أبو لـُجين ابراهيم
07-04-2001, 03:32 PM
بقلم صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز
الحمد لله الذي جعلنا خير أمة اخرجت للناس، وصفها سبحانه وتعالى بأعظم الاوصاف الموجبة لهذه الخيرية
امة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، نبينا وامامنا محمد بن عبد الله الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها الا هالك.
وبعد: فقد كثر الحديث وتشعب في الايام الماضية حول ما قامت به (طالبان الافغانية) من تحطيم للاصنام، والتماثيل البوذية الموجودة في احدى المناطق الافغانية، وسبب تشعب الآراء وكثرة الحديث فيها يعود في نظري ـ والله اعلم ـ الى عدة اسباب: الأول: ان الحديث في المسألة لم يكن من زاوية واحدة بل كان من زوايا متفرقة: منها الشرعي، ومنها السياسي، ومنها العاطفي، ومنها النظرة لمصالح متباينة حسب طبيعة المتحدث وتوجهه.
الثاني: ان المنتسبين الى العلم الشرعي الخائضين في هذه المسألة هم انفسهم قد افترقوا في كيفية تقييمها والحكم عليها، وفي حقيقة هذه الاصنام، وفي الدليل الحاكم عليها. هل هو النص او المصلحة؟ متأثرين في كل ذلك بخلفياتهم العلمية والعقدية، وربما الاجتماعية والسياسية.
الثالث: ان المسألة تجاوزت كونها مسألة شرعية، الى ان اضحت (وجهة نظر) يتحدث فيها من يعلم ومن لا يعلم! وقديما قيل: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف! وابتداء اقول: ان حديثي هذا موجه لمن يرتضي الدليل الشرعي حكما وفصلا يجب اتباعه، وهو في جميع اموره يحكم النصوص الشرعية ويعتقد كمالها وصلاحيتها وتفوقها على غيرها. وهذا هو الاصل الذي اوجبه الله على المؤمنين عند الخلاف عملا بقوله عز وجل: (فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول) (النساء:59) ومن لم يرض بحكم الله ورسوله بعد ثبوته وعلمه به، فقد نفى الله عنه الايمان بصريح القرآن، قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء:65).
أما الحكم الشرعي في مسألة هدم الاصنام، فهو واضح ولله الحمد دلت عليه النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة، ومن ذلك: حديث البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي مكة يوم الفتح وحول البيت ستة وثلاثون نصبا، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد.
ومنه ايضا حديث علي رضي الله عنه حين قال لأبي الهياج الاسدي: (الا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان لا تدع تمثالا الا طمسته ولا قبرا مشرفا الا سويته).
فقد ارسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب رضي الله عنه الى صنم طيىء ليهدمه في سنة تسع قال الامام ابن القيم: (قالوا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب في مائة وخمسين رجلا من الانصار على مائة بعير، وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء، ولواء ابيض الى الفلس، وهو صنم طيئ ليهدمه، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم في الفجر فهدموه).
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم لهدم الأصنام، قال هشام بن الكلبي: كانت مناة اقدم من اللات فهدمها علي عام الفتح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت اللات احدث من مناة، فهدمها المغيرة بن شعبة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما اسلمت ثقيف، وكانت العزى احدث من اللات، وكان الذي اتخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة فوق ذات عرق، فهدمها خالد بن الوليد بأمر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح.
وهي سنة الانبياء من قبل كما فعل ابو الانبياء ابراهيم عليه السلام قال الله تعالى: (وتالله لأكيدن اصنامكم بعد ان تولوا مدبرين) (الانبياء:57) قال تعالى: (فجعلهم جذذا الا كبيراً لهم لعلهم اليه يرجعون) (الانبياء:58).
وقوله تعالى (فجعلهم جذذا) اي حطاما، قال تعالى: (فراغ عليهم ضربا باليمين) (الصافات: 93).
وكما فعل موسى عليه السلام مع العجل الذي عبده بنو اسرائيل قال الله تعالى: (قال فاذهب فإن لك في الحياة ان تقول لا مساس وان لك موعدا لن تخلفه وانظر الى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) (طه:97).
وهذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم وامره عليا ـ رضي الله عنه ـ بتكسير الاصنام، دال في اقل احواله على مشروعية هذا الامر، مع قول علماء السلف بوجوبه، وامر مشروع ثابت بالنص يحرم الانكار على فاعله لأنه انكار لمورد النص. والانكار لا يكون الا في حال المخالفة الشرعية الظاهرة من صاحبها والتي ثبت شرعا كونها مخالفة، فكيف بأمر ثبتت مشروعيته في اقل الاحوال؟
بيان الحكمة من هذا الأمر من المقرر شرعا ان الشارع لا يأمر بأمر او يقره الا لانه يحقق للعباد مصلحة او يدفع عنهم مفسدة، وامر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسير الاصنام وفعله ذلك بنفسه، لا بد انه يحقق للعباد مصالح معتبرة، ويدفع عنهم مفاسد متوقعة، وكما هو معلوم فإن حفظ الدين هو اعظم الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بوجوب حفظها، ويكون حفظها من جهتين، من جهة الوجود ومن جهة العدم، فمن جهة الوجود الامر بالايمان والعمل بمقتضى هذا الايمان، اوله التوحيد والدعوة اليه، وتحكيم الشرع وتحصيل العلم الشرعي. ومن جهة العدم رد كل ما من شأنه مخالفة هذا الدين او زعزعة ايمان الناس به، ومحاربة ما يكون سببا في ذلك او مظنة لذلك السبب. ووجود الاصنام بين ظهراني المسلمين لا شك انه مظنة للشرك في القريب العاجل او البعيد الآجل. والشريعة جاءت بسد الذرائع المفضية للمفاسد، وهذا ما علل به علماء الامة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتكسير الاصنام، فقال الامام ابن القيم: (واما محل الصور فمظنة الشرك وغالب شرك الامم كان من جهة الصور والقبور) وقال العلامة ابن حجر في الفتح: «لأنها مظنة الشرك» بل هو السبب الفعلي في وقوع الشرك في الناس كما هو صريح في قصة نوح عليه السلام. وهذا يعني ان الامر متعلق بأهم مسألة وهي التوحيد الذي لا دخول للجنة بدونه، وبالشرك الذي لا نجاة من النار ولا قبول لأي عمل معه.
وهناك حكم أخرى لهذا الامر الشرعي، وهي حكم مطلوب تحصيل ما يحققها في كل عصر، متى ما قدر المسلمون على ذلك ومنها: قيام المكلفين بواجبهم الذي جاءت به الاوامر الشرعية بإزالة الاصنام والنهي عن عبادتها، واظهار انها لا تنفع ولا تضر، وهذا الامر له اثره البالغ في عابديها في كل عصر، لما يرون ان آلهتهم ـ كما يزعمون ـ تكسر بلا حول ولا قوة، ولا تستطيع ان تدفع عن نفسها شيئا، فيبدأ الواحد منهم يفكر: كيف اعبد إلهاً هذا حاله؟ ولهذا شواهد من قصص اسلام الصحابة كعمرو بن الجموح وراشد بن عبد ربه وغيره، وهي قصص مشهورة.
وهذه مصالح ظاهرة مقصودة شرعا تأتي تبعا لتحقيق هذا الامر الشرعي. وهذا من ناحية الحكم الشرعي وحكمه ومصالحه.
شبهات وردود اما من ناحية الاعتراضات (الشبه) التي حاولت استقصاءها من خلال ما سمعت وقرأت من نقاش واحاديث، فسأحاول ـ بحول الله ـ عرضها، ومن ثم مناقشتها بما يفتح الله به، وهو المستعان ومنه وحده التوفيق: اولا: قولهم (انها اصنام قديمة موجودة قبل الاسلام فتبقى كما كانت) فتمشيا مع قولهم هذا، فإن الاستدلال ينتقض عليهم، ووجه ذلك: ان كان الاقدم عندهم هو (الاحسن)، وانه هو ما ينبغي العودة اليه، فإن الاقدم هو ما كان وقت آدم عليه السلام وهو التوحيد الخالص الخالي من الشرك، اذ لم تكن آنئذ اصنام مطلقا فالوقت الذي وجدت فيه الاصنام ليس بأولى في اعتباره من الوقت الذي لم توجد فيه اصنام فإن عادوا وقالوا: ان الاحسن هو الاحدث، فالاحدث هو انها هدمت، فيكون هدمها هو الاحسن، فإن عادوا وقالوا: ان ما كان على مر العصور ادوم هو الاحسن، فالادوم والذي يمثل التراث الانساني هو ما كان عليه الانبياء ومن تبعهم باحسان حيث لم يجز اي منهم عبادة الاصنام ولا ابقاءها فيكون هدمها هو الاحسن بل هو الواجب. وبلا شك فإن ازمان الانبياء واتباعهم المؤمنين بهم هي اهدى العصور وهي تقر هدم كل صنم سواء كان معبودا ام لم يكن، ثم من جهة اخرى وبالمقابل من اين يبدأ تاريخ الاسلام؟ ان الاسلام ليس حادثا مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو قديم قدم الانسانية، وهو دين الانبياء جميعا الذين بعثهم الله به الى اممهم. قال الله تعالى: (ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) (آل عمران:67).
وقال الله تعالى: (ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وانتم مسلمون) (البقرة:132).
فالاسلام هو التوحيد الخالص، وهو دين الانبياء جميعا، وجوهر دعوتهم جميعا: ان اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وما ارسل الله من رسول الا اوحى اليه بذلك قال الله تعالى: (وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه انه لا إله الا انا فاعبدون) (الانبياء:25) وكما هو مقرر في القرآن العظيم في مواضع كثيرة جدا. وقد جاء في الحديث ان الانبياء اولاد علات دينهم واحد وشرائعهم مختلفة.
ثانيا: قولهم: «ان المسلمين المتقدمين لهم يهدموها» وهو كلام لا دليل عليه، فالتاريخ الاسلامي حافل بذكر الاصنام الكثيرة التي هدمها المسلمون في تلك البلاد وقد ورد ذكرها في الكتب التي ذكرت الاصنام ومنها كتاب (الاصنام) الذي جمعه ابو المنذر هشام الكلبي. وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته ان الخليفة المأمون حاول تدمير الاهرام وضربها بالمنجنيق ولم يؤثر ذلك الا في احداث ثلم فيها، كما ذكر ابن اياس في (بدائع الزهور) ان صنم (ابو الهول) كان مدفونا في الرمال ولم يكن يظهر منه الا رأسه، وانه كان يوجد قبالته صنم آخر قام الملك محمد الناصر قلاوون 711هـ بتدميره، وقطعه وجعل منه اعتابا وقواعد، وجاء في كتاب: «تركستان من الفتح العربي الى الغزو المغولي»، تأليف المستشرق الروسي بارثولد، وترجمة عثمان عمر (ص 203) ان المسلمين في مناطق من تركستان هاجموا بعض مراكز المجوس للعبادة وخلعوا ابوابها، وكشطوا ما عليها من وجوه منقوشة وجعلوها ابوابا للمساجد. اضف الى ذلك ما ذكره صاحب مروج الذهب (2/535) عن بيت غمدان بصنعاء حيث قال: (وكان الضحاك بناه على رسم الزهرة وخربه عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فهو في وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة خراب قد هدم فصار تلاً عظيماً).
وما ذكره ايضا (2/536) بقوله: (والبيت السادس كاوسان، بناه كاوس الملك بناء عجيبا على اسم المدبر الاعظم (اي عندهم) من الاجسام السماوية وهو الشمس، بمدينة فرغانة من مدائن خراسان، وخربه المعتصم بالله).
ومن ذلك ما قاله ايضا عند ذكره البيوت المعظمة عند اليونانيين (2/537) بيت انطاكية: من ارض الشام على جبل بها داخل المدينة والسور محيط بها وقد جعل المسلمون في موضعه مرقبا لينذرهم من قد رتب فيه من الرجال بالروم إذا وردوا من البر والبحر وكانوا يعظمونه ويقربون فيه القرابين، فخرب عند مجيء الاسلام.
ومما قاله أيضاً (547/2): «وفي وسط مدينة جور ـ من أرض فارس ـ بنيان كانت تعظمه الفرس يقال له الطربال خربه المسلمون».
ومما ذكر أيضا (547/2) بقوله: «وبيت نار على خليج القسطنطينية من بلاد الروم، بناه سابور بن اردشير بن بابك وهو سابور الجنود حين نزل على هذا الخليج وحاصر القسطنطينية في عساكره، فلم يزل هذا البيت هنالك الى خلافة المهدي فخرب، وله خبر عجيب».
وعن السلطان محمود بن سبكتكين فاتح الهند ـ رحمه الله تعالى ـ قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية (22/12 ـ 23) في حوادث سنة 418هـ: انه ورد فيها كتاب محمود بن سبكتكين: (يذكر انه دخل بلاد الهند وأنه كسر الصنم الأعظم الذي لهم المسمى بسومنات، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة، التي لا توصف ولا تعد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالاً، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات، ثم استخار اللّه السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده وكثرة الهنود في طريقه والمفاوز المهلكة والأرض الخطرة في تجشم ذلك في جيشه، وأن يقطع تلك الأهوال إليه، فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفاً من المقاتلة، ممن اختارهم لذلك سوى المتطوعة فسلمهم اللّه حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ونزلوا بساحة عباده، فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة، قال: فما كان أسرع أن ملكناه من أهله خمسين ألفاً، وقلعنا هذا الوثن وأوقدنا تحته النار. وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم فأشار من أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير اللّه عزْ وجلْ، فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة أين محمود الذي كسر الصنم؟ أحب إليَّ من أن يقال الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا ثم عزم فكسره ـ رحمه اللّه ـ فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من اللّه له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فرحمه اللّه وأكرم مثواه).
وهذا خبرُ قاهر الصليبيين، ومحطم دولة الكفر العبيدية في مصر ـ صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه اللّه رحمة واسعة ـ كما ذكره الإمام الحافظ المقريزي المصري ـ رحمه اللّه ـ في الخطط (210/1) حيث قال: «اعلم ان الأهرام كانت بأرض مصر كثيرة جداً، منها بناحية بوصير شيء كثير، بعضها كبار وبعضها صغار وبعضها طين ولبن، وأكثرها حجر، وبعضها مدرج، وأكثرها مخروط أملس، وقد كان منها بالجيزة تجاه مدينة مصر عدة كثيرة، كلها صغار هدمت في أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي على يد قراقوش ـ وهو وزيره ـ وبنى قلعة الجبل والسور المحيط بالقاهرة ومصر والقناطر التي بالجيزة».
وقال الإمام السيوطي المصري ـ رحمه اللّه تعالى ـ في حسن المحاضرة (68/1): (قال صاحب المرآة «وهو سبط ابن الجوزي»: وحكى جدي عن ابن الناوي أنه قال: حسبوا خراج الدنيا مراراً فلم يف بهدمها. قال صاحب المرآة: هذا وَهْمّ، فإن صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر بأن يؤخذ منها حجارة يبني بها قنطرة وجسراً فهدموا منها شيئاً كثيراً».
وذكر المقريزي في الخطط (230/1): أنه في سنة 711هـ نزل أمير يعرف ببلاط في نفر من الحجارين والقطاعين، وكسروا الصنم المعروف بالسرية (وكان مقابل أبي الهول) وقطعوه أعتاباً وقواعد.
كما ذكر أن في زمنه قام شيخ صالح لتغيير أشياء من المنكرات وسار إلى الأهرام، وشوّه وجه أبي الهول وشعثه، فهو على ذلك إلى اليوم.
أضف إلى ذلك أن ما لم يدمر منها كان لعذر فلا يتصور فيمن هم أتقى وأعلم منا مخالفتهم لأحكام الشرع، فإن تركوا شيئاً فهو لمانع منعهم، ومن أمثاله: 1 ـ عدم معرفتهم بالأصنام فمنها ما كان مدفوناً أو في مناطق نائية لم يعلم عنها المسلمون. ذكر ذلك المقريزي (ت 845هـ) في كتابه الخطط (122/1) والزركلي في كتابه شبه جزيرة العرب (1188/4)، وهذا المانع مرفوع اليوم، فالأصنام التي يتكلم عنها معلومة ليست مجهولة.
2 ـ عدم قدرتهم على تدميرها لما يستلزمه ذلك من نفقة كثيرة وتسخير عدد كبير من العمال لمدة طويلة من الزمن، فلم تكن الآلات والمتفجرات الحديثة موجودة فيما مضى، وقد ذكر ابن خلدون في (المقدمة ص 383) «أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة، حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان، وقال أيضاً لذلك نجد آثاراً كبيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها، مع أن الهدم أيسر من البناء» ومثل لذلك بمثالين: الأول: أن الرشيد عزم على هدم إيوان كسرى، فشرع في ذلك وجمع الأيدي والفؤوس وحماه بالنار وصب عليه الخل حتى أدركه العجز.
الثاني: أن المأمون أراد أن يهدم (الأهرام) في (مصر) فجمع الفعلة ولم يقدر.
3 ـ ضعف السلطة وعدم إحكام سيطرتها في الأماكن النائية عن مركز الخلافة، لا سيما أنه كانت هناك ديانات توازي أعداد المسلمين إن لم يكن أكثر. وهذا المانع رفع في زمن الناس هذا وبذلك يكون من الواضح أن من علم الحكم من المسلمين المتقدمين ولم يمنعه مانع من إيقاع الحكم بهدم الأصنام هدمها، فلا يحتج بما منعهم في الزمن السابق لوجود الاستطاعة الآن، والدليل أن الأصنام هُدمت، أما من جهل الحكم من المتقدمين فنحن اليوم نعلمه، والذي يعلم حجة على من لا يعلم، أما من علمه وطبقه جزئياً أو لم يطبقه فالحجة قائمة عليه، فعدم تطبيق الحكم الشرعي من بعض المكلفين أو حتى من عمومهم لا يغير في الحكم الشرعي شيئاً، فالمكلف مأمور بالعلم ومن ثم بالتطبيق، أما النهج على سير الأقدمين تقليداً لهم مع الجهل فتلك حجة يذكرها القرآن دائماً في معرض الذم والتقريع قال تعالى: (بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى اثارهم مهتدون
*) [الزخرف: 22]، وحسبنا أن نتدبر قول اللّه تعالى: (الَّذِينَ إِن مكناهم في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوة وَءَاتَوُاْ الزَّكّوةَ وَأَمَرُواْ بِالمعروفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمورِ) [الحج: 41].
ثالثاً: قولهم: «إن توقيت القرار غير مناسب، أو أنهم لو سبقوا هذا بتمهيد أو نحوه لكان أفضل».
فالجواب هو: أن هذا الأمر من هذه الجهة اجتهاد في التوقيت المناسب ليس إلا، وليس اجتهاد أحد في مثل هذا الأمر ـ التوقيت ومناسبته ـ بحجة على أحد، ومن ناحية أخرى: فإن معرفة التوقيت المناسب في الحقيقة موكولة إلى أهل الاختصاص والولاية الزمانية والمكانية وهم (أي طالبان) ولاة الأمر هناك من حاكم ومن معه من علماء، هم الذين لهم الحق في تقدير الوقت المناسب، وهم مكلفون بحفظ الدين والذب عنه، بحسب المصالح والمفاسد التي يرونها هم، لا بحسب ما يراه الآخرون عن بعد! وهذا لا يمنع من اختلاف البعض معهم في تقدير الوقت المناسب، ولكنه لا يجيز سلب أهليتهم وأحقيتهم في ممارسة صلاحيتهم على أرضهم، وهو مما تقره الأعراف الدولية. والأصل أن تطبيق أحكام اللّه فور الاستطاعة فإن كان هناك خلل في التوقيت فهو في تأجيلهم هذا الأمر. قال الإمام ابن القيم الجوزيه في كتابه زاد المعاد (506): «انه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فانها شعائر الكفر والشرك، وهي اعظم المنكرات، فلا يجوز الاقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون اللّه، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها وكثير منها بمنزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها، وبها واللّّه المستعان».
رابعاً: قولهم: «إنها دولة إسلامية ولا خوف على أهلها من عبادة الأصنام».
فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه من المقرر شرعاً أن المسلم مُخاطب بتكاليف شرعية مطالب بأدائها ومنها إزالة الشرك وآثاره، والطلب في موضوعنا هذا يقتضي تكسير الأصنام، وأيضاً فإن مظنة الشرك ليست هي العلة الوحيدة من تكسير الأصنام، بل هناك علل وحكم أخرى منها مضاهاة خلق اللّه، والعلة كما قرر علماء الأصول لا تنُقض إذا كان الحكم معللاً بأكثر من علة.
الثاني: أن هذه شبهة قيلت قبل قرون وردها أئمة الإسلام، قال الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد المُتوفى سنة 702هـ في كتابه إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (359/1 ـ 360) في شرح حديث عائشة أم المؤمنين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (إن اولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور فأولئك أشرار الخلق عند اللّه يوم القيامة)، فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل. وقد تظاهرت دلائل الشرع على المنع من التصوير والصور. لقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وأن هذا التشديد كان في ذلك الزمان، لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان، وهذا المعنى لا يساويه في هذا التشديد هذا أو معناه. وهذا القول عندنا باطل قطعاً لأنه ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة، بعذاب المصورين، وأنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم. وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل. وقد صرح بذلك في قوله عليه السلام: المشبهون بخلق اللّه. وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق اللّه.
وقال الشيخ العلامة أحمد شاكر ـ رحمه اللّه ـ في تعليقه على مسند الإمام أحمد (149/12 ـ 150) مجيباً على ذلك أيضاً: (وفي عصرنا هذا كنا نسمع عن أناس كبار ينسبون إلى العلم ممن لم ندرك أن نسمع منهم أنهم يذهبون إلى جواز التصوير كله بما فيه التماثيل الملعونة إلى أن قال: وكان من حجة أولئك أن تأولوا النصوص بربطها بعلة لم يذكرها الشارع ويجعلها مناط التحريم هي فيما بلغنا أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد الناس بالوثنية، أما الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل. فقد ذهبت علة التحريم ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان. ونسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة بالتقرب إلى القبور واللجوء إليها عند الكروب والشدائد، وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر أصحابها بل نسوا نصوص الأحاديث الصريحة في التحريم وعلة التحريم وكنا نعجب لهم من هذا التفكير العقيم والاجتهاد الملتوي وكنا نظنهم اخترعوا معنى لم يسبقوا إليه وإن كان باطلاً ظاهر البطلان حتى كشفنا بعد ذلك أنهم كانوا في باطلهم مقلدين وفي اجتهادهم واستنباطهم مخطئين فرأينا الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 يحكي مثل قولهم، ويرده أبلغ رد، وبأقوى حجة، ثم ساق كلام ابن دقيق العيد الذي نقلناه قريباً. ثم قال: هذا ما قاله ابن دقيق العيد منذ أكثر من 670 سنة يرد على قوم تلاعبوا بهذه النصوص في عصره أو قبل عصره، ثم يأتي هؤلاء المفتون المضللون وأتباعهم المقلدون يعيدونها جذعة ويلعبون بنصوص الأحاديث كما لعب أولئكم من قبل) أ. هـ.
المصدر جريدة الشرق الأوسط عدد رقم 8166 تاريخ السبت 13 محرم 1422هـ
الحمد لله الذي جعلنا خير أمة اخرجت للناس، وصفها سبحانه وتعالى بأعظم الاوصاف الموجبة لهذه الخيرية
امة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، نبينا وامامنا محمد بن عبد الله الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها الا هالك.
وبعد: فقد كثر الحديث وتشعب في الايام الماضية حول ما قامت به (طالبان الافغانية) من تحطيم للاصنام، والتماثيل البوذية الموجودة في احدى المناطق الافغانية، وسبب تشعب الآراء وكثرة الحديث فيها يعود في نظري ـ والله اعلم ـ الى عدة اسباب: الأول: ان الحديث في المسألة لم يكن من زاوية واحدة بل كان من زوايا متفرقة: منها الشرعي، ومنها السياسي، ومنها العاطفي، ومنها النظرة لمصالح متباينة حسب طبيعة المتحدث وتوجهه.
الثاني: ان المنتسبين الى العلم الشرعي الخائضين في هذه المسألة هم انفسهم قد افترقوا في كيفية تقييمها والحكم عليها، وفي حقيقة هذه الاصنام، وفي الدليل الحاكم عليها. هل هو النص او المصلحة؟ متأثرين في كل ذلك بخلفياتهم العلمية والعقدية، وربما الاجتماعية والسياسية.
الثالث: ان المسألة تجاوزت كونها مسألة شرعية، الى ان اضحت (وجهة نظر) يتحدث فيها من يعلم ومن لا يعلم! وقديما قيل: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف! وابتداء اقول: ان حديثي هذا موجه لمن يرتضي الدليل الشرعي حكما وفصلا يجب اتباعه، وهو في جميع اموره يحكم النصوص الشرعية ويعتقد كمالها وصلاحيتها وتفوقها على غيرها. وهذا هو الاصل الذي اوجبه الله على المؤمنين عند الخلاف عملا بقوله عز وجل: (فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول) (النساء:59) ومن لم يرض بحكم الله ورسوله بعد ثبوته وعلمه به، فقد نفى الله عنه الايمان بصريح القرآن، قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء:65).
أما الحكم الشرعي في مسألة هدم الاصنام، فهو واضح ولله الحمد دلت عليه النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة، ومن ذلك: حديث البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي مكة يوم الفتح وحول البيت ستة وثلاثون نصبا، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد.
ومنه ايضا حديث علي رضي الله عنه حين قال لأبي الهياج الاسدي: (الا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان لا تدع تمثالا الا طمسته ولا قبرا مشرفا الا سويته).
فقد ارسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب رضي الله عنه الى صنم طيىء ليهدمه في سنة تسع قال الامام ابن القيم: (قالوا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب في مائة وخمسين رجلا من الانصار على مائة بعير، وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء، ولواء ابيض الى الفلس، وهو صنم طيئ ليهدمه، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم في الفجر فهدموه).
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم لهدم الأصنام، قال هشام بن الكلبي: كانت مناة اقدم من اللات فهدمها علي عام الفتح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت اللات احدث من مناة، فهدمها المغيرة بن شعبة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما اسلمت ثقيف، وكانت العزى احدث من اللات، وكان الذي اتخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة فوق ذات عرق، فهدمها خالد بن الوليد بأمر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح.
وهي سنة الانبياء من قبل كما فعل ابو الانبياء ابراهيم عليه السلام قال الله تعالى: (وتالله لأكيدن اصنامكم بعد ان تولوا مدبرين) (الانبياء:57) قال تعالى: (فجعلهم جذذا الا كبيراً لهم لعلهم اليه يرجعون) (الانبياء:58).
وقوله تعالى (فجعلهم جذذا) اي حطاما، قال تعالى: (فراغ عليهم ضربا باليمين) (الصافات: 93).
وكما فعل موسى عليه السلام مع العجل الذي عبده بنو اسرائيل قال الله تعالى: (قال فاذهب فإن لك في الحياة ان تقول لا مساس وان لك موعدا لن تخلفه وانظر الى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) (طه:97).
وهذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم وامره عليا ـ رضي الله عنه ـ بتكسير الاصنام، دال في اقل احواله على مشروعية هذا الامر، مع قول علماء السلف بوجوبه، وامر مشروع ثابت بالنص يحرم الانكار على فاعله لأنه انكار لمورد النص. والانكار لا يكون الا في حال المخالفة الشرعية الظاهرة من صاحبها والتي ثبت شرعا كونها مخالفة، فكيف بأمر ثبتت مشروعيته في اقل الاحوال؟
بيان الحكمة من هذا الأمر من المقرر شرعا ان الشارع لا يأمر بأمر او يقره الا لانه يحقق للعباد مصلحة او يدفع عنهم مفسدة، وامر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسير الاصنام وفعله ذلك بنفسه، لا بد انه يحقق للعباد مصالح معتبرة، ويدفع عنهم مفاسد متوقعة، وكما هو معلوم فإن حفظ الدين هو اعظم الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بوجوب حفظها، ويكون حفظها من جهتين، من جهة الوجود ومن جهة العدم، فمن جهة الوجود الامر بالايمان والعمل بمقتضى هذا الايمان، اوله التوحيد والدعوة اليه، وتحكيم الشرع وتحصيل العلم الشرعي. ومن جهة العدم رد كل ما من شأنه مخالفة هذا الدين او زعزعة ايمان الناس به، ومحاربة ما يكون سببا في ذلك او مظنة لذلك السبب. ووجود الاصنام بين ظهراني المسلمين لا شك انه مظنة للشرك في القريب العاجل او البعيد الآجل. والشريعة جاءت بسد الذرائع المفضية للمفاسد، وهذا ما علل به علماء الامة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتكسير الاصنام، فقال الامام ابن القيم: (واما محل الصور فمظنة الشرك وغالب شرك الامم كان من جهة الصور والقبور) وقال العلامة ابن حجر في الفتح: «لأنها مظنة الشرك» بل هو السبب الفعلي في وقوع الشرك في الناس كما هو صريح في قصة نوح عليه السلام. وهذا يعني ان الامر متعلق بأهم مسألة وهي التوحيد الذي لا دخول للجنة بدونه، وبالشرك الذي لا نجاة من النار ولا قبول لأي عمل معه.
وهناك حكم أخرى لهذا الامر الشرعي، وهي حكم مطلوب تحصيل ما يحققها في كل عصر، متى ما قدر المسلمون على ذلك ومنها: قيام المكلفين بواجبهم الذي جاءت به الاوامر الشرعية بإزالة الاصنام والنهي عن عبادتها، واظهار انها لا تنفع ولا تضر، وهذا الامر له اثره البالغ في عابديها في كل عصر، لما يرون ان آلهتهم ـ كما يزعمون ـ تكسر بلا حول ولا قوة، ولا تستطيع ان تدفع عن نفسها شيئا، فيبدأ الواحد منهم يفكر: كيف اعبد إلهاً هذا حاله؟ ولهذا شواهد من قصص اسلام الصحابة كعمرو بن الجموح وراشد بن عبد ربه وغيره، وهي قصص مشهورة.
وهذه مصالح ظاهرة مقصودة شرعا تأتي تبعا لتحقيق هذا الامر الشرعي. وهذا من ناحية الحكم الشرعي وحكمه ومصالحه.
شبهات وردود اما من ناحية الاعتراضات (الشبه) التي حاولت استقصاءها من خلال ما سمعت وقرأت من نقاش واحاديث، فسأحاول ـ بحول الله ـ عرضها، ومن ثم مناقشتها بما يفتح الله به، وهو المستعان ومنه وحده التوفيق: اولا: قولهم (انها اصنام قديمة موجودة قبل الاسلام فتبقى كما كانت) فتمشيا مع قولهم هذا، فإن الاستدلال ينتقض عليهم، ووجه ذلك: ان كان الاقدم عندهم هو (الاحسن)، وانه هو ما ينبغي العودة اليه، فإن الاقدم هو ما كان وقت آدم عليه السلام وهو التوحيد الخالص الخالي من الشرك، اذ لم تكن آنئذ اصنام مطلقا فالوقت الذي وجدت فيه الاصنام ليس بأولى في اعتباره من الوقت الذي لم توجد فيه اصنام فإن عادوا وقالوا: ان الاحسن هو الاحدث، فالاحدث هو انها هدمت، فيكون هدمها هو الاحسن، فإن عادوا وقالوا: ان ما كان على مر العصور ادوم هو الاحسن، فالادوم والذي يمثل التراث الانساني هو ما كان عليه الانبياء ومن تبعهم باحسان حيث لم يجز اي منهم عبادة الاصنام ولا ابقاءها فيكون هدمها هو الاحسن بل هو الواجب. وبلا شك فإن ازمان الانبياء واتباعهم المؤمنين بهم هي اهدى العصور وهي تقر هدم كل صنم سواء كان معبودا ام لم يكن، ثم من جهة اخرى وبالمقابل من اين يبدأ تاريخ الاسلام؟ ان الاسلام ليس حادثا مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو قديم قدم الانسانية، وهو دين الانبياء جميعا الذين بعثهم الله به الى اممهم. قال الله تعالى: (ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) (آل عمران:67).
وقال الله تعالى: (ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وانتم مسلمون) (البقرة:132).
فالاسلام هو التوحيد الخالص، وهو دين الانبياء جميعا، وجوهر دعوتهم جميعا: ان اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وما ارسل الله من رسول الا اوحى اليه بذلك قال الله تعالى: (وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه انه لا إله الا انا فاعبدون) (الانبياء:25) وكما هو مقرر في القرآن العظيم في مواضع كثيرة جدا. وقد جاء في الحديث ان الانبياء اولاد علات دينهم واحد وشرائعهم مختلفة.
ثانيا: قولهم: «ان المسلمين المتقدمين لهم يهدموها» وهو كلام لا دليل عليه، فالتاريخ الاسلامي حافل بذكر الاصنام الكثيرة التي هدمها المسلمون في تلك البلاد وقد ورد ذكرها في الكتب التي ذكرت الاصنام ومنها كتاب (الاصنام) الذي جمعه ابو المنذر هشام الكلبي. وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته ان الخليفة المأمون حاول تدمير الاهرام وضربها بالمنجنيق ولم يؤثر ذلك الا في احداث ثلم فيها، كما ذكر ابن اياس في (بدائع الزهور) ان صنم (ابو الهول) كان مدفونا في الرمال ولم يكن يظهر منه الا رأسه، وانه كان يوجد قبالته صنم آخر قام الملك محمد الناصر قلاوون 711هـ بتدميره، وقطعه وجعل منه اعتابا وقواعد، وجاء في كتاب: «تركستان من الفتح العربي الى الغزو المغولي»، تأليف المستشرق الروسي بارثولد، وترجمة عثمان عمر (ص 203) ان المسلمين في مناطق من تركستان هاجموا بعض مراكز المجوس للعبادة وخلعوا ابوابها، وكشطوا ما عليها من وجوه منقوشة وجعلوها ابوابا للمساجد. اضف الى ذلك ما ذكره صاحب مروج الذهب (2/535) عن بيت غمدان بصنعاء حيث قال: (وكان الضحاك بناه على رسم الزهرة وخربه عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فهو في وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة خراب قد هدم فصار تلاً عظيماً).
وما ذكره ايضا (2/536) بقوله: (والبيت السادس كاوسان، بناه كاوس الملك بناء عجيبا على اسم المدبر الاعظم (اي عندهم) من الاجسام السماوية وهو الشمس، بمدينة فرغانة من مدائن خراسان، وخربه المعتصم بالله).
ومن ذلك ما قاله ايضا عند ذكره البيوت المعظمة عند اليونانيين (2/537) بيت انطاكية: من ارض الشام على جبل بها داخل المدينة والسور محيط بها وقد جعل المسلمون في موضعه مرقبا لينذرهم من قد رتب فيه من الرجال بالروم إذا وردوا من البر والبحر وكانوا يعظمونه ويقربون فيه القرابين، فخرب عند مجيء الاسلام.
ومما قاله أيضاً (547/2): «وفي وسط مدينة جور ـ من أرض فارس ـ بنيان كانت تعظمه الفرس يقال له الطربال خربه المسلمون».
ومما ذكر أيضا (547/2) بقوله: «وبيت نار على خليج القسطنطينية من بلاد الروم، بناه سابور بن اردشير بن بابك وهو سابور الجنود حين نزل على هذا الخليج وحاصر القسطنطينية في عساكره، فلم يزل هذا البيت هنالك الى خلافة المهدي فخرب، وله خبر عجيب».
وعن السلطان محمود بن سبكتكين فاتح الهند ـ رحمه الله تعالى ـ قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية (22/12 ـ 23) في حوادث سنة 418هـ: انه ورد فيها كتاب محمود بن سبكتكين: (يذكر انه دخل بلاد الهند وأنه كسر الصنم الأعظم الذي لهم المسمى بسومنات، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة، التي لا توصف ولا تعد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالاً، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات، ثم استخار اللّه السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده وكثرة الهنود في طريقه والمفاوز المهلكة والأرض الخطرة في تجشم ذلك في جيشه، وأن يقطع تلك الأهوال إليه، فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفاً من المقاتلة، ممن اختارهم لذلك سوى المتطوعة فسلمهم اللّه حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ونزلوا بساحة عباده، فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة، قال: فما كان أسرع أن ملكناه من أهله خمسين ألفاً، وقلعنا هذا الوثن وأوقدنا تحته النار. وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم فأشار من أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير اللّه عزْ وجلْ، فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة أين محمود الذي كسر الصنم؟ أحب إليَّ من أن يقال الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا ثم عزم فكسره ـ رحمه اللّه ـ فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من اللّه له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فرحمه اللّه وأكرم مثواه).
وهذا خبرُ قاهر الصليبيين، ومحطم دولة الكفر العبيدية في مصر ـ صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه اللّه رحمة واسعة ـ كما ذكره الإمام الحافظ المقريزي المصري ـ رحمه اللّه ـ في الخطط (210/1) حيث قال: «اعلم ان الأهرام كانت بأرض مصر كثيرة جداً، منها بناحية بوصير شيء كثير، بعضها كبار وبعضها صغار وبعضها طين ولبن، وأكثرها حجر، وبعضها مدرج، وأكثرها مخروط أملس، وقد كان منها بالجيزة تجاه مدينة مصر عدة كثيرة، كلها صغار هدمت في أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي على يد قراقوش ـ وهو وزيره ـ وبنى قلعة الجبل والسور المحيط بالقاهرة ومصر والقناطر التي بالجيزة».
وقال الإمام السيوطي المصري ـ رحمه اللّه تعالى ـ في حسن المحاضرة (68/1): (قال صاحب المرآة «وهو سبط ابن الجوزي»: وحكى جدي عن ابن الناوي أنه قال: حسبوا خراج الدنيا مراراً فلم يف بهدمها. قال صاحب المرآة: هذا وَهْمّ، فإن صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر بأن يؤخذ منها حجارة يبني بها قنطرة وجسراً فهدموا منها شيئاً كثيراً».
وذكر المقريزي في الخطط (230/1): أنه في سنة 711هـ نزل أمير يعرف ببلاط في نفر من الحجارين والقطاعين، وكسروا الصنم المعروف بالسرية (وكان مقابل أبي الهول) وقطعوه أعتاباً وقواعد.
كما ذكر أن في زمنه قام شيخ صالح لتغيير أشياء من المنكرات وسار إلى الأهرام، وشوّه وجه أبي الهول وشعثه، فهو على ذلك إلى اليوم.
أضف إلى ذلك أن ما لم يدمر منها كان لعذر فلا يتصور فيمن هم أتقى وأعلم منا مخالفتهم لأحكام الشرع، فإن تركوا شيئاً فهو لمانع منعهم، ومن أمثاله: 1 ـ عدم معرفتهم بالأصنام فمنها ما كان مدفوناً أو في مناطق نائية لم يعلم عنها المسلمون. ذكر ذلك المقريزي (ت 845هـ) في كتابه الخطط (122/1) والزركلي في كتابه شبه جزيرة العرب (1188/4)، وهذا المانع مرفوع اليوم، فالأصنام التي يتكلم عنها معلومة ليست مجهولة.
2 ـ عدم قدرتهم على تدميرها لما يستلزمه ذلك من نفقة كثيرة وتسخير عدد كبير من العمال لمدة طويلة من الزمن، فلم تكن الآلات والمتفجرات الحديثة موجودة فيما مضى، وقد ذكر ابن خلدون في (المقدمة ص 383) «أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة، حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان، وقال أيضاً لذلك نجد آثاراً كبيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها، مع أن الهدم أيسر من البناء» ومثل لذلك بمثالين: الأول: أن الرشيد عزم على هدم إيوان كسرى، فشرع في ذلك وجمع الأيدي والفؤوس وحماه بالنار وصب عليه الخل حتى أدركه العجز.
الثاني: أن المأمون أراد أن يهدم (الأهرام) في (مصر) فجمع الفعلة ولم يقدر.
3 ـ ضعف السلطة وعدم إحكام سيطرتها في الأماكن النائية عن مركز الخلافة، لا سيما أنه كانت هناك ديانات توازي أعداد المسلمين إن لم يكن أكثر. وهذا المانع رفع في زمن الناس هذا وبذلك يكون من الواضح أن من علم الحكم من المسلمين المتقدمين ولم يمنعه مانع من إيقاع الحكم بهدم الأصنام هدمها، فلا يحتج بما منعهم في الزمن السابق لوجود الاستطاعة الآن، والدليل أن الأصنام هُدمت، أما من جهل الحكم من المتقدمين فنحن اليوم نعلمه، والذي يعلم حجة على من لا يعلم، أما من علمه وطبقه جزئياً أو لم يطبقه فالحجة قائمة عليه، فعدم تطبيق الحكم الشرعي من بعض المكلفين أو حتى من عمومهم لا يغير في الحكم الشرعي شيئاً، فالمكلف مأمور بالعلم ومن ثم بالتطبيق، أما النهج على سير الأقدمين تقليداً لهم مع الجهل فتلك حجة يذكرها القرآن دائماً في معرض الذم والتقريع قال تعالى: (بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى اثارهم مهتدون
*) [الزخرف: 22]، وحسبنا أن نتدبر قول اللّه تعالى: (الَّذِينَ إِن مكناهم في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوة وَءَاتَوُاْ الزَّكّوةَ وَأَمَرُواْ بِالمعروفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمورِ) [الحج: 41].
ثالثاً: قولهم: «إن توقيت القرار غير مناسب، أو أنهم لو سبقوا هذا بتمهيد أو نحوه لكان أفضل».
فالجواب هو: أن هذا الأمر من هذه الجهة اجتهاد في التوقيت المناسب ليس إلا، وليس اجتهاد أحد في مثل هذا الأمر ـ التوقيت ومناسبته ـ بحجة على أحد، ومن ناحية أخرى: فإن معرفة التوقيت المناسب في الحقيقة موكولة إلى أهل الاختصاص والولاية الزمانية والمكانية وهم (أي طالبان) ولاة الأمر هناك من حاكم ومن معه من علماء، هم الذين لهم الحق في تقدير الوقت المناسب، وهم مكلفون بحفظ الدين والذب عنه، بحسب المصالح والمفاسد التي يرونها هم، لا بحسب ما يراه الآخرون عن بعد! وهذا لا يمنع من اختلاف البعض معهم في تقدير الوقت المناسب، ولكنه لا يجيز سلب أهليتهم وأحقيتهم في ممارسة صلاحيتهم على أرضهم، وهو مما تقره الأعراف الدولية. والأصل أن تطبيق أحكام اللّه فور الاستطاعة فإن كان هناك خلل في التوقيت فهو في تأجيلهم هذا الأمر. قال الإمام ابن القيم الجوزيه في كتابه زاد المعاد (506): «انه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فانها شعائر الكفر والشرك، وهي اعظم المنكرات، فلا يجوز الاقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون اللّه، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها وكثير منها بمنزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها، وبها واللّّه المستعان».
رابعاً: قولهم: «إنها دولة إسلامية ولا خوف على أهلها من عبادة الأصنام».
فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه من المقرر شرعاً أن المسلم مُخاطب بتكاليف شرعية مطالب بأدائها ومنها إزالة الشرك وآثاره، والطلب في موضوعنا هذا يقتضي تكسير الأصنام، وأيضاً فإن مظنة الشرك ليست هي العلة الوحيدة من تكسير الأصنام، بل هناك علل وحكم أخرى منها مضاهاة خلق اللّه، والعلة كما قرر علماء الأصول لا تنُقض إذا كان الحكم معللاً بأكثر من علة.
الثاني: أن هذه شبهة قيلت قبل قرون وردها أئمة الإسلام، قال الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد المُتوفى سنة 702هـ في كتابه إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (359/1 ـ 360) في شرح حديث عائشة أم المؤمنين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (إن اولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور فأولئك أشرار الخلق عند اللّه يوم القيامة)، فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل. وقد تظاهرت دلائل الشرع على المنع من التصوير والصور. لقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وأن هذا التشديد كان في ذلك الزمان، لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان، وهذا المعنى لا يساويه في هذا التشديد هذا أو معناه. وهذا القول عندنا باطل قطعاً لأنه ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة، بعذاب المصورين، وأنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم. وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل. وقد صرح بذلك في قوله عليه السلام: المشبهون بخلق اللّه. وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق اللّه.
وقال الشيخ العلامة أحمد شاكر ـ رحمه اللّه ـ في تعليقه على مسند الإمام أحمد (149/12 ـ 150) مجيباً على ذلك أيضاً: (وفي عصرنا هذا كنا نسمع عن أناس كبار ينسبون إلى العلم ممن لم ندرك أن نسمع منهم أنهم يذهبون إلى جواز التصوير كله بما فيه التماثيل الملعونة إلى أن قال: وكان من حجة أولئك أن تأولوا النصوص بربطها بعلة لم يذكرها الشارع ويجعلها مناط التحريم هي فيما بلغنا أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد الناس بالوثنية، أما الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل. فقد ذهبت علة التحريم ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان. ونسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة بالتقرب إلى القبور واللجوء إليها عند الكروب والشدائد، وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر أصحابها بل نسوا نصوص الأحاديث الصريحة في التحريم وعلة التحريم وكنا نعجب لهم من هذا التفكير العقيم والاجتهاد الملتوي وكنا نظنهم اخترعوا معنى لم يسبقوا إليه وإن كان باطلاً ظاهر البطلان حتى كشفنا بعد ذلك أنهم كانوا في باطلهم مقلدين وفي اجتهادهم واستنباطهم مخطئين فرأينا الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 يحكي مثل قولهم، ويرده أبلغ رد، وبأقوى حجة، ثم ساق كلام ابن دقيق العيد الذي نقلناه قريباً. ثم قال: هذا ما قاله ابن دقيق العيد منذ أكثر من 670 سنة يرد على قوم تلاعبوا بهذه النصوص في عصره أو قبل عصره، ثم يأتي هؤلاء المفتون المضللون وأتباعهم المقلدون يعيدونها جذعة ويلعبون بنصوص الأحاديث كما لعب أولئكم من قبل) أ. هـ.
المصدر جريدة الشرق الأوسط عدد رقم 8166 تاريخ السبت 13 محرم 1422هـ