PDA

View Full Version : سارس.. سيرة ثقافية لفيروس!


الامير الاحمر
27-08-2003, 05:29 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

منذ عدة مئات من السنين لاحظ عالم فقيه عربي أن الأوبئة والمجاعات التي تضرب الأمة ويعزوها معظم العامة لأسباب برانية -لا علاقة لها لا بالموت ولا بالمرض- بل لها نسق مميز، وأنه لو أمكننا تمييز هذا النسق وتحديده سيكون بإمكاننا فيما بعد تجنب هذه الأوبئة والكوارث أو على الأقل تحجيم وتحديد أثرها.

فقبل عدة قرون أمسك الشيخ العلامة المؤرخ تقي الدين المقريزي بقلمه، وانكب على كاغده -أي ورقه بلغة هذا العصر- وصنَّفَ -أي ألَّفَ- كتابا أسماه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" هو واحد من أهم كتب التراث التي صُنفت عن المجاعات والأوبئة، وما زالت رغم تباعد الأزمنة وتبدل الأقوام والأحوال صالحةً للاستعادة مرة أخرى؛ فماذا قال؟

http://www.islamonline.net/arabic/arts/2003/05/images/pic03.jpg

فبما كسبت أيديكم

قال المقريزي: إن البشر هم المسئولون عن الأوبئة والمجاعات، وإن سوء تصريف الأمور أي العجز الإداري للحكام -أولي الأمر بلغة ذاك الزمان- هو السبب الرئيسي، صحيح أن المجاعة ترتبط بسبب طبيعي كنقص موارد المياه لعدم وفاء النيل أو نقص المطر... إلخ، وإن الوباء ينتشر بعد المجاعة، ولكن المقريزي رأى أن تدبير الأمور أي حسن معالجة المشكلات وتوقعها وتحسبها من صفات الحكام المدبرين، وأن السفه والإنفاق الترفي وإضاعة المال في المظاهر يؤدي إلى "إتلاف الموارد وضياعها"، أي أن المقريزي ركز على أن العيب فينا "لا في الزمان"، وأن العامل البشري المسئول الأول عن حدوث الوباء، ورأى المقريزي في "سورة يوسف" مثالا يُحتذى للحاكم المدبر الذي "يدبر الأمر بمقتضى المصلحة"، فادخار مخزون من السنوات السبع السماني للسنين العجاف هو من قبيل "حسن التدبير" وهى الصفة التي تمنع حدوث الوباء وانتشاره.

في هذا السفر الثمين وضع المقريزي أسسا لعلوم كثيرة، منها التاريخ الحديث الذي يتجاوز التسجيل إلى التحليل، ومنها الاقتصاد الذي يرى في الإنسان مسئولا عن حياته، ومنها علم الإبيديميولوجيا أو علم الأوبئة وهو العلم الذي يرتبط بدراسة الوباء وطرق انتشاره ووسائل العدوى، وكيفية المقاومة والوقاية والأمصلة واللقاحات، وغير ذلك طروحات.


تعددت الأوبئة.. والعلة واحدة
هل ما زال كلام المقريزي مهما وجديرا بالاعتبار؟ قد يقول قائل: كيف وقد تغير العالم وصارت الأوبئة مختلفة؟ ففي عهد المقريزي كان الموت الأسود أو الطاعون، وكان الجدري أو الفرة والكوليرا وحديثا أسميناها أمراض الصيف، أما الآن فنحن أمام الإيدز والإيبولا.. وأخيرا "السارس" أول وباء يضرب العالم في الألفية الثالثة.. ومعظمها اختصارات تحولت لاسم عَلَمٍ، قد يقول آخر: إن أمراض المقريزي هي أمراض بكتيرية تنجم عن بكتيريا معروفة، ومقاومتها سهلة باستخدام المضادات الحيوية، أما الفيروسات فالأمر مختلف فما هو العقّار المضاد للفيروس؟ بل كيف نقاوم الفيروس أساسا؟! وقد يرى ثالث أن كلام المقريزي كان عن ارتباط المجاعة بالوباء أي ارتباط الفقر بالمرض؛ بينما ما نواجهه اليوم هو أمراض ترتبط بارتفاع مستوى المعيشة؛ أمراض تنتشر في دول متقدمة ككندا وهونج كونج إنها أمراض الغنى والعولمة!!


http://www.islamonline.net/arabic/arts/2003/05/images/pic03a.jpg
صوره مجهريه

كل هذه الأسئلة صحيحة ومشروعة، ولكنها لا تنفي أهمية المقريزي، وإنما تؤكدها فالمهم في كتاب المقريزي هو قوله إن سبب الغمة هو تصريف الأمر، فالوباء -أي المرض المنتشر بين الناس- هو أمر مصنوع أي أن السؤال الذي ينبغي طرحه هو كيف تصنع الأوبئة؟!

في زماننا هذا يعتقد البعض أن صناعة الوباء تبدأ من المعمل مثلما يعتقد بعض العلماء والباحثين أن فيروس الإيدز قد بدأ كفيروس في القردة غرب أفريقيا ثم تحول إلى فيروس قاتل مع تدخل علمي معملي، وإنه خرج عن نطاق التحكم، وتحول إلى مرض فتاك أي كان محاولة لصناعة سلاح بيولوجي، وأضرت بمن حاول أن يصنعه!!

أما السارس فإن نظرية تكونه ترتبط بظروف الصين دولة المنشأ، حيث التعبير اقتصادية ودعونا نبدأ من البداية!!



السيرة الذاتية لــ "سارس"

منذ بداية التسعينيات والصين تطرح نموذجا اقتصاديا فريدا يرتكز على إدارة مركزية قوية تمثل الحزب الشيوعي المسيطر ونسق إنتاجي شبه رأسمالي يعطي تميزا وحوافز للمشروعات الصغيرة التي تخدم مصانع كبرى، وهكذا ورغم نجاح هذا النموذج بشكل كبير كان له مضاره ومساوئه كأي نموذج بشري. فقد ازدادت المشروعات الصغيرة وتبعا لهذا ازدادت المشروعات الخدمية المواكبة لها خاصة في منطقة جنوب الصين الريفية والتي تعني -بالأساس- أيدي عاملة رخيصة، بالإضافة لقربها من هونج كونج الواجهة الرأسمالية للصين حسب قانون: دولة واحدة ونظامان.

وفي منطقة "جوانج دونج" تقع مدينة "جوانجزو" إحدى المدن الصناعية والسياحية الهامة، حيث يقام بها معرض سنوي للمنتجات الإلكترونية، وبالتالي تعتبر منطقة جذب لرجال الأعمال والمستثمرين، في "جوانج دونج" الريفية ازدهرت مزارع الخنازير والبط والماشية والدواجن، لقد انتعشت المنطقة اقتصاديا، وأصبح بإمكان المستهلك أن يأكل اللحم باستمرار، ولا بد من توفير هذا اللحم.. وهكذا ازدادت المزارع المنتجة للحوم، وأصبحنا نرى نمطا اقتصاديا مشابها لأي ريف قريب من المدن الصناعية في معظم دول العالم الثالث.

المدينة الصناعية صارت منطقة جذب سكاني يأتي العمال إليها من الريف والريف المحيط بها يقدم (خدمات)، وكل هذا في إطار سيئ من الخدمات الصحية والإسكانية، إنها صورة يعرفها الكثير ممن عملوا في مناطق الجذب الاقتصادي في أي مكان في العالم، وهكذا تسير الأمور!

ولكن سير الأمور لا يعني أنها جيدة ففي هذه المزارع يعيش البشر جنبا إلى جنب مع الحيوانات والطيور... والفيروسات!!



هكذا تبدأ الفيروسات

لكل نوع من مخلوقات الله فيروساته الخاصة؛ هناك فيروسات للطيور، وأخرى للخنازير، وثالثة للنباتات.. وفيروسات البشر؛ المشكلة أن الفيروس هو حامض نووي ريبوزي أو (ح ن ر) RNA، وهو أحادي السلسلة أي أنه يكرر نفسه داخل نواة العائل الذي يهاجمه دون وجود ضابط أو مانع من حدوث خطأ في التكرار الوراثي.

هذا الكلام يعني أنه بإمكان أي فيروس مهاجمة أي كائن، وتحوير نفسه داخل خلايا هذا الكائن، وما يمنع حدوث هذا باستمرار هو أن الكائنات لا تتعايش بصفة دائمة مستمرة بما يسمح ويتيح لهذا التحوير بالحدوث، حيث إن هذا التحوير يتطلب ما يسمى بالتطفر وهي عملية ليست بسيطة، ولكنها ممكنة في حالة الفيروس، وأتاحت الظروف المعيشية والاقتصادية التي تكلمنا عنها الفرصة لها أو لنقل إنها قدمت لها الفرصة على طبق من ذهب!

في أكثر السيناريوهات احتمالا لحدوث المرض هاجمت فيروسات أمراض تنفسية تصيب الخنازير تسمى الفيروسات التاجية (CORONA VIRUS)، وسُميت هكذا؛ لأن شكلها تحت الميكروسكوب الإلكتروني يشبه رأس حاملة تاج أحد البشر وكان مصابا بفيروسات مرض تنفسي بشري وآخر يصيب الطيور، وتجمعت الفيروسات الثلاثة المنتمية لعائلة التاجي وتهجنت سويا (وربما كان زواج الأقارب يقويها)، وتكون فيروس جديد أصاب عائلا بشريا جديدا، وهكذا بدأت السلسلة!!

هذا السيناريو يفسر لنا غرابة نوع الفيروس، ويفسر -أيضا- شدة الإصابة؛ فبعض المرضى يعانون من مرض أكثر فتكا؛ لأن الفيروس المسبب له أشد من غيره نظرا لسهولة تحور الفيروس وتطفره. كما يرى بعض العلماء أن من أسباب تغير شدة الإصابة بل وحدوث الوفاة أحيانا ضعف الجهاز المناعي لدى المريض ذاته.


البيئة الثقافية لسارس!


وبعيدا عن الأفلام والسيناريوهات.. فمن المؤكد أنه في نوفمبر من عام 2002 حدث وباء غامض في منطقة "جوانج دونج"، وحاولت السلطات الصينية التغطية عليه، وعدم الإعلان عنه؛ خاصة أن الصين كانت مقبلة على تغيرات سياسية ووصول جيل من الشباب لسدة الحكم (تحت السبعين) برئاسة "هوجين تاو" و"ون جياباو" و"ووويي" التي ستصبح مسئولة عن محاربة السارس.

كان من الضروري وفقا للسياسة الصينية الشهيرة التكتم والتريث؛ فالأوضاع لا تحتمل وجود وباء، العالم مقبل على حرب العراق، والاقتصاد العالمي يكاد يكون في حالة ركود (معدلات النمو تقارب 2.5% أو الحد الخطر)، وهناك تغيرات جديدة في القيادة أيضا، كما أن نهاية العام الصيني اقتربت ودخلنا موسم الاحتفالات... ومن ثم لا داعي للكلام عن مرض جديد فضلا عن وباء! الناس تريد أن تفرح وتنفق والاقتصاد في طريقه للانتعاش وكل شيء "تمام"!

الخوف من المرض أخطر منه!

الخوف من السارس؛ وهو مرض نفسي أدى إلى شبه انهيار اقتصادي عالمي وسياسات حرب في كل العالم؛ الصين اضطرت إلى تغيير سياسة "كله تمام" وتعيين المرأة الحديدية "ووي" مسئولة محاربة السارس، وإقالة عمدة بكين ووزير الصحة، وإعلان بكين وجوانجز وجوانج دونج وغيرها مناطق مؤبوة ووضعها تحت الحجر الصحي، ويتوقع الخبراء أن ينخفض معدل النمو إلى 6.2 % بدلا من7.5 % ناهيك عن الكارثة المحدقة لو وصل المرض إلى شنغهاي وخنق رئة الصين الاقتصادية!!

في هونج كونج انخفضت السياحة بنسبة 61% واستخدام الطائرات بنسبة 85% وإشغالات الفنادق بنسبة 25% (نقلا عن مجلة التايم عدد 28 إبريل)، في سنغافورة انخفاض عام في الأداء الاقتصادي، أما فيتنام فأعلنت مؤخرا سيطرتها على السارس!! (كيف؟ طبعا لا يعرف أحد!!).

كندا تصرف 30 مليون دولار يوميا على سارس (مكافحة وخسائر) العالم سيخسر ما قيمته 6 بلايين دولار في صناعة السياحة وحدها، إضافة إلى آلاف من المصابين ومئات من الوفيات (معدل الوفاة من المرض 6% وهو معدل ليس كبيرا، ولكنه ضخم نظرا للشكل الوبائي)

إلي الآن لا يوجد علاج للفيروس فمضادات الفيروسات المعروفة مثل "الريبافيرين" و"الأنترفيرون" لا تستطيع مواجهة تطورات الفيروس السريعة!


والحل؟!

الحل في أيدينا فالوقاية خير من العلاج، والمواجهة التي تتطلب المصارحة، والتعامل الجدي غير المرعب هو ما يؤدي إلى حصار المرض ثم توقفه. نعم، نحن البشر صنعنا الوباء، ونحن الذين يمكنهم إيقافه كما قال المقريزي.



اسف على الاطاله بس لولا الموضوع قيم ومفيد ماحطيته
تحياتي:glasses: :glasses:

وردة بلادي
27-08-2003, 06:51 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فعلا الموضوع قيم وثرى فى جوانبة فما احوجنا فى الوقت الحاضر الى التعرف على الفيروسات التى غزت العالم واهلكت الحرث والنسل

فبسبب هذا الفايروس تكبدت دول جنوب شرق اسيا خسائر فادحة فى الاقتصاد والارواح

تسم اخوى الامير على هالموضوع

راح اثبتة لفائدتة

روتي
29-08-2003, 05:03 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مجهود رائع ومعلومات الكثير منها جديد علي :)

سمعت عن مرض أخطر من السارس بدأ بالانتشار في الصين ... فهل لديكم أي فكرة عنه ؟

مدردش متقاعد
29-08-2003, 02:52 PM
موضوع قيم جدا و مجهود مبارك بإذن الله..

معلومات قيمة و مفيدة جدا لأول مرة أقرأ عنها.. جزاك الله كل خير أخي الكريم على طرحها


تحياتي لك

مهوس العين
30-08-2003, 01:21 AM
مرحبا ملايين ..

و الله موضوع حلو و قيم

يعني معلومات مفيده و قيمه :)

و الحين بدا مرض اخطر من السارس وحصد اكثر من مليون شخص

وهو بسبب الفياضات عام 1999 على ما اعتقد

و الله اعلم :)

الامير الاحمر
30-08-2003, 06:56 AM
مرحبا
مشكورين على ردودكم ومشكوره ميرانه
على تثبيت الموضوع وان شاء الله
راح تشوفون المزيد من المواضيع المفيده
تحياتي
:rolleyes: :rolleyes:

وردة بلادي
30-08-2003, 02:33 PM
الامير الاحمر

لاشكر على واجب وبصراحة موضوع مفيد يستاهل ان يثبت

فى انتظار مشاركاتك وجديدك

تحياتى:)

خارج النطاق
01-09-2003, 03:23 PM
موضوع مفيد جدا
ولك خالص شكري:glasses2:

الثلج الأبيض
02-09-2003, 07:11 AM
رد مقتبس من مدردش متقاعد
موضوع قيم جدا و مجهود مبارك بإذن الله..

معلومات قيمة و مفيدة جدا لأول مرة أقرأ عنها.. جزاك الله كل خير أخي الكريم على طرحها


تحياتي لك