بو عبدالرحمن
17-10-2002, 02:48 PM
في زمن الفتن الذي نعيشه .. تصبح الحقائق اشبه بالخيال .. ولكن ما اروعها من حقائق .. تثبت روعة التربية الإيمانية ، وعظمتها .. اقرأ وتدبر ..ثم فكر هل وصلت معك التربية الإيمانية إلى مثل هذا ؟.
= = = = =
كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ظهراً ، عندما أقبلت الجارة تطلب من جارتها شيئا أحتاجته لإعداد طعام الغداء ..
كالعادة تهلل وجه الجارة وهي تستقبل جارتها ، وتوسع لها الطريق لتدلف إلى الداخل ، كانت تؤانسها بكلماتها الطيبة التي تدخل البهجة على قلب سامعها ..
_كان صوت المذياع يملأ أجواء الردهة الكبيرة ، وكالعادة المألوفة في هذا البيت الطيب ، كان مؤشر المذياع مستقراً على إذاعة القرآن الكريم .. كان البرنامج في تلك الساعة برنامجاً مفتوحاً مع المستمعين وخواطرهم الإيمانية ..
ابتسمت الجارة ابتسامة واسعة وقالت :
يبدو أن مذياعكم لا يُرسل إلا كلاماً طيبا يشرح القلب باستمرار ، ويجعل هذا البيت منوراً دائماً .. ؟ ما دخلت يوماً إلى هذا البيت إلا واسمعه لا يرسل إلا كلاماً معطرا طيبا ..
_ضحكت المرأة وقد سرها أن تلاحظ جارتها هذه الملاحظة ، فمعنى هذا أن الرسالة وصلت ، وعما قريب ستورق الشجرة اليابسة !! ..ابتسمت و قالت :
كيف لا يكون كذلك وكلام الله اصله وفصله ومنطلقه وركيزته ..؟!
_قالت الجارة وفي كلماتها شيء من المرارة :
أما مذياعنا فأمره للأسف لا يرسل إلا نهيقا ونعيقاً ونعيباً طوال اليوم ..
_أغنية ، وراء أغنية ، وبينهما أغنية وموسيقى ورقص .. ذبحتني أبنتي ، فهي مبتلاة بهذا ( الأفيون ) المسمى غناء ..! الله يعافينا ..
_ضحكت المرأة وقالت :
_أما أنا فقد عافاني الله من هذا البلاء منذ أكثر من سنة حين اهتدى ابني عبد العزيز ، واستقام مع الله وتغيرت أموره تماماً ، وأصبح ( إنساناً سويا ) وكنت لا أحسبه إلا بهيمة في مسلاخ رجل !!
ولما اهتدى ، هداني الله به بعد ذلك ، وعرفت كم أنا مقصرة مع الله سبحانه ..
_كان يجلس إليّ ويترفق بي ، ويتودد إليّ كثيرا ، ويحذرني ، وينبهني أن هذه منطقة محظورة ، حرام ولوجوها ، وكان ذكياً ، لم يكن ينصنحني نصحاً مباشراً ، بل كان يقرأ عليّ أحياناً فتوى تحريم الغناء ، وأحياناً يُسمعني شريطا حول هذا المعنى ، واحياناً يقول كلاماً فيه استخفاف بهذا العبث ، وأحياناً ينبهني أن الله سيحاسبني على هذا الوقت الذي يضيع في غير طاعة ، وأحيانا يناقشني مناقشة عقلية لطيفة تناسب عقلي ، يقول :
__يا أماه ، يا حبيبتي .. لو كان يوم القيامة وأوقفك الله سبحانه بين يديه ، ووضع الميزان ، فأين ستجدين ( الغناء ) في كفة الحق الذي يحبه الله ويرضاه _أم في كفة الباطل الذي يبغضه الله ، ويحبه الشيطان .. ؟؟وكنت لا أجيبه إلا بضحكة ، مع أنني اندهش من هذه المقارنة ، فيلح عليّ أن يسمع مني إجابة ، فلا أملك إلا أن اقول :
_بل سيضع الله الغناء في كفة الباطل ، ما في ذلك شك ....
فيضحك ويقول : يا أماه ، يا قرة عيني .. لقد أفتيت نفسك بنفسك ، أن الغناء حرام بلا شك ، حتى لو أفتى بحله شيخ الأزهر !! وشيوخ الدنيا كلها !!!
_وأحياناً كان يكلم أخاه الصغير بصوت مرتفع ، وأنا أعلم أنه كان يقصدني أنا بكلامه ، فاسمعه يسفّه المعاني الهابطة الواردة في الأغاني ، بل يسفه المغنين والمغنيات ، ومن يضيع وقته في السماع إليهم !! ..
__وأحياناً يحدثني عن مآسي المسلمين في بلاد كثيرة من العالم ، وأحوالهم ونحن مشغولون بالغناء كأنا سكارى لا نعي .. !!
ويأتي كلامه في هذه النقطة بالذات مؤثرا قويا إلى درجة أني ابكي بين يديه ..
_وغير هذا كثير ..
كنت أشعر أن سماء قلبي كانت ملبدة بغيوم سوداء كثيفة ، وشيئاً فشيئاً أخذت تنقشع حتى ظهرت السماء صافية رائعة كأنما هي تتبسم ..!
_وبعد محاولات كثيرة معي ، لم يمل ولم يكل ، انقدحت شرارة التأثير بكلامه في قلبي وقررت أن انخلع من ذلك العالم كله ، وأقسمت من يومها أن لا أسمع أغنية ابداً ، مهما شق ذلك على نفسي .. فرضا الله هو الأهم عندي ..
_ولما أبلغت ابني عبد العزيز بقراري ذلك ، وكان لتوه داخلاً المنزل ، ما راعني إلا أن سجد مباشرة على الأرض سجدة طويلة ، أفزعني والله عندما هوى مباشرة ، وأفزعني أكثر عندما سمعته يبكي وهو ساجد .. هذه السجدة بالذات سكبت في قلبي اليقين ، وزرعت النور بوضوح .. حتى أنني احتضنته وبكيت معه ..
_وكنت قبل دخوله ، قد جمعت في كيس كبير عشرات الأشرطة من الأغاني التي كنت اشتريها مع الايام ، ثم ناولته الكيس ليحرقها أو يتلفها أو يرميها في البحر_.. فضحك وقال : غير هذا كان أولى ..!
_وفاجأني بعد فترة أن أعطاني الكيس مملوء بنفس الأشرطة ، وقد استبدلها بمحاضرات ودروس ومواعظ ،وأناشيد .. ووالله لقد فرحت بهذه المفاجأة واعتبرتها اروع هدية احصل إليها في حياتي ..
_منذ ذلك اليوم لم اسمع أغنية ابداً ، بل اصبحت أتأفف من مجرد وصول هذا النهيق إلى اذني ، وصرت أتعجب كيف كنت أضيع أوقاتي في هذا العبث الذي لا يحبه الله ..
فالحمد لله الذي عافاني وهداني وأكرمني .. الحمد لله ..
_قالت الجارة :
_ما شاء الله .. نِعمَ الولد ولدك والله .. ولقد سمعت عنه الكثير من ابني .. ومن الجيران أيضا .. لا يذكرونه إلا بكل خير ..الجميع يثني على أخلاقه العالية الراقية ..وبتحدثون عن نشاطه في المسجد مع صغار الحي ، يجلس إليهم يعلمهم القرآن ، ويقص عليهم أحسن القصص ، ويربيهم على اروع آداب الإسلام ، ويوزع عليهم الحلوى ..
_ضحكت الأم وقالت :
قصة الحلويات هذه لها قصة لطيفة .. خلاصتها أنه كانت له جلسة يومية تقريبا معي ، كان يسميها جلسة ما قبل النوم ..! وعادةً ما تجلس الأم لتقص على ابنائها حكاية ما قبل النوم ، ولكن ابني هذا قلب المسألة ، فكان يجلس إليّ ويقص ويحكي ويتحدث ، ولا ينسى الطرائف التي تضحكني بين الوقت والوقت ، تارة حكاية .. ثم يعلق بعدها .. وتارة حوار عن الجنة ونعيمها .. وتارة عن النار وأهوالها .. وتارة كلام عن الحياة والموت ، والدنيا والآخرة .. وتارة أحوال المسلمين ومآسيهم وما يتعرضون له تحت كل سماء ، حتى يبكيني في أحيانا كثيرة .. لكني اصبحت أعرف أنه إذا تحدث عن هذا الموضوع فإنه يريد أن يتصدق فيمهد لهذا حتى أعطيها بسخاء ..!
_كل يوم يناولني جرعة قوية من هذه المائدة الطيبة التي تزيد رصيد الإيمان بوضوح في قلبي .. وكأنه يقدم لي على كل ضرس لون من الطعام الروحي !
وذات يوم حدثني عن حلقة المسجد التي يشرف عليها وأنه يريد مني أن اشاركه الأجر فيها ، فلما رأى تعجبي قال :
_الأمر بسيط جداً ، اريد أن اشتري للصغار حلويات وأزعها عليهم لأشجعهم ، فمنك المال ، وعليّ التوزيع .. !!
وضحك وضحكت وقلت له : أبشر .. وكان له ما أراد بل فوق ما أراد .. !
_ثم شرعت المرأة تدعو لولدها دعوات طيبة مباركة وعيونها تترقرق بالدموع بينما رفعت الجارة يديها لتؤمن على الدعاء بقلب خاشع ، ونبرة متأثرة ..
وهي تقول : اللهم اجعل ابنائي مثل ابنها هذا ..
_بعد انصراف الجارة بقيت هذه المرأة الصالحة تدور في بيتها كأنها النحلة ، وفجأة رن جرس الهاتف وتوالى رنينه ، وكانت بعيدة عنه ، فهرولت إليه ..
_وكما علمها ولدها الحبيب بادرت تقول :
السلام عليكم ورحمة الله .. ولم تعد تقول : ألو ..كما يفعل الكثيرون ..
_بل تشرع في السلام على الطرف الآخر .. وكانت تقول لمن يسألها عن ذلك .. لست في غنى عن ثلاثين حسنة .. ثم لماذا لا نفشي السلام كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه ، ثم ماذا تعني ألوو .. ؟ ثم ما أحلى أن أكون متميزة .. ثم . وثم .. وكانت تشعر بانتشاء وهي تتحدث بهذه المعاني التي تلقتها من ( شيخها ) كما تحب أن تداعب ابنها الحبيب .. !
_عندما ألقت السلام لاحظت أن الطرف الآخر ارتبك قليلا قبل أن يواصل كلماته ، _ ممكن أكلم ابا عبد العزيز ؟ _ هو في العمل ولم يصل بعد ..
_ أه.. طيب .. طيب أأأأأأ .. ساتصل بعد ساعة ..إن شاء الله ..
_لاحظت المرأة الصالحة أن لهجة المتحدث غير طبيعية ، بل ارتعش صوته حين سألها :
هل أنت أم عبد العزيز .. ؟ فلما أجابته تلجلج واضطرب بوضوح ..
فألحت عليه أن يخبرها الخبر ، لقد ذهب فكرها أن زوجها أصابته نوبة قلبية ، فهو مريض ، فتوهمت أن المتحدث أراد أن يمهد للخبر بسؤاله عن زوجها فمن البديهي ان يعرف المتكلم أن الزوج لا زال في عمله ، فوقت انصراف الموظفين لم يحن بعد ..
واستحلفته أن يخبرها الخبر ولا يخشى شيئا ..فهي تتهيا لك أمر مستعينة بالله .
_وبلسان مضطرب حمل لها خبراً كالصاعقة ..
_أخبرها أن ابنها الحبيب تغمده الله برحمته .. فقد التهمته أمواج البحر بعد أن جاهد جهادا عنيفا لإنقاذ شخص يغرق ، فغرق هو ونجا الآخر ..!
أظلمت الدنيا في عيني المرأة . وأحست أن الأرض تدور بعنف ، وأن قلبها يكاد يتوقف ، وشعرت بغصة شديدة في حلقها ، ولم تجد ما تقوله للحظات ، كأنما لم تصدق ما سمعت.. غير أنها استدركت سريعا ، وحمدت الله ، واسترجعت ، وشكرت المتحدث الذي طلب منها إخبار زوجها أن يراجع المستشفى الكبير في وسط المدينة ..
__
أغلقت السماعة وهي لا تكاد تستوعب ما حدث ، وغطت وجهها بكفيها وبكت ولسانها يدور بذكر الله ...
_ إنا لله وإنا إليه راجعون ... لا حول ولا قوة إلا بالله .. لا إله إلا الله ..
تكرر هذا ونحوه كثيرا .. ثم رفعت رأسها فسالت دموعها على وجهها خطوطاً ، وكأنما نبهتها هذه الدمعات إلى أمر ، فنفضت راسها ، وأدرات فكرها ، ومررت شريط الذكريات مع هذا الفتى المتلألئ ..وتذكرت ما كان يقوله لها في دروسه لها .. ولا سيما في مثل هذه المواقف الصعبة ، فتحاملت على نفسها واتجهت للتتوضأ ثم تصلي ركعتين بين يدي الله .. وأخذت تردد في الركعتين قوله تعالى_)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) وما بعدها ..
لقد قالت لنفسها :
هكذا أذكر ان عبد العزيز أخبرني أن اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف .. فلماذا لا أتشبه بهم اليوم ؟؟
_كانت وجبة الطعام قد تهيأت ، وكان البيت قد أعد إعداداً كاملاً ، ولم يبق إلا استقبال الزوج والأبن الأصغر ، أما البنت الصغرى فهي تلعب في الحجرة الأخرى مع ألعابها ...
_ظلت المرأة تتجول بلا وعي ، لم تستقر في مكان ، كانت تقرب يدها من الهاتف لتتصل بزوجها فتخبره ، ثم تكف عن ذلك ، مع أن قلبها في حالة لا يعلم بها سوى الله وحده .. ثم تعود لتدور بلا وعي ولسانها لا يفتر عن ذكر الله والدعاء ، ودموعها لا تنقطع ..
لم تدرِ كم مضى من الوقت على حالتها النفسية الصعبة التي تمر بها ، لكنها بمجرد أن سمعت جرس الباب قفزت قفزاً إلى دورة المياه لتغسل وجهها جيداً ، حتى تمحو آثار الدموع .. وقبل أن تتجه إلى الباب مرت في طريقها على المرآة المعلقة في الصالون ، لترى وجهها وتحاول أن تمسح ما بقي من آثار الحالة القلبية التي عصفت بها ولا تزال تعصف ، والتي تركت بصماتها على ملامح وجهها ، ثم تكلفت الابتسام في مشقة وجهد ، وفتحت الباب وهي تتكلف الابتهاج بوصول زوجها سالما ،
واستقبلته كما كانت تفعل كل يوم ، ابتسامة متلألئة ، وكلمات طيبة ، ودعوات مباركة ، وسارت معه خطوات بعد أن تناولت منه حقيبته التي ترافقه كل يوم إلى عمله .. ثم انصرفت لتعد مائدة الطعام ، أثناء ذلك عاد الصغير من الخارج ، وبادر إلى تقبيل يد ابيه ، بينما قبل الأب راس صغيره .. ثم اشار إليه إن يلحق بأمه في المطبخ ليقبل راسها أيضا ..
__
على مائدة الطعام لم تستطع أن تأكل كالمعتاد ، رغم أنها تكلفت ذلك ، وكان الزوج لماحاً فسألها عما بها ، فاعتذرت أنها أكلت ما يكفيها وسد رغبتها في المزيد .. غير أن قلبها لا زال يغلي غلياناً شديداً ، فبادرت تنهض كأنما تذكرت شيئا ، وطالبتهم أن يكملوا طعامهم ...ولما واراها باب الحجرة سقطت على الفراش تنتحب وهي تكتم صوتها ، ولسانها يستمطر رحمات السماء بضراعة ..
ولا يزال في القصة مشاهد مثيرة مؤثرة
=== أكمل بقية القصة على هذا الرابط .... فلم يبق منها إلا القليل ..
http://www.alwahah.net/aalawi60/m29.htm
= = = = =
كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ظهراً ، عندما أقبلت الجارة تطلب من جارتها شيئا أحتاجته لإعداد طعام الغداء ..
كالعادة تهلل وجه الجارة وهي تستقبل جارتها ، وتوسع لها الطريق لتدلف إلى الداخل ، كانت تؤانسها بكلماتها الطيبة التي تدخل البهجة على قلب سامعها ..
_كان صوت المذياع يملأ أجواء الردهة الكبيرة ، وكالعادة المألوفة في هذا البيت الطيب ، كان مؤشر المذياع مستقراً على إذاعة القرآن الكريم .. كان البرنامج في تلك الساعة برنامجاً مفتوحاً مع المستمعين وخواطرهم الإيمانية ..
ابتسمت الجارة ابتسامة واسعة وقالت :
يبدو أن مذياعكم لا يُرسل إلا كلاماً طيبا يشرح القلب باستمرار ، ويجعل هذا البيت منوراً دائماً .. ؟ ما دخلت يوماً إلى هذا البيت إلا واسمعه لا يرسل إلا كلاماً معطرا طيبا ..
_ضحكت المرأة وقد سرها أن تلاحظ جارتها هذه الملاحظة ، فمعنى هذا أن الرسالة وصلت ، وعما قريب ستورق الشجرة اليابسة !! ..ابتسمت و قالت :
كيف لا يكون كذلك وكلام الله اصله وفصله ومنطلقه وركيزته ..؟!
_قالت الجارة وفي كلماتها شيء من المرارة :
أما مذياعنا فأمره للأسف لا يرسل إلا نهيقا ونعيقاً ونعيباً طوال اليوم ..
_أغنية ، وراء أغنية ، وبينهما أغنية وموسيقى ورقص .. ذبحتني أبنتي ، فهي مبتلاة بهذا ( الأفيون ) المسمى غناء ..! الله يعافينا ..
_ضحكت المرأة وقالت :
_أما أنا فقد عافاني الله من هذا البلاء منذ أكثر من سنة حين اهتدى ابني عبد العزيز ، واستقام مع الله وتغيرت أموره تماماً ، وأصبح ( إنساناً سويا ) وكنت لا أحسبه إلا بهيمة في مسلاخ رجل !!
ولما اهتدى ، هداني الله به بعد ذلك ، وعرفت كم أنا مقصرة مع الله سبحانه ..
_كان يجلس إليّ ويترفق بي ، ويتودد إليّ كثيرا ، ويحذرني ، وينبهني أن هذه منطقة محظورة ، حرام ولوجوها ، وكان ذكياً ، لم يكن ينصنحني نصحاً مباشراً ، بل كان يقرأ عليّ أحياناً فتوى تحريم الغناء ، وأحياناً يُسمعني شريطا حول هذا المعنى ، واحياناً يقول كلاماً فيه استخفاف بهذا العبث ، وأحياناً ينبهني أن الله سيحاسبني على هذا الوقت الذي يضيع في غير طاعة ، وأحيانا يناقشني مناقشة عقلية لطيفة تناسب عقلي ، يقول :
__يا أماه ، يا حبيبتي .. لو كان يوم القيامة وأوقفك الله سبحانه بين يديه ، ووضع الميزان ، فأين ستجدين ( الغناء ) في كفة الحق الذي يحبه الله ويرضاه _أم في كفة الباطل الذي يبغضه الله ، ويحبه الشيطان .. ؟؟وكنت لا أجيبه إلا بضحكة ، مع أنني اندهش من هذه المقارنة ، فيلح عليّ أن يسمع مني إجابة ، فلا أملك إلا أن اقول :
_بل سيضع الله الغناء في كفة الباطل ، ما في ذلك شك ....
فيضحك ويقول : يا أماه ، يا قرة عيني .. لقد أفتيت نفسك بنفسك ، أن الغناء حرام بلا شك ، حتى لو أفتى بحله شيخ الأزهر !! وشيوخ الدنيا كلها !!!
_وأحياناً كان يكلم أخاه الصغير بصوت مرتفع ، وأنا أعلم أنه كان يقصدني أنا بكلامه ، فاسمعه يسفّه المعاني الهابطة الواردة في الأغاني ، بل يسفه المغنين والمغنيات ، ومن يضيع وقته في السماع إليهم !! ..
__وأحياناً يحدثني عن مآسي المسلمين في بلاد كثيرة من العالم ، وأحوالهم ونحن مشغولون بالغناء كأنا سكارى لا نعي .. !!
ويأتي كلامه في هذه النقطة بالذات مؤثرا قويا إلى درجة أني ابكي بين يديه ..
_وغير هذا كثير ..
كنت أشعر أن سماء قلبي كانت ملبدة بغيوم سوداء كثيفة ، وشيئاً فشيئاً أخذت تنقشع حتى ظهرت السماء صافية رائعة كأنما هي تتبسم ..!
_وبعد محاولات كثيرة معي ، لم يمل ولم يكل ، انقدحت شرارة التأثير بكلامه في قلبي وقررت أن انخلع من ذلك العالم كله ، وأقسمت من يومها أن لا أسمع أغنية ابداً ، مهما شق ذلك على نفسي .. فرضا الله هو الأهم عندي ..
_ولما أبلغت ابني عبد العزيز بقراري ذلك ، وكان لتوه داخلاً المنزل ، ما راعني إلا أن سجد مباشرة على الأرض سجدة طويلة ، أفزعني والله عندما هوى مباشرة ، وأفزعني أكثر عندما سمعته يبكي وهو ساجد .. هذه السجدة بالذات سكبت في قلبي اليقين ، وزرعت النور بوضوح .. حتى أنني احتضنته وبكيت معه ..
_وكنت قبل دخوله ، قد جمعت في كيس كبير عشرات الأشرطة من الأغاني التي كنت اشتريها مع الايام ، ثم ناولته الكيس ليحرقها أو يتلفها أو يرميها في البحر_.. فضحك وقال : غير هذا كان أولى ..!
_وفاجأني بعد فترة أن أعطاني الكيس مملوء بنفس الأشرطة ، وقد استبدلها بمحاضرات ودروس ومواعظ ،وأناشيد .. ووالله لقد فرحت بهذه المفاجأة واعتبرتها اروع هدية احصل إليها في حياتي ..
_منذ ذلك اليوم لم اسمع أغنية ابداً ، بل اصبحت أتأفف من مجرد وصول هذا النهيق إلى اذني ، وصرت أتعجب كيف كنت أضيع أوقاتي في هذا العبث الذي لا يحبه الله ..
فالحمد لله الذي عافاني وهداني وأكرمني .. الحمد لله ..
_قالت الجارة :
_ما شاء الله .. نِعمَ الولد ولدك والله .. ولقد سمعت عنه الكثير من ابني .. ومن الجيران أيضا .. لا يذكرونه إلا بكل خير ..الجميع يثني على أخلاقه العالية الراقية ..وبتحدثون عن نشاطه في المسجد مع صغار الحي ، يجلس إليهم يعلمهم القرآن ، ويقص عليهم أحسن القصص ، ويربيهم على اروع آداب الإسلام ، ويوزع عليهم الحلوى ..
_ضحكت الأم وقالت :
قصة الحلويات هذه لها قصة لطيفة .. خلاصتها أنه كانت له جلسة يومية تقريبا معي ، كان يسميها جلسة ما قبل النوم ..! وعادةً ما تجلس الأم لتقص على ابنائها حكاية ما قبل النوم ، ولكن ابني هذا قلب المسألة ، فكان يجلس إليّ ويقص ويحكي ويتحدث ، ولا ينسى الطرائف التي تضحكني بين الوقت والوقت ، تارة حكاية .. ثم يعلق بعدها .. وتارة حوار عن الجنة ونعيمها .. وتارة عن النار وأهوالها .. وتارة كلام عن الحياة والموت ، والدنيا والآخرة .. وتارة أحوال المسلمين ومآسيهم وما يتعرضون له تحت كل سماء ، حتى يبكيني في أحيانا كثيرة .. لكني اصبحت أعرف أنه إذا تحدث عن هذا الموضوع فإنه يريد أن يتصدق فيمهد لهذا حتى أعطيها بسخاء ..!
_كل يوم يناولني جرعة قوية من هذه المائدة الطيبة التي تزيد رصيد الإيمان بوضوح في قلبي .. وكأنه يقدم لي على كل ضرس لون من الطعام الروحي !
وذات يوم حدثني عن حلقة المسجد التي يشرف عليها وأنه يريد مني أن اشاركه الأجر فيها ، فلما رأى تعجبي قال :
_الأمر بسيط جداً ، اريد أن اشتري للصغار حلويات وأزعها عليهم لأشجعهم ، فمنك المال ، وعليّ التوزيع .. !!
وضحك وضحكت وقلت له : أبشر .. وكان له ما أراد بل فوق ما أراد .. !
_ثم شرعت المرأة تدعو لولدها دعوات طيبة مباركة وعيونها تترقرق بالدموع بينما رفعت الجارة يديها لتؤمن على الدعاء بقلب خاشع ، ونبرة متأثرة ..
وهي تقول : اللهم اجعل ابنائي مثل ابنها هذا ..
_بعد انصراف الجارة بقيت هذه المرأة الصالحة تدور في بيتها كأنها النحلة ، وفجأة رن جرس الهاتف وتوالى رنينه ، وكانت بعيدة عنه ، فهرولت إليه ..
_وكما علمها ولدها الحبيب بادرت تقول :
السلام عليكم ورحمة الله .. ولم تعد تقول : ألو ..كما يفعل الكثيرون ..
_بل تشرع في السلام على الطرف الآخر .. وكانت تقول لمن يسألها عن ذلك .. لست في غنى عن ثلاثين حسنة .. ثم لماذا لا نفشي السلام كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه ، ثم ماذا تعني ألوو .. ؟ ثم ما أحلى أن أكون متميزة .. ثم . وثم .. وكانت تشعر بانتشاء وهي تتحدث بهذه المعاني التي تلقتها من ( شيخها ) كما تحب أن تداعب ابنها الحبيب .. !
_عندما ألقت السلام لاحظت أن الطرف الآخر ارتبك قليلا قبل أن يواصل كلماته ، _ ممكن أكلم ابا عبد العزيز ؟ _ هو في العمل ولم يصل بعد ..
_ أه.. طيب .. طيب أأأأأأ .. ساتصل بعد ساعة ..إن شاء الله ..
_لاحظت المرأة الصالحة أن لهجة المتحدث غير طبيعية ، بل ارتعش صوته حين سألها :
هل أنت أم عبد العزيز .. ؟ فلما أجابته تلجلج واضطرب بوضوح ..
فألحت عليه أن يخبرها الخبر ، لقد ذهب فكرها أن زوجها أصابته نوبة قلبية ، فهو مريض ، فتوهمت أن المتحدث أراد أن يمهد للخبر بسؤاله عن زوجها فمن البديهي ان يعرف المتكلم أن الزوج لا زال في عمله ، فوقت انصراف الموظفين لم يحن بعد ..
واستحلفته أن يخبرها الخبر ولا يخشى شيئا ..فهي تتهيا لك أمر مستعينة بالله .
_وبلسان مضطرب حمل لها خبراً كالصاعقة ..
_أخبرها أن ابنها الحبيب تغمده الله برحمته .. فقد التهمته أمواج البحر بعد أن جاهد جهادا عنيفا لإنقاذ شخص يغرق ، فغرق هو ونجا الآخر ..!
أظلمت الدنيا في عيني المرأة . وأحست أن الأرض تدور بعنف ، وأن قلبها يكاد يتوقف ، وشعرت بغصة شديدة في حلقها ، ولم تجد ما تقوله للحظات ، كأنما لم تصدق ما سمعت.. غير أنها استدركت سريعا ، وحمدت الله ، واسترجعت ، وشكرت المتحدث الذي طلب منها إخبار زوجها أن يراجع المستشفى الكبير في وسط المدينة ..
__
أغلقت السماعة وهي لا تكاد تستوعب ما حدث ، وغطت وجهها بكفيها وبكت ولسانها يدور بذكر الله ...
_ إنا لله وإنا إليه راجعون ... لا حول ولا قوة إلا بالله .. لا إله إلا الله ..
تكرر هذا ونحوه كثيرا .. ثم رفعت رأسها فسالت دموعها على وجهها خطوطاً ، وكأنما نبهتها هذه الدمعات إلى أمر ، فنفضت راسها ، وأدرات فكرها ، ومررت شريط الذكريات مع هذا الفتى المتلألئ ..وتذكرت ما كان يقوله لها في دروسه لها .. ولا سيما في مثل هذه المواقف الصعبة ، فتحاملت على نفسها واتجهت للتتوضأ ثم تصلي ركعتين بين يدي الله .. وأخذت تردد في الركعتين قوله تعالى_)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) وما بعدها ..
لقد قالت لنفسها :
هكذا أذكر ان عبد العزيز أخبرني أن اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف .. فلماذا لا أتشبه بهم اليوم ؟؟
_كانت وجبة الطعام قد تهيأت ، وكان البيت قد أعد إعداداً كاملاً ، ولم يبق إلا استقبال الزوج والأبن الأصغر ، أما البنت الصغرى فهي تلعب في الحجرة الأخرى مع ألعابها ...
_ظلت المرأة تتجول بلا وعي ، لم تستقر في مكان ، كانت تقرب يدها من الهاتف لتتصل بزوجها فتخبره ، ثم تكف عن ذلك ، مع أن قلبها في حالة لا يعلم بها سوى الله وحده .. ثم تعود لتدور بلا وعي ولسانها لا يفتر عن ذكر الله والدعاء ، ودموعها لا تنقطع ..
لم تدرِ كم مضى من الوقت على حالتها النفسية الصعبة التي تمر بها ، لكنها بمجرد أن سمعت جرس الباب قفزت قفزاً إلى دورة المياه لتغسل وجهها جيداً ، حتى تمحو آثار الدموع .. وقبل أن تتجه إلى الباب مرت في طريقها على المرآة المعلقة في الصالون ، لترى وجهها وتحاول أن تمسح ما بقي من آثار الحالة القلبية التي عصفت بها ولا تزال تعصف ، والتي تركت بصماتها على ملامح وجهها ، ثم تكلفت الابتسام في مشقة وجهد ، وفتحت الباب وهي تتكلف الابتهاج بوصول زوجها سالما ،
واستقبلته كما كانت تفعل كل يوم ، ابتسامة متلألئة ، وكلمات طيبة ، ودعوات مباركة ، وسارت معه خطوات بعد أن تناولت منه حقيبته التي ترافقه كل يوم إلى عمله .. ثم انصرفت لتعد مائدة الطعام ، أثناء ذلك عاد الصغير من الخارج ، وبادر إلى تقبيل يد ابيه ، بينما قبل الأب راس صغيره .. ثم اشار إليه إن يلحق بأمه في المطبخ ليقبل راسها أيضا ..
__
على مائدة الطعام لم تستطع أن تأكل كالمعتاد ، رغم أنها تكلفت ذلك ، وكان الزوج لماحاً فسألها عما بها ، فاعتذرت أنها أكلت ما يكفيها وسد رغبتها في المزيد .. غير أن قلبها لا زال يغلي غلياناً شديداً ، فبادرت تنهض كأنما تذكرت شيئا ، وطالبتهم أن يكملوا طعامهم ...ولما واراها باب الحجرة سقطت على الفراش تنتحب وهي تكتم صوتها ، ولسانها يستمطر رحمات السماء بضراعة ..
ولا يزال في القصة مشاهد مثيرة مؤثرة
=== أكمل بقية القصة على هذا الرابط .... فلم يبق منها إلا القليل ..
http://www.alwahah.net/aalawi60/m29.htm