PDA

View Full Version : الإمام الرباني


USAMA LADEN
22-01-2007, 10:20 AM
أ.د/محمد أديب الصالح

رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام

ليست هذه الكلمات التي تتسم بالوجازة حديثاً يفي بقدر هذا الإمام الرباني ولكنها إلماحة إلى الضياء الذي يعطي –بإذن الله- للعلم نوره وقدرته على النفاذ، وللعمل حياته وطريقه إلى التأثير والقبول، وكان ذلك في شخصه رحمه الله سمة بارزة لا تخفى على ذي بصيرة.

ذلكم هو شيخ الإسلام أبو محمد، من أعلام الفقه الحنبلي، ورجال الإسلام العاملين في بلاد الشام، فإذا قلت: الموفق المقدسي، فقد ذكرت صاحب "المغني" فقد ذكرت علماً من أعلام الفقه والقدرة على المقارنة بين المذاهب ومواجهة النصوص بنفاذ بصيرة وفقه نفس، ولا تسل عن مشاركته في شتى العلوم الأخرى مما أمده بسعة الأفق وعمق النظرة إلى الأمور؛ فقد قدم إلى دمشق مع أهله وهو ابن سبع سنين وقرأ القرآن وسمع من الحديث الكثير، وحين ارتحل إلى بغداد تفقه لدى إقامته فيها على مذهب الإمام أحمد، وبرع –كما قال الحافظ ابن كثير- وأفتى وناظر وتبحر في فنون كثيرة. وقد أشرنا إلى بعض مؤلفاته من قريب.

غير أن الأمر لم يقتصر على ذلك في شخصية هذا العالم الكبير رحمه الله، فقد جمع إلى غزارة العلم زهادة في الدنيا، واستقامة على العبادة وطاعة الله، إلى ورع كان يعرف به أجزل الله مثوبته.. كل ذلك على تواضع جم واستمساك بمحاسن الأخلاق، وعلى بساطة ما في يده، كان رحمه الله جواداً لا يبخل بما هو في مقدوره... ولقد أكرمه الله بأن انعكس النور القلبي وصفاء النفس وخشية الله تعالى على وجهه فكان حسن السمت بهي الطلعة، تلمح على محياه آثار ما ينطوي عليه من الصدق مع الله، واستدامة الذكر والتلاوة والتهجد، والتنفل في الصيام وكأن الله تبارك وتعالى يبارك لهؤلاء العلماء العاملين الصلحاء في الوقت، ويكتب لكلامهم القبول، فإذا نظرت إلى ما كان يحمل نفسه عليه من العمل وتلفت إلى ثمرات علمه وقلمه فيما كتب وألف وأثر في تلامذته وأتباعه وجدت العجب العجاب... ولكنهم أحسنوا صلتهم بالله فكان الله لهم بالعون والتوفيق، وأمدهم بروح من عنده، وأفاض عليهم من إرث النبوة ما أفاض، بما كان من صادق اتباعهم لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وإخلاص الوجهة له سبحانه، والتزام بطريقة السلف الصالح الذين سلكوا هذه السبيل، وتلك لعمر الله هي الولاية الحقيقية.

ولقد أحسن الحافظ ابن كثير إذ شهد لهذا الإمام بالولاية والصلاح واستشهد لما ذهب إليه بما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله فلا أعلم لله ولياً).

لقد كان يؤم الناس في محراب الحنابلة، فإذا صلى المغرب تنفل بين العشاءين في محرابه، فإذا صلى العشاء، انصرف إلى منزله وأخذ معه من الفقراء ما تيسر يأكلون من طعامه... إنها أخلاق العلماء العاملين، ومكارم عباد الله الصالحين، ويبدو أنه كان ينظم الشعر في بعض الأحيان.

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: نقلت من خط الشيخ موفق رحمه الله تعالى:

لا تـجـلسن بباب iiمن
وتـقـول حاجاتي iiإليه
واتـركه واقصد iiربها

يأبى عليك وصول داره
يـعـوقها إن لم iiأداره
تقضى ورب الدار iiكاره

ونجد في شعره صورة صادقة عن صلاح نفسه وخوفه من الله ورجائه فضله ورحمته فمما أنشده لنفسه رضي الله عنه قوله:


أبـعـد بياض الشعر أعمر iiمسكناً
يـخـبـرنـي شـيبي بأني iiميت
يـخـرق عـمـري كل يوم iiوليلة
كـأنـي بجسمي فوق نعشي iiممدداً
إذا سـئـلـوا عني أجابوا iiوأعولوا
وغيبت في صدع من الأرض ضيق
ويـحثو علي التراب أوثق iiصاحب
فـيارب كن لي مؤنساً يوم iiوحشتي
مـا ضـرنـي أني إلى الله صائر







سـوى الـقبر إني إن فعلت لأحمق
وشـيـكـاً فـينعاني إلي ويصدق
فـهـل مـستطاع رقع ما iiيتخرق
فـمـن سـاكـت أو معول يتحرق
وأدمـعـهـم تـنهل: هذا iiالموفق
وأودعـت لحداً فوقه الصخر iiمطبق
ويـسـلـمني للقبر من هو iiمشفق
فـإنـي بـمـا أنـزلـته iiلمصدق
ومـن هـو مـن أهلي أبر iiوأرفق

أرأيت إلى هذه الصورة التي تخترق الحجب حتى تصل إلى الأعماق...

أرأيت إلى هذه الرقة لم تحل دونها كثرة علم، ولا رفيع ذكر عند الناس...

أرأيت ما يفعله الإيمان بهذه النفوس، كيف يرقى بها ويرقى، حتى تصل إلى مرتبة الإحسان... إنها صورة جديرة بأن تعمل عملها في نفوسنا وجزى الله الإمام الموفق عن هذه الأمة كل خير ورفع قدره في الآخرين.

وهنيئاً لهؤلاء العلماء العاملين الصالحين ما أعد الله لهم من جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وما يكرمهم به من ملك الكرامة والرضوان –وهو المنان المفضل- جزاء ما كانوا يعملون.