PDA

View Full Version : ،، خطبة الجمعة..والسؤال الخطير ،،


كلاسيك
19-04-2001, 10:37 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،


صعد الإمام المنبر، ورُفع الأذان الثاني، فسلّم على المصلين ثم عمد إلى خطبته فافتتحها، ثم بدأ بقراءة سورة "ق" واسترسل قارئًا، فطرح أسئلتها، "أفلم ينظروا"؟ "أفعيينا بالخلق الأول"؟ فاستطرد فتحدث بلسان السورة عن السماء والنخل وحب الحصيد، وظننت أنه سيدخل في موضوع الخطبة، فجمعت كل ما لديّ من قدرة على الفهم والانتباه، لكنه مضى مرتِّلا مخاطبًا بترتيله الجمهور، بعد أن نجح أيّما نجاح في جذب انتباهه وهو يقرأ: "وجاءت سكرة الموت بالحق" "وجاءت كل نفس" مشيرًا بيديه، معبِّرًا بقسمات وجهه، رافعًا خافضًا صوته مع السياق، معيدًا مكرِّرًا الآيات حسب موقعها وظلالها وجريها وما يحيط بها من معاني الترهيب أو الترغيب أو الترشيد، ثم ختم "فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد" ثم أدَّى ملاحظة بسيطة قال فيها: "إنه لم يُرِد أن يتكلم بغير القرآن وهو على منبر ينوب فيه عن صاحبه - وقصد بذلك الشيخ الجليل يوسف القرضاويّ" ثم أمر بإقامة الصلاة ونزل فأمَّ الناس!!
كانت تلك أبلغ خطبة سمعتها في حياتي، وكان ذلك الشيخ الجليل "صلاح عزب" الذي أدَّى خطبة الجمعة تلك في مسجد "عمر بن الخطاب" في قطر، أواخر شهر سبتمبر الماضي، ونقلت خطبته تلك "الفضائية القطرية" في بث مباشر.
وأستطيع أن أؤكد أنني لم أتأثر بخطبة كما تأثرت بها، وقد سمعت سورة " ق " مرتلة بكاملها وبشكل متميز، من منظور خاص جعل لها تأثيرًا في فكري ونفسي.
"خطب الجمعة" كانت وما تزال وستبقى، منابر حوار، وتربية في حياة هذه الأمة، وإنه لمن مفارقات الأمور ألا نسمع بخطبة استثنائية من هذا الطراز، إلا في النادر القليل، كما إنه لمن مفارقات الأمور أن يكون حال هذه الأمة على ما نعلم، وهي التي تتمتع بأكبر حجم عرفه التاريخ من منابر الوعظ الجماهيري في مجال التوجيه الديني، من حيث: العدد ، والاستمرارية ، والرسوخ في ضمير الأمة وعاداتها وثقافتها الاجتماعية، وذلك على الرغم من الرقابة السياسية الدائبة، والتي آلت على نفسها ضبط هذه المنابر لأن السلطات كانت دائمًا أشد إدراكًا لخطورتها من أصحابها الذين حَملوا هذه الأمانة أو حُمّلوها.
وعلى الرغم من أن عصر الفضائيات لم يقدم الشيء الكثير في مجال نشر خطبة الجمعة، لكنه شق طريق هذه الخطبة إلى بيوت الناس عبر البثّ الفضائي، وأوصل نبض المساجد بصورة رئيسية إلى النساء، اللاتي جرت العادة في بلادنا أن يُمنعن المساجد، على العكس تمامًا من أوامر النبي وسلوك الرعيل الأول!
السؤال الملح والخطير هل استطاع خطباء الجمعة الاستفادة من خطبتهم الإعلامية الاستثنائية هذه، وهل استطاعوا أن يطوّروا من أساليبهم ولغتهم وأدائهم حتى يصبحوا في مستوى ما يتطلبه واقع الفضائيات الجديد؟!!
ولا بد من اغتنام الفرصة هنا للحديث عن العجز العام الذي يعانيه خطباء الجمعة، في مجالين ذوي سطوة شديدة، وفعل نفاذ في حياتنا، هما: السلطة السياسية، وسلطان ما تعارف عليه المجتمع من عادات وتقاليد وقيم مستمدة من الجاهليات الموروثة عن مختلف الأمم التي اختلطت بالعرب ودخلت الإسلام، وهذا العجز يتجلَّى في عدم القدرة على مواجهة الحاكم، بله الكف عن المبالغة في مدحه وذكره، وفي الانخزال العجيب في الإشارة إلى مواضع الخلل الحقيقي في المجتمع، خوفًا من بطش السلطة من جهة، وخوفًا من قيام المجتمع بنزع المصداقية من المتصدين له من جهة أخرى.
لكن هذا الخوف في الحالة الأولى يُعبّر عن نفسه بصورة عجيبة، حتى أن بعض خطب الجمعة في بعض الفضائيات لا يمكن احتمال الاستماع إليها، ولا هضمها فضلاً عن ازدهارها، بل إن جمهورًا عريضًا من الناس -أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا- ليفضل رؤية "البوبس توبس" أو "سباق الأغاني" قبل أن يستمع إلى هذا النوع من الخطب التي تفوح منها روائح عفن النفاق، وتفسُّخ العلم، وجيفة البلاء، التي تتمثل في مديح الحكام إلى درجة سقوط لحم وجه التاريخ حياءً مما يفعل هؤلاء الذين زيَّنوا وجوههم باللحى، واعتلوا المنابر، وراحوا يجعجعون بفضيحتهم عبر الفضائيات التي تتلقّط ما يبلغ الآفاق من حق ومن باطل، والأعجب من ذلك أن تجد تلك الفضائيات التي تقدم خطب الجمعة هذه، وقد صارت مرآة صدق تعكس واقع تلك البلدان التي وصل القمع والإذلال والظلم فيها درجة قولبة الشعب كله، وإدخاله في هاوية الغياب الإنساني والفكري، ودفعه في طريق الغباء الجماعي منقطع النظير، والذي لا تستحي من عرضه على العالم من خلال الفضائيات، وتصديره على أنه التفوّق والتميّز والتقدّم، وربما الديمقراطية، والأدهى من ذلك والأمرّ أن معظم هذه الدول هي من مجموعة البلاد التي ملأت الدنيا صياحًا بشعارات التقدمية والثورية والانفتاق من الرجعية، فإذا بها أكثر رجعية، وأشد تخلفًا، وأبعد استعباداً لإنسانها، وتشويهًا لتاريخها، من تلك الممالك الخيالية القائمة في حكايات الجدة والعفاريت الخارجية من جعبة شياطين القصص الروائي الخيالي المتطرف، وليس أبلغ من خطب الجمعة المبثوثة في فضائيات هذه البلدان كدليل على تخلف إنسانها، وتقلّص القدرات النفسية والعقلية لأئمتها، وضمور مشاعر الكرامة والتحدي لديهم، وإن الكلمة من قول الخطباء لتدور مع الذبذبات الكهربائية، فيلتقطها من يلتقطها، فتصلي الملائكة على معلمي الناس الخير، وتلعن منهم أولئك الذين لم يعرفوا، خطورة ما يفعلون وما يقولون

كلاسيك
19-04-2001, 10:38 AM
الكاتبة / نوال السباعي