شهرزاد
06-10-2002, 02:25 PM
خلال السطور التالية نلقي بعض الضوء على حياة الشيخ ـ رحمه الله ـ وعلاقته بأسرته لينتفع بها القاصي والداني؛ فحياة الأعلام وسيرهم ليست ملكاً لهم، وإنما ميراث للأمة، تتعلم ما ينفعها وتتجنَّب ما يضرها.
ولد الشيخ منَّاع القطان في العام 1345 ــ 1925م بقرية "شنشور" إحدى قرى محافظة "المنوفية" بمصر، نشأ في بيت كريم وأسرة محافظة، وقد تأثر بوالده "خليل القطان" الذي عُرف بالتقوى والكرم والحزم.
بدأ حياته العملية بحفظ القرآن الكريم في كتّاب القرية كشأن أقرانه فأتم حفظه في السابعة من عمره، ثم التحق بالتعليم النظامي، حتى أتم الحادية عشرة فالتحق بأحد معاهد الأزهر بالمحافظة، وحصل منه على الشهادة الابتدائية ثم الثانوية بتقدير متقدم.
ومن أبرز مشايخه في تلك الفترة الشيخ "عبدالرازق عفيفي" الذي تأثر به كثيراً، وكان يلازمه في جولاته، ثم شاء الله أن التقاه في المملكة العربية السعودية، وصاحبه مرة أخرى أستاذاً وزميلاً وصديقاً، وكان من الذين ارتبط بهم الشيخ ارتباطاً قوياً، كما يوضح ذلك ابنه الدكتور "محمد".
المجاهد الداعية
في أثناء حرب فلسطين عام 1948م كان الشيخ القطان مسؤولاً عن النشاط الطلابي في جامعة الأزهر، يعمل على شحذ همم الطلاب وحثهم على الجهاد وإعدادهم لحمل أعبائه، وكان يهتم اهتماماً بالغاً بإعداد ركائز متميزة ليكونوا نواة عمل منظم، كما شارك في قيادة شباب كتائب المتطوعين في حرب 1948م حيث كانت تتم اللقاءات في مكتبة الحاج حلمي المنياوي في العباسية، وتعقد لهم اجتماعات منظمة بقاعة دار الحكمة بشارع القصر العيني.
ثم تعرَّض للاعتقال مع الشيخ الغزالي وآخرين من طلاب جامعة الأزهر إبان تزعمه لمظاهرة طلابية عقب حرب 1948م، وتأخر بسبب ذلك عامين دراسيين، ثم استطاع بمساعدة الشيخ الباقوري أن يعود مرة ثانية للجامعة عندما وافقت مشيخة الأزهر عام 1950م على عقد امتحان استثنائي له وللخارجين من الاعتقال من أمثاله.
الهجرة والزواج
قدم إلى المملكة العربية السعودية عام 1953م بعد أن اشتد الحصار عليه وازداد التضييق على نشاطاته، وبعد فترة من استقراره في المملكة فكر في الزواج، فأرسل الشيخ إلى والدته في مصر وأخبرها بعزمه على الزواج، فرشحت له زوجته ـ التي شاركته عبء دعوته طيلة حياتها معه ـ الدكتورة "رجاء محمد شبل" رئيسة قسم اللغة العربية بكلية الآداب للبنات.
حدَّثتنا الدكتورة رجاء عن اقترانها بالشيخ باعتزاز غامر، وراحت تنبش في حفريات الذاكرة، فقالت: "كان والدي مستشاراً في وزارة المواصلات، وقد تم اختياري زوجة للشيخ مناع؛ اعتماداً على الدين، والخلق والعائلة، لم أتعرَّف عليه إلا بعد الزواج فلم أكن قد رأيته من قبل، وكنت وقتها في السنة الثالثة متوسط، وقد عاملني بمنتهى الرقة والحنان، وخصوصاً في الأيام الأولى، كان يحدثني بلباقة عن كل ما أهتم به في ذلك الوقت، ممَّا ساعد على توفير جو من الألفة والارتياح، هيأني وساعدني في تحمل المسؤولية.
دفعني لإكمال المرحلة الثانية، فكنت أدرس أنا وابني الأكبر الدكتور محمد في مستوى دراسي واحد، وكان لدينا من الأبناء في ذلك الوقت ثلاثة: محمد وخالد وهند، أمَّا ريم فقد رزقنا بها عند بداية دخولي الجامعة.
كانت لي رغبة عند دخولي الجامعة في الالتحاق بقسم الجغرافيا، لكن الشيخ أقنعنا بالالتحاق بقسم اللغة العربية، وبعد التخرج شجعني على مواصلة طلب العلم فعينت معيدة في الكلية إلى أن فتح باب الدراسات العليا، فالتحقت به، كان ـ رحمه الله ـ إلى جواري دائماً".
أبوة وتربية
كان الرجل مملوءاً بحالة من الانشغال الفكري على حال أمته تتمثل في أسرته وما يحتنكها من أخطار، حريصاً على أن يقدم لها لبنة صالحة، فكان يدفع أبناءه دفعاً للتفوق، ولا يرضى بأقل من التفوق، كان يردد مقولة سيد قطب ـ رحمه الله ـ: "من رضي أن يكون الثاني سيرضى أن يكون الأخير". كان لا يقودهم رغماً عنهم، بل يضيء لهم الطريق ويفهمهم دورهم في الحياة، يقدح الشرارة الأولى (والنجاح غالباً في حاجة إلى من يقدح تلك الشرارة) ثم يتابع بالتقويم اللين، وعن ذلك يقول ابنه الدكتور محمد: "لم يكن والدي من النوع الذي يدفعه حبه لأولاده للتسلط عليهم، فقد كان يوجهنا ويتابعنا من بعيد، وعندما حصلت على المركز الرابع على مستوى المملكة في الثانوية العامة، كنت أشعر بسعادة كبيرة، ليس لأنني تفوقت، ولكن لأنني أحرزت هذا التقدم تقديراً لما قدمه لنا والدي. وأذكر أنه جمعنا في مكتبه يومها، ثم قال بلهجة تغرس في نفوسنا الثقة والمزيد من التقدم: "يا أبنائي، إن الأمة قد ترزأ في اقتصادها، واحتلال أرضها، أو تخلف حياتها، لكنها تظل أمة حية تنبض بمعاني القوة ما دامت معتصمة بدينها، مؤمنة بعقيدتها، واثقة بنصر الله، أما إذا فقدت الثقة والإيمان والدين، فقد فقدت روحها، وأصبحت جثة هامدة لا حياة فيها، وذلك هو الرزء الذي لا تجدي فيه المواساة، ولا يُستعاض عنه بشيء. وإنّ عالمنا الإسلامي في حاجة إلى أطباء ومهندسين، ومتخصصين في جميع المجالات، على شرط أن يكونوا مسلمين واعين، فكل إنسان في مهنته على ثغر من ثغور الإسلام، يستطيع أن يرتقي بأمته من خلاله، وأتمنى أن أراكم أطباء مسلمين". بعد تلك الجلسة قررت أن ألتحق بكلية الطب، ثم توالت سلسلة تفوق الأبناء فحقق أخي خالد الترتيب الأول في الثانوية على المملكة، أما أختي هند فقد كانت الأولى في الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ثم أتت أختي ريم ووفقت للمركز الأول في الثانوية أيضاً، وقد تخصصنا جميعاً في الطب ولله الحمد، تحقيقاً لرغبة الوالد وممارسة لمهنة إنسانية عظيمة".
وهنا تتدخل الدكتورة رجاء قائلة: "كان الشيخ يمارس الإشراف على أبنائه بنفسه، ويحرص على التعرف على أصدقائهم وعلى سلوكهم الديني والأخلاقي، وكان يعتمد معهم أسلوب المصارحة، يوجههم بالكلمة الطيبة، ولا يرفض لهم طلباً مشروعاً، يحرص على تعليمهم العلوم الدينية والدنيوية، يسمح لهم بالسفر والتنقل طالما يعرف مع من سيسافر الواحد منهم، وكذلك يذكرهم بواجباتهم الدينية.. باختصار: كان نعم الأب، وكانوا نعم الأبناء".
مهندس الدعوة
كذلك كان الشيخ محبوباً ومتسامحاً حتى مع من يختلف معهم في الفكر، وقد عرف عنه قلة الكلام، وتوصيل فكرته بمنتهى الهدوء دون إحراج الآخر، أو استثارة غضبه، كان هذا دأبه؛ حتى إننا نستطيع أن نسميه "المهندس" في دعوته ـ إن جازت التسمية ـ فقد كانت الأمور عنده موزونة، محسوبة بمعايير دقيقة، وأفكاره مرتبة، كما يفعل المهندسون حيال تخطيطهم.
وكمثال حي لاعتماد الشيخ الترتيب والتنظيم منهجاً في حياته، نرى كيف كان يتعامل مع وقته ومشاغله، ففي غمرة مشاغله لم يكن الشيخ ينسى أسرته، وما لها عليه من حقوق، فقد كان يخرج معهم في رحلات خلوية، وكثيراً ما كان يحثهم على الرياضة، ويذكر الدكتور محمد أنه كان يأتي أمامهم بتمارين رياضية يعجزون عن أدائها، فقد كان رياضياً بارعاً، ويقول: "لمحت يوماً في إحدى قدميه آثار جرح قديم فسألته عنه، فأخبرني أنه من آثار سقوطه من فوق الحصان وهو شاب، إذ إنه كان يهوى رياضة ركوب الخيل. كذلك كان يخصص الخميس والجمعة ــ غالباً ــ لأسرته، أمَّا باقي أيام الأسبوع فقد كان مشغولاً بين مقابلات، وأسفار، ومناقشات للأطروحات العلمية، وعندما كنت صغيراً كنت أنام قبل مجيئه من الخارج، ثم أصحو ذاهباً إلى مدرستي دون أن أراه، لكنه كان يعوض ذلك بيومي الخميس والجمعة، ويؤجل مواعيده في هذين اليومين قدر المستطاع". وكان يسمي يوم الخميس: يوم العائلة، يجتمع في بيته جميع أقاربه، وبعد أن كبر أولاده وتزوجوا كانوا يأتون بأسرهم لقضاء ذلك اليوم معه.
أما يوم الجمعة فقد كان يستيقظ مبكراً يستعد لصلاة الجمعة، فقد ظلّ خطيباً لمدة (45) عاماً، وكان يرتجل خطبه ارتجالاً، وكان يحرص على أن تكون هذه الخطب مناسبة لجميع المتلقين الذين يحضرون إلى المسجد.
سألنا عن مصير هذا التراث الهائل من الخطب فقالت زوجته: "نحن نعكف حالياً على تفريغ هذه الخطب وكتابتها، وسيتم نشرها كمقالات، فقد كنت قريبة منه، وكان لي الشرف في أن أكون أول من يطلع على ما يكتبه، أو يسجله للإذاعة أو التلفزيون".
طلبة العلم أولاً
أحب الشيخ الناس، فبادلوه حباً بحب، كانت علاقاته واسعة ومتشعبة، بدءاً من الأسر المحتاجة، وانتهاء بعلاقاته القوية جداً بطلبة العلم الذين كان يحبهم كأبنائه، ويسعى في حاجاتهم، فقد أولى طلبة العلم عناية خاصة، فهم حملة مشاعل الهداية، يقول رحمه الله: "على يد علماء الإسلام الذين يدركون واقع أمتهم، ويفهمون حقيقة رسالتهم، ويقدرون أمانة الله في أعناقهم، على يد هؤلاء العلماء يقع العبء الثقيل في مسيرة الجيل، والوقوف في وجه التيارات الغازية، واستئناف حياة إسلامية صحيحة، ومن أجل تحقيق هذه الغاية عليهم أن يستشعروا خطورة المسؤولية، وفداحة الخطب، فإنَّ الله قد أناط بهم ميراث النبوة من القيام بواجب الدعوة وهداية البشر إلى الخير، وهي مسؤولية جد خطيرة لا يحملها إلا أولئك الذين يتجردون لله من ذوي الإيمان الصادق والعزيمة القوية، التي تمضي في طريقها بثبات وصبر: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}. والتخلي عن أداء تلك المهمة أو التقصير فيها ينكب الأمة في أغلى شيء لديها، لا تجد له عوضاً".
إنتاج غزير
ترك الشيخ ثروة علمية عظيمة من الكتب والرسائل، منها: "مباحث في علوم القرآن)"، "تفسير آيات الأحكام"، "الحديث والثقافة الإسلامية"، "نظام الأسرة في الإسلام"، "الدعوة إلى الإسلام"، "موقف الإسلام من الاشتراكية"، وقد تُرجم العديد من كتبه التي درست في جامعات خارج المملكة، كالجامعة الإسلامية في باكستان.
قصة النهاية
أصيب الشيخ بسرطان في الكبد قبل وفاته بثلاث سنوات، صارع خلالها المرض متحلياً بالصبر، والتفاول والتسليم لقدر الله عز وجل. وعن الفترة الأخيرة من حياته يقول ابنه الدكتور محمد: "من الأشياء التي تأثرت بها في فترة مرض الوالد: صبره الجميل وتسليمه لقضاء الله، فقد علم بتمكن المرض منه فأخذ بأسباب التداوي، وذهب إلى أمريكا واتبع نظاماً علاجياً خاصاً به، لكنه كان يتصرف بشكل طبيعي، ولم يغير نظام حياته، الأمر الذي أدهشني وأنا طبيب، فلم أكن أعلم أنه يملك هذه الطاقة الهائلة من الصبر وقوة الإرادة، والثقة بالله!"
ولندع الدكتور "إمام عدس" (الطبيب الذي حضر احتضار الشيخ) يروي لنا ما رآه: "عند دخول الشيخ المستشفى كان يبدو عليه الهدوء الكامل، لم أسمع منه كلمة تأوه على الإطلاق، وحينما بادرت بسحب بعض السوائل من استسقاء البطن كان في غاية الاستسلام والسلام، وكلما سألته: هل يؤلمه ما أفعل؟ كان لا يزيد على كلمة: الحمد لله، وقبل صلاة الفجر بقليل اعتدل في جلسته فسألته: هل تريد شيئاً؟ فقال: لا.. فسألته: كيف تجدك؟ فقال: الحمد لله. ثم أطال النظر عن يمينه، ودخل في إغماءة، ظلَّ خلالها متجهاً ببصره إلى اليمين حتى خرجت روحه، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته".
--------------------------------------------------------------------------------
منقووووووووووووووووووووووووول
ولد الشيخ منَّاع القطان في العام 1345 ــ 1925م بقرية "شنشور" إحدى قرى محافظة "المنوفية" بمصر، نشأ في بيت كريم وأسرة محافظة، وقد تأثر بوالده "خليل القطان" الذي عُرف بالتقوى والكرم والحزم.
بدأ حياته العملية بحفظ القرآن الكريم في كتّاب القرية كشأن أقرانه فأتم حفظه في السابعة من عمره، ثم التحق بالتعليم النظامي، حتى أتم الحادية عشرة فالتحق بأحد معاهد الأزهر بالمحافظة، وحصل منه على الشهادة الابتدائية ثم الثانوية بتقدير متقدم.
ومن أبرز مشايخه في تلك الفترة الشيخ "عبدالرازق عفيفي" الذي تأثر به كثيراً، وكان يلازمه في جولاته، ثم شاء الله أن التقاه في المملكة العربية السعودية، وصاحبه مرة أخرى أستاذاً وزميلاً وصديقاً، وكان من الذين ارتبط بهم الشيخ ارتباطاً قوياً، كما يوضح ذلك ابنه الدكتور "محمد".
المجاهد الداعية
في أثناء حرب فلسطين عام 1948م كان الشيخ القطان مسؤولاً عن النشاط الطلابي في جامعة الأزهر، يعمل على شحذ همم الطلاب وحثهم على الجهاد وإعدادهم لحمل أعبائه، وكان يهتم اهتماماً بالغاً بإعداد ركائز متميزة ليكونوا نواة عمل منظم، كما شارك في قيادة شباب كتائب المتطوعين في حرب 1948م حيث كانت تتم اللقاءات في مكتبة الحاج حلمي المنياوي في العباسية، وتعقد لهم اجتماعات منظمة بقاعة دار الحكمة بشارع القصر العيني.
ثم تعرَّض للاعتقال مع الشيخ الغزالي وآخرين من طلاب جامعة الأزهر إبان تزعمه لمظاهرة طلابية عقب حرب 1948م، وتأخر بسبب ذلك عامين دراسيين، ثم استطاع بمساعدة الشيخ الباقوري أن يعود مرة ثانية للجامعة عندما وافقت مشيخة الأزهر عام 1950م على عقد امتحان استثنائي له وللخارجين من الاعتقال من أمثاله.
الهجرة والزواج
قدم إلى المملكة العربية السعودية عام 1953م بعد أن اشتد الحصار عليه وازداد التضييق على نشاطاته، وبعد فترة من استقراره في المملكة فكر في الزواج، فأرسل الشيخ إلى والدته في مصر وأخبرها بعزمه على الزواج، فرشحت له زوجته ـ التي شاركته عبء دعوته طيلة حياتها معه ـ الدكتورة "رجاء محمد شبل" رئيسة قسم اللغة العربية بكلية الآداب للبنات.
حدَّثتنا الدكتورة رجاء عن اقترانها بالشيخ باعتزاز غامر، وراحت تنبش في حفريات الذاكرة، فقالت: "كان والدي مستشاراً في وزارة المواصلات، وقد تم اختياري زوجة للشيخ مناع؛ اعتماداً على الدين، والخلق والعائلة، لم أتعرَّف عليه إلا بعد الزواج فلم أكن قد رأيته من قبل، وكنت وقتها في السنة الثالثة متوسط، وقد عاملني بمنتهى الرقة والحنان، وخصوصاً في الأيام الأولى، كان يحدثني بلباقة عن كل ما أهتم به في ذلك الوقت، ممَّا ساعد على توفير جو من الألفة والارتياح، هيأني وساعدني في تحمل المسؤولية.
دفعني لإكمال المرحلة الثانية، فكنت أدرس أنا وابني الأكبر الدكتور محمد في مستوى دراسي واحد، وكان لدينا من الأبناء في ذلك الوقت ثلاثة: محمد وخالد وهند، أمَّا ريم فقد رزقنا بها عند بداية دخولي الجامعة.
كانت لي رغبة عند دخولي الجامعة في الالتحاق بقسم الجغرافيا، لكن الشيخ أقنعنا بالالتحاق بقسم اللغة العربية، وبعد التخرج شجعني على مواصلة طلب العلم فعينت معيدة في الكلية إلى أن فتح باب الدراسات العليا، فالتحقت به، كان ـ رحمه الله ـ إلى جواري دائماً".
أبوة وتربية
كان الرجل مملوءاً بحالة من الانشغال الفكري على حال أمته تتمثل في أسرته وما يحتنكها من أخطار، حريصاً على أن يقدم لها لبنة صالحة، فكان يدفع أبناءه دفعاً للتفوق، ولا يرضى بأقل من التفوق، كان يردد مقولة سيد قطب ـ رحمه الله ـ: "من رضي أن يكون الثاني سيرضى أن يكون الأخير". كان لا يقودهم رغماً عنهم، بل يضيء لهم الطريق ويفهمهم دورهم في الحياة، يقدح الشرارة الأولى (والنجاح غالباً في حاجة إلى من يقدح تلك الشرارة) ثم يتابع بالتقويم اللين، وعن ذلك يقول ابنه الدكتور محمد: "لم يكن والدي من النوع الذي يدفعه حبه لأولاده للتسلط عليهم، فقد كان يوجهنا ويتابعنا من بعيد، وعندما حصلت على المركز الرابع على مستوى المملكة في الثانوية العامة، كنت أشعر بسعادة كبيرة، ليس لأنني تفوقت، ولكن لأنني أحرزت هذا التقدم تقديراً لما قدمه لنا والدي. وأذكر أنه جمعنا في مكتبه يومها، ثم قال بلهجة تغرس في نفوسنا الثقة والمزيد من التقدم: "يا أبنائي، إن الأمة قد ترزأ في اقتصادها، واحتلال أرضها، أو تخلف حياتها، لكنها تظل أمة حية تنبض بمعاني القوة ما دامت معتصمة بدينها، مؤمنة بعقيدتها، واثقة بنصر الله، أما إذا فقدت الثقة والإيمان والدين، فقد فقدت روحها، وأصبحت جثة هامدة لا حياة فيها، وذلك هو الرزء الذي لا تجدي فيه المواساة، ولا يُستعاض عنه بشيء. وإنّ عالمنا الإسلامي في حاجة إلى أطباء ومهندسين، ومتخصصين في جميع المجالات، على شرط أن يكونوا مسلمين واعين، فكل إنسان في مهنته على ثغر من ثغور الإسلام، يستطيع أن يرتقي بأمته من خلاله، وأتمنى أن أراكم أطباء مسلمين". بعد تلك الجلسة قررت أن ألتحق بكلية الطب، ثم توالت سلسلة تفوق الأبناء فحقق أخي خالد الترتيب الأول في الثانوية على المملكة، أما أختي هند فقد كانت الأولى في الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ثم أتت أختي ريم ووفقت للمركز الأول في الثانوية أيضاً، وقد تخصصنا جميعاً في الطب ولله الحمد، تحقيقاً لرغبة الوالد وممارسة لمهنة إنسانية عظيمة".
وهنا تتدخل الدكتورة رجاء قائلة: "كان الشيخ يمارس الإشراف على أبنائه بنفسه، ويحرص على التعرف على أصدقائهم وعلى سلوكهم الديني والأخلاقي، وكان يعتمد معهم أسلوب المصارحة، يوجههم بالكلمة الطيبة، ولا يرفض لهم طلباً مشروعاً، يحرص على تعليمهم العلوم الدينية والدنيوية، يسمح لهم بالسفر والتنقل طالما يعرف مع من سيسافر الواحد منهم، وكذلك يذكرهم بواجباتهم الدينية.. باختصار: كان نعم الأب، وكانوا نعم الأبناء".
مهندس الدعوة
كذلك كان الشيخ محبوباً ومتسامحاً حتى مع من يختلف معهم في الفكر، وقد عرف عنه قلة الكلام، وتوصيل فكرته بمنتهى الهدوء دون إحراج الآخر، أو استثارة غضبه، كان هذا دأبه؛ حتى إننا نستطيع أن نسميه "المهندس" في دعوته ـ إن جازت التسمية ـ فقد كانت الأمور عنده موزونة، محسوبة بمعايير دقيقة، وأفكاره مرتبة، كما يفعل المهندسون حيال تخطيطهم.
وكمثال حي لاعتماد الشيخ الترتيب والتنظيم منهجاً في حياته، نرى كيف كان يتعامل مع وقته ومشاغله، ففي غمرة مشاغله لم يكن الشيخ ينسى أسرته، وما لها عليه من حقوق، فقد كان يخرج معهم في رحلات خلوية، وكثيراً ما كان يحثهم على الرياضة، ويذكر الدكتور محمد أنه كان يأتي أمامهم بتمارين رياضية يعجزون عن أدائها، فقد كان رياضياً بارعاً، ويقول: "لمحت يوماً في إحدى قدميه آثار جرح قديم فسألته عنه، فأخبرني أنه من آثار سقوطه من فوق الحصان وهو شاب، إذ إنه كان يهوى رياضة ركوب الخيل. كذلك كان يخصص الخميس والجمعة ــ غالباً ــ لأسرته، أمَّا باقي أيام الأسبوع فقد كان مشغولاً بين مقابلات، وأسفار، ومناقشات للأطروحات العلمية، وعندما كنت صغيراً كنت أنام قبل مجيئه من الخارج، ثم أصحو ذاهباً إلى مدرستي دون أن أراه، لكنه كان يعوض ذلك بيومي الخميس والجمعة، ويؤجل مواعيده في هذين اليومين قدر المستطاع". وكان يسمي يوم الخميس: يوم العائلة، يجتمع في بيته جميع أقاربه، وبعد أن كبر أولاده وتزوجوا كانوا يأتون بأسرهم لقضاء ذلك اليوم معه.
أما يوم الجمعة فقد كان يستيقظ مبكراً يستعد لصلاة الجمعة، فقد ظلّ خطيباً لمدة (45) عاماً، وكان يرتجل خطبه ارتجالاً، وكان يحرص على أن تكون هذه الخطب مناسبة لجميع المتلقين الذين يحضرون إلى المسجد.
سألنا عن مصير هذا التراث الهائل من الخطب فقالت زوجته: "نحن نعكف حالياً على تفريغ هذه الخطب وكتابتها، وسيتم نشرها كمقالات، فقد كنت قريبة منه، وكان لي الشرف في أن أكون أول من يطلع على ما يكتبه، أو يسجله للإذاعة أو التلفزيون".
طلبة العلم أولاً
أحب الشيخ الناس، فبادلوه حباً بحب، كانت علاقاته واسعة ومتشعبة، بدءاً من الأسر المحتاجة، وانتهاء بعلاقاته القوية جداً بطلبة العلم الذين كان يحبهم كأبنائه، ويسعى في حاجاتهم، فقد أولى طلبة العلم عناية خاصة، فهم حملة مشاعل الهداية، يقول رحمه الله: "على يد علماء الإسلام الذين يدركون واقع أمتهم، ويفهمون حقيقة رسالتهم، ويقدرون أمانة الله في أعناقهم، على يد هؤلاء العلماء يقع العبء الثقيل في مسيرة الجيل، والوقوف في وجه التيارات الغازية، واستئناف حياة إسلامية صحيحة، ومن أجل تحقيق هذه الغاية عليهم أن يستشعروا خطورة المسؤولية، وفداحة الخطب، فإنَّ الله قد أناط بهم ميراث النبوة من القيام بواجب الدعوة وهداية البشر إلى الخير، وهي مسؤولية جد خطيرة لا يحملها إلا أولئك الذين يتجردون لله من ذوي الإيمان الصادق والعزيمة القوية، التي تمضي في طريقها بثبات وصبر: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}. والتخلي عن أداء تلك المهمة أو التقصير فيها ينكب الأمة في أغلى شيء لديها، لا تجد له عوضاً".
إنتاج غزير
ترك الشيخ ثروة علمية عظيمة من الكتب والرسائل، منها: "مباحث في علوم القرآن)"، "تفسير آيات الأحكام"، "الحديث والثقافة الإسلامية"، "نظام الأسرة في الإسلام"، "الدعوة إلى الإسلام"، "موقف الإسلام من الاشتراكية"، وقد تُرجم العديد من كتبه التي درست في جامعات خارج المملكة، كالجامعة الإسلامية في باكستان.
قصة النهاية
أصيب الشيخ بسرطان في الكبد قبل وفاته بثلاث سنوات، صارع خلالها المرض متحلياً بالصبر، والتفاول والتسليم لقدر الله عز وجل. وعن الفترة الأخيرة من حياته يقول ابنه الدكتور محمد: "من الأشياء التي تأثرت بها في فترة مرض الوالد: صبره الجميل وتسليمه لقضاء الله، فقد علم بتمكن المرض منه فأخذ بأسباب التداوي، وذهب إلى أمريكا واتبع نظاماً علاجياً خاصاً به، لكنه كان يتصرف بشكل طبيعي، ولم يغير نظام حياته، الأمر الذي أدهشني وأنا طبيب، فلم أكن أعلم أنه يملك هذه الطاقة الهائلة من الصبر وقوة الإرادة، والثقة بالله!"
ولندع الدكتور "إمام عدس" (الطبيب الذي حضر احتضار الشيخ) يروي لنا ما رآه: "عند دخول الشيخ المستشفى كان يبدو عليه الهدوء الكامل، لم أسمع منه كلمة تأوه على الإطلاق، وحينما بادرت بسحب بعض السوائل من استسقاء البطن كان في غاية الاستسلام والسلام، وكلما سألته: هل يؤلمه ما أفعل؟ كان لا يزيد على كلمة: الحمد لله، وقبل صلاة الفجر بقليل اعتدل في جلسته فسألته: هل تريد شيئاً؟ فقال: لا.. فسألته: كيف تجدك؟ فقال: الحمد لله. ثم أطال النظر عن يمينه، ودخل في إغماءة، ظلَّ خلالها متجهاً ببصره إلى اليمين حتى خرجت روحه، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته".
--------------------------------------------------------------------------------
منقووووووووووووووووووووووووول