الخير
19-09-2002, 02:45 PM
النفاق والمنافقون.. تنبيهات وأخطار
(إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جـــدّاً؛ لأنـهـم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علـم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟، وكم من عَلَم له قد طمسوه؟، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شـبـهـهـم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، ((أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)) [البقرة:12]).
هذا بعض ما سطّره ابن القيم (رحمه الله) في التحذير مـــن النفاق والمنافقين(1)، الذي هو موضوع هذه المقالة، وسيكون الحديث عن خطر النفاق والـمنافقين من خلال ما يلي:
1- خطر المنافقين داهم:
فـالـمـنـافـقـون أعظم خطراً وضرراً من الكفار المجاهرين، كما أن المنافقين أغلظ كفراً وأشد عذاباً.
قال ابن القـيــم عنهم: (طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسـلـه، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال (تعالى): ((إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْـفَـــلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً)) [النساء: 145]، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فـوقـهــم في دركات النار؛ لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون عـلـيـهـم بالكذب والنفاق، وبليةُ المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولـهــــذا قــال (تعالـى): ((هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [المنافقون: 4]، ومثل هذا اللـفــظ يقـتـضـي الحـصــر، والمراد: إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوّاً من الكفار المجاهرين، فإن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً، ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل، صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهــم... وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل من النار لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، ووصل إليهم من معرفة الإيمان ما لم يصل إلى المنابذين بالعدواة، فإذا كفروا مع هـــــذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البـعـــداء عـنهـم، قال (تـعـالـى) عــن المنافقين: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)) [المنافقون: 3]) (2).
2 - تحذير القرآن منهم:
حذّر القرآن الكـريـم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن فـي سـبــع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمئة وأربعين آية، حتى قـــال ابـــن القيم (رحمه الله): (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم) (3).
3- تحذير الرسول -صلى الله عليه وسلم- من النفاق:
خاف النبي -صلى الله عليه وسلم- علـى أمـتـــه من النفاق والمنافقين، وحذّر وأنذر من سلوك المنافقين، وحذر من الوقوع في شُعَب النفاق في أحاديث كثيرة.
فعن عمران بن حصين (رضي الله عنهما) مرفوعاً: (إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي: منافق عليم اللسان) (4).
قال المناوي في التفسير [1/52]: (كل منافق عليم اللسان: أي: عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغر للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام).
وقال المناوي ـ أيضاً ـ [1/309]: (أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكل بها، وأبهة يتعزز بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو منه).
4- خوف السلف الصالح على أنفسهم من النفاق:
كان سلفنا الصالح (رحمهم الله) ـ مع عمق إيمانهم وكمال علمهم ـ يخافون النفاق أيما خوف، فقد أخرج البخاري ـ تعليقاً ـ أن ابن أبي مليكة (رحمه الله) قال: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه).
قال الحافط ابن حجر [الفتح1/111]: (والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة، مـن أجلِّهـم: عائشـة، وأختها أسمـاء، وأم سلمـة، والعبادلة الأربعـة، وأبو هريرة،... فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجلّ من هؤلاء، كعليّ، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم..).
وكان أبو الدرداء (رضي الله عنه) إذا فرغ من التشهد ـ في الصلاة ـ يتعوذ بالله من النفاق، ويكثر التعوذ منه، فقال له أحدهم: ومالك ـ يا أبا الدرداء ـ أنت والنفاق؟، فقال دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيُخلع منه (5).
وكان الحسن البصري (رحمه الله) يقول: (ما خافه -النفاق- إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق) [أخرجه البخاري تعليقاً] (6).
وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ قال: (ومن يأمن على نفسه النفاق)؟! (7).
يقول ابن القيم: (وبحسب إيمان العبد ومعرفته يكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأمة وسابقيها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر يقول لحذيفة: ناشدتك الله، هل سماني رسول الله مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً(8)، يعني لا أفتح عليّ هذا الباب في تزكية الناس، وليس معناه أنه لم يَبرأ من النفاق غيرك) (9).
فتأمل رحمك الله ما عليه أولئك الأسلاف الأبرار من خوف شديد من النفاق ودواعيه، ثم انظر إلى حال الأكثرين منا في هذا الزمان، فمع ضعف الإيمان وغلبة الجهل تجد الأمن من النفاق والغفلة عنه!.. فالله المستعان.
5- المنافقون كثر:
ومما يوجب مزيد الخوف من النفاق والحذر من المنافقين: أنهم كثيرون، منتشرون في بقاع الأرض، كما قال الحسن البصري (رحمه الله): (لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات) (10).
وقال ابن القيم: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسبابُ المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات، سمع حذيفة (رضي الله عنه) رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك)(11).
ولا يعني ذلك تعميم الحكم بالنفاق على الأكثرية والأغلبية، فإن النفاق شُعَب وأنواع، كما أن الكفر شعب وأنواع، والمعاصي بريد الكفر، فكذا من كان متهماً بنفاق فهم على أنواع متعددة، كما وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم مَن فيه إيمان ونفاق، وفيهم مَن إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق، ولما قوي الإيمان وظهر الإيمان وقوته عام تبوك: صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكن يعاتبون عليه قبل ذلك..) (12).
6- سهولة الانخداع بهم:
فالمنافقون أصحاب تذبذب وتقلب، وأرباب خداع وتلبيس، فيتكلمون بمعسول الكلام، وفصيح الخطاب، ويظهرون للناس في هيئة حسنة، ومظهر جذاب، فربما انخدع لهم الفئام من المسلمين، فمالوا إليهم وأصغوا إلى قولهم وتدليسهم، قال (تعالى): ((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)) [التوبة: 47]، وقال (سبحانه): ((وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)) [المنافقون: 4].
إن هذا التلون والتذبذب يجعل خطرهم كبيراً، وشرهم مستطيراً، حيث يخفون كفرهم وضلالهم، ويتظاهرون بالإيمان والاهتداء.
ولذا: خفي على كثير من المسلمين حال بعض الزنادقة (المنافقين) في القديم والحديث، وكما قال الذهبي (رحمه الله) في شأن الحلاج: (فهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن: فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعلم بهم، قال (تعالى): ((وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ)) [التوبة: 101]، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى: أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده (عليه الصلاة والسلام) على العلماء من أمته) (13).
7- انتشار النفاق الأصغر في مجتمعاتنا:
ومما يؤكد خطر النفاق: أن الكثير من شعب النفاق الأصغر ـ الذي لا يُخرج عن الملة ـ قد عمت وطمت في مجتمعات المسلمين، كالكذب، وخلف الوعد، والرياء، والخيانة، والجبن، وترك الجهاد في سبيل الله (تعالى)، وعدم تحديث النفس بذلك.
ومع أن هذه الخصال من النفاق الأصغر، لكنها قد تؤول إلى النفاق الأكبر المخرج من الملة، وفي هذا يقول ابن رجب: (والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، فكما يُخشى على من أصرّ على المعصية أن يُسلب الإيمان عند الموت، كذلك يخشى على من أصر على النفاق أن يسلب الإيمان، فيصير منافقاً خالصاً) (14).
بل استفحل الأمر، وعظم النفاق حتى صرنا نشاهد صوراً أو أنواعاً من النفاق الأكبر في بلاد المسلمين، ومن ذلك: الاستهزاء بدين الله (تعالى)، والفرح والسرور بانخفاض دين الإسلام وهزيمة المسلمين، وكذا العكس..، والإعراض التام عن حكم الله (تعالى)، ومظاهرة الكفار ضد المسلمين...
إن على الدعاة إلى الله أن يَحْذروا مكايد المنافقين ومسالكهم، فلا ينخدعوا بهم، أو يتساهلوا معهم، وأن يعنى الدعاة بمعرفة النفاق وخطره وشعبه؛ مخافة أن يصيبهم، وأن يتعرفوا على مكايد المنافقين ومخططاتهم في الماضي والحاضر لكي لا يقعوا في شراكهم، وأن يجتهد المصلحون في تحقيق تزكية النفوس وتربية الأجيال على الإيمان الصحيح، والقيام بالعبادة ظاهراً وباطناً، فالمنافقون أرباب ظواهر لا بواطن، وسيدرك الصادقون في إيمانهم أولئك المنافقين من خلال لحن القول، كما قال (سبحانه): ((وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ)) [محمد: 30].
قال شيخ الإسلام: (فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مُقْسَم عليها، لكن هذا يكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما فهو موقوف على مشيئة الله)(15).
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه): ما أسرّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على وجهه وفلتات لسانه.
***************
يتبع00
(إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جـــدّاً؛ لأنـهـم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علـم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟، وكم من عَلَم له قد طمسوه؟، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شـبـهـهـم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، ((أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)) [البقرة:12]).
هذا بعض ما سطّره ابن القيم (رحمه الله) في التحذير مـــن النفاق والمنافقين(1)، الذي هو موضوع هذه المقالة، وسيكون الحديث عن خطر النفاق والـمنافقين من خلال ما يلي:
1- خطر المنافقين داهم:
فـالـمـنـافـقـون أعظم خطراً وضرراً من الكفار المجاهرين، كما أن المنافقين أغلظ كفراً وأشد عذاباً.
قال ابن القـيــم عنهم: (طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسـلـه، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال (تعالى): ((إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْـفَـــلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً)) [النساء: 145]، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فـوقـهــم في دركات النار؛ لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون عـلـيـهـم بالكذب والنفاق، وبليةُ المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولـهــــذا قــال (تعالـى): ((هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [المنافقون: 4]، ومثل هذا اللـفــظ يقـتـضـي الحـصــر، والمراد: إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوّاً من الكفار المجاهرين، فإن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً، ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل، صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهــم... وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل من النار لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، ووصل إليهم من معرفة الإيمان ما لم يصل إلى المنابذين بالعدواة، فإذا كفروا مع هـــــذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البـعـــداء عـنهـم، قال (تـعـالـى) عــن المنافقين: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)) [المنافقون: 3]) (2).
2 - تحذير القرآن منهم:
حذّر القرآن الكـريـم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن فـي سـبــع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمئة وأربعين آية، حتى قـــال ابـــن القيم (رحمه الله): (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم) (3).
3- تحذير الرسول -صلى الله عليه وسلم- من النفاق:
خاف النبي -صلى الله عليه وسلم- علـى أمـتـــه من النفاق والمنافقين، وحذّر وأنذر من سلوك المنافقين، وحذر من الوقوع في شُعَب النفاق في أحاديث كثيرة.
فعن عمران بن حصين (رضي الله عنهما) مرفوعاً: (إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي: منافق عليم اللسان) (4).
قال المناوي في التفسير [1/52]: (كل منافق عليم اللسان: أي: عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغر للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام).
وقال المناوي ـ أيضاً ـ [1/309]: (أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكل بها، وأبهة يتعزز بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو منه).
4- خوف السلف الصالح على أنفسهم من النفاق:
كان سلفنا الصالح (رحمهم الله) ـ مع عمق إيمانهم وكمال علمهم ـ يخافون النفاق أيما خوف، فقد أخرج البخاري ـ تعليقاً ـ أن ابن أبي مليكة (رحمه الله) قال: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه).
قال الحافط ابن حجر [الفتح1/111]: (والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة، مـن أجلِّهـم: عائشـة، وأختها أسمـاء، وأم سلمـة، والعبادلة الأربعـة، وأبو هريرة،... فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجلّ من هؤلاء، كعليّ، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم..).
وكان أبو الدرداء (رضي الله عنه) إذا فرغ من التشهد ـ في الصلاة ـ يتعوذ بالله من النفاق، ويكثر التعوذ منه، فقال له أحدهم: ومالك ـ يا أبا الدرداء ـ أنت والنفاق؟، فقال دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيُخلع منه (5).
وكان الحسن البصري (رحمه الله) يقول: (ما خافه -النفاق- إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق) [أخرجه البخاري تعليقاً] (6).
وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ قال: (ومن يأمن على نفسه النفاق)؟! (7).
يقول ابن القيم: (وبحسب إيمان العبد ومعرفته يكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأمة وسابقيها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر يقول لحذيفة: ناشدتك الله، هل سماني رسول الله مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً(8)، يعني لا أفتح عليّ هذا الباب في تزكية الناس، وليس معناه أنه لم يَبرأ من النفاق غيرك) (9).
فتأمل رحمك الله ما عليه أولئك الأسلاف الأبرار من خوف شديد من النفاق ودواعيه، ثم انظر إلى حال الأكثرين منا في هذا الزمان، فمع ضعف الإيمان وغلبة الجهل تجد الأمن من النفاق والغفلة عنه!.. فالله المستعان.
5- المنافقون كثر:
ومما يوجب مزيد الخوف من النفاق والحذر من المنافقين: أنهم كثيرون، منتشرون في بقاع الأرض، كما قال الحسن البصري (رحمه الله): (لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات) (10).
وقال ابن القيم: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسبابُ المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات، سمع حذيفة (رضي الله عنه) رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك)(11).
ولا يعني ذلك تعميم الحكم بالنفاق على الأكثرية والأغلبية، فإن النفاق شُعَب وأنواع، كما أن الكفر شعب وأنواع، والمعاصي بريد الكفر، فكذا من كان متهماً بنفاق فهم على أنواع متعددة، كما وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم مَن فيه إيمان ونفاق، وفيهم مَن إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق، ولما قوي الإيمان وظهر الإيمان وقوته عام تبوك: صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكن يعاتبون عليه قبل ذلك..) (12).
6- سهولة الانخداع بهم:
فالمنافقون أصحاب تذبذب وتقلب، وأرباب خداع وتلبيس، فيتكلمون بمعسول الكلام، وفصيح الخطاب، ويظهرون للناس في هيئة حسنة، ومظهر جذاب، فربما انخدع لهم الفئام من المسلمين، فمالوا إليهم وأصغوا إلى قولهم وتدليسهم، قال (تعالى): ((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)) [التوبة: 47]، وقال (سبحانه): ((وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)) [المنافقون: 4].
إن هذا التلون والتذبذب يجعل خطرهم كبيراً، وشرهم مستطيراً، حيث يخفون كفرهم وضلالهم، ويتظاهرون بالإيمان والاهتداء.
ولذا: خفي على كثير من المسلمين حال بعض الزنادقة (المنافقين) في القديم والحديث، وكما قال الذهبي (رحمه الله) في شأن الحلاج: (فهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن: فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعلم بهم، قال (تعالى): ((وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ)) [التوبة: 101]، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى: أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده (عليه الصلاة والسلام) على العلماء من أمته) (13).
7- انتشار النفاق الأصغر في مجتمعاتنا:
ومما يؤكد خطر النفاق: أن الكثير من شعب النفاق الأصغر ـ الذي لا يُخرج عن الملة ـ قد عمت وطمت في مجتمعات المسلمين، كالكذب، وخلف الوعد، والرياء، والخيانة، والجبن، وترك الجهاد في سبيل الله (تعالى)، وعدم تحديث النفس بذلك.
ومع أن هذه الخصال من النفاق الأصغر، لكنها قد تؤول إلى النفاق الأكبر المخرج من الملة، وفي هذا يقول ابن رجب: (والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، فكما يُخشى على من أصرّ على المعصية أن يُسلب الإيمان عند الموت، كذلك يخشى على من أصر على النفاق أن يسلب الإيمان، فيصير منافقاً خالصاً) (14).
بل استفحل الأمر، وعظم النفاق حتى صرنا نشاهد صوراً أو أنواعاً من النفاق الأكبر في بلاد المسلمين، ومن ذلك: الاستهزاء بدين الله (تعالى)، والفرح والسرور بانخفاض دين الإسلام وهزيمة المسلمين، وكذا العكس..، والإعراض التام عن حكم الله (تعالى)، ومظاهرة الكفار ضد المسلمين...
إن على الدعاة إلى الله أن يَحْذروا مكايد المنافقين ومسالكهم، فلا ينخدعوا بهم، أو يتساهلوا معهم، وأن يعنى الدعاة بمعرفة النفاق وخطره وشعبه؛ مخافة أن يصيبهم، وأن يتعرفوا على مكايد المنافقين ومخططاتهم في الماضي والحاضر لكي لا يقعوا في شراكهم، وأن يجتهد المصلحون في تحقيق تزكية النفوس وتربية الأجيال على الإيمان الصحيح، والقيام بالعبادة ظاهراً وباطناً، فالمنافقون أرباب ظواهر لا بواطن، وسيدرك الصادقون في إيمانهم أولئك المنافقين من خلال لحن القول، كما قال (سبحانه): ((وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ)) [محمد: 30].
قال شيخ الإسلام: (فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مُقْسَم عليها، لكن هذا يكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما فهو موقوف على مشيئة الله)(15).
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه): ما أسرّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على وجهه وفلتات لسانه.
***************
يتبع00