي لا يجب أن يعرفها مخلوقٌ على وجه الأرض غيره .. يحرص بشدة ألا يعرفها أحد .. كاذب من قال لك أنه كالكتاب المفتوح أمام الناس .. ربما كان صادقاً في أنه كتاب ما بعد النشر .. كتابٌ قص المؤلف منه بعض الفقرات لتناسب القصة وكذا الناشر أنتزع بعض المقاطع حتى تناسب قوانين النشر .
صمت فلم يعرف كيف يكمل حديثه .. فقال "نادر" مستدرجاً إياه :
- معك حق .. ولكن ما دخل هذه المنطقة بما تحدثنا عنه ؟
- ما تراه أنت وكل الناس فيّ .. لقد نعتني بأني مثالُ لكل الشباب .. ومعك حق فماذا ترى غير "طارق" الشاب المستهتر الذي همه في الحياة هو الضحك!!! البحث عن مصادر التسلية .. "طارق" الفتى المرح المولع بالسخرية؟! "طارق" كتلة النشاط والحيوية .. "طارق" زعيم اتحاد مكافحة الإرهاب المسمى بالزواج .. والمسئول الأول عن مكافحة هذه الظاهرة.
- أني أرى غير هذا .
استدار "طارق" باهتمام .. فأردف الأول:
- أرى "طـارق" الإنسان .. الكائن البشري الذي يحس ويشعر .. يتألم ويسعد .. يضحك ويبكي.
حملت ملامحه السخرية :
- وهل عرفت "طارق" العاشق المخدوع؟! هل سبرت أغواري فرأيت ما أخفيه عن كل الأعين المتصفحة لوجهي؟ "طارق" الذي أحب حتى الثمالة .. بل حتى الغباء .. (مرر يديه على شعره بضيق ) .. لا أعلم كيف ظننت أنها أحبتني ولم أرَ أنها تتسلى بمشاعري فقط .. عشت مخدوعاً .. سحقتني الحقيرة .. وحطمت كل معنى للحياة داخلي .. حقيرة .. حقيرة.
أنتفض جسده بعنف .. وجحظت عيناه .. تأججت نيران غضبه .. أصبح إيقاع تنفس سريعاً ..
بينما "نادر" مصدوم .. لأول مرة يعرف هذه الحقيقة عن صاحبه .. لقد لازمه منذ الطفولة ولم يعرف أنه أحب يوماً ما .. متى ؟؟ وكيف ؟؟
صمتٌ كئيب بينهما .. لم يفكر أحدٌ منهما في قطعه لكن هاتف "نادر" المحمول فعلها .. التقطه من جيبه :
- ألو.
- "نادر" .. أين أنت ؟!
- أوه "أنوار" !!! أنا مع صاحبي على شاطئ البحر .
- ياللبال الرائق والمزاج الصافي .. أشخاصٌ على البحر يتمشون .. وآخرون .. غارقون حتى النخاع في مشكلةٍ عويصة لا يحلها سوى "نادر" .. أخي الحبيب.
- أكره هذه اللهجة المتوسلة .. ماذا تريدين؟
- الباص .
- أي باص؟؟
- باص المعهد الليلي الذي أدرس فيه.
- ما به ؟
- تعطل .. وسننتظر زمناً طويلاً قبل إحضار آخر لنا.. أو ترضى لأختك أن تنتظر ؟!
يا لمشيئة القدر .. ها هو القدر يمنحه فرصة ليلقي نظرةً على وجهه محبوبته .. كان الأجدر بها أن تسأله وهل تفوت عيناك فرصة الوقوع على شخص المحبوبة؟؟
- أنا آت .
- يا عجب الله .. أول مرة لا يستغرق إقناعك جهداً خرافياً مني .
- وكم "أنوار" في الدنيا لدي؟
- أعوذ بك يا ربِ من شر هذا المساء الأسود.
- سبحانه .. لقد وصف "طارق" هذا المساء بالأسود قبل دقائق ..
استدار لطارق : لديّ نسخة منك في المنزل يا "طارق" .
قالها وأغلق السماعة .. أراد أن يذهب .. لكن الواقع صدمه .. لقد أتى هنا بسيارة "طارق" .. ولو عاد إلى المنزل حتى يأخذ سيارته فربما تكون "جمانة" قد أحضرت أحد أهلها ليوصلها وغادرت .. ماذا يفعل؟؟ ماذا يفعل؟؟
أمممم .. أوه يا عقل .. فكر بسرعة .. بسرعة .. أوه ..
أنقذه "طارق" بقوله :
- إلى أين ستذهب؟
- أنها نسختك .. تود أن أوصلها إلى المنزل لأن الباص تعطل.
- نسختي؟
- أوه .. أختي "أنوار" ... عندما تتكلم أشعر كأنك تتحدث على لسانها.
ابتسم : دعني أقلك إليها .. وأقلكما أنتما الاثنان إلى المنزل إذ أني أشعر برغبة في العودة للمنزل على وجه السرعة .
- لا بأس .. هيا بنا.
*** *** ***
*** *** ***
توقفت السيارة عند المعهد .. وترجل "نادر" منها باحثاُ عن أخته بين جموع الفتيات اللواتي ينتظرن الباص أو أحداً ما ليقلهن .. و إن تحرينا الواقع في حديثنا كان يبحث عن "جمانة" .. أخيراً لمحها تودع أخته .. وظلت عينيه ترتكزان عليها حتى وصلت أخته إليه :
- "نادر" .. سيارة من هذه؟
لم يلتفت لها فهو غارقٌ في عالمٍ آخر .
هزته .. فأنتفض كمن لدغته حية .. لمح "طارق" الموقف فابتسم مرغماً .. يا لجنون الحب !!!!
أخذت مكانها في المقعد الخلفي .. بينما استقر "نادر" بجوار صاحبه .. همس "نادر":
- "أنوار" .. لِم لا تعرضين على زميلتكِ أن تركب معنا؟
سريعة البديهة هي المرأة في هذه المسائل .. فقالت بخبث:
- زميلة مصطلح عام ويعني كل من معي في المعهد .. لا شك أنك تقصد صديقة لي .. فأيهن تعني؟