الملبوس
18-04-2001, 09:27 PM
بعد عمر طويل وجهاد مرير، أصيبت بداء عضال ألزمها الفراش وهي التي كانت لا تكلّ ولاتملّ، شاء الله أن يموت زوجها وهي في ريعان شبابها: ترك لها أولاداً صغاراً في حاجة إلى عين تحرسهم ويد تطعمهم، فتحملت المسؤولية بكل تفانٍ وإخلاص، لم تبخل عليهم بشيء، كانت لهم الأب الحازم والأم الحنون، لكن المرض هدَّ كيانها. في الغرفة التي ترقد فيها جلس في أحد الأركان واضعاً يده على رأسه، والدموع تتساقط من عينيه، وهو يبكي.. سمع صوتها تناديه:محمد، هرول ناحيتها،. أمسك بيدها قبَّل جبينها ثم قال لها: نعم يا نبع الحنان.
ـ أريد أن أطمئن على إخوتك.ـ كلهم بخير يا أمي
ـ هل زارني أحد اليوم؟ـ جمع غفير ولكن الطبيب ـ كما تعلمين ـ يمنع الزيارة.
ـ هل حضر خالك؟....تنهد وشرد قليلاً ثم قال: أمي لا تفكري فيه فحضوره لن ينفعك وغيابه لن يضرك. أدارت وجهها.. جرى على خديها خطان من الدموع، خرجت بفكرها من الحيز الضيق الذي ترقد فيه ورجعت بذاكرتها إلى الوراء، إلى الأيام التي كان فيها أخوها صغيراً تخاف عليه كما تخاف الآن على ولدها.. تهتم به وترعاه، وعندما تزوج كانت تزوره من حين لآخر وهي تحمل معها من خيرات الله سبحانه، تذكرت يوم أصيب في حادث.. وجاءها النبأ.. عندها هرولت مسرعة حافية القدمين، دامعة العينين، حزينة الفؤاد، ولما رأته وهو فاقد الوعي صرخت وسابقتها دموعها، ارتمت عليه، ظلت تقلبه ذات اليمين وذات الشمال تبحث عن موضع الإصابة في جسده النحيف، ابتهلت إلى الله بالدعاء أن يعافيه ومن كل شر يقيه، ولما رأت قلة موارده وكثرة عياله تركت له أرضها ليعيش من خيرها، وبمرور الأيام تحسنت أحواله المادية، وأقبلت عليه الدنيا فطالبته بأرضها، تهرَّب منها، ماطلها، ولما أصرَّ قاطعها وقلب لها ظهر المجن ونسي فضلها وتنكر لجميلها ولكن حنينها لرؤيته أخذ يلح عليها فينسيها الظلم الذي وقع عليها ويمحوه من ذاكرتها.. نظرت إلى ولدها وقالت له: أريد أن أرى أخي قبل أن أموت، ثم فقدت وعيها، خرج محمد من عندها، سار في ردهات المستشفى يفكر فالأمل في خاله مفقود والنصح له مردود، ولكن تفكيره هداه إلى أن يذهب إلى شيخ القرية، طلب منه أن يحثَّ الناس في الخطبة على صلة الرحم لعل خاله يسمعه فيتأثر ويرقّ قلبه ويذهب لزيارة أخته. صعد الشيخ المنبر وبدأ يتحدث عن صلة الرحم قائلاً: إن صلة الرحم من أعظم الأعمال عند الله، وقد حذَّر الله سبحانه وتعالى ورسوله ص من قطع الرحم، قال تعالى في سورة محمد فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى" أبصارهم (23). ألم يقل النبي ص: "لا يدخل الجنة قاطع" يعني قاطع الرحم. ولما انتهى الشيخ من الصلاة التفت محمد إلى خاله ـ وكان يصلي بالقرب منه ـ نظر إليه وكأنه يستعطفه، لكنه لم يأبه له ولم يعره اهتماماً، وكأنه لم يسمع شيئاً، وذهب كلام الشيخ أدراج الرياح، فردد محمد في نفسه قول الله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة سار محمد إلى بيته حزين الفؤاد، منكسر الخاطر، فأمنيته تحطمت على صخرة عناد خاله وقسوة قلبه، في صبيحة اليوم التالي ذهب إلى المستشفى وهو يفكر بماذا يجيب أمه إذا سألته عن خاله؟ هل يقول لها الحقيقة، وإن كانت مرة فيزيد ألمها؟ أم يكذب عليها، ظهرت عليه علامات الحيرة والقلق، وفي الممر قابله الطبيب ـ وقد رآه محمد خارجاً من غرفة أمه ـ سأله: كيف حال أمي؟ نظر إليه ووضع يده على كتفه ثم قال له: البقاء لله "لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب"، لم يتمالك نفسه، أجهش بالبكاء، دخل على أمه ورفع الغطاء عن وجهها وقبَّـلها ثم خرج وتوضأ وصلى لله ركعتين دعا فيهما لوالدته بالرحمة والمغفرة.
ـ أريد أن أطمئن على إخوتك.ـ كلهم بخير يا أمي
ـ هل زارني أحد اليوم؟ـ جمع غفير ولكن الطبيب ـ كما تعلمين ـ يمنع الزيارة.
ـ هل حضر خالك؟....تنهد وشرد قليلاً ثم قال: أمي لا تفكري فيه فحضوره لن ينفعك وغيابه لن يضرك. أدارت وجهها.. جرى على خديها خطان من الدموع، خرجت بفكرها من الحيز الضيق الذي ترقد فيه ورجعت بذاكرتها إلى الوراء، إلى الأيام التي كان فيها أخوها صغيراً تخاف عليه كما تخاف الآن على ولدها.. تهتم به وترعاه، وعندما تزوج كانت تزوره من حين لآخر وهي تحمل معها من خيرات الله سبحانه، تذكرت يوم أصيب في حادث.. وجاءها النبأ.. عندها هرولت مسرعة حافية القدمين، دامعة العينين، حزينة الفؤاد، ولما رأته وهو فاقد الوعي صرخت وسابقتها دموعها، ارتمت عليه، ظلت تقلبه ذات اليمين وذات الشمال تبحث عن موضع الإصابة في جسده النحيف، ابتهلت إلى الله بالدعاء أن يعافيه ومن كل شر يقيه، ولما رأت قلة موارده وكثرة عياله تركت له أرضها ليعيش من خيرها، وبمرور الأيام تحسنت أحواله المادية، وأقبلت عليه الدنيا فطالبته بأرضها، تهرَّب منها، ماطلها، ولما أصرَّ قاطعها وقلب لها ظهر المجن ونسي فضلها وتنكر لجميلها ولكن حنينها لرؤيته أخذ يلح عليها فينسيها الظلم الذي وقع عليها ويمحوه من ذاكرتها.. نظرت إلى ولدها وقالت له: أريد أن أرى أخي قبل أن أموت، ثم فقدت وعيها، خرج محمد من عندها، سار في ردهات المستشفى يفكر فالأمل في خاله مفقود والنصح له مردود، ولكن تفكيره هداه إلى أن يذهب إلى شيخ القرية، طلب منه أن يحثَّ الناس في الخطبة على صلة الرحم لعل خاله يسمعه فيتأثر ويرقّ قلبه ويذهب لزيارة أخته. صعد الشيخ المنبر وبدأ يتحدث عن صلة الرحم قائلاً: إن صلة الرحم من أعظم الأعمال عند الله، وقد حذَّر الله سبحانه وتعالى ورسوله ص من قطع الرحم، قال تعالى في سورة محمد فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى" أبصارهم (23). ألم يقل النبي ص: "لا يدخل الجنة قاطع" يعني قاطع الرحم. ولما انتهى الشيخ من الصلاة التفت محمد إلى خاله ـ وكان يصلي بالقرب منه ـ نظر إليه وكأنه يستعطفه، لكنه لم يأبه له ولم يعره اهتماماً، وكأنه لم يسمع شيئاً، وذهب كلام الشيخ أدراج الرياح، فردد محمد في نفسه قول الله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة سار محمد إلى بيته حزين الفؤاد، منكسر الخاطر، فأمنيته تحطمت على صخرة عناد خاله وقسوة قلبه، في صبيحة اليوم التالي ذهب إلى المستشفى وهو يفكر بماذا يجيب أمه إذا سألته عن خاله؟ هل يقول لها الحقيقة، وإن كانت مرة فيزيد ألمها؟ أم يكذب عليها، ظهرت عليه علامات الحيرة والقلق، وفي الممر قابله الطبيب ـ وقد رآه محمد خارجاً من غرفة أمه ـ سأله: كيف حال أمي؟ نظر إليه ووضع يده على كتفه ثم قال له: البقاء لله "لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب"، لم يتمالك نفسه، أجهش بالبكاء، دخل على أمه ورفع الغطاء عن وجهها وقبَّـلها ثم خرج وتوضأ وصلى لله ركعتين دعا فيهما لوالدته بالرحمة والمغفرة.