PDA

View Full Version : رايات النفاق ـ 1 ـ


USAMA LADEN
23-08-2005, 12:58 AM
رايات النفاق ـ 1 ـ

ناصر محمد الأحمد

ملخص الخطبة

1- قوة النفاق ومؤسساته في عصرنا متزامن مع قوة الصحوة الإسلامية. 2- خطر النفاق وتنوع صوره. 3- الأمر بجهاد المنافقين والإغلاظ عليهم. 4- صور من أفعال المنافقين في عهد النبوة. 5- فتن المنافقين وصور من مكرهم في التاريخ الإسلامي. 6- صور جديدة للنفاق.


الخطبة الأولى

أما بعد: لو تداعى المصلحون المخلصون من الدعاة وطلبة العلم إلى عقد مؤتمر يتدارسون فيه أخطر ظاهرة مُني بها المسلمون في تاريخهم لما وجدوا ظاهرة أشد خبثاً وأسوأ أثراً من النفاق والمنافقين.

لا فارق بين نفاق الأمس ونفاق اليوم من حيث الجوهر، أما الظروف فقد اختلفت، فالنفاق بالأمس البعيد أيام تمكين الدين كان ذُلاً يستخفي، وضعفاً يتوارى، وخضوعاً مقموعاً يمثله عمالقة أقزام ورؤوس أزلام، حيات وعقارب موطوءة تكاد ألاّ تنفث السم إلاّ وهي تلفظ الحياة.

كان تمكين الدين وقتها يمكّن المؤمنين من جهاد أولئك الأسافل باليد واللسان والقلب وبإقامة الحدود، فلا يُرى أحدهم إلاّ وهو محاصر مكدود، أو محدود مجلود.

أما اليوم، فالنفاق صرح ممرد، وقواعد تتحرك، وقلاع تُشيّد، إنه اليوم دولة بل دول ذات هيئات وأركان، إنه أحلاف وتكتلات وكيانات، بل معسكرات ذات قوة وسلطان، سلطان سياسي واقتصادي وإعلامي وثقافي، يمارس الضرار في كل مضمار.

إن النفاق اليوم له قيادة، وهذه القيادة تخطط وتنظم حركتهم، ويغذونهم بالباطل والكفر، والقرآن يسمي هذه القيادة بالشياطين وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14]، وقادة المنافقين قد يكونون ممن يتسمون بالإسلام وقد يكونون من الكفرة أو من اليهود أو من النصارى أو غيرهم وهم يتصلون بالمنافقين في ديار المسلمين شرقيها وغربيها عبر قنوات خفية مستورة، وبذلك يكون المنافقون أخطر على المسلمين من الكفرة المستعلنين، فقد أثبت التاريخ يوماً بعد يوم أن نكبة الأمة بالمنافقين تسبق كل النكبات وأن نكايتهم فيها وجنايتهم عليها تزيد على كل النكايات والجنايات، فالكفر الظاهر على خطره وضرره يعجز ـ في كل مرة يواجه فيها أمة الإسلام ـ أن ينفرد بإحراز انتصار شامل عليها ما لم يكن مسنوداً بطابور خامس من داخل أوطان المسلمين ويتسمى بأسماء المسلمين، يمد الأعداء بالعون، ويخلص لهم في النصيحة، ويزيل من أمامهم العقبات، ويفتح الأبواب.

أيها المسلمون، لقد عادت حركة النفاق اليوم متمثلة في التيار العلماني، وسبب العودة هو فيئة المسلمين إلى دينهم وظهور هذه الصحوة المباركة ورجوع الشباب المؤمن بالله ورسوله إلى منهج سلفه الصالح، وصار يفضح مخططات أعداء الله، إضافة إلى ظهور حركات إسلامية مختلفة ومتنوعة في بقاع شتى من العالم، بعضها حركات دعوية وبعضها جهادية وبعضها فكرية.

فقرر قادة الكفر أن يربُّوا أشخاصاً على النفاق ليعمل هؤلاء في صفوف المسلمين في كل المجالات، فئة تظهر الإسلام وتصلي في المناسبات وتؤدي بعض الشعائر ثم تظهر بمظهر الحريص على هذا الدين، فيثق بهم الغافلون والبسطاء، ويعمل هؤلاء المنافقون معلمين ومربين وموجهين وسياسيين وصحفيين وكتاب ومؤلفين ورجال فكر ورجال علم.

ثم تصنع لهم الأمجاد الزائفة عن طريق الإعلام، ويُلمّع هؤلاء ليتخذهم العامة منارات يستقى منها التوجيه والتحليل ٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9].

قال ابن القيم رحمه الله: "فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من عَلم له قد طمسوه، وكم من لواءٍ له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها، وكم عمّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".

أيها المسلمون، لقد افتتح ابن سلول طريق النفاق ثم سارت فيه من بعده أفواج المنافقين عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن لا تخطئ العين ملامح العلمنة والنفاق الظاهر المتظاهر مع الكفار في القضايا الكبرى من قضايا المسلمين، شوهد ذلك في تركيا قبل سقوطها وبعد سقوطها خلال أكثر من ثمانين عاماً، ثم شوهد ذلك في فلسطين بعد احتلالها منذ ما يزيد على خمسين عاماً، ويزال المسلمون يرون صوراً من النفاق في أماكن شتى سلخها المنافقون لصالح الكافرين عن هويتها الإسلامية وبنيتها الاعتقادية، فيخطئ من يظن أن النفاق الذي أفاض القرآن في الحديث عنه وأسهب في التحذير منه كان يمثل مرحلة تاريخية انقضت بدخول الناس في دين الله أفواجاً.

إن القرآن الذي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بجهاد المنافقين سيظل يُتلى إلى يوم الدين بقول الله تعالى: ٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ [التوبة:73]، والآية تدل على أن النفاق سيظل موجوداً وسيظل محسوساً ملموساً من أشخاص وهيئات ودول تُرى فيهم آيات النفاق.

والنفاق المقصود في الآية ليس قاصراً على النفاق ذي المرامي السياسية والأهداف التسلطية فقط، بل هو النفاق بكافة أشكاله وصوره عندما يكون موجهاً إلى ضرر الدين وأصحاب الدين، سواء كان صادراً من أهل السياسة أو من أهل الثقافة أو أهل الفن والقلم أو حتى من بعض المنسوبين للعلم والفتوى في بعض البلدان، فالأمة تعاني اليوم من شرذمة ظهرت على وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، تتكلم باسم العلم والفتوى، تمرر قضايا خطيرة جداً فيها من التلبيس على عقول الناس ما الله به عليم، تصب في تحقيق أهداف أشخاص يخدمونهم باسم الدين والله المستعان. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].

أيها المسلمون، إن جهاد المنافقين من أجلّ فرائض الدين، لا يقلُّ شأناً عن فريضة الجهاد ضد الكافرين، وقد ذكر بعض العلماء بأن جهاد المنافقين فريضة دائمة، بينما جهاد الكافرين قد لا يكون على الدوام، وذلك من خمسة أوجه:

الوجه الأول: أن جهاد الكفار يجيء ويذهب باختلاف الأزمنة والأمكنة وبحسب وجود دواعيه ومسبباته من مداهمة الكفار لبلدان المسلمين أو فتح المسلمين لمعاقل الكفار، أما المنافقون فجهادهم قائم ودائم في السلم والحرب لأن أذاهم للدين موصول في السلم والحرب.

الوجه الثاني: أن عداء المنافقين في الغالب مستتر خفي، وعداء الكفار معلن جليّ، ولا شك أن المستعلن بالعداء يعطي من يعاديهم فرصة للتحفز والاستعداد وأخذ الحذر بخلاف من يتآمر في الخفاء.

الوجه الثالث: أن خطر المنافقين ينطلق من الداخل بين صفوف المسلمين بينما يجيء خطر الكفار الظاهرين في أكثر الأحيان من الخارج، وخطر الخارج لا يستفحل دائماً إلا بمساندةٍ من الداخل.

الوجه الرابع: أن عداوة المنافقين شاملة لا تقتصر على جانب دون جانب، فهي تبدأ من الكلمة همزاً ولمزاً وسخرية وغمزاً وتنتهي إلى الخيانة العظمى بالقتال في صف الكفار وتحت راياتهم والتآمر معهم على المسلمين وكشف أسرارهم.

الوجه الخامس: أن جهاد الكفار قد يكون عينياً أو يكون كفائياً وقد يسقط بالأعذار أو الإعذار، أما جهاد المنافقين فهو غير قابل للسقوط إذا وجدت مسوغاته، فهو واجب على كل مكلف بحسبه، ففي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم.

أيها المسلمون، ويأخذ جهاد المنافقين أحكام جهاد الكافرين إذا ظهر من نفاقهم الكفر الجلي بقول أو فعل، قال ابن كثير رحمه الله: "روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلاشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ [التوبة:5]، وسيف لكفار أهل الكتاب قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ [التوبة:29]، وسيف للمنافقين يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وسيف للبغاة فَقَـٰتِلُواْ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىء إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ [الحجرات:9]، ثم قال ابن كثير: "وهذا يقتضي أن يُجَاهَدوا بالسيوف إذا أظهروا النفاق وهو اختيار ابن جرير".

فإذا كان واقع المسلمين اليوم في أكثر الأحوال لا يسمح بجهاد المنافقين بإقامة الحدود أو الإغلاظ عليهم لكف شرهم، فلا أقل من تعويض ذلك بجهادهم باللسان وما يقوم مقامه من كل وسيلة ترُدُّ ما يستطاع من كيدهم للدين، وإلا فإن ذلك النفاق سيظل يتوحش ويطغى حتى يهدد بهدم معالم الإيمان والدين في كل بلاد المسلمين.

إن علماء الإسلام عندما تحدثوا عن أحكام جهاد المنافقين لم يفترضوا واقعاً خيالياً، بل تحدثوا عن واقع عاشته الأمة الإسلامية معهم، منذ وُضعت لبنات مجتمعها الأول في المدينة وصفحات السيرة والتاريخ تقطر بمواقف مخزية لحزب المنافقين الذي ظهر أول ما ظهر في مجتمع الطهارة الأول في عهد الرسالة، ولم يستح ذلك الصنف من الناس أن يكون له حزبه وجنده في أطهر مكان وأفضل زمان في تاريخ الإنسان، لتعلن هذه الفئة أن خطرها لن يستثني زماناً دون زمان، ولا مكاناً دون مكان، ولا إنساناً دون إنسان، ولو كان هذا الإنسان هو خير البشر وسيد الرسل صلى الله عليه وسلم.

ففي أخطر لحظات الدعوة الإسلامية وأدق المراحل التي واجهت فيها أعداءها الخارجيين كان حزب النفاق بالمرصاد لهذه الدعوة في صف أعدائها، ففي غزوة أحد عندما حشدت قريش ثلاثة آلاف مقاتل بكامل الإعداد والعتاد وكان جيش المسلمين لا يزيد على ألف مقاتل وفي موقف دفاع، وبينما كان الفريقان يستعدان للنـزال في معركة فاصلة إذا بزعيم النفاق ينخذل عن جيش المسلمين بثلاثمائة من قومه ليعود للقعود في المدينة، يصور القرآن هذا المشهد ويحكي هذا التصرف في معرض حديثه عن هذه الغزوة وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقّ ظَنَّ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلاْمْرِ مِن شَىْء قُلْ إِنَّ ٱلاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلاْمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَـٰهُنَا [آل عمران:154].

وقد عدّ القرآن هذه المواقف الانتهازية من المنافقين خيانة لأهل الإسلام بإسلامهم إلى الأعداء ومسارعة إلى الكفر ونصرة له قال الله تعالى لنبيه بعد أن سجل على المنافقين جرمهم وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى ٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإيمَـٰنِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:176، 177].

وأما عن مناصرة المنافقين لليهود فلهم في ذلك صولات وجولات، فقد سطرت كتب التاريخ مواقف غدر وخيانة لهم مع بني قينقاع وبني النضير، سجل القرآن أحداثها أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَـٰفَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ [الحشر:11].

إن من يريد أن يقتفي أثر إفساد المنافقين خلال عهد الرسالة عليه أن يبحث عن ذلك في مظانّ الحديث عن اليهود، فأينما وُجد اليهود وجد المنافقون.

أيها المسلمون، التاريخُ وعاءٌ لما يقضى من القدر خيره وشره، فأقدار الخير يهيئ الله لها رجالاً عظماء شرفاء، فبعد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كم من رجال تألقوا في التاريخ بل تألق التاريخ بهم، من علماء ودعاة ومجاهدين وقادة، وغيرهم وغيرهم ممن نفع الله بهم الدين والدنيا.

وأما أقدار الشر فقد خُلق لها الأشرار ممن لوثوا صفحات التاريخ بأسمائهم وقبيح أفعالهم من باطنيين ومنافقين وعلمانيين ومجرمين، فكانوا ولا يزالون كالورم الخبيث الكامن في الجسد بانتظار لحظة من الوهن والإنهاك حتى يفرض نفسه منتشراً بالداء والبلاء.

فنسأل الله جل وتعالى أن يكفينا شر المنافقين والعلمانيين.








الخطبة الثانية



أما بعد: وأما عن علاقة المنافقين بالنصارى فهي علاقة حميمة وقديمة ولنستعرض مثالين يدلان على ذلك:

المثال الأول: قصةُ غزوةِ تبوك: في ظرف من أدق وأشق الظروف التي مرت على الدعوة الإسلامية في عهد الرسالة نما إلى مسامع المسلمين في المدينة في أواخر عمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أكبر قوة في الأرض آنذاك تعد لسحق المسلمين في دارهم وطي صفحة الإسلام من التاريخ بتخريب مدنه واجتياح أرضه وتقتيل أهله وتشريدهم.

لقد تواردت الأنباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نصارى الروم على وشك القدوم فقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يباغت القوم بالحرب قبل أن يكملوا الاستعداد، وفي وقت نضج فيه الثمر وطاب فيه المقام مع شدة الحر، ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس للنفير دفاعاً عن الإسلام المستهدف من أعتى عدو في العالم آنذاك، فاستجاب الصادقون المخلصون خفافاً وثقالاً رغم المكاره، وأطاعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في تقدير شجاع لخطورة الموقف. فتحرك النفاق الذي كان يتوق إلى يوم تتهاوى فيه قلعة الإسلام وتسقط راياته.

فجاءت سورة التوبة التي تسمى أيضاً بالفاضحة والمبعثرة لأنها فضحت وبعثرت أسرار المنافقين، جاءت السورة حافلة بأخبار النفاق وسلوك المنافقين لترسخ في أفهام المسلمين أهمية أن يتفقدوا صفوفهم ويختبروا بطانتهم، حاملين قبس القرآن ليكشف لهم بإيضاح وجلاء ماهية ونوعية وسجية المنافقين حتى يكونوا منهم على حذر، ويكونوا لجهادهم والتصدي لهم على أهبة واستعداد.

المثال الثاني: دور المنافقين في استقدام النصارى الصليبيين إلى بلاد الشام:

ما السر في أن نصارى العرب يكثر تواجدهم في الشام أكثر من غيرها؟ الجواب: المنافقون: تظاهر رأس من رؤوس المنافقين بالتشيع، وهو أبا الخطاب بن الأجدع، وهو الذي نسبت إليه الفرقة الخطابية، وسلك طريق النفاق المعتاد بادعاء الصلاح، فصاحب جعفر الصادق في حياته وادعى أنه وصيه بعد مماته رغم تبرؤِ جعفرَ منه، وتتلمذ على أفكار ذلك المنافق زنديق آخر هو ميمون القداح المنحدر من أصول يهودية، وعمد هذا الآخر إلى الدعوة للتشيع على الطريقة الإسماعيلية المنحرفة، وتحركت بإيحاء من تلك الأفكار الحركة القرمطية التي تبنت نشر المذهب الإباحي الداعي إلى إباحة المحرمات وإسقاط الواجبات. وكان لميمون القداح حفيد يدعى سعيد، ادعى أنه أحد أبناء الأئمة المستورين من ذرية إسماعيل بن جعفر الصادق، فزعم على هذا أنه علوي يستحق الخلافة! وقد بدأ يدعو إلى نفسه بالخلافة بعد أن سمى نفسه عبيد الله، وشايعه جمع من المنافقين على ذلك وأشاعوا أنه حقاً من العلويين من ولد فاطمة رضي الله عنها، وتطورت دعوتهم بعد أن كسبت الأنصار، فأقاموا الدولة الفاطمية بالمغرب، وكان إخوانهم القرامطة والإسماعيلية قد أقاموا دولاً قبل ذلك في البحرين واليمن.

واستمرت دولة العبيديين في المغرب من عام 297هـ حتى عام 363هـ حيث انتقلت بعد ذلك إلى مصر في عهد الخليفة العبيدي المعز لدين الله، فأقام لدولة النفاق الشيعي كياناً في مصر. وقد كان هؤلاء العبيديون الخبثاء يقربون الكفار وبخاصة النصارى ويتخذون منهم البطانة ويولونهم المناصب ويكثرون من الزواج منهم، وكانت هذه البطانة سبباً أساسياً من أسباب استفحال أمر النصارى في الشام بعد سيطرة العبيديين عليها، حتى آل أمر الشام إلى أن سقطت في أيدي الصليبيين بعد أن فرّ أمراء العبيديين منها، وتركوها لقمة سائغة لهم، حتى احتلوا القدس وسيطروا على المسجد الأقصى ورفعوا الصلبان على مآذنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأما عن علاقة المنافقين بنصارى اليوم فعجب وأي عجب، فبعد أن أعلن الغرب حربه على الإسلام في أنحاء العالم والتي أسماها الإعلام الغربي وبوقه العربي الحرب على الإرهاب، بدأ المنافقون يسخرون أقلامهم في كتابات عفنة في طول العالم العربي والإسلامي وعرضها يؤيدون الغرب، وتبرعوا بأكثر مما طلب منهم.

إن الحرب بين المسلمين والغرب حرب مستمرة منذ عقود طويلة، واليوم ناب عنهم فيها منافقون علمانيون أصبحوا يحاربون الدين وأهله تارة باسم الحرب على الرجعية، وتارة على أعداء التقدمية، وتارة ضد المتطرفين والظلاميين والأصوليين، وأخيراً استقر اصطلاح المجرمين على تسمية الحرب ضد الإسلام بالحرب على الإرهاب موافقة لأسيادهم، وإلا فأين الغرب وحلفاؤهم من التحدث عن الإرهاب اليهودي في فلسطين، والإرهاب الهندوسي في كشمير، والإرهاب الروسي في الشيشان، بل الإرهاب النصراني الغربي في الفلبين وأندنوسيا وأفغانستان وغيرها من بلدان المسلمين.

هل كان بإمكان الغرب أن يقوم بهذه الحرب لوحده لولا وجود مخلصين له في الداخل؟ هل يستطيع الغرب وأمريكا أن تعلن وتنفذ بهذه الجرأة والشراسة والشمول لولا استنادها إلى مواقف أكثر جراءة وشراسة وشمولاً من المنافقين. وإلا فمن للغرب بالتدخل المباشر في الأحوال الداخلية لكثير من الدول في صوغ مناهجها والتحكم في إعلامها وتوجيه الرأي العام بها ومحاصرة الدعوة والإصلاح فيها؟ ومن للغرب أن يجعل البلدان الإسلامية أرضاً مستباحة للأغراض العسكرية والاقتصادية والثقافية والمخابراتية وغيرها. إنهم المنافقون..

ولا نستطيع أن نفسر هذا الإخلاص العجيب من المنافقين لأسيادهم من الغرب إلا بأنه كراهية ما أنزل الله. هذا السبب الذي يتفرع عنه بقية الأسباب وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]، يكفيك أن تطالع الأعمدة اليومية والأسبوعية لكثير من أعمدة النفاق لترى مصداق ذلك في أقوام جُلّ همهم فيما يتقيئون على أوراق الصحف والمجلات أن يَحزُنوا الذين آمنوا.

لقد انقسم الناس إلى معسكرين متميزين لا ثالث لهما: معسكر إيمان وصبر وجهاد ينضم إليهم من يحبهم وإن لم يعمل مثل أعمالهم، ومعسكر كفر ينضم إليهم من يحبهم من المنافقون والعلمانيون والخائنون، وهذا ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود في سننه بسند صحيح عندما حدّث أصحابه عن تتابع الفتن التي ذكر منها فتنة الأحلاس ثم فتنة السراء ثم ذكر فتنة الدهيماء التي وصفها بقوله: ((لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه)).

فنسأل الله جل وتعالى أن نكون من أهل الإيمان الذين هم أهله وخاصته...

USAMA LADEN
23-08-2005, 04:39 AM
الخيانة

هاشم محمدعلي المشهداني




ملخص الخطبة

1- الإعلام السبق بنقض العهد. 2- الأمر بالوفاء والتحذير من الخيانة. 3- من أنواع الخيانة خيانة الدين والعقيدة. 4- خيانة العرض. 5- خيانة الشخصية. 6- لماذا يقع الناس في الخيانة. 7- أثر الخيانة. 8- موقف المسلم من الخيانة.


الخطبة الأولى









قال الله تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم علىسواء إن الله لا يحب الخائنين [الأنفال:58].

مادة في القانون الدولي الإسلامي العام: إنه إذا خشي الحاكم المسلم خيانة قوم للعهد الذي بينهم وبينه، أعلمهم بأنه قد نقض العهد حتى يكونوا على علم بالحرب قبل وقوعها، لأن الله لا يحب الخائنين .

فما الخيانة؟ ولماذا؟ وما أثر الخيانة؟ وما أنواعها؟

الخيانة: الغدر ونقض العهد .

والخيانة من سمات النفاق للحديث: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان))([1]).

وأشد الناس فضيحة يوم القيامة هم الخائنون، للحديث: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان))([2]).

وما القرآن إلا عهود ومواثيق بين الله وعباده وقد دعانا رب العزة إلى الوفاء فقال: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [المائدة:1].

وأما أنواع الخيانة :

خيانة العقيدة: وعقيدتنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وللعقيدة نواقض كما أن للوضوء نواقض، ونواقض العقيدة أن تستحل ما حرّم الله أو أن تنكر أمراً أمر الله به قال تعالى: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين [التحريم:10]. والخيانة هنا هي خيانة الدين لا الفاحشة قال ابن كثير :إن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء. قال ابن عباس: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء. وصلة الزوجية لم تنفع ولو كانت مع نبي للحديث: ((يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لن أغني عنك من الله شيئا، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه))([3])، قال تعالى: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [المؤمنون:101].

خيانة الأعراض: وقد حرم الله الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه فقال: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء:32].

وللحديث: ((ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة يضعها رجل في رحم لا يحل له))([4])جاء فتى إلى النبي فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه فقال: رسول الله: ((ادنُ ثم قال له: أتحبه لأمك؟ قال :لا، والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أتحبه لأبنتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم قال: أتحبه لأختك قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. فوضع رسول الله يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء))([5]). ومن الخيانة في الأعراض النظرة الحرام قال تعالى: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور قال ابن عباس: هذا الرجل يدخل على أهل بيت وفيهم امرأة حسناء فإذا غفلوا نظر إليها وإذا فطنوا غض بصره. والديوث محروم من الجنة وهو الذي يرى الخبث في أهله ويسكت للحديث: ((لا يدخل الجنة ديوث))([6])، والمسلم يتقي الله في اختياره للزوجة حتى لا تكون باب هم وحزن وقلق للحديث: ((إياكم وخضراء الدمن. قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله ؟، قال: حسنة المظهر سيئة المنبت))([7]).

خيانة الشخصية: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال:27]. يقول عروة بن الزبير: أي لا تظهروا لرسول الله من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السر إلى غيره فإن في ذلك هلاككم، وللحديث: ((لأعلمن أقواما يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا أما أنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلو بمحارم الله انتهكوها))([8]). وخيانة الشخصية الإسلامية تتضح في أكثر من صورة منها:

أن يكيف دين الله لنفسه ولا يكيف نفسه لدين الله للحديث: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: من ليس عنده دينار ولا درهم. قال: لا المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وحج ويأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار))([9]) .

خيانة الإخوة: فقد قال تعالى: أشداء على الكفار رحماء بينهم [الفتح:29]. فنكون على عكس هذه الصورة قوتنا على إخواننا ومحبتنا لأعدائنا، وخيانة في المشاعر: للحديث: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)) فتراه يحزن ويتألم إن فقد درهما ولكنه لا يحزن أبدا ولا يتأثر على مصائب المسلمين في العالم .

خيانة الكسب: والمسلم الحق يحرص على الحلال في مطعمه ومشربه فلا غش ولا خداع، ولا كذب وفي رواية: ((إن رسول الله مر على صبرة طعام (أي كومة) فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غشنا فليس منا))([10]).

خيانة الوطن: وذلك بأن يكون مطية لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم وما فيها من دمار للبلاد والعباد، أو دليلا لهم على عوراتها، والعرب قبل الإسلام كانت ترى في خيانة الوطن جرما يستحق صاحبه فيه الرجم وقد جاء في سيرة ابن هشام رحمه الله أن أبرهة بنى كنيسة وأراد أن يصرف العرب إليها فذهب إليها رجل من العرب وأحدث أي تغوط وبال فعزم أبرهة على هدم الكعبة وسير لذلك جيشا وخرج معه بالفيل حتى وصل الطائف فخرج إليه مسعود بن متعب فقال له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ونحن نبعث معك من يدلك فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة وفي الطريق مات أبو رغال فرجمت العرب قبره. فهو قبره الذي يرجم الناس بالمغمس([11]).

وكذا إبن العلقمي لعنه الله وقد كان دليلا لهولاكو على عورات بغداد وتدمير دولة الإسلام فلعنة الله على الخائنين في كل زمان ومكان.

خيانة الذمة والعهد :وذلك بالغدر فيمن دخل في جوارك أو بلدك وتذكر لنا كتب السيرة موقفا للنجاشي رحمه الله، وقد اشتد الأذى بأصحاب رسول الله قال لهم :لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج ثلاثة وثمانون رجلا. فأرسلت قريش من يأتي بهم وهما عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل وأعطوا كل قسيس هدية ولما دخلوا على النجاشي وقدما الهدايا فقبلها منهما ثم قالا: أيها الملك إنه قد أوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت فقال لهم النجاشي: لا والله لا أسلمهم وقد جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي. ولما علم وفد قريش أن الهدية لم تفعل فعلها قالا: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما: فأرسل إليهم الملك وسألهم فقرأ جعفر بن أبي طالب سورة مريم: ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وبكى النجاشي وقال: إن هذا والذي جاء به عيسى عليه السلام يخرج من مشكاة واحدة. ثم أمر فردت الهدايا فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به([12]) .

هذا موقف سيبقى مثلا كريما يحتذى به في الوفاء والرجولة وأما مواقف الغدر والتعاون على إيذاء المؤمنين وإخراجهم من مأمنهم فمثل هذه المواقف الخانعة المهينة لأعداء الله سيجد أصحابها مقت الله وعذابه في يوم ليس لهم من دون الله عاصم.

وأما لماذا الخيانة؟

أن يكون العبد عبدا للدرهم والدينار والنساء والمناصب ومثل هذه له ثمن فيسهل على أعداء الله شراؤه وللحديث: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة))([13]) أي هلك من كانت عبوديته لغير الله سبحانه كالمال والكساء وكلها إلى فناء.

أن يكون قد فقد الحياء من الله ومن الناس وللحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت))([14]) .

وأما أثر الخيانة:

لا يأمن أحد أحدا حيث تترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس فيحذر كلُ أحد كلَ أحد وقد جاء في الآثار: ((لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء فيه جليسه)) .

ينقطع المعروف فيما بين الناس مخافة الغدر والخيانة ومن قصص العرب أن رجلا كانت عنده فرس معروفه بأصالتها، سمع به رجل فأراد أن يسرقها منه واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس فلما رآه نزل إليه وسقاه ثم حمله وأركبه فرسه فلما تمكن منه أناخ بها جانبا وقال له: الفرس فرسي وقد نجحت خطتي وحيلتي.

فقال له صاحب الفرس: لي طلب عندك، قال: وما هو؟ قال: إذا سألك أحد كيف حصلت على الفرس؟ فلا تقل له: احتلت بحلية كذا وكذا ولكن قل: صاحب الفرس أهداها لي .

فقال الرجل لماذا؟

فقال صاحب الفرس: حتى لا ينقطع المعروف بين الناس فإذا مر قوم برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعدوه لأن فلانا قد ساعد فلانا فغدر به.

فنزل الرجل عن الفرس وسلمها لصاحبها واعتذر إليه ومضى.

وأما موقف المسلم من الخيانة:

أن تربى القلوب على مخافة الله وخشيته: مر عمر يتفقد رعيته ليلا فيسمع امرأة تقول لابنة لها: اخلطي الماء باللبن، فقالت البنت: لقد نهانا عمر عن ذلك فقالت أمها: وما يدري عمر: قالت البنت: إن كان عمر غائبا فإن ربه حاضر. تقع هذه الكلمة في قلبه فيجمع ولده ويعزم على أحدهم أن يتزوج هذه الفتاة فيتزوجها ولده عاصم فيكون من ولده عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الدنيا عدلا.

أن نجتنب المعاصي من مبدئها ولا ندعها حتى تستفحل فيصعب درؤها كما يقول ابن القيم رحمه الله: المعاصي مبدؤها خاطرة فإن لم تدفعها صارت وسوسة فإن لم تدفعها صارت فكرة فإن لم تدفعها صارت إرادة فإن لم تدفعها صارت عزما فإن لم تدفعها صارت عملا. ((إياكم ومحقرات الذنوب، قالوا: وما محقرات الذنوب؟ قال: أرأيتم لو أن قوما أرادوا أن يشعلوا نارا فجاء هذا بعود، وهذا بعود، وهذا بعود، فاجتمعت فأصبحت نارا عظيمة))([15]).

يقول ابن القيم رحمه الله :

كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

وأن تعلم أن البقاء في هذه الدنيا قليل للحديث: ((أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين))([16])، فما قيمتها أمام: خالدين فيها أبدا والدنيا ساعة فاجعلها طاعة فلم الخيانة ولم الكذب.

تأمل معي قول الشاعر في وصف الدنيا وقصر نعيمها :

أذان المرء حين الطفل يأتي

وتأخير الصلاة إلى الممات

دليـل أن محيــاه يسيـر

كما بين الأذان إلى الصلاة

أي الأذان في أذن الصبي عند الولادة، والصلاة على الميت عند موته دليل أن مكوثه هو ما بين الأذان إلى الصلاة، فما أحقرها من دنيا، وما أهونها، نسأل الله الصدق، آمين.



--------------------------------------------------------------------------------

([1])متفق عليه .

([2])متفق عليه .

([3])متفق عليه .

([4])ابن أبي الدنيا .

([5])موارد الظمآن ص 157.

([6])رواه أحمد والنسائي .

([7])رواه الدار قطني .

([8])رواه ابن ماجة .

([9])رواه مسلم .

([10])رواه مسلم .

([11])تهذيب سيرة ابن هشام ص 16.

([12])تهذيب سيرة هشام ص 72 – 77 بتصرف .

([13])رواه البخاري .

([14])رواه البخاري .

([15])رواه أحمد والطبراني .

([16])رواه الترمذي .