مخلص
13-09-2001, 11:15 AM
مر على الناس -في هذه الأرض- أزمان من الظلم والتسلط والاستبداد وكلها كانت من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فالظلم من طبائع النفوس ولا ينفك عنه إلا من علمه الله ووفقه وهداه.
وكانت رسالات الله إلى الناس داعية أول ما تدعو إلى العدل والإنصاف وهو ثمرة توحيد الله والإيمان به، فالكافرون هم الظالمون والمؤمنون هم الأتقياء العادلون الرحماء. وعلى هدي هذه الرسالات قامت في الأرض في فترات من حياة الناس حياة طيبة زاخرة بالحب والألفة والتراحم والتكافل والعدل. خلصت الناس من عبادة العباد إلى عبادة الإله الواحد سبحانه وتعالى.
والإنسان يتسلط على أخيه الإنسان حالما يملك طريقاً إلى ذلك ولهذا ذاق الناس ظلم الأغنياء لأن المال قوة بأيديهم وظلم ذوي السلطان لأن السلطان قوة بأيديهم ولذلك كان من هدي الإسلام تفتيت هاتين القوتين وتوزيعهما حتى لا تتجمع واحدة منهما في أيد قليلة أو يد واحدة فيقع الناس تحت القهر والظلم.
ففي المال كانت الزكاة، والميراث، ونصيب الفقراء من الفيء والغنائم وتحريم الربا والاحتكار والغش، وكل هذا حتى لا يكون المال متداولاً في أيد قليلة تتسلط بواسطته على رقاب الناس.
وفي السلطات كانت الشورى ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك لتولية الحاكم الكفء وعزله إذا ذهبت كفاءته ونصحه إذا ظلم ومعاونته على الخير ومنعه من الغي.
فما الشورى، هذا التشريع الرباني الفريد الذي يقوم نظام الحكم العادل عليه؟ وكيف نستطيع تطبيقه على وجهه الأكمل وذلك في الولايات العامة والإمارات الخاصة؟ هذا ما سأحاول في مقالات متتابعة -مستعيناً بالله عز وجل- أن أجلو وجه حقيقتها وأن أنفي ما علق عليها من شبه الضالين وتحريف المغالين والله سبحانه أسأل القصد والإعتدال، إنه السميع العليم.
حقيقة الشورى:
عندما ندرس الشورى الإسلامية دراسة شاملة، لا بد لنا من بيان العدد من القضايا التي يقوم عليها هذا النظام وتتلخص في الإجابة عن الأسئلة الآتية:
1- ما حقيقة الشورى في الإسلام؟ وما تعريفها، وما هي حدودها؟
2- أهل الشورى من هم؟ هل هم جميع المسلمين أم أناس مخصوصون؟ وإذا كانوا مخصوصين فما الاعتبار في اختصاصهم؟ وكيف الوصول إليهم؟ وهل هو بتعيين من الإمام؟ أم بالترشيح من الناس أم بغير ذلك؟.
3- ما هو ميدان العمل عند أهل الشورى؟ هل هو ميدان النصوص فهماً وتطبيقاً؟ أم ميدان الجديد من المعاملات تشريعاً وتقنيناً؟ وهل هو ميدان الحرب والسياسة فقط؟ أم ميدان الحياة بكاملها؟
4- الحكم الأخير في الشورى هل هو لغالبية المستشارين؟ أم لاجتماعهم؟ أم هو للإمام فقط:
ومقال اليوم -إن شاء الله- سيكون لبيان حقيقة الشورى والتعرف عليها ليظهر لنا مدلول لفظها -الشورى- واضحاً جلياً.
وجاء -أشار- بمعنى استخرج العسل واجتناه من مواضيعه، وجاء معنى أومأ بيده أو برأسه.
فكان المستشير يطلب إشارة الناس إلى مواضع الحق والخير في الأمر المشار فيه.
والمعنى المنقول لكلمة الشورى هو: استطلاع الرأي من ذوي الخبرة فيه للتوصل إلى أقرب الأمور للحق.
وحسب التعريف السابق ندرك الحقائق التالية:
1- لا بد لتحقيق الشورى من تصفح الآراء والأفكار في الأمر المشار فيه من كل صاحب رأي وفكرة.
2- الأمور المقطوع بأنها حق ليست مجالاً للشورى، ولا هي داخلة فيها. فالحقائق الثابتة في أمور الدين والدنيا ليست مجال نقاش وآراء لأنه مجمع على أنها حق ولا مجال للاختلاف فيها.
وحسب ما مضى ندرك -نحن المسلمون- أن حقائق الإسلام الثابتة ليست من مجالات الشورى عندنا: فكون الإسلام حق الصلاة واجبة والجهاد فرض والخمر حرام والزنا حرام أمور قد سلمنا بها بشهادتنا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعرض هذه الأمور وأمثالها على الشورى كفر بالإسلام وخروج من دائرته.
وليس بقبيح لو اجتمع قوم من غير المسلمين ليتشاوروا أدين الإسلام حق أم لا؟
بل يجب عليهم أن يتشاوروا ويذكر بعضهم بعضاً بذلك كما وعظهم الله عز وجل بهذا عندما قال تعالى:
{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير بين يدي عذاب شديد}.
فنحن لا نستنكر اجتماع غير المسلمين للتشاور في شأن دين الإسلام ولكننا نرى أن المسلم يكفر إذا ما دعا الناس للتشاور في شأن القصاص هل هو عدل أم لا، وفي قطع يد السارق هل هو حق أم لا، وفي شأن الخمر هل نحرمها أم لا؟
لأنه بذلك يهدم إسلامه السابق إذ من مقتضى الإيمان الإقرار بحكمة الله وعلمه والإيمان بتشريعه كله سبحانه وتعالى..
3- الأمور التي تدخل في إطار الشورى غالباً ما يكون الحق والمصلحة فيها مظنون من الجميع ولا يستطيع أحد أن يجزم به، وقد يعلم الحق في بعض أمور الشورى إذا كان عند أحد المستشارين نص واضح جلي من الكتاب أو نص صحيح صريح من السنة وسأضرب لكل نوع مما سبق أمثلة يتضح بها المقام إن شاء الله:
مثال الأمر الأول وهو الذي يظن الحق فيه ولا يقطع به: أمور الحرب والسلام والمعاهدات، فكم من دول دخلت حروباً وهي تظن أن النصر معها والمصلحة في خوضها ثم باءت بالخيبة.
وكم من دول أخرى أبرمت معاهدات وعقدت صلحاً وهي تظن الخير لها في ذلك وكان العكس هو الصحيح.
وهذا الأمر يعم كل الأمم ولا يخص دولة دون دولة، فقد أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية وهو مسلم لأمر الله تبارك وتعالى غير عالم بنتائجه إلا أنه قال: [إنه ربي، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني]. فقد كان منفذاً لأمر الله تبارك وتعالى مؤمناً بأن العاقبة ستكون له بمشيئة الله سبحانه وتعالى وقد أنكر صحابته غالبيتهم أمر هذا الصلح إنكاراً شديداً، ولكن كانت عاقبته أن كان أعظم فتح في الإسلام.
وقد أشار بعض المسلمين على الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء في المدينة في غزوة أحد، وألح عليهم آخرون بالخروج، والكل يقدر جانب المصلحة في ذلك لم يكن أحد منهم يقطع أين يكون الخير، قد كان احتمال النصر مع الخروج وارداً بل محققاً لولا مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والشاهد أن أمور الحرب والسلم والسياسة والمعاهدات أمور لا يقطع عند المشاورة فيها بالحق والخير والصواب، وإنما بترجيح جانب المصلحة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قواده الذين يرسلهم في الغزو قائلاً:
[وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم علي حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا].
فيستفاد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم [فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا] أن حكم الله في هذه الأمور مظنون وليس بمقطوع به. ألم تر أن الله عاتب رسوله والمؤمنين لقبولهم فداء الأسرى في بدر، وأخبرهم أن الحكمة والمصلحة كانت تقتضي قتل الأسرى في هذه الغزوة وذلك حتى تخضد شوكة الكفار فلا تقوم لهم قائمة بعد.
وليس أمام أمير مسلم يحاصر أهل حصن وينزلوا على حكمه احتمال واحد لإبرام الصلح على أساسه بل أمامه عشرات الاحتمالات والشروط وكلها يستند إلى نصوص من الكتاب والسنة، فهل يقتل مقاتلتهم ويسبي نساءهم وذراريهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير وبني قينقاع. أم يمن عليهم جميعاً، أو يفادي برجالهم أسارى المسلمين ببلاد الكفار كما قال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداءاً حتى تضع الحرب أوزارها..} وهل يترك لهم معابدهم ويسمح لهم باستحداث شيء جديد، أم يترك لهم الموجود منها فقط أم يصالحهم على هدم البعض وتحويله إلى مساجد؟ وهل يصالحهم على ترك أرضهم لهم أم يأخذها منهم؟.. كل هذه احتمالات واردة وكل منها قد فعله المسلمون في حروبهم وكلها في شأن أمر جزئي وهو:
استنزال قوم من الكفار من حصن من حصونهم، أي قبول بلدة.
ما مصلحة المسلمين، والنزول على حكمهم بعد حصارهم؟
وأقول: من يستطيع اليوم أن يقطع بالحق والخير والمصلحة للمسلمين في شأن يهود فلسطين عندما ينصر الله المسلمين وهذا آت لا محالة بإذن الله! هل يجلون من فلسطين إلى الديار التي أتوا منها، أم تقتل مقاتلتهم وتسبى نساؤهم وذراريهم كما فعل بيهود بني قريظة، أم يمن عليهم ويعيشون كمعاهدين وأهل ذمة؟ وإذا كان ذلك فما هي نوع الحريات التي تعطى لهم والتي تمنع منهم؟ أم يجلى من هاجر بعد عام 1948 ويترك من هاجر منهم قبل ذلك؟ وهل تعود الأرض إلى أربابها الذين تركوها وهاجروا من أهل فلسطين، أم تكون غنيمة للمحاربين؟ وهل توزع أم تكون أرضاً خراجية؟ وأملاك اليهود التي أحدثوها هل تصبح ملكاً للدولة أم للمحاربين؟ إحتمالات كثيرة وآراء مختلفة متباينة، ويستطيع كل صاحب رأي من الآراء السابقة أن يدعم أقواله بآية من كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من زعم أن الحق والصواب والمصلحة في رأيه هو فقد أخطأ خطأ بيناً وتحكم في دين الله عز وجل ولا يستطيع أحد أن يجزم بالصواب والمصلحة في مثل هذه الأمور إلا بعد وقوعها ومعرفة نتائجها وعلى قياس هذه النتائج يكون تقدير الرأي والحكم عليه بالمصلحة أو المفسدة.
وللقارئ عذري - إن أطلت في بيان هذا الأمر وضرب الأمثلة من الوقائع السالفة والوقائع المرتقبة والحديثة.
وذلك أن بعض الناس ممن يزعم العلم الديني يفتي في مثل هذه الأمور ويجزم بأن الحق معه ويرم بالجهل والفسق بل والكفر أحياناً من خالفه الرأي.
ولكن هناك أموراً أخرى من أمور الشورى قد يعرضها إمام المسلمين للمشاورة ويكون الحق فيها معلوماً بالنص عند بعض الناس، وهذا مثاله الحادثة المشهورة في مشاورة عمر بن الخطاب للمسلمين في دخوله ومن معه أرض الشام بعد أن وقع بها الطاعون، فإن أبا عبيدة بن الجراح قال لعمر: ما أرى أن ترجع بل أنت قادم لأمر لا بد من نفاذه ثم أنفر من قضاء الله!؟ ولكن آخرين وجدوا المصلحة في غير ذلك وقالوا: يا أمير المؤمنين، ارجع بمن معك، ولا تقدمهم على هذا الوباء فتعرض نفسك ومن معك للخطر!!
فشاور عمر المهاجرين الأول ثم الأنصار فلم يختلف عليه اثنان أن يجب عليه الرجوع فقال لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة، نفر من قضاء الله إلى قضاء الله! ثم جاء عبدالرحمن بن عوف -وكان غائباً- فلما علم بذلك قال: عندي في ذلك علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله: [إذا وقع الطاعون بأرض فلا تدخلوها ولا تخرجوا منها] فانحسم الأمر وعرف الحق المقطوع به وليس المظنون لأن مستنده نص ظاهر جلي، ولو علمه عمر أولاً ما استشار الناس في هذا الأمر، ولو علمه أبو عبيدة قبل هذا ما قال لعمر: كيف تفر من قضاء الله؟!
والمقصود بهذه الأمثلة بيان أن بعض أمور الشورى قد يتوصل إلى الحق فيها إذا كان هناك دليل ظاهر جلي وليس هناك دليل مخالف له أو معارض، والبعض الآخر لا يمكن القطع فيه بالحق والخير والمصلحة قبل حدوثه.
الحق في أمور الشورى:
ولكن يجب أن نعلم أنه على مقدار تقوى الله عز وجل والعلم بشريعته والتمسك بها يكون الوصول إلى الحق في أمور الخلاف ومعرفة الصواب في أمور الشورى والاجتهاد. مما يدل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة قرابة شهر في حصونهم وصياصيهم ثم قبلوا النزول من حصونهم ولكن على حكم سعد بن معاذ الذي كان حليفاً لهم في الجاهلية ظناً منهم أنه سيكون رحيماً بهم، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عرضهم هذا، ثم دعي سعد من المدينة حيث كان يمرض فيها من سهم أصابه في الخندق. فقال سعد بعد أن جلس للحكم: حكمي نافذ على الجميع؟ فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نعم، وكذا فعل رؤساء اليهود، فقال سعد: فإني أحكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى نساؤهم وذراريهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: [لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات] وهذا هو الشاهد من سوقي لهذه القصة، فإن سعداً رضي الله عنه باجتهاد الصادق وخوفه وتقواه وعلمه حكم هذا الحكم في الذين خانوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى قول الرسول السابق [لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات] أي هذا حكم الله فيهم، ومعنى ذلك أنه لو أنزلت آيات فيهم لكان مضمونها هو الذي حكم به سعد بن معاذ رضي الله عنه.
فإذا كانت الشورى هي اشتراك مجموعة من الناس في الاجتهاد للتوصل إلى ما يرضي الله في الأمور التي تعرض للمسلمين ويطلبون حلها فإن أقرب الناس إلى الحق في ذلك هم الذين يتجردون لله عز وجل ويقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم. فنسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وإحسانه.
----------
بقلم الشيخ/عبدالرحمن عبد الخالق
وكانت رسالات الله إلى الناس داعية أول ما تدعو إلى العدل والإنصاف وهو ثمرة توحيد الله والإيمان به، فالكافرون هم الظالمون والمؤمنون هم الأتقياء العادلون الرحماء. وعلى هدي هذه الرسالات قامت في الأرض في فترات من حياة الناس حياة طيبة زاخرة بالحب والألفة والتراحم والتكافل والعدل. خلصت الناس من عبادة العباد إلى عبادة الإله الواحد سبحانه وتعالى.
والإنسان يتسلط على أخيه الإنسان حالما يملك طريقاً إلى ذلك ولهذا ذاق الناس ظلم الأغنياء لأن المال قوة بأيديهم وظلم ذوي السلطان لأن السلطان قوة بأيديهم ولذلك كان من هدي الإسلام تفتيت هاتين القوتين وتوزيعهما حتى لا تتجمع واحدة منهما في أيد قليلة أو يد واحدة فيقع الناس تحت القهر والظلم.
ففي المال كانت الزكاة، والميراث، ونصيب الفقراء من الفيء والغنائم وتحريم الربا والاحتكار والغش، وكل هذا حتى لا يكون المال متداولاً في أيد قليلة تتسلط بواسطته على رقاب الناس.
وفي السلطات كانت الشورى ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك لتولية الحاكم الكفء وعزله إذا ذهبت كفاءته ونصحه إذا ظلم ومعاونته على الخير ومنعه من الغي.
فما الشورى، هذا التشريع الرباني الفريد الذي يقوم نظام الحكم العادل عليه؟ وكيف نستطيع تطبيقه على وجهه الأكمل وذلك في الولايات العامة والإمارات الخاصة؟ هذا ما سأحاول في مقالات متتابعة -مستعيناً بالله عز وجل- أن أجلو وجه حقيقتها وأن أنفي ما علق عليها من شبه الضالين وتحريف المغالين والله سبحانه أسأل القصد والإعتدال، إنه السميع العليم.
حقيقة الشورى:
عندما ندرس الشورى الإسلامية دراسة شاملة، لا بد لنا من بيان العدد من القضايا التي يقوم عليها هذا النظام وتتلخص في الإجابة عن الأسئلة الآتية:
1- ما حقيقة الشورى في الإسلام؟ وما تعريفها، وما هي حدودها؟
2- أهل الشورى من هم؟ هل هم جميع المسلمين أم أناس مخصوصون؟ وإذا كانوا مخصوصين فما الاعتبار في اختصاصهم؟ وكيف الوصول إليهم؟ وهل هو بتعيين من الإمام؟ أم بالترشيح من الناس أم بغير ذلك؟.
3- ما هو ميدان العمل عند أهل الشورى؟ هل هو ميدان النصوص فهماً وتطبيقاً؟ أم ميدان الجديد من المعاملات تشريعاً وتقنيناً؟ وهل هو ميدان الحرب والسياسة فقط؟ أم ميدان الحياة بكاملها؟
4- الحكم الأخير في الشورى هل هو لغالبية المستشارين؟ أم لاجتماعهم؟ أم هو للإمام فقط:
ومقال اليوم -إن شاء الله- سيكون لبيان حقيقة الشورى والتعرف عليها ليظهر لنا مدلول لفظها -الشورى- واضحاً جلياً.
وجاء -أشار- بمعنى استخرج العسل واجتناه من مواضيعه، وجاء معنى أومأ بيده أو برأسه.
فكان المستشير يطلب إشارة الناس إلى مواضع الحق والخير في الأمر المشار فيه.
والمعنى المنقول لكلمة الشورى هو: استطلاع الرأي من ذوي الخبرة فيه للتوصل إلى أقرب الأمور للحق.
وحسب التعريف السابق ندرك الحقائق التالية:
1- لا بد لتحقيق الشورى من تصفح الآراء والأفكار في الأمر المشار فيه من كل صاحب رأي وفكرة.
2- الأمور المقطوع بأنها حق ليست مجالاً للشورى، ولا هي داخلة فيها. فالحقائق الثابتة في أمور الدين والدنيا ليست مجال نقاش وآراء لأنه مجمع على أنها حق ولا مجال للاختلاف فيها.
وحسب ما مضى ندرك -نحن المسلمون- أن حقائق الإسلام الثابتة ليست من مجالات الشورى عندنا: فكون الإسلام حق الصلاة واجبة والجهاد فرض والخمر حرام والزنا حرام أمور قد سلمنا بها بشهادتنا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعرض هذه الأمور وأمثالها على الشورى كفر بالإسلام وخروج من دائرته.
وليس بقبيح لو اجتمع قوم من غير المسلمين ليتشاوروا أدين الإسلام حق أم لا؟
بل يجب عليهم أن يتشاوروا ويذكر بعضهم بعضاً بذلك كما وعظهم الله عز وجل بهذا عندما قال تعالى:
{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير بين يدي عذاب شديد}.
فنحن لا نستنكر اجتماع غير المسلمين للتشاور في شأن دين الإسلام ولكننا نرى أن المسلم يكفر إذا ما دعا الناس للتشاور في شأن القصاص هل هو عدل أم لا، وفي قطع يد السارق هل هو حق أم لا، وفي شأن الخمر هل نحرمها أم لا؟
لأنه بذلك يهدم إسلامه السابق إذ من مقتضى الإيمان الإقرار بحكمة الله وعلمه والإيمان بتشريعه كله سبحانه وتعالى..
3- الأمور التي تدخل في إطار الشورى غالباً ما يكون الحق والمصلحة فيها مظنون من الجميع ولا يستطيع أحد أن يجزم به، وقد يعلم الحق في بعض أمور الشورى إذا كان عند أحد المستشارين نص واضح جلي من الكتاب أو نص صحيح صريح من السنة وسأضرب لكل نوع مما سبق أمثلة يتضح بها المقام إن شاء الله:
مثال الأمر الأول وهو الذي يظن الحق فيه ولا يقطع به: أمور الحرب والسلام والمعاهدات، فكم من دول دخلت حروباً وهي تظن أن النصر معها والمصلحة في خوضها ثم باءت بالخيبة.
وكم من دول أخرى أبرمت معاهدات وعقدت صلحاً وهي تظن الخير لها في ذلك وكان العكس هو الصحيح.
وهذا الأمر يعم كل الأمم ولا يخص دولة دون دولة، فقد أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية وهو مسلم لأمر الله تبارك وتعالى غير عالم بنتائجه إلا أنه قال: [إنه ربي، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني]. فقد كان منفذاً لأمر الله تبارك وتعالى مؤمناً بأن العاقبة ستكون له بمشيئة الله سبحانه وتعالى وقد أنكر صحابته غالبيتهم أمر هذا الصلح إنكاراً شديداً، ولكن كانت عاقبته أن كان أعظم فتح في الإسلام.
وقد أشار بعض المسلمين على الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء في المدينة في غزوة أحد، وألح عليهم آخرون بالخروج، والكل يقدر جانب المصلحة في ذلك لم يكن أحد منهم يقطع أين يكون الخير، قد كان احتمال النصر مع الخروج وارداً بل محققاً لولا مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والشاهد أن أمور الحرب والسلم والسياسة والمعاهدات أمور لا يقطع عند المشاورة فيها بالحق والخير والصواب، وإنما بترجيح جانب المصلحة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قواده الذين يرسلهم في الغزو قائلاً:
[وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم علي حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا].
فيستفاد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم [فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا] أن حكم الله في هذه الأمور مظنون وليس بمقطوع به. ألم تر أن الله عاتب رسوله والمؤمنين لقبولهم فداء الأسرى في بدر، وأخبرهم أن الحكمة والمصلحة كانت تقتضي قتل الأسرى في هذه الغزوة وذلك حتى تخضد شوكة الكفار فلا تقوم لهم قائمة بعد.
وليس أمام أمير مسلم يحاصر أهل حصن وينزلوا على حكمه احتمال واحد لإبرام الصلح على أساسه بل أمامه عشرات الاحتمالات والشروط وكلها يستند إلى نصوص من الكتاب والسنة، فهل يقتل مقاتلتهم ويسبي نساءهم وذراريهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير وبني قينقاع. أم يمن عليهم جميعاً، أو يفادي برجالهم أسارى المسلمين ببلاد الكفار كما قال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداءاً حتى تضع الحرب أوزارها..} وهل يترك لهم معابدهم ويسمح لهم باستحداث شيء جديد، أم يترك لهم الموجود منها فقط أم يصالحهم على هدم البعض وتحويله إلى مساجد؟ وهل يصالحهم على ترك أرضهم لهم أم يأخذها منهم؟.. كل هذه احتمالات واردة وكل منها قد فعله المسلمون في حروبهم وكلها في شأن أمر جزئي وهو:
استنزال قوم من الكفار من حصن من حصونهم، أي قبول بلدة.
ما مصلحة المسلمين، والنزول على حكمهم بعد حصارهم؟
وأقول: من يستطيع اليوم أن يقطع بالحق والخير والمصلحة للمسلمين في شأن يهود فلسطين عندما ينصر الله المسلمين وهذا آت لا محالة بإذن الله! هل يجلون من فلسطين إلى الديار التي أتوا منها، أم تقتل مقاتلتهم وتسبى نساؤهم وذراريهم كما فعل بيهود بني قريظة، أم يمن عليهم ويعيشون كمعاهدين وأهل ذمة؟ وإذا كان ذلك فما هي نوع الحريات التي تعطى لهم والتي تمنع منهم؟ أم يجلى من هاجر بعد عام 1948 ويترك من هاجر منهم قبل ذلك؟ وهل تعود الأرض إلى أربابها الذين تركوها وهاجروا من أهل فلسطين، أم تكون غنيمة للمحاربين؟ وهل توزع أم تكون أرضاً خراجية؟ وأملاك اليهود التي أحدثوها هل تصبح ملكاً للدولة أم للمحاربين؟ إحتمالات كثيرة وآراء مختلفة متباينة، ويستطيع كل صاحب رأي من الآراء السابقة أن يدعم أقواله بآية من كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من زعم أن الحق والصواب والمصلحة في رأيه هو فقد أخطأ خطأ بيناً وتحكم في دين الله عز وجل ولا يستطيع أحد أن يجزم بالصواب والمصلحة في مثل هذه الأمور إلا بعد وقوعها ومعرفة نتائجها وعلى قياس هذه النتائج يكون تقدير الرأي والحكم عليه بالمصلحة أو المفسدة.
وللقارئ عذري - إن أطلت في بيان هذا الأمر وضرب الأمثلة من الوقائع السالفة والوقائع المرتقبة والحديثة.
وذلك أن بعض الناس ممن يزعم العلم الديني يفتي في مثل هذه الأمور ويجزم بأن الحق معه ويرم بالجهل والفسق بل والكفر أحياناً من خالفه الرأي.
ولكن هناك أموراً أخرى من أمور الشورى قد يعرضها إمام المسلمين للمشاورة ويكون الحق فيها معلوماً بالنص عند بعض الناس، وهذا مثاله الحادثة المشهورة في مشاورة عمر بن الخطاب للمسلمين في دخوله ومن معه أرض الشام بعد أن وقع بها الطاعون، فإن أبا عبيدة بن الجراح قال لعمر: ما أرى أن ترجع بل أنت قادم لأمر لا بد من نفاذه ثم أنفر من قضاء الله!؟ ولكن آخرين وجدوا المصلحة في غير ذلك وقالوا: يا أمير المؤمنين، ارجع بمن معك، ولا تقدمهم على هذا الوباء فتعرض نفسك ومن معك للخطر!!
فشاور عمر المهاجرين الأول ثم الأنصار فلم يختلف عليه اثنان أن يجب عليه الرجوع فقال لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة، نفر من قضاء الله إلى قضاء الله! ثم جاء عبدالرحمن بن عوف -وكان غائباً- فلما علم بذلك قال: عندي في ذلك علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله: [إذا وقع الطاعون بأرض فلا تدخلوها ولا تخرجوا منها] فانحسم الأمر وعرف الحق المقطوع به وليس المظنون لأن مستنده نص ظاهر جلي، ولو علمه عمر أولاً ما استشار الناس في هذا الأمر، ولو علمه أبو عبيدة قبل هذا ما قال لعمر: كيف تفر من قضاء الله؟!
والمقصود بهذه الأمثلة بيان أن بعض أمور الشورى قد يتوصل إلى الحق فيها إذا كان هناك دليل ظاهر جلي وليس هناك دليل مخالف له أو معارض، والبعض الآخر لا يمكن القطع فيه بالحق والخير والمصلحة قبل حدوثه.
الحق في أمور الشورى:
ولكن يجب أن نعلم أنه على مقدار تقوى الله عز وجل والعلم بشريعته والتمسك بها يكون الوصول إلى الحق في أمور الخلاف ومعرفة الصواب في أمور الشورى والاجتهاد. مما يدل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة قرابة شهر في حصونهم وصياصيهم ثم قبلوا النزول من حصونهم ولكن على حكم سعد بن معاذ الذي كان حليفاً لهم في الجاهلية ظناً منهم أنه سيكون رحيماً بهم، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عرضهم هذا، ثم دعي سعد من المدينة حيث كان يمرض فيها من سهم أصابه في الخندق. فقال سعد بعد أن جلس للحكم: حكمي نافذ على الجميع؟ فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نعم، وكذا فعل رؤساء اليهود، فقال سعد: فإني أحكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى نساؤهم وذراريهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: [لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات] وهذا هو الشاهد من سوقي لهذه القصة، فإن سعداً رضي الله عنه باجتهاد الصادق وخوفه وتقواه وعلمه حكم هذا الحكم في الذين خانوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى قول الرسول السابق [لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات] أي هذا حكم الله فيهم، ومعنى ذلك أنه لو أنزلت آيات فيهم لكان مضمونها هو الذي حكم به سعد بن معاذ رضي الله عنه.
فإذا كانت الشورى هي اشتراك مجموعة من الناس في الاجتهاد للتوصل إلى ما يرضي الله في الأمور التي تعرض للمسلمين ويطلبون حلها فإن أقرب الناس إلى الحق في ذلك هم الذين يتجردون لله عز وجل ويقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم. فنسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وإحسانه.
----------
بقلم الشيخ/عبدالرحمن عبد الخالق