عمر الصحفي
03-05-2003, 06:19 AM
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
جلكم لا يعرف من هو يونس البحري .. هو أشهر أعلامي عربي في النصف الأول من القرن العشرين ، عراقي المنشأ والولادة ، سافر الى أوروبا في عشرينيات القرن الماضي ، وأستقر به التجوال في النمسا حيث تعرف على القائد النازي أدولف هتلر قبل التحول عندما كان يمارس فنا تشكيليا بدائيا يقتات من عائد اللوحات التي يتمكن من رسمها ببيعها في الشوارع حيث يستقبل صديقة يونس البحري أثناء تسكعه على أرصفة تلك الشوارع ، وبطبيعة الحال فقد شجع الموهبة الجديدة على رسم المزيد من اللوحات ربما لكي يكفي العائد في سد رمقهما .
ومضى الصديقان خلال مشوار التحول بأتجاه العمل السياسي ، وظل البحري يدعم هتلر بالرأي والمشورة حتى وصل الى نهايتة في مطلع الثلاثينيات بحكم ألمانيا التي كانت النمسا آنذاك جزءا منها .
ولما أستتب الأمر للقائد الألماني الجديد وأحكم قبضته على الشارع السياسي الألماني ودهاليز الحكم وأقبيته فوّض صديقه العراقي يونس البحري بتأسيس أداة أعلامية لربط العالم العربي الذي كان هتلر يكن لأهله كل الأحترام بدولة ألمانيا الجديدة ذات المشاريع التوسعية بنوايا تدميريه لا تبقى ولا تذر ، وجاء نتيجة التكليف أن ظهرت الى الوجود أذاعة ألمانية ناطقة باللغة العربية كأول أذاعه من نوعها في ذلك الزمان المبكر أسماها يونس البحري ( أذاعة برلين حي العرب ) ، وكان لتلك الأذاعة دورها الفاعل في الأوساط العربية ما حدا ببريطانيا العظمى الى تأسيس أذاعة لندن القسم العربي .B.B.C. بأهداف منها مقاومة ـ لسان ـ يونس البحري السليط .
أنتهت الحرب العالمية الثانية وأختفت دولة هتلر والمحور الذي شكل من تحالف ايطاليا واليابان مع ألمانيا ، وأخرست أذاعة حي العرب وأصبح يونس البحري ملاحقا في البراري والبحار حتى أستقر به الحال متخفيا في لبنان .
في عام 1958 م اندلعت الثورة في لبنان على الرئيس كميل شمعون واتخذت بعض عناصر المقاومة الشعبية من حديقة منزل يونس البحري مقرا أقامت عليه الدشم والخنادق ، ولما كان الرصاص يدوي أمام الباب الخارجي ويقع بعضه في شبابيك الغرف سأل أستاذنا يونس البحري حرمه المصون أن كانت تشاطره الرأي بالسفر الى بغداد الغارقة في ذلك الفصل في قيض حارق ، فقالت على السمع والطاعة ، والله رمضاء بغداد ولا رصاص بيروت .
أستغلت الأسرة المنكوبة فترة هدنة لتناول احدى الوجبات اليومية فأنسلت من بين أكياس الرمل والخنادق في الطريق الى بغداد عبر أول وسيلة ، ولا أعلم ماهية هذه الوسيلة .
في بغداد عندما وصلت الأسرة ، وأستطاعت التخفي لدى أحد أقاربها اندلعت ثورة 1958 م على الأسرة الهاشمية الحاكمة آنذاك ، وأسفرت عن دماء ورصاص وقذف صاروخي وقصف طيران أنتهى بمقتل وريث العرش الملك فيصل والوصي عليه عبداللآه ورئيس الوزراء نوري السعيد وتولي عبدالكريم قاسم .
صادف يونس بحري ان أحد ابناء أقاربه ضابطا في الجيش العراقي مرافقا للواء عبدالسلام عارف أحد قادة ثورة 1958 م ، ثرثر الضابط الصغير في محيط زملائه وتباهى أن الأستاذ يونس البحري من اقاربهم وأنه موجود ( عندنا بالبيت ) وتدرج الخبر بين قيادات الثورة وصار يونس البحري بندا على أجندة مشاغل مجلس قيادة الثورة ، وفوجىء بعدد من الجنود يحضرون الى بيت أقاربه ويقتادونه الى السجن ليجد نفسه في فناء واحد تطل عليه عددا من الزنازين مع عدد من قيادات العهد البائد ممن كتبت لهم السلامة ونجوا من فرص الموت التي كانت متاحة بالمجان بتهمة قيادة التآمر على الأمة العربية ضمن ما كان يسمى آنذاك بـ ( حلف بغداد ) الذي وقع على ركبتيه بعد الحملة الأعلامية الشرسة التي أوقدها تحته الأعلام المصري على عهد جمال عبدالناصر .
دخل يونس البحري السجن تسبقه شهرته كمذيع النازي أدولف هتلر فكان أن التف حوله السجناء وسجانيهم لسماع قصصه ونوادره وتعليقاته اللاذعة على الثورة والأوضاع العامة في العراق والعالم العربي .
وكان أكثر من تقرب منه آمر السجن برتبة عريف نتيجة أحاديثه المطولة عن العريف باتيستا الذي قاد انقلابا في كوبا وأطاح به فيما بعد فيدل كاسترو في ثورة شهيرة ، ومن المفارقات أنها الثورة الوحيدة التي لازالت على قيد الحياة ، وسأل آمر السجن يونس البحري أن كان العريف باتيستا عريفا مثله فأجابه بنعم ، وأضاف العريف أن كان العريف باتيستا يحكم كوبا كلها فأجابه يحكم كوبا كلها ، راقت القصة للعريف العراقي آمر سجن بغداد فمضى يسأل يونس البحري : هل في مقدوري أن أحكم العراق ، أجابه يونس البحري : الله يخيب أمك ، أنت الآن تحكم الذين حكموا العراق 38 سنة .
بلغ الخبر لأسماع عبدالسلام عارف الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية فأستدعى يونس البحري فأحضر الى مكتبه فسأله : لماذا تحرض ضباط السجن على الثورة ؟؟؟ ، لم ينتبه يونس البحري للسؤال فقد كان منهمكا بالنظر الى طاولة المكتب الذي يجلس عليه عبدالسلام عارف الذي عاد ليسأله وهو يضرب على الطاولة ، فأفاق يونس البحري من سرحانه على ضربات طاولة المكتب وأعتدل واقفا وبدل أن يرد على السؤال قال : سيادة الرفيق هذه الطاولة مشؤومه ، وأشار على الطاولة التي يجلس عليها عبدالسلام عارف الذي وصفه يونس البحري فيما بعد في أحد كتبه بـ(الموسوس) ، انتبه عبدالسلام عارف أو فز وحدق في الطاولة وسأل يونس البحري : أيش يدريك ، فرد يونس البحري : ماقعد عليها أحد ألا ودخل منها الى السجن ثم مضى يسرد تاريخ الطاولة : أحضرها عام 1940 م السيد رشيد عالي الكيلاني عندما كان وزير داخلية وأنتهى به الأمر كما تعلم ياسعادة الوزير الى السجن ، وأعقبه فوقها عددا من الوزراء آل مصيرهم جميعا الى السجن ، وآخرهم الأستاذ سعيد بابان الموجود معي الآن في زنزانة واحدة .
أرتعش اللواء عبدالسلام عارف وطلب من الضابط الذي أحضره أن يعيده الى السجن وقبل أن يغادر مكتب وزير الداخلية قال له : تحرّص يا عبدالسلام أن الثورات مستنسخة من ( القطاوة ) تأكل أولادها أن لم تجد ما تأكله .
أعيد يونس البحري الى السجن وأودع بحسب تعليمات عبدالسلام عارف في زنزانة أنفرادية ، فالرجل الذي مكن هتلر من الوصول الى حكم ألمانيا بحسب رأي عبدالسلام عارف قادر على أيصال عريف في سجن بغداد الى سدة حكم العراق .
ولم تمضي ألا أسابيع من تلك الواقعة حتى أحضر عبدالسلام عارف الى السجن سجينا وليس زائرا ، فنهض يونس البحري أمام قضبان زنزانته على الجلجة والضوضاء التي أحدثهما أحضاره ولما شاهده يمر من أمامه ناداه : ياعبدالسلام ما قلت لك الطاولة مشؤومة ، والثورة مثل القطاوة .
تلقى الزعيم الأوحد عبدالكريم قاسم قصة يونس البحري مع عبدالسلام عارف بعد أن أنقلب عليه وأودعه السجن فراقت له القصة وأمر ليس بأطلاق سراحه وأنما بأحضاره الى مكتبه ، حضر يونس البحري الى مكتب الزعيم وتلقى منه رضاه عليه وأكرمه قبل أن يقول له : أنت في الحفظ والصون وأعتبر أن متاعبك قد أزفت نهايتها ، ومضى الى حال سبيله ، وبدل أن يعاود ممارسة التخفي ظهر في كشك يقع تحت ظل شجرة في أحد ميادين بغداد ، وأبدى يونس البحري مهارة فائقة في الطبخ وأعداد الوجبات الخفيفة التي يتم تناولها على الواقف في محيط الكشك بالأتكاء على جوانب السيارات أو داخلها وبالذات من قبل الذوات الذين تنادوا بعد سماعهم بوجوده في هذا المكان فخصصوه كما وصف يونس البحري فيما بعد لمواعيدهم الغرامية .
وكان من الزبائن الذين تدافعوا الى الكشك الوزراء وكبار الأعيان والمثقفين وأعضاء النخبة ، وحاول وزير التجارة آنذاك ممازحة الأستاذ يونس البحري والتندر بالحال الذي بلغها بعدما كان أشهر أعلامي وأخف من سكن ألسنة الناس ووعيهم ، فسأله : الم تجد مهنة غير هذه ..؟؟ فرد عليه يونس البحري : حكومة أنت وزير تجارتها أين تريد يونس البحري أن يكون ..
توثقت العلاقة بين يونس البحري وقيادة ثورة 1958 م وزالت بقايا الشكوك التي تؤرق الجميع وتمكن من العودة والأندماج من جديد ضمن النخبة الجديدة بعد وقوع القديمة وتوزع رموزها بين المقابر والسجون والملاذات الآمنة في خارج العراق .
ولما أبدى صراحة فائقة في رده على عبدالكريم قاسم الذي أستعد لأعادته الى الأعلام ليكن مديرا لأذاعة بغداد مقابل التصدي للأعلام المصري والقيام بأخراس يونس البحري في الخمسينيات والستينيات للأستاذ أحمد سعيد ومعه محمد حسنين هيكل بالأعتذار عن عن هذه المهمة ، كافأه عبدالكريم قاسم بتولي الأشراف على الولائم التي تقيمها الدولة في المناسبات المختلفة .
فرفض هذا العرض بذريعة أنه لو قبل قلن ينجوا من دسائس الفصيل المكلف يحراسته الذين يبدون في العلن خشيتهم على حياته ويتمنون في الخفاء الخلاص من جبروته وبطشه وطغيانه .
أبتسم عبدالكريم قاسم وسأل يونس البحري : ما هي طلباتك ..؟؟ ، قال : تسمح لي بالعودة الى بيروت ، رد عليه الرئيس : لك ما تريد .
فعاد يونس البحري الى بيروت ، وعادت الى بغداد نوبات الأنقلابات العسكرية الدموية ، فأستمتع الأستاذ بمشهد سحل جثة الزعيم الأوحد ، وعودة عبدالسلام عارف الى قصر الرحاب في بغداد .
مـــــــــــــــــــــــنــــــــــــــــــــقـــــــــــــــول (بتصرف)
جلكم لا يعرف من هو يونس البحري .. هو أشهر أعلامي عربي في النصف الأول من القرن العشرين ، عراقي المنشأ والولادة ، سافر الى أوروبا في عشرينيات القرن الماضي ، وأستقر به التجوال في النمسا حيث تعرف على القائد النازي أدولف هتلر قبل التحول عندما كان يمارس فنا تشكيليا بدائيا يقتات من عائد اللوحات التي يتمكن من رسمها ببيعها في الشوارع حيث يستقبل صديقة يونس البحري أثناء تسكعه على أرصفة تلك الشوارع ، وبطبيعة الحال فقد شجع الموهبة الجديدة على رسم المزيد من اللوحات ربما لكي يكفي العائد في سد رمقهما .
ومضى الصديقان خلال مشوار التحول بأتجاه العمل السياسي ، وظل البحري يدعم هتلر بالرأي والمشورة حتى وصل الى نهايتة في مطلع الثلاثينيات بحكم ألمانيا التي كانت النمسا آنذاك جزءا منها .
ولما أستتب الأمر للقائد الألماني الجديد وأحكم قبضته على الشارع السياسي الألماني ودهاليز الحكم وأقبيته فوّض صديقه العراقي يونس البحري بتأسيس أداة أعلامية لربط العالم العربي الذي كان هتلر يكن لأهله كل الأحترام بدولة ألمانيا الجديدة ذات المشاريع التوسعية بنوايا تدميريه لا تبقى ولا تذر ، وجاء نتيجة التكليف أن ظهرت الى الوجود أذاعة ألمانية ناطقة باللغة العربية كأول أذاعه من نوعها في ذلك الزمان المبكر أسماها يونس البحري ( أذاعة برلين حي العرب ) ، وكان لتلك الأذاعة دورها الفاعل في الأوساط العربية ما حدا ببريطانيا العظمى الى تأسيس أذاعة لندن القسم العربي .B.B.C. بأهداف منها مقاومة ـ لسان ـ يونس البحري السليط .
أنتهت الحرب العالمية الثانية وأختفت دولة هتلر والمحور الذي شكل من تحالف ايطاليا واليابان مع ألمانيا ، وأخرست أذاعة حي العرب وأصبح يونس البحري ملاحقا في البراري والبحار حتى أستقر به الحال متخفيا في لبنان .
في عام 1958 م اندلعت الثورة في لبنان على الرئيس كميل شمعون واتخذت بعض عناصر المقاومة الشعبية من حديقة منزل يونس البحري مقرا أقامت عليه الدشم والخنادق ، ولما كان الرصاص يدوي أمام الباب الخارجي ويقع بعضه في شبابيك الغرف سأل أستاذنا يونس البحري حرمه المصون أن كانت تشاطره الرأي بالسفر الى بغداد الغارقة في ذلك الفصل في قيض حارق ، فقالت على السمع والطاعة ، والله رمضاء بغداد ولا رصاص بيروت .
أستغلت الأسرة المنكوبة فترة هدنة لتناول احدى الوجبات اليومية فأنسلت من بين أكياس الرمل والخنادق في الطريق الى بغداد عبر أول وسيلة ، ولا أعلم ماهية هذه الوسيلة .
في بغداد عندما وصلت الأسرة ، وأستطاعت التخفي لدى أحد أقاربها اندلعت ثورة 1958 م على الأسرة الهاشمية الحاكمة آنذاك ، وأسفرت عن دماء ورصاص وقذف صاروخي وقصف طيران أنتهى بمقتل وريث العرش الملك فيصل والوصي عليه عبداللآه ورئيس الوزراء نوري السعيد وتولي عبدالكريم قاسم .
صادف يونس بحري ان أحد ابناء أقاربه ضابطا في الجيش العراقي مرافقا للواء عبدالسلام عارف أحد قادة ثورة 1958 م ، ثرثر الضابط الصغير في محيط زملائه وتباهى أن الأستاذ يونس البحري من اقاربهم وأنه موجود ( عندنا بالبيت ) وتدرج الخبر بين قيادات الثورة وصار يونس البحري بندا على أجندة مشاغل مجلس قيادة الثورة ، وفوجىء بعدد من الجنود يحضرون الى بيت أقاربه ويقتادونه الى السجن ليجد نفسه في فناء واحد تطل عليه عددا من الزنازين مع عدد من قيادات العهد البائد ممن كتبت لهم السلامة ونجوا من فرص الموت التي كانت متاحة بالمجان بتهمة قيادة التآمر على الأمة العربية ضمن ما كان يسمى آنذاك بـ ( حلف بغداد ) الذي وقع على ركبتيه بعد الحملة الأعلامية الشرسة التي أوقدها تحته الأعلام المصري على عهد جمال عبدالناصر .
دخل يونس البحري السجن تسبقه شهرته كمذيع النازي أدولف هتلر فكان أن التف حوله السجناء وسجانيهم لسماع قصصه ونوادره وتعليقاته اللاذعة على الثورة والأوضاع العامة في العراق والعالم العربي .
وكان أكثر من تقرب منه آمر السجن برتبة عريف نتيجة أحاديثه المطولة عن العريف باتيستا الذي قاد انقلابا في كوبا وأطاح به فيما بعد فيدل كاسترو في ثورة شهيرة ، ومن المفارقات أنها الثورة الوحيدة التي لازالت على قيد الحياة ، وسأل آمر السجن يونس البحري أن كان العريف باتيستا عريفا مثله فأجابه بنعم ، وأضاف العريف أن كان العريف باتيستا يحكم كوبا كلها فأجابه يحكم كوبا كلها ، راقت القصة للعريف العراقي آمر سجن بغداد فمضى يسأل يونس البحري : هل في مقدوري أن أحكم العراق ، أجابه يونس البحري : الله يخيب أمك ، أنت الآن تحكم الذين حكموا العراق 38 سنة .
بلغ الخبر لأسماع عبدالسلام عارف الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية فأستدعى يونس البحري فأحضر الى مكتبه فسأله : لماذا تحرض ضباط السجن على الثورة ؟؟؟ ، لم ينتبه يونس البحري للسؤال فقد كان منهمكا بالنظر الى طاولة المكتب الذي يجلس عليه عبدالسلام عارف الذي عاد ليسأله وهو يضرب على الطاولة ، فأفاق يونس البحري من سرحانه على ضربات طاولة المكتب وأعتدل واقفا وبدل أن يرد على السؤال قال : سيادة الرفيق هذه الطاولة مشؤومه ، وأشار على الطاولة التي يجلس عليها عبدالسلام عارف الذي وصفه يونس البحري فيما بعد في أحد كتبه بـ(الموسوس) ، انتبه عبدالسلام عارف أو فز وحدق في الطاولة وسأل يونس البحري : أيش يدريك ، فرد يونس البحري : ماقعد عليها أحد ألا ودخل منها الى السجن ثم مضى يسرد تاريخ الطاولة : أحضرها عام 1940 م السيد رشيد عالي الكيلاني عندما كان وزير داخلية وأنتهى به الأمر كما تعلم ياسعادة الوزير الى السجن ، وأعقبه فوقها عددا من الوزراء آل مصيرهم جميعا الى السجن ، وآخرهم الأستاذ سعيد بابان الموجود معي الآن في زنزانة واحدة .
أرتعش اللواء عبدالسلام عارف وطلب من الضابط الذي أحضره أن يعيده الى السجن وقبل أن يغادر مكتب وزير الداخلية قال له : تحرّص يا عبدالسلام أن الثورات مستنسخة من ( القطاوة ) تأكل أولادها أن لم تجد ما تأكله .
أعيد يونس البحري الى السجن وأودع بحسب تعليمات عبدالسلام عارف في زنزانة أنفرادية ، فالرجل الذي مكن هتلر من الوصول الى حكم ألمانيا بحسب رأي عبدالسلام عارف قادر على أيصال عريف في سجن بغداد الى سدة حكم العراق .
ولم تمضي ألا أسابيع من تلك الواقعة حتى أحضر عبدالسلام عارف الى السجن سجينا وليس زائرا ، فنهض يونس البحري أمام قضبان زنزانته على الجلجة والضوضاء التي أحدثهما أحضاره ولما شاهده يمر من أمامه ناداه : ياعبدالسلام ما قلت لك الطاولة مشؤومة ، والثورة مثل القطاوة .
تلقى الزعيم الأوحد عبدالكريم قاسم قصة يونس البحري مع عبدالسلام عارف بعد أن أنقلب عليه وأودعه السجن فراقت له القصة وأمر ليس بأطلاق سراحه وأنما بأحضاره الى مكتبه ، حضر يونس البحري الى مكتب الزعيم وتلقى منه رضاه عليه وأكرمه قبل أن يقول له : أنت في الحفظ والصون وأعتبر أن متاعبك قد أزفت نهايتها ، ومضى الى حال سبيله ، وبدل أن يعاود ممارسة التخفي ظهر في كشك يقع تحت ظل شجرة في أحد ميادين بغداد ، وأبدى يونس البحري مهارة فائقة في الطبخ وأعداد الوجبات الخفيفة التي يتم تناولها على الواقف في محيط الكشك بالأتكاء على جوانب السيارات أو داخلها وبالذات من قبل الذوات الذين تنادوا بعد سماعهم بوجوده في هذا المكان فخصصوه كما وصف يونس البحري فيما بعد لمواعيدهم الغرامية .
وكان من الزبائن الذين تدافعوا الى الكشك الوزراء وكبار الأعيان والمثقفين وأعضاء النخبة ، وحاول وزير التجارة آنذاك ممازحة الأستاذ يونس البحري والتندر بالحال الذي بلغها بعدما كان أشهر أعلامي وأخف من سكن ألسنة الناس ووعيهم ، فسأله : الم تجد مهنة غير هذه ..؟؟ فرد عليه يونس البحري : حكومة أنت وزير تجارتها أين تريد يونس البحري أن يكون ..
توثقت العلاقة بين يونس البحري وقيادة ثورة 1958 م وزالت بقايا الشكوك التي تؤرق الجميع وتمكن من العودة والأندماج من جديد ضمن النخبة الجديدة بعد وقوع القديمة وتوزع رموزها بين المقابر والسجون والملاذات الآمنة في خارج العراق .
ولما أبدى صراحة فائقة في رده على عبدالكريم قاسم الذي أستعد لأعادته الى الأعلام ليكن مديرا لأذاعة بغداد مقابل التصدي للأعلام المصري والقيام بأخراس يونس البحري في الخمسينيات والستينيات للأستاذ أحمد سعيد ومعه محمد حسنين هيكل بالأعتذار عن عن هذه المهمة ، كافأه عبدالكريم قاسم بتولي الأشراف على الولائم التي تقيمها الدولة في المناسبات المختلفة .
فرفض هذا العرض بذريعة أنه لو قبل قلن ينجوا من دسائس الفصيل المكلف يحراسته الذين يبدون في العلن خشيتهم على حياته ويتمنون في الخفاء الخلاص من جبروته وبطشه وطغيانه .
أبتسم عبدالكريم قاسم وسأل يونس البحري : ما هي طلباتك ..؟؟ ، قال : تسمح لي بالعودة الى بيروت ، رد عليه الرئيس : لك ما تريد .
فعاد يونس البحري الى بيروت ، وعادت الى بغداد نوبات الأنقلابات العسكرية الدموية ، فأستمتع الأستاذ بمشهد سحل جثة الزعيم الأوحد ، وعودة عبدالسلام عارف الى قصر الرحاب في بغداد .
مـــــــــــــــــــــــنــــــــــــــــــــقـــــــــــــــول (بتصرف)