د . عبد الله قادري الأهدل
02-05-2001, 02:12 PM
الإيمان ونقصانه(4)
التنبه الخامس: أن الإيمان يزيد بالفقه في الدين والعمل به، وينقص بالجهل بالدين، والمعاصي، وقد دلت على ذلك الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.
فمن الآيات قول الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} الأنفال:2
وقوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} مريم: 76
وقوله: ويزداد الذين آمنوا إيمانا} المدثر: 31، وقوله: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} الفتح: 4
وقوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} آل عمران: 173
ومن الأحاديث حديث أبي هريرة، رضي الله عنه،عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم:(الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).[ البخاري (1/51) بشرح فتح الباري، ومسلم (2/5) بشرح النووي، واللفظ له]
وحديث أنس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال:لا إله إلا الله وفي قلبه وزن من خير).وفي رواية (من إيمان) مكان (من خير). [ البخاري (1/103) بشرح فتح الباري]
وفي حديث أبي سعيد الخد ري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان..). [ متفق عليه، وهو في: اللؤلؤ والمرجان (برقم: 116، ص: 47)]
قال الإمام النووي، رحمه الله-بعد أن ذكر مذاهب العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه-: (فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف وأئمة الخلف، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف والمحدثين، وجماعة من المتكلمين... قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص، بزيادة ثمراته وهي الأعمال، ونقصانها...-إلى أن قال: فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم، فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر، رضي الله عنه، لا يساويه تصديق آحاد الناس..). [شرح النووي على مسلم: (1/148). وراجع الفتاوى، لابن تيمية (7/223، 562) فقد ذكر-بالتفصيل- الوجوه التي يكون بها زيادة الإيمان ونقصانه، وهو بحث مفيد جدا، ومنطقي]
(5) الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان
لإيمان بأن الله هو خالق ا لكون ومدبره
سبق أن أساس التسليم المطلق من العبد لربه سبحانه وتعالى، هو الإيمان بالغيب، وهو كل ما أخبر الله به عباده في كتبه، وعلى ألسنة رسله، عليهم الصلاة والسلام، وذلك شامل لما أخبر به تعالى عن نفسه، أو عن ملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتلك هي أصول الإيمان، وفي حكمها كل التفاصيل الإيمانية الواردة في الكتاب والسنة-الثابتة-من أخبار الغيب، ما مضى منها وما سيأتي، ولهذا كانت أول صفات المتقين هي الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: {ا لم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب}البقرة:3.
الإيمان بالغيب يميز الإنسان عن الحيوان
و الإيمان بالغيب يفرق بين الإنسان والحيوان الذي لا يشعر إلا بالمحسوسات المادية، من طعام وشراب ونحوهما، ولهذا كان الكافر من البشر أضل في ميزان الله من الحيوان، كما قال تعالى: {ولقد ذر أنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}. الأعراف: 179
ومن الإيمان بالغيب الإيمان بأن الله تعالى، هو وحده خالق الكون بسماواته وأرضيه، وما فيهما وما بينهما، وأنه سيدها ومدبرها إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
شذوذ منكر وجود الخالق
وقد اتفقت على وجود خالقٍ لهذا الكون ومدبر لشؤونه الأمم كلها، على تعاقب أجيالها-وإن اختلفت تصوراتها لهذا الخالق المدبر-ولهذا كان هذا الإقرار من كل الأمم سببا في استدلال الرسل عليهم الصلاة والسلام به على كون هذا الخالق المدبر هو وحده الذي يستحق أن يعبد، ولا يستحق العبادة سواه، وهذا المعنى أي كون الله وحده يستحق العبادة دون سواه-هو الذي كان الكفار ينكرونه-بخلاف المعنى الأول -وهو كون الله هو الخالق المدبر-فإنهم كانوا يقرون به، وكان هو حجة الرسل عليهم فيما أنكروه.
والذين أنكروا كون الله هو الخالق المدبر، كانوا قلة شاذة في العالمين، وكان إنكارهم صادرا عن جحود ومكابرة، وليس عن شبهة يحتجون بها، كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [ النمل: 14].
وإنكار هذه الفئة الشاذة لوجود الخالق المدبر، هو أعظم مكابرة من إنكار كون الله تعالى هو المعبود الحق وحده، والذي لا يعترف بوجود الخالق المدبر للكون، لا ينتظر منه أن يقر بوجود معبود واحد من باب أولى، بخلاف من أقر بوجود الخالق المدبر، فإنه-وإن أنكر وجود معبود واحد-لا يستبعد أن يعود عن إنكاره، ويقر بأن الخالق الواحد هو المعبود الحق الواحد، كما وقع ذلك من خلق كثير من المشركين من سائر الأمم.
إ قامة الله الحجة على من أنكر وجوده
ومع أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام-لم يكون في حاجة إلى دعوة الناس إلى الإقرار بهذا التوحيد-أي أن الله هو الخالق المدبر-ولا إلى إقامة الحجة عليه، لإقرار عامة الناس به-وتنزيل الفئة الشاذة منزلة العدم-فإن الله تعالى قد أقام الحجة، على من يحتمل أن يكابر وينكر وجوده في أي زمان، أقام الله الحجة بالأدلة والبراهين القاطعة، على وجوده وتدبيره للكون وأنه المالك المتصرف فيه على مقتضى حكمته، وتلك الحجج والبراهين من الكثرة بحيث لا يمكن أن يحصيها إلا من استطاع أن يحصي كل ما خلق الله وأبدع في هذا الكون العظيم، ومن ذا الذي سيقول: أنا لها؟! فالكون كله كتاب مفتوح، لكل البشر، وكل شيء فيه دليل على الخالق المدبر الواحد. وفي -كل شيء له آية تدل على أنه واحد-.
والقرآن الكريم مليء بهذه الحجج والبراهين في هذا الباب، وهو ينتزع تلك الحجج والبراهين من هذا الكون المفتوح، بحيث يستطيع أن يرى تلك الحجج ويعقلها كل الناس، القارئ والأمي،والعالم والجاهل، بمجرد التأمل القليل الذي لا يحتاج إلى جهد جهيد، وليس من السهل استقصاء تلك الحجج والبراهين التي نصبها الله للدلالة على وجوده وتدبيره للكون، في القرآن الكريم، في هذه الرسالة المختصرة، ولكنا سنذكر شيئا منها، والقرآن الكريم موجود ميسر لمن أراد المزيد في هذا الباب.
قال تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون}. الزمر: 5-6.
وقال تعالى: {أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ءإله مع الله بل هم قوم يعدلون أفمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا ءإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ءْإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ءإله مع الله تعالى عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض ءإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.النمل: 60-64.
وقال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون}. الطور: 35-36.
وقال تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين}. الشعراء: 23-24.
وإذا كان عامة الناس في غابر الزمان قد أقروا بأن الله هو الخالق المدبر لهذا الكون، وكان دعاة التوحيد-من الأنبياء وأتباعهم-يدعون من أقر بذلك إلى ما كانوا ينكرونه-وهو توحيد الألوهية- ويستدلون عليهم فيما أنكروه من هذا التوحيد بما أقروا به،من توحيد الربوبية انسجاما مع الفطرة التي تلزمهم من ذلك الإقرار، فإن فطر كثير من الناس قد فسدت في هذا العصر، حتى بلغ بها تلاعب الشيطان وإضلاله إلى إنكار براهين هذا التوحيد-توحيد الربوبية-التي لا توازيها براهين، إذ هي قمة البراهين، بل أصبحت دول كبرى في العالم تقوم على أساس هذا الإلحاد، وهو إنكار وجود الخالق ومحاربة من يقربه، والأنكى من ذلك أن أنظمة تحكم شعوبا إسلامية قامت على هذا الأساس، وحاربت دعاة الإسلام وعلماءه الذين قاموا بتبصير الناس بانحرافهم وإلحادهم، ووالتهم أنظمة أخرى في بلدان المسلين علمانية أو شبه علمانية
التنبه الخامس: أن الإيمان يزيد بالفقه في الدين والعمل به، وينقص بالجهل بالدين، والمعاصي، وقد دلت على ذلك الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.
فمن الآيات قول الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} الأنفال:2
وقوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} مريم: 76
وقوله: ويزداد الذين آمنوا إيمانا} المدثر: 31، وقوله: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} الفتح: 4
وقوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} آل عمران: 173
ومن الأحاديث حديث أبي هريرة، رضي الله عنه،عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم:(الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).[ البخاري (1/51) بشرح فتح الباري، ومسلم (2/5) بشرح النووي، واللفظ له]
وحديث أنس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال:لا إله إلا الله وفي قلبه وزن من خير).وفي رواية (من إيمان) مكان (من خير). [ البخاري (1/103) بشرح فتح الباري]
وفي حديث أبي سعيد الخد ري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان..). [ متفق عليه، وهو في: اللؤلؤ والمرجان (برقم: 116، ص: 47)]
قال الإمام النووي، رحمه الله-بعد أن ذكر مذاهب العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه-: (فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف وأئمة الخلف، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف والمحدثين، وجماعة من المتكلمين... قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص، بزيادة ثمراته وهي الأعمال، ونقصانها...-إلى أن قال: فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم، فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر، رضي الله عنه، لا يساويه تصديق آحاد الناس..). [شرح النووي على مسلم: (1/148). وراجع الفتاوى، لابن تيمية (7/223، 562) فقد ذكر-بالتفصيل- الوجوه التي يكون بها زيادة الإيمان ونقصانه، وهو بحث مفيد جدا، ومنطقي]
(5) الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان
لإيمان بأن الله هو خالق ا لكون ومدبره
سبق أن أساس التسليم المطلق من العبد لربه سبحانه وتعالى، هو الإيمان بالغيب، وهو كل ما أخبر الله به عباده في كتبه، وعلى ألسنة رسله، عليهم الصلاة والسلام، وذلك شامل لما أخبر به تعالى عن نفسه، أو عن ملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتلك هي أصول الإيمان، وفي حكمها كل التفاصيل الإيمانية الواردة في الكتاب والسنة-الثابتة-من أخبار الغيب، ما مضى منها وما سيأتي، ولهذا كانت أول صفات المتقين هي الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: {ا لم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب}البقرة:3.
الإيمان بالغيب يميز الإنسان عن الحيوان
و الإيمان بالغيب يفرق بين الإنسان والحيوان الذي لا يشعر إلا بالمحسوسات المادية، من طعام وشراب ونحوهما، ولهذا كان الكافر من البشر أضل في ميزان الله من الحيوان، كما قال تعالى: {ولقد ذر أنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}. الأعراف: 179
ومن الإيمان بالغيب الإيمان بأن الله تعالى، هو وحده خالق الكون بسماواته وأرضيه، وما فيهما وما بينهما، وأنه سيدها ومدبرها إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
شذوذ منكر وجود الخالق
وقد اتفقت على وجود خالقٍ لهذا الكون ومدبر لشؤونه الأمم كلها، على تعاقب أجيالها-وإن اختلفت تصوراتها لهذا الخالق المدبر-ولهذا كان هذا الإقرار من كل الأمم سببا في استدلال الرسل عليهم الصلاة والسلام به على كون هذا الخالق المدبر هو وحده الذي يستحق أن يعبد، ولا يستحق العبادة سواه، وهذا المعنى أي كون الله وحده يستحق العبادة دون سواه-هو الذي كان الكفار ينكرونه-بخلاف المعنى الأول -وهو كون الله هو الخالق المدبر-فإنهم كانوا يقرون به، وكان هو حجة الرسل عليهم فيما أنكروه.
والذين أنكروا كون الله هو الخالق المدبر، كانوا قلة شاذة في العالمين، وكان إنكارهم صادرا عن جحود ومكابرة، وليس عن شبهة يحتجون بها، كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [ النمل: 14].
وإنكار هذه الفئة الشاذة لوجود الخالق المدبر، هو أعظم مكابرة من إنكار كون الله تعالى هو المعبود الحق وحده، والذي لا يعترف بوجود الخالق المدبر للكون، لا ينتظر منه أن يقر بوجود معبود واحد من باب أولى، بخلاف من أقر بوجود الخالق المدبر، فإنه-وإن أنكر وجود معبود واحد-لا يستبعد أن يعود عن إنكاره، ويقر بأن الخالق الواحد هو المعبود الحق الواحد، كما وقع ذلك من خلق كثير من المشركين من سائر الأمم.
إ قامة الله الحجة على من أنكر وجوده
ومع أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام-لم يكون في حاجة إلى دعوة الناس إلى الإقرار بهذا التوحيد-أي أن الله هو الخالق المدبر-ولا إلى إقامة الحجة عليه، لإقرار عامة الناس به-وتنزيل الفئة الشاذة منزلة العدم-فإن الله تعالى قد أقام الحجة، على من يحتمل أن يكابر وينكر وجوده في أي زمان، أقام الله الحجة بالأدلة والبراهين القاطعة، على وجوده وتدبيره للكون وأنه المالك المتصرف فيه على مقتضى حكمته، وتلك الحجج والبراهين من الكثرة بحيث لا يمكن أن يحصيها إلا من استطاع أن يحصي كل ما خلق الله وأبدع في هذا الكون العظيم، ومن ذا الذي سيقول: أنا لها؟! فالكون كله كتاب مفتوح، لكل البشر، وكل شيء فيه دليل على الخالق المدبر الواحد. وفي -كل شيء له آية تدل على أنه واحد-.
والقرآن الكريم مليء بهذه الحجج والبراهين في هذا الباب، وهو ينتزع تلك الحجج والبراهين من هذا الكون المفتوح، بحيث يستطيع أن يرى تلك الحجج ويعقلها كل الناس، القارئ والأمي،والعالم والجاهل، بمجرد التأمل القليل الذي لا يحتاج إلى جهد جهيد، وليس من السهل استقصاء تلك الحجج والبراهين التي نصبها الله للدلالة على وجوده وتدبيره للكون، في القرآن الكريم، في هذه الرسالة المختصرة، ولكنا سنذكر شيئا منها، والقرآن الكريم موجود ميسر لمن أراد المزيد في هذا الباب.
قال تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون}. الزمر: 5-6.
وقال تعالى: {أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ءإله مع الله بل هم قوم يعدلون أفمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا ءإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ءْإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ءإله مع الله تعالى عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض ءإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.النمل: 60-64.
وقال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون}. الطور: 35-36.
وقال تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين}. الشعراء: 23-24.
وإذا كان عامة الناس في غابر الزمان قد أقروا بأن الله هو الخالق المدبر لهذا الكون، وكان دعاة التوحيد-من الأنبياء وأتباعهم-يدعون من أقر بذلك إلى ما كانوا ينكرونه-وهو توحيد الألوهية- ويستدلون عليهم فيما أنكروه من هذا التوحيد بما أقروا به،من توحيد الربوبية انسجاما مع الفطرة التي تلزمهم من ذلك الإقرار، فإن فطر كثير من الناس قد فسدت في هذا العصر، حتى بلغ بها تلاعب الشيطان وإضلاله إلى إنكار براهين هذا التوحيد-توحيد الربوبية-التي لا توازيها براهين، إذ هي قمة البراهين، بل أصبحت دول كبرى في العالم تقوم على أساس هذا الإلحاد، وهو إنكار وجود الخالق ومحاربة من يقربه، والأنكى من ذلك أن أنظمة تحكم شعوبا إسلامية قامت على هذا الأساس، وحاربت دعاة الإسلام وعلماءه الذين قاموا بتبصير الناس بانحرافهم وإلحادهم، ووالتهم أنظمة أخرى في بلدان المسلين علمانية أو شبه علمانية