غريب نجد
26-06-2001, 02:14 AM
لم تنهض أمة إلا بعد معارك كبرى... ولم ينهض فرد إلا بعد معركته الفاصلة... هكذا فهمت عبير من مجمل قراءاتها هذا اليوم الخميس قبل أن تذهب مع أختيها إلى السوق... كانت وهي تقرأ ذلك الكتاب الذي يتحدث عن المعارك الفاصلة في حياة الأمم والبشر مبهورة جداً، وظلت تشعر بالسعادة والاستمتاع وهي تقرأ عن تلك المعارك التي أوصلت أمما إلى قمم السحاب ورفعت أبطالاً فوق كل الأعناق وسحقت فلولاً من المشكلات والمعوقات، وقضت على ألوان العبودية والظلم والجهل والفقر والجبروت... وأعطت كثيراً من أصحاب الهمم العالية شهادات بالتفوق.
كان أكثر ما همها ويهمها بالطبع تلك المعارك الفاصلة التي خاضتها المرأة على مر التاريخ، وكانت وهي تتتبع الدواعي التي من أجلها قامت تلك المعارك تشعر في قرارة نفسها أن كثيراً من تلك الدواعي تكرر نفسها الآن في عصرها، تشعر بها وهي في البيت تشاهد التلفزيون، ويهيَّأ لها أنها تراها رأي العين وهي في طريقها إلى المدرسة أو وهي تذهب في سيارة العائلة مع السائق إلى أقاربها ومعارفها وبعض أسواق المدينة، وكانت لهذا تعتقد أن هناك معارك فاصلة تنتظرها وتنتظر بنات جنسها، ولكنها لا تعرف متى وكيف... فقط تهز رأسها قليلاً وهي تفكر ثم تقول يا لها من معارك.
كانت المعارك التي قرأت عنها والمعارك التي تنتظرها بكل التفاصيل الدقيقة تملأ ذاكرتها وهي تمشي في سوق العقارية في مدينة الرياض... وظلت سارحة وهي تمشي في الممر الطويل لا تنظر مثل أختيها إلى الفترينات حيث موديلات الملابس وأنواع الأحذية والعطور وإنما تنظر إلى ساحات المعارك المفتوحة أمام ناظريها... تتذكر وتتخيل وتنفعل فتتحرك كفها أحياناً بقوة فتبرز يدها بوضوح عبر كم عباءتها وتلفت نظر المارة بخاتم الألماس المضيء وبالأصابع القصيرة الجميلة وبذلك المعصم الأبيض الناعم المتحرر قليلاً من أسر الثوب، وحين تتكاثر عليها العيون تتنبه لحركة ذراعها فتسحب كفها داخل عباءتها وتتجه بنظرها إلى إحدى فترينات المحلات لتبدو لغيرها بنتاً عادية تريد شراء حاجاتها ليس إلا.
دخلت مع أختيها محلات كثيرة وخرجت منها وكانت أختاها تنتقيان احتياجاتهما بعناية أما هي فكانت تحاول أن تنتقي نوع المعارك التي ستخوضها أولاً... كانت تدرك أن هناك معركة فاصلة هي أم المعارك لكن هناك معارك جانبية كثيرة لا بد أن تخوضها لتمهد لمعركتها الكبرى... وظلت هكذا تمشي بجانب أختيها سارحة تفكر وتخطط، ولذلك فوجئت حين نظرت أختها الكبرى إلى ساعتها وقالت يالله خلونا نرجع... وقد تنبهت عبير حينئذ إلى أنها لم تشتر حقيبة اليد التي جاءت إلى العقارية من أجلها، فقالت لأختها الكبرى روحوا ورجعولي السواق بعد نصف ساعة... فقالت الأخت الكبرى... أنت ناسية إن أمي تبي السيارة الآن... فقالت عبير... طيب... خلاص... لا ترجعونه... أجي مشي... وكان البيت في حي مجاور لسوق العقارية ومع ذلك قالت أختها الكبرى... أنت تجننت..! تجين تمشين..! وشلون..! فقالت عبير..! كلها خمسمئة متر... ثم أضافت والمعارك ما زالت تتفاعل داخل رأسها... ولا يهمك... أختك شجاعة... فهزت الأخت الكبرى رأسها وقالت على كيفك... أنا مالي دخل.
ظلت عبير تمشي وحدها وتستعرض المعارك النسائية التي قرأت عنها... وكان كفها ما زال يتحرك في غفلة منها كلما احتدمت معركة داخل رأسها... يبرز عبر كم العباءة ويلوح بريق خاتمها وبياض معصمها فتتوالى النظرات... وكان غطاء وجهها خفيفاً يبرز من خلفه تقاطيع وجهها الجميل وحركة رموش عينيها... واقترب منها أحد الشباب وقال بصوت هامس... مساء الخير... فنظرت إليه في غضب ثم أشاحت بوجهها عنه وأعادت كفها داخل عباءتها وسارت في طريقها... ثم استمعت لمن يقول... يا بنت... يا بنت... ترى غطاك خفيف... وبدا لها من هيئة المتكلم أنه من رجال الحسبة فسحبت طبقتين من غطائها الذي فوق رأسها وأسدلتهما على وجهها، واستمرت في السير وهي تحاول تركيز نظرها على الفترينات علها ترى حقيبة اليد التي تريدها، وكانت تنجح لثوان معدودة في التركيز على ما في الفترينات ثم تتحرك المعارك داخل رأسها فيعاود كفها حركة التمرد دون أن تشعر... ومرة أخرى سمعت صوتاً آخر يقول... يا بنت... يا بنت... استري يدك... استري يدك الله يهديك... فسحبت كفها داخل عباءتها... واستمرت تمشي وقد شعرت ببعض الضيق يكدر نفسها.
عندما خرجت عبير من العقارية لتذهب إلى بيت أهلها القريب مشياً على الأقدام كانت قد لفتت نظر مجموعة من الشباب، وكان ذلك الضيق الذي كدر نفسها قد تحول إلى وجل تحركت معه نبضات قلبها... وقد سارت على الرصيف قليلاً ثم وقفت عند الإشارة لتعبر الشارع ففوجئت بأحد الشباب الذين كانوا يتابعونها يمر بجانبها ويكاد يحتك بها، وأشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى وسمعته يتلفظ بعبارات لم تتميزها، ونظرت باتجاهه مرة أخرى لكن بغضب أشد والمعارك ما زالت تعزف داخل رأسها... حسناً... هل تظل تلتزم الأوامر وتخفي كفها داخل عباءتها أم تعصي تلك الأوامر وتخرجه وتصفع هذا الذي ضايقها...؟ هل تبقي تل الطبقات الأربع فوق وجهها أم تنزع حجابها وتبصق في وجه هذا النذل الذي أحرجها...؟
وأضاء اللون الأخضر وهي ما زالت تفكر فتحرك كل من كان يقف معها فتحركت معهم وعبرت الشارع بسرعة ونبضات قلبها تزداد وتيرتها... واستمرت تسير وتشعر بحركة المارة عن يمينها وشمالها... تسمع وشوشات وهمهمات وضحكات وأحاديث ووقع أقدام ووجهها مسمر إلى الأمام ولا تتميز ما هو موجه إليها وما هو موجه إلى غيرها... وتجاهلت كل شيء وزادت من سرعة خطواتها فتذكرت معاركها الكبرى المنتظرة فخجلت من نفسها وهدأت من هذه السرعة... وفجأة شعرت بأن هناك من شد عباءتها بسرعة إلى الخلف فرفعت يديها بحركة لا إرادية وأمسكت بالعباءة حتى لا تنزلق من فوق رأسها وكادت تصرخ لكنها تمالكت نفسها، ثم شاهدت شاباً يتجاوزها مسرعاً في سيره في حركة تبدو للمشاهد عادية اقتضتها بعض المهام المستعجلة، فغلى الدم في عروقها... هل تركض خلفه وتجره لتؤدبه...؟ هل ترفع صوتها في الشارع لتحرجه..؟ وكان الشاب وهي تفكر في البدائل الممكنة قد ابتعد عنها والتفت نحوها وابتسم ساخراً فشتمته وبصقت عليه في سرها واستمرت في سيرها وأحكمت قبضة يدها على مقدمة عباءتها تحسباً لأي حركة مماثلة وازدادت نبضات قلبها.
بعد قليل انحرفت يميناً تاركة الشارع العام ودخلت في الحارة متجهة نحو بيت أهلها، وظلت شاخصة ببصرها إلى الأمام على امتداد ذلك الشارع الفرعي الخالي تماماً من المارة وهي ما زالت تحكم القبضة على مقدمة عباءتها وتسمع نبضات قلبها، ثم سمعت صوت أذان المغرب ينطلق من المسجد المجاور لمنزلها فشعرت ببعض الراحة، وأسرعت في خطاها... في تلك الأثناء سمعت صوت سيارة خلفها، وأحست أن تلك السيارة لا تسير وسط الشارع بل في الجانب الأيمن الذي تسير فيه، فالتفتت إلى الخلف لتتأكد، وفي تلك اللحظة انطلق صوت منبه السيارة بقوة، ثم شاهدت السيارة خلفها وقريبة منها، فصرخت وقفزت بسرعة نحو الجدار، ومرت السيارة بجانبها وكان فيها شابان أخرج أحدهما رأسه من فتحة الباب وضحك بصوت عال وأطلق بعض العبارات النابية، فشتمته هذه المرة ليس في سرها فحسب وإنما بأعلى صوتها قائلة... يا ابن الكلب... وهي تضع كفها على قلبها.
استمرت تمشي بجوار الجدار وكل شيء يغلي داخل جسدها إلا تلك المعارك التي كانت قد قرأت عنها، وتطلعت إلى الأمام بلهفة تبحث عن مئذنة المسجد لعلها تراها، وبعد قليل سمعت خلفها وقع أقدام فظلت تترقب في هلع ما قد يحدث لها، ثم حاذاها صاحب الخطوات وكان رجلاً في منتصف العمر تقريباً، أسمر اللون، طويل القامة، يلبس بنطلوناً وقميصاً، فشعرت ببعض الراحة، لكن ذلك الرجل كان واسع الخطوات سريع المشي فسبقها بعد عدة دقائق وتركها وحدها.
ومرة أخرى سمعت خطوات خلفها، ثم سمعت قهقهة وعبارات جارحة، وتوقعت ما قد يحدث لها ففكرت... ماذا ستعمل وكيف ستدافع عن نفسها... هل..؟ هل..؟ هل..؟ وفي حركة لا شعورية أضافت طبقة أخرى إلى حجابها ثم زادت من إحكام قبضتها على مقدمة عباءتها وزادت من سرعة خطواتها.
اقتربت منها الأصوات وتوالت الألفاظ السفيهة النابية... ثم رأت الشابين... وحاولت الابتعاد عنهما لكنهما تبعاها والتصقا بها وبدأا يحادثانها، فالتفتت نحوهما وتوقفت قليلاً وشتمتهما وأنذرتهما، فارتفعت قهقهاتهما ثم تجرأ أحدهما فمد يده... فقفزت مذعورة وهي ما زالت تحكم القبضة على مقدمة عباءتها... وفي هذه الأثناء لاحت لها مئذنة المسجد المجاور لمنزل أهلها فشعرت ببعض الشجاعة وبحركة سريعة أرادت نزع فردة حذائها اليمنى فانحنت إلى الأمام فشعرت أن عباءتها ستنزلق من فوق رأسها، وتذكرت أنها تلبس عباءة المدرسة، فأخرجت يدها من كم العباءة ثم عاودت الانحناء وخلعت فردة الحذاء ورفعتها لتضرب بها ذلك الذي مد يده عليها، فركض مبتعداً عنها وتبعه زميله، فرجمته بحذائها بحركة لا شعورية فأخطأت الهدف وتدحرجت فردة الحذاء في الجهة الأخرى من الشارع وحينئذ ركض أحد الشابين باتجاه فردة الحذاء وأخذها ووقف مع زميله يضحك ويرفع فردة الحذاء ويقول... يالله... هاتي الثانية... فحاولت عبير أن تركض باتجاههما لتأخذ حذاءها فاكتشفت أنها لا تستطيع أن تركض لأن فردة الحذاء العالية الأخرى ما زالت في قدمها اليسرى، فحسبت يدها اليسرى من كم العباءة وخلعت بها فردة الحذاء الأخرى وأرادت أن تركض نحو الشابين فاكتشفت أن فستانها أصبح طويلاً يعيق حركتها، فرفعت الفستان بيدها اليمنى، وفردة الحذاء ما زالت بيدها اليسرى، وركضت باتجاههما وهي تقول... هاتوها... هاتوها يا عيال الكلب وركض الشابان وهما يقهقها... وفي هذه الأثناء كانت عباءتها متحررة تماماً من يديها فانزلقت من فوق رأسها وسقطت على الأرض، فالتفتت بسرعة نحوها لتلتقطها، فانفك خمارها وانزلق من فوق رأسها، فأصيبت بحالة ارتباك شديد، ثم خشيت أن يتمادى الشابان في جرأتهما واستهتارهما فيأخذان عباءتها وخمارها فالتقطتهما بسرعة كيفما اتفق وسترت وجهها بحركة مرتبكة.
وبينما هي تحاول ارتداء خمارها وعباءتها قدمت سيارة في نفس الشارع فانصرف الشابان ومعهما فردة حذائها، وارتدت عباءتها وخمارها بسرعة وسارت باتجاه منزل أهلها وهي في حالة سيئة جداً من التوتر وانكسار النفس، تمسك فردة حذائها اليسرى بيدها اليمنى مع حقيبتها وترفع ثوبها الطويل بيدها اليسرى وتحاول أن تسير بشكل طبيعي فلا تستطيع فتبدو في هيئة مضحكة جداً تلفت نظر كل من يشاهدها... وهذا ما حصل بالضبط فقد نظر لها صاحب السيارة حين حاذاها باستغراب شديد... وفعل الشيء نفسه مجموعة من الأطفال كانوا يلعبون بجانب بيت أهلها... وكانت الدنيا تسود أمامها بشكل تدريجي لدرجة أنها حين دخلت المنزل لم تتميز جيداً وجه من فتح لها ولا صوته... فقط سمعته يقول لماذا أنت هكذا فقالت بسرعة... انكسر حذائي فرميته... ولم تنتبه إلى أن فردة حذائها الأخرى ما زالت في يدها اليمنى... ولم تنتبه لأي شيء آخر... إلى تنبهت فقط إلى ذلك الكتاب الذي كان يتحدث عن معارك البشر الكبرى... كان ما زال على الكومدينة بجانب سرير نومها فأخذته بسرعة وقذفته باتجاه الحائط ثم رمت نفسها على السرير هكذا بخمارها وعباءتها.
حين ذهبت عبير إلى السوق كان في ذهنها مشاريع لمعارك كبرى مقبلة وها هي الآن تعود وليس في ذهنها إلا تلك الصورة الهزلية المؤلمة التي ستظل تعذبها سنوات وسنوات... ستعذبها هذه الصورة كثيراً... ولكنها ستتعذب أكثر حين تعود المعارك التي قرأت عنها إلى ذاكرتها ثم تجد أن تلك الصورة الهزلية التي تملأ الآن ذاكرتها هي التي تقابلها... ستظل المعارك تحتدم في رأسها ولكن بصورة مختلفة... سيكون هناك المعارك الحقيقية الرائعة التي حققت فيها المرأة نصراً لأمتها وبنات جنسها... وتلك المعركة الهزلية المؤلمة المضحكة التي كرست الهزيمة بكل أبعادها... والمشكلة الكبرى التي ستظل تؤلمها كثيراً أنه ربما لن يكون هناك أي مشاريع في رأسها لمعارك مقبلة بعد اليوم... لقد كان رأسها ميداناً لمعارك سابقة ومعارك لاحقة... أما الآن فقد طارت معاركها اللاحقة وبقيت تلك المعارك السابقة... ربما يأتي مستقبلاً من يكتب عن بعض المعارك الفاشلة... وحينئذ ربما يستهلها بمعركة عبير.
عبد الله ناصر الفوزان:: جريدة الوطن السعودية
كان أكثر ما همها ويهمها بالطبع تلك المعارك الفاصلة التي خاضتها المرأة على مر التاريخ، وكانت وهي تتتبع الدواعي التي من أجلها قامت تلك المعارك تشعر في قرارة نفسها أن كثيراً من تلك الدواعي تكرر نفسها الآن في عصرها، تشعر بها وهي في البيت تشاهد التلفزيون، ويهيَّأ لها أنها تراها رأي العين وهي في طريقها إلى المدرسة أو وهي تذهب في سيارة العائلة مع السائق إلى أقاربها ومعارفها وبعض أسواق المدينة، وكانت لهذا تعتقد أن هناك معارك فاصلة تنتظرها وتنتظر بنات جنسها، ولكنها لا تعرف متى وكيف... فقط تهز رأسها قليلاً وهي تفكر ثم تقول يا لها من معارك.
كانت المعارك التي قرأت عنها والمعارك التي تنتظرها بكل التفاصيل الدقيقة تملأ ذاكرتها وهي تمشي في سوق العقارية في مدينة الرياض... وظلت سارحة وهي تمشي في الممر الطويل لا تنظر مثل أختيها إلى الفترينات حيث موديلات الملابس وأنواع الأحذية والعطور وإنما تنظر إلى ساحات المعارك المفتوحة أمام ناظريها... تتذكر وتتخيل وتنفعل فتتحرك كفها أحياناً بقوة فتبرز يدها بوضوح عبر كم عباءتها وتلفت نظر المارة بخاتم الألماس المضيء وبالأصابع القصيرة الجميلة وبذلك المعصم الأبيض الناعم المتحرر قليلاً من أسر الثوب، وحين تتكاثر عليها العيون تتنبه لحركة ذراعها فتسحب كفها داخل عباءتها وتتجه بنظرها إلى إحدى فترينات المحلات لتبدو لغيرها بنتاً عادية تريد شراء حاجاتها ليس إلا.
دخلت مع أختيها محلات كثيرة وخرجت منها وكانت أختاها تنتقيان احتياجاتهما بعناية أما هي فكانت تحاول أن تنتقي نوع المعارك التي ستخوضها أولاً... كانت تدرك أن هناك معركة فاصلة هي أم المعارك لكن هناك معارك جانبية كثيرة لا بد أن تخوضها لتمهد لمعركتها الكبرى... وظلت هكذا تمشي بجانب أختيها سارحة تفكر وتخطط، ولذلك فوجئت حين نظرت أختها الكبرى إلى ساعتها وقالت يالله خلونا نرجع... وقد تنبهت عبير حينئذ إلى أنها لم تشتر حقيبة اليد التي جاءت إلى العقارية من أجلها، فقالت لأختها الكبرى روحوا ورجعولي السواق بعد نصف ساعة... فقالت الأخت الكبرى... أنت ناسية إن أمي تبي السيارة الآن... فقالت عبير... طيب... خلاص... لا ترجعونه... أجي مشي... وكان البيت في حي مجاور لسوق العقارية ومع ذلك قالت أختها الكبرى... أنت تجننت..! تجين تمشين..! وشلون..! فقالت عبير..! كلها خمسمئة متر... ثم أضافت والمعارك ما زالت تتفاعل داخل رأسها... ولا يهمك... أختك شجاعة... فهزت الأخت الكبرى رأسها وقالت على كيفك... أنا مالي دخل.
ظلت عبير تمشي وحدها وتستعرض المعارك النسائية التي قرأت عنها... وكان كفها ما زال يتحرك في غفلة منها كلما احتدمت معركة داخل رأسها... يبرز عبر كم العباءة ويلوح بريق خاتمها وبياض معصمها فتتوالى النظرات... وكان غطاء وجهها خفيفاً يبرز من خلفه تقاطيع وجهها الجميل وحركة رموش عينيها... واقترب منها أحد الشباب وقال بصوت هامس... مساء الخير... فنظرت إليه في غضب ثم أشاحت بوجهها عنه وأعادت كفها داخل عباءتها وسارت في طريقها... ثم استمعت لمن يقول... يا بنت... يا بنت... ترى غطاك خفيف... وبدا لها من هيئة المتكلم أنه من رجال الحسبة فسحبت طبقتين من غطائها الذي فوق رأسها وأسدلتهما على وجهها، واستمرت في السير وهي تحاول تركيز نظرها على الفترينات علها ترى حقيبة اليد التي تريدها، وكانت تنجح لثوان معدودة في التركيز على ما في الفترينات ثم تتحرك المعارك داخل رأسها فيعاود كفها حركة التمرد دون أن تشعر... ومرة أخرى سمعت صوتاً آخر يقول... يا بنت... يا بنت... استري يدك... استري يدك الله يهديك... فسحبت كفها داخل عباءتها... واستمرت تمشي وقد شعرت ببعض الضيق يكدر نفسها.
عندما خرجت عبير من العقارية لتذهب إلى بيت أهلها القريب مشياً على الأقدام كانت قد لفتت نظر مجموعة من الشباب، وكان ذلك الضيق الذي كدر نفسها قد تحول إلى وجل تحركت معه نبضات قلبها... وقد سارت على الرصيف قليلاً ثم وقفت عند الإشارة لتعبر الشارع ففوجئت بأحد الشباب الذين كانوا يتابعونها يمر بجانبها ويكاد يحتك بها، وأشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى وسمعته يتلفظ بعبارات لم تتميزها، ونظرت باتجاهه مرة أخرى لكن بغضب أشد والمعارك ما زالت تعزف داخل رأسها... حسناً... هل تظل تلتزم الأوامر وتخفي كفها داخل عباءتها أم تعصي تلك الأوامر وتخرجه وتصفع هذا الذي ضايقها...؟ هل تبقي تل الطبقات الأربع فوق وجهها أم تنزع حجابها وتبصق في وجه هذا النذل الذي أحرجها...؟
وأضاء اللون الأخضر وهي ما زالت تفكر فتحرك كل من كان يقف معها فتحركت معهم وعبرت الشارع بسرعة ونبضات قلبها تزداد وتيرتها... واستمرت تسير وتشعر بحركة المارة عن يمينها وشمالها... تسمع وشوشات وهمهمات وضحكات وأحاديث ووقع أقدام ووجهها مسمر إلى الأمام ولا تتميز ما هو موجه إليها وما هو موجه إلى غيرها... وتجاهلت كل شيء وزادت من سرعة خطواتها فتذكرت معاركها الكبرى المنتظرة فخجلت من نفسها وهدأت من هذه السرعة... وفجأة شعرت بأن هناك من شد عباءتها بسرعة إلى الخلف فرفعت يديها بحركة لا إرادية وأمسكت بالعباءة حتى لا تنزلق من فوق رأسها وكادت تصرخ لكنها تمالكت نفسها، ثم شاهدت شاباً يتجاوزها مسرعاً في سيره في حركة تبدو للمشاهد عادية اقتضتها بعض المهام المستعجلة، فغلى الدم في عروقها... هل تركض خلفه وتجره لتؤدبه...؟ هل ترفع صوتها في الشارع لتحرجه..؟ وكان الشاب وهي تفكر في البدائل الممكنة قد ابتعد عنها والتفت نحوها وابتسم ساخراً فشتمته وبصقت عليه في سرها واستمرت في سيرها وأحكمت قبضة يدها على مقدمة عباءتها تحسباً لأي حركة مماثلة وازدادت نبضات قلبها.
بعد قليل انحرفت يميناً تاركة الشارع العام ودخلت في الحارة متجهة نحو بيت أهلها، وظلت شاخصة ببصرها إلى الأمام على امتداد ذلك الشارع الفرعي الخالي تماماً من المارة وهي ما زالت تحكم القبضة على مقدمة عباءتها وتسمع نبضات قلبها، ثم سمعت صوت أذان المغرب ينطلق من المسجد المجاور لمنزلها فشعرت ببعض الراحة، وأسرعت في خطاها... في تلك الأثناء سمعت صوت سيارة خلفها، وأحست أن تلك السيارة لا تسير وسط الشارع بل في الجانب الأيمن الذي تسير فيه، فالتفتت إلى الخلف لتتأكد، وفي تلك اللحظة انطلق صوت منبه السيارة بقوة، ثم شاهدت السيارة خلفها وقريبة منها، فصرخت وقفزت بسرعة نحو الجدار، ومرت السيارة بجانبها وكان فيها شابان أخرج أحدهما رأسه من فتحة الباب وضحك بصوت عال وأطلق بعض العبارات النابية، فشتمته هذه المرة ليس في سرها فحسب وإنما بأعلى صوتها قائلة... يا ابن الكلب... وهي تضع كفها على قلبها.
استمرت تمشي بجوار الجدار وكل شيء يغلي داخل جسدها إلا تلك المعارك التي كانت قد قرأت عنها، وتطلعت إلى الأمام بلهفة تبحث عن مئذنة المسجد لعلها تراها، وبعد قليل سمعت خلفها وقع أقدام فظلت تترقب في هلع ما قد يحدث لها، ثم حاذاها صاحب الخطوات وكان رجلاً في منتصف العمر تقريباً، أسمر اللون، طويل القامة، يلبس بنطلوناً وقميصاً، فشعرت ببعض الراحة، لكن ذلك الرجل كان واسع الخطوات سريع المشي فسبقها بعد عدة دقائق وتركها وحدها.
ومرة أخرى سمعت خطوات خلفها، ثم سمعت قهقهة وعبارات جارحة، وتوقعت ما قد يحدث لها ففكرت... ماذا ستعمل وكيف ستدافع عن نفسها... هل..؟ هل..؟ هل..؟ وفي حركة لا شعورية أضافت طبقة أخرى إلى حجابها ثم زادت من إحكام قبضتها على مقدمة عباءتها وزادت من سرعة خطواتها.
اقتربت منها الأصوات وتوالت الألفاظ السفيهة النابية... ثم رأت الشابين... وحاولت الابتعاد عنهما لكنهما تبعاها والتصقا بها وبدأا يحادثانها، فالتفتت نحوهما وتوقفت قليلاً وشتمتهما وأنذرتهما، فارتفعت قهقهاتهما ثم تجرأ أحدهما فمد يده... فقفزت مذعورة وهي ما زالت تحكم القبضة على مقدمة عباءتها... وفي هذه الأثناء لاحت لها مئذنة المسجد المجاور لمنزل أهلها فشعرت ببعض الشجاعة وبحركة سريعة أرادت نزع فردة حذائها اليمنى فانحنت إلى الأمام فشعرت أن عباءتها ستنزلق من فوق رأسها، وتذكرت أنها تلبس عباءة المدرسة، فأخرجت يدها من كم العباءة ثم عاودت الانحناء وخلعت فردة الحذاء ورفعتها لتضرب بها ذلك الذي مد يده عليها، فركض مبتعداً عنها وتبعه زميله، فرجمته بحذائها بحركة لا شعورية فأخطأت الهدف وتدحرجت فردة الحذاء في الجهة الأخرى من الشارع وحينئذ ركض أحد الشابين باتجاه فردة الحذاء وأخذها ووقف مع زميله يضحك ويرفع فردة الحذاء ويقول... يالله... هاتي الثانية... فحاولت عبير أن تركض باتجاههما لتأخذ حذاءها فاكتشفت أنها لا تستطيع أن تركض لأن فردة الحذاء العالية الأخرى ما زالت في قدمها اليسرى، فحسبت يدها اليسرى من كم العباءة وخلعت بها فردة الحذاء الأخرى وأرادت أن تركض نحو الشابين فاكتشفت أن فستانها أصبح طويلاً يعيق حركتها، فرفعت الفستان بيدها اليمنى، وفردة الحذاء ما زالت بيدها اليسرى، وركضت باتجاههما وهي تقول... هاتوها... هاتوها يا عيال الكلب وركض الشابان وهما يقهقها... وفي هذه الأثناء كانت عباءتها متحررة تماماً من يديها فانزلقت من فوق رأسها وسقطت على الأرض، فالتفتت بسرعة نحوها لتلتقطها، فانفك خمارها وانزلق من فوق رأسها، فأصيبت بحالة ارتباك شديد، ثم خشيت أن يتمادى الشابان في جرأتهما واستهتارهما فيأخذان عباءتها وخمارها فالتقطتهما بسرعة كيفما اتفق وسترت وجهها بحركة مرتبكة.
وبينما هي تحاول ارتداء خمارها وعباءتها قدمت سيارة في نفس الشارع فانصرف الشابان ومعهما فردة حذائها، وارتدت عباءتها وخمارها بسرعة وسارت باتجاه منزل أهلها وهي في حالة سيئة جداً من التوتر وانكسار النفس، تمسك فردة حذائها اليسرى بيدها اليمنى مع حقيبتها وترفع ثوبها الطويل بيدها اليسرى وتحاول أن تسير بشكل طبيعي فلا تستطيع فتبدو في هيئة مضحكة جداً تلفت نظر كل من يشاهدها... وهذا ما حصل بالضبط فقد نظر لها صاحب السيارة حين حاذاها باستغراب شديد... وفعل الشيء نفسه مجموعة من الأطفال كانوا يلعبون بجانب بيت أهلها... وكانت الدنيا تسود أمامها بشكل تدريجي لدرجة أنها حين دخلت المنزل لم تتميز جيداً وجه من فتح لها ولا صوته... فقط سمعته يقول لماذا أنت هكذا فقالت بسرعة... انكسر حذائي فرميته... ولم تنتبه إلى أن فردة حذائها الأخرى ما زالت في يدها اليمنى... ولم تنتبه لأي شيء آخر... إلى تنبهت فقط إلى ذلك الكتاب الذي كان يتحدث عن معارك البشر الكبرى... كان ما زال على الكومدينة بجانب سرير نومها فأخذته بسرعة وقذفته باتجاه الحائط ثم رمت نفسها على السرير هكذا بخمارها وعباءتها.
حين ذهبت عبير إلى السوق كان في ذهنها مشاريع لمعارك كبرى مقبلة وها هي الآن تعود وليس في ذهنها إلا تلك الصورة الهزلية المؤلمة التي ستظل تعذبها سنوات وسنوات... ستعذبها هذه الصورة كثيراً... ولكنها ستتعذب أكثر حين تعود المعارك التي قرأت عنها إلى ذاكرتها ثم تجد أن تلك الصورة الهزلية التي تملأ الآن ذاكرتها هي التي تقابلها... ستظل المعارك تحتدم في رأسها ولكن بصورة مختلفة... سيكون هناك المعارك الحقيقية الرائعة التي حققت فيها المرأة نصراً لأمتها وبنات جنسها... وتلك المعركة الهزلية المؤلمة المضحكة التي كرست الهزيمة بكل أبعادها... والمشكلة الكبرى التي ستظل تؤلمها كثيراً أنه ربما لن يكون هناك أي مشاريع في رأسها لمعارك مقبلة بعد اليوم... لقد كان رأسها ميداناً لمعارك سابقة ومعارك لاحقة... أما الآن فقد طارت معاركها اللاحقة وبقيت تلك المعارك السابقة... ربما يأتي مستقبلاً من يكتب عن بعض المعارك الفاشلة... وحينئذ ربما يستهلها بمعركة عبير.
عبد الله ناصر الفوزان:: جريدة الوطن السعودية