PDA

View Full Version : بين الدولة الجمهورية والدولة الوراثية


متشيم
19-12-2001, 10:47 PM
الوراثية أم الجمهورية؟

بسم الله الرحمن الرحيم

في أواسط القرن العشرين بدأت تظهر ما تسمى بالجمهوريات العربية في مقابل الوراثيات الملكية ، ويقصد بالجمهورية (بشكل عام) الدولة التي يحكمها الحزب أو البرلمان ، ويتم اختيار الرئيس فيها غالبا بالاقتراع كما هو الحال في الجمهوريات وتكون في أفضل صورها كإيطاليا أو ألمانيا أو فرنسا والصورة الآخرة للجمهورية هي التي بدون انتخاب حيث يتم انتقال السلطة تلقائيا للرجل الثاني في الحزب مباشرة ، أي نائب رئيس الحزب أو الأمين العام للحزب وهذه صورة هي الأسوأ في الصورتين المذكورتين ، ونجدها مثلا في انتقال الرئاسة من جمال عبد الناصر إلى نائبه أنور السادات ومن أنور السادات إلى حسني مبارك ، كذلك هي نفسها في العراق ، و الصورة الأوضح موجودة في الأحزاب الشيوعية في كل من روسيا و الصين ، وفي مثل هذه الصور يبقى الشعب تحت مظلة حاكم واحد لسنين طويلة إما يموت أو يغتال أو يصبح غير مؤهل للحكم.

أما الدول المبنية على الوراثة فإن ابن الحاكم أو أخو الحاكم يكون هو ولي العهد كدول الخليج باستثناء السلطنة فلا يعرف من هو ولي العهد فيها ، والأردن والمغرب ، وغالبا ما يكون الحاكم التالي هو ابن الحاكم السابق وليس أخاه ، مثل البحرين والأردن والمغرب ، فالشيخ خليفة ورث الحكم عن والده والملك عبد الله ورثها عن والده والملك محمد ورثها عن والده ، أما في الكويت والسعودية وخاصة تعاقب حكام كثيرون منذ نشأة الدولة فتارة للأخ وتارة للابن ، فالملك عبد العزيز خلفه ابنه سعود ، ثم خلفه الملك فيصل ثم خلفه الملك خالد ثم خلفه الملك فهد والآن ولاية العهد للأمير عبد الله وتنتقل بعدها للأمير سلطان ، أبناء عبدالعزيز ، نستطيع أن نقول أن المملكة سيتعاقب على حكمها ما مجموعه ستة أخوة على أقل تقدير ، وهذه أمور تقدرها الأسرة الحاكمة بحيث لا يكون للحاكم الحالي سلطة متنفذة لوضع ابنه بدلا عن أخيه ، وكذلك الحال في الكويت لا تنتقل السلطة من الاب إلى الإبن بل قد تنتقل إلى الأخ ، وهذا في ضوء ما تقرره الأسرة الحاكمة ، ولعل النموذج السعودي والنموذج الكويتي هما الأكثر استقرارا ما بين الحكومات الوراثية على الرغم من أن انتقال الحكم من الأمير سعود إلى الأمير فيصل كان قبل وفاة الأمير سعود وذلك بسبب عدم قدرة الأمير سعود على القيام بأعباء الحكم وبرغم اغتيال الملك فيصل ، وكذلك الملك خالد (لا أدري يا أخوة غير متأكد من هذه المعلومة الرجاء التوجيه) ، قطر والبحرين والإمارات والسلطنة لم يتعاقب على حكمها منذ الاستقلال إلا شخص أو شخصان أو ثلاثة على أقصى تقدير وكذلك الأردن وكذلك المغرب ولذلك لا نستطيع أن نعتبرها أكثر استقرار من الكويت والسعودية.


هذان النموذجان يمثلان إنفصاما في الشخصية الحكومية في العالم العربي فالجمهورية تمثل شخصية والوراثية تمثل شخصية ، وهاتان الشخصيتان متعاديتان ، فالجمهورية العراقية (الجمهورية ممثلة في الحكومة وليس الشعب) تعادي دول الخليج ، والجزائر تعادي المغرب بل وصلت لحد دعم جبهة البوليساريو ، وسوريا تعادي الأردن ، لذلك ستجد أن في الأردن معارضين لسوريا ، وفي الجزائر معارضين للمغرب ، والقذافي كان يتهم بعض حكام الخليج بالزندقة ، والحزب الشيوعي اليمني ساهم في إشعال حرب ظفار ضد السلطان قابوس ، والمملكة سبق أن استقبلت إبان حكم الملك فيصل الإسلاميين الفارين من جحيم السجون الناصرية ، وهذه هي الحالة بين هذه الدول ، وقدم كلا الرئيسين ، صدام حسين وجمال عبد الناصر نموذجا فيه شيء من التشابه في وقت يعارض البعض مقارنة كلا المجرمين بعضهما ببعض.

فأما صدام حسين فعذب شعبه عذابا ما عرفه التاريخ بل وأمسك الرئيس العراقي بزمام الحكم بأصابع قدمه ، وأما عبد الناصر فقد وجه جيوشه لحرب اليمن وخاض فيها حربا خاسرة في الوقت الذي كانت جبهة الحرب ضد إسرائيل في أحوج ما يكون لهذا الجيش الذي توجه لليمن، ولم يكن في عصر الرئيس عبد الناصر شخصية أخرى معروفة سوى محمد نجيب والذي تآمر عليه عبد الناصر ليقصيه ، ثم خاض حروبا لم ينتصر في واحدة منها ، فضلا عن الزج بالإسلاميين وكل من تسوله نفسه بالبروز سواء إسلامي أو علماني في محاكم التفتيش الناصرية ، وإذا كان صدام حسين ارتكب مجازرا في حق شعبه وقتل علماء كبارا كالشيخ البدري فإن جمال عبد الناصر عنون جرائمه بقتل أناس أفذاذ كان لهم وزنهم الأدبي والشرعي ، فقتل سيد قطب صاحب المؤلفات العديدة في فقه الدعوة وصاحب كتاب "في ظلال القرآن" واعدم القانوني الفذ عبد القادر عودة الذي خرج برائعته المشهورة التي لم يأتي من هو قبله أو بعده بها "التشريع الجنائي في الإسلام" ، ثم نختم على أسماع الناس بمقولة عبد الناصر المشهورة "طريق تحرير فلسطين يبدأ من عمّان والرياض والكويت وبغداد" وكان يتحدث طبعا عن الحكومات الوراثية التي نشأ على كرهها والعداء لها.

طبعا أخذ النسق العربي على الانتقال من الملكية أو الوراثية إلى الجمهورية ، فقضي على الوراثية في اليمن الشمالي ، وقام مقام الإمامة حكم الجمهوريين الذي يترأسه الآن الرئيس علي عبد الله صالح ، و قضي على أول حكومة ملكية عرفتها العراق وكذلك الإنقلاب على الملكية في مصر فيما يسمى بالضباط الأحرار الذين لم يبق منهم واحد حر خلال فترة حكم عبد الناصر بل كانوا ضباطا عبيدا بين يديه ، فالرأي ما يراه هو ويكذبه على لسان الشعب في مقولته المشهورة "باسم الشعب" وفي ليبيا تم القضاء على الملكية السنوسية في ما يسمى بثورة الفاتح ، والناظر العام للبعد الزمني خلال الفترة من وسط القرن العشرين إلى ما قبل حرب الخليج تقريبا يرى أن التوجه العام يصب في خانة الجمهوريات ، وزاد الطين بلة في وجه الحكومات الوراثية ظهور ثورة ظفار كأول بادرة في دول الخليج لمحاربة الوراثية ولكنها ولله الحمد قضي عليها ، ثم ظهر الأمير طلال بن عبد العزيز الذي عاش فترة في كنف عبد الناصر وكان يدعوا لأمور عديدة تتعارض مع التوجه العام للملكة مثل الانتخابات والدعوة بشكل غير مباشر للحرية المطلقة للمرأة والدعوة لانتقال الحكومة للجيل الشاب من الأمراء.

ولكن بعد حرب الخليج ظهرت بوادر غريبة ، حيث ظهرت حقائق ودخائل نفوس حكومات الجمهوريات ، فبدأ بروز أبناء رؤساء الدول الجمهورية بشكل غير طبيعي ، فظهر بشار الأسد وظهر عدي وقصي ابني صدام حسين ، وسمعت من بعض اليمنيين عن احتمال أن يكون ابن الرئيس علي عبد الله صالح هو الوريث القادم للحكم ، ومن خلال بعض القراءات الخاصة وجدت أن للرئيس المصري حسين مبارك أبناء وأن أكبرهم يؤهل ليرث الحكم عن والده ، كذلك الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى يبرز ابن الرئيس القذافي الساعدي ليصرح تارة ويلعب الكرة تارة ويقال أنه هو الوريث القادم ولكن أين بقية الجمهوريات؟
لبنان: لا يمكن أن تكون وراثية أبدا مع هذا التعدد الطائفي المعقد.
السودان: منذ سقوط النميري وحتى يومنا هذا هي غير مستقرة.
تونس: لا أعلم إن كان ابن شين العابدين بن علي له شأن.
الجزائر: غير مستقرة.
موريتانيا: غير موجودة على الساحة السياسية وغير مستقرة.
وأعتقد أن هذه الدول الجمهورية (باستثناء لبنان) لو استمرت على حاكم لفترة أطول ، كالنميري في السودان أو معاوية ولد سيدي طايع في موريتانيا أو زين العابدين في تونس أو بو تفليقة في الجزائر ، لتحولت فيما بعد إلى وراثية.

إن الطبيعة العربية التي قلبت موازين الحكم بداية من الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان وحتى يومنا هذا تثبت أن زعيم القبيلة وحاكم القرية والبلدة يتمنى أن ينتقل الحكم إلى إبنه ، ولما تأتي الجمهوريات لتحارب الفكرة الوراثية ككل ، لا تحارب سلبياتها فقط ، فإنها تتعارض مع طبيعة من طبائع العرب عرفوا بها ، سواء شئنا أم أبينا ، وهي حب انتقال السلطة للإبن ، ولن نناقش مدى شرعية هذا الأمر الآن لأنه ليس هذا محله ، كما تميزت الوراثية بطبيعة فريدة وهي أن الولاء لها أعظم من الولاء للجمهوريات ، وهذه طبيعة العرب ، يدينون لزعيم القبيلة بالولاء التام ويعودون له في مشكلاتهم وخلافاتهم.

وها هم الذين حاربوا الوراثيات كصدام حسين وحافظ الأسد والأحزاب الجمهورية وغيرها يناقضون أنفسهم ويخضعون مبادءهم للسقوط والهلاك ، فهم الذين دافعوا عنها يدوسونها الآن بعد أن سبقت حظوظ النفس المباديء.

مقالي هذا ليس هجوما على الجمهورية ولا دفاعا عن الوراثية ، فالجمهورية الصحيحة لها إيجابيات كثيرة ، كذلك الوراثية التي نشاهدها في عصرنا هذا لها خزاياها ، إنما هذا المقال حول النظرة لانتقال السلطة في كلا النظامين.