PDA

View Full Version : إذا رضواعنك تغاضوا عن أخطائك وإن سخطواعليك فتّشوا لك عن زلة


أبو لـُجين ابراهيم
15-04-2001, 07:23 PM
إذا رضواعنك تغاضوا عن أخطائك وإن سخطواعليك فتّشوا لك عن زلة مثل النملة

الفهم الخاطئ بأن التصويب يقتضي إهدار الفضل:

فكما أننا مطالبون أن نقبل قول المجتهد كله؛ فلا ننكر له خطأً، ولا نرد له رأياً، وإن عري من الدليل، حتى نثبت أننا نوقره ونحفظ له فضله!! ولا تلازم بين رد الخطأ وإهدار الفضل، ولا بين حفظ الفضل والمتابعة على المخالفة، ولكن نصون لأهل العلم مكانتهم دون أن ننزل كلامهم منزلة الوحي المعصوم ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) {البقرة: 237 وإذا رددنا لمقدَّم رأياً؛ فبرأي مقدَّم مثله يسنده الدليل، ولكليهما كامل التوقير.

قال العلامة ابن قيم الجوزية: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتَّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين.

وقال ـ أيضاً ـ: "فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِك جملةً وأهدرت محاسنه.. لفسدت العلوم والصناعات، وتعطلت معالمها.

وقال الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ: ".. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه.. يغفر له الله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك".

وقال أيضاً: "وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، قد يغفر الله له لاستفراغه الوسع في طلب الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ".. ومتى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مئتين أخطأت فيهن، فإني لا أدعي العصمة.

فشتان شتان بين النقد والنقض.. فالنقد: بيان للخطأ ـ كما يوجبه الشرع ـ دون إهدار المحاسن، والنقض: هدم للعالم بحسناته وسيئاته!!

والناس اليوم في أحد أمرين اثنين أو يكادون: الأول: إذا رضوا عنك تغاضوا عن أخطائك ولو كانت مثل جبل، والثاني: إن سخطوا عليك فتَّشُوا لك عن زلة ولو كانت قدر نملة..

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تُبدي المساويا

ورحم الله الإمام الشعبي إذ يقول: "لو أصبت تسعاً وتسعين، وأخطأت واحدة.. لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين.

إذن: المراجعة لا تقتضي إهدار الفضل، ولو اقتضته فلا رجحان لمفسدته أمام مفسدة الإقامة على المخالفة.

المعوق الثاني عشر: المراجعة لا تقتضي بالضرورة تأثيم المجتهد المخطئ أو تبديعه، وإن اقتضت تصويب خطئه وبيان غلطه على وجه التحري والإنصاف:

وذلك مبني على أصول قررها أئمتنا:

منها: أن الحق المطلق لا ينحصر في واحد من الأمة، وإن وجد في عمومها على الدوام.

ومنها: ليس كل من اجتهد يتوصل بالضرورة إلى معرفة الحق في كل مسألة يجتهد فيها، وهو معذور فيما يخطئ فيه بل مأجور عليه، ما بذل الوسع في فعل المأمور وترك المحذور وأخذ بأسباب ذلك قدر جهده.

ومنها: أن الرجل من أئمة العلم قد يجتهد في مسألة أو أكثر فلا يصيب الحق ويوافق من حيث لا يقصد أهل البدع، فلا يلزم من ذلك أن يُبدَّع، وإن وُصِفَ قوله بالبدعة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا:

(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) البقرة: 286.

فإذا اجتهد الإنسان في طلب الحق من الكتاب والسنة، وأخطأ في اجتهاده فهو مغفور له بنص الآية الآنفة، وكذا إذا استفرغ العالم وُسْعه في طلب الحق من الكتاب والسـنة وأخطأ في بعض مسائل الاعتقاد فإنــه لا يُبدَّع ولا يهجر من أجل خطئه أو أخطائه، وإن كان يقال في قوله: قول مبتدَع. لكن لا يلزم من ذلك أن يكون مبتدِعاً، فكما أن القول الكفري لا يلزم منه أن يكون صاحبه كافراً، فكذلك لا يلزم أن يكون قائل البدعة مبتدعاً، وكما أن تكفير المعين يحتاج إلى استيفاء شروط وانتفاء موانع؛ فكذلك تبديع المعين يحتاج إلى استيفاء شروط وانتفاء موانع، وعلى هذا فلا نبدِّع أمثال الحافظ ابـن حجـر العسقلانـي، والقاضـي أبي بكـر بن العربي ـ كما يفعله بعض المتسرعين ـ؛ لأننا علمنا من سيرتهم تحريهم للحق وحرصهم على السنة، بل يُذكر للحافظ ابن حجر انتصاره لمذهب أهل السنة في الأسماء والصفات، في مواطن عدة مـن كتبه، بل وذمُّه للمذهـب الأشعري الذي يرميه به هؤلاء المجترئون على الأئمة؛ فمن كان من ذوي الفضل في مثل حال هذين الإمامين الجليلين: بيَّنا خطأه، وأنه وافق الفرقة الفلانية في هذه المسألة، وإن كان ليس هو منهم، ولا على منهجهم في الاعتقاد.

ويقول شيخ الإسلام ـ أيضاً ـ: "والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع"(2).
ويقول الإمام الذهبي: "ولو أنَّا كلما أخطأ إمام خطأً في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له، قمنا عليه وبدَّعناه، وهجرناه، لَـمَا سلم معنا ابن نصر، ولا ابن مَنْده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو الهادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة.

ويقول ـ رحمه الله ـ: "ونحب السنة وأهلها، ونحب العَالِم على مـا فيه مـن الاتبـاع والصفـات الحميــدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة: بكثرة المحاسن.

فلو ساد هذا الفهم لما رأى أحدنا غضاضة من أن يُخطَّأ شيخُه أو طائفته، ولما حنق على المصوِّب أو الناقد، رائياً إياه متهجماً مجترئاً مهدراً لمكانة الشيخ أو الطائفة.

المرجع باختصار مجلة البيان للكاتب مصطفى المقرئ